هل «كريم الدين» … شخصية مزيفة؟!
لم تظهر الدهشة على وجه الشياطين، لكن ظهرت ابتسامة؛ فقد كانوا يتوقَّعون ذلك … جاء صوت رقم «صفر» يقول: أعرف أنكم تتوقَّعون سرقة الماسة، وهذه ليست القضية. إن القضية الأخطر أن تفقد الماسة قيمتها؛ فقد تلجأ العصابة إلى تقطيعها في أحجام صغيرة، وفي هذه الحالة تفقد الماسة حجمها الذي يعطيها هذه الأهمية.
سكت لحظة، ثم أضاف: إنني في انتظار تفاصيل جديدة حتى يمكن أن تبدءوا المغامرة؛ ولذلك فسوف نوقف الاجتماع الآن، على أن تعتبروا أنفسكم في حالة اجتماع دائم. عليكم بالاستعداد للانطلاق في أية لحظة؛ فالمسألة سوف تكون مسألة وقت.
ثم أخذ صوت أقدام رقم «صفر» يبتعد شيئًا فشيئًا، إلا أن الشياطين لم يغادروا القاعة؛ فلم يكن هناك ما يشغلهم. إن ما يفكِّرون فيه الآن هو «الماسة الزرقاء».
قال «رشيد»: أعتقد أن الماسة سوف تظل في «جنيف» لفترة من الوقت حتى تهدأ الأمور.
ردَّ «بو عمير»: بل يمكن أن تخرج فورًا قبل أن تُتخذ إجراءات ضبطها.
لم يشترك أحد من الشياطين في الحديث؛ فقد كانت كل فكرة تحمل وجهة نظر صحيحة، ومن الممكن فعلًا أن تفكِّر العصابة في إبقاء الماسة فترةً من الوقت، كما أنها يمكن أن تقوم بتهريبها سريعًا.
استغرق الشياطين في التفكير. كان بعضهم ينظر إلى الخريطة التي كانت لا تزال مضاءة … إن خروج الماسة يمكن أن يكون من خلال الحدود «الألمانية» أو «الإيطالية» أو «الفرنسية» أو «النمساوية».
كان «أحمد» يفكِّر: هل تخرج إلى الحدود الإيطالية حيث يوجد المركز الرئيسي للعصابة، أو إنهم يقومون بعملية خداع فتخرج عن طريق آخر؟! … وهل تخرج عن طريق الجو أو البر؟! وكيف ستخرج؟ … هل تكون في جيب أحدهم مثلًا، أو تكون داخل حقيبة أو بين ثيابه؟!
عشرات الاحتمالات. ظلَّ «أحمد» يُقلِّبها في رأسه.
فجأةً قالت «إلهام»: هل تقوم العصابة بتقطيع الماسة وتهريبها إلى خارج «سويسرا»؟
نظر إليها الشياطينُ دون أن يردَّ أحدهم على سؤالها … فقد كان السؤال الذي طرحته «إلهام» يحتاج إلى تفكيرٍ عميق، وإلى وضع احتمالات، غير أن «خالد» قطع الصمت قائلًا: أعتقد أن العصابة قد تلجأ إلى ذلك الحل إذا اكتشفت أنه من الصعب تهريبها كاملة … فلقد سرقت عصابة «سادة العالم» الماسة، ولا أظن أنها سوف تُعيدها مرةً أخرى ما لم تطلب مقابلًا ماليًّا؛ ولذلك فهي سوف تلجأ إلى أحد الحلَّين؛ إمَّا تهريبها كاملةً إذا تيسَّر ذلك، وإمَّا تقطيعها عندما يصعب تهريبها كاملة.
صمت لحظة، ثم أضاف: إنني أعتقد أنها سوف تساوم عليها، فتطلب مقابلًا ماديًّا كبيرًا لها.
قال «قيس»: العصابة لا تعرف لحساب مَن بيعت الماسة. فلو أنها عرفت فربما حدثت عملية المساومة.
قالت «زبيدة»: لا تنسَ أن محامي الثري العربي هو الذي اشتراها، ويمكن إجراء المساومة معه.
اشتدَّ الحوار، إلا أن «أحمد» كان قد استغرق في التفكير في الاحتمال الذي طرحه «خالد» … فقد تلجأ العصابة فعلًا إلى مساومة المحامي لردِّ الماسة؛ فهي بهذه الطريقة تكون قد حقَّقت أغراضها.
فجأةً قطع صوت الزعيم حرارة المناقشة عندما قال: إنني أرجِّح الاحتمال الذي طرحه «خالد». إنني في الطريق إلى الاجتماع.
التقت أعين الشياطين عند «خالد» الذي ابتسم قائلًا: إنني أُضيف إلى هذا الاحتمال أن العصابة سوف تنتظر بعض الوقت، ولن تُقدم على المساومة الآن.
كان صوت أقدام رقم «صفر» قد اقترب، فصمت الشياطين، وعندما توقَّف الصوت، قال الزعيم: إنني أيضًا مع إضافة «خالد»، فسوف تنتظر العصابة بعض الوقت.
سكت قليلًا، ثم قال: إن عملاءنا لم يتوصَّلوا إلى شيء بعد، وهذا قد يؤخِّر تحرُّككم؛ ولذلك فسوف لن ننتظر … سيقوم الشياطين بمغامرتهم اعتمادًا على ما لديهم من معلومات برغم قلتها، وأي معلومات جديدة سوف تكون عندكم.
سكت مرةً أخرى في نفس اللحظة التي أُطفئت فيها الخريطة الإلكترونية، ثم أضيئت مرةً أخرى. تابع الشياطين ما يحدث في صمت. بعد دقيقة ظهرت صورة لرجلٍ في حدود الخمسين من عمره، يبدو عليه الذكاء … يتمتع بعينَين لامعتَين … غزير الشعر، له شارب رفيع أنيق … تغطِّي وجهه ابتسامة هادئة خبيثة. جاء صوت رقم «صفر» يقول: إنها صورة «فرانزكوبر» محامي الثري العربي، وأهم شخصية في مغامرتنا. إنه «سويسري» الجنسية، يتنقَّل بين دول كثيرة … فهو واسع الأعمال. إن الماسة لم تُسرق منه … بل سُرقت من خزانة إلكترونية في بنك «جينيفا بنك»؛ فبعد أن انتهى المزاد على «الماسة الزرقاء» في صالة مزادات «كريستي»، وانتهت إلى ملكية الثري «كريم الدين»، نُقلت تحت حراسة مشدَّدة إلى «جينيفا بنك»، ويبدو أن العصابة كانت تعرف ذلك جيِّدًا؛ فقد انتظرت حتى استقرَّت الماسة في خزانة البنك، ثم قامت بعمليتها، وهي لم تسرقها في نفس اليوم أو الليلة، لقد انتظرت أربعة أيام حتى هدأ كل شيء، ثم خبطت خبطتها، وهي طريقة ذكية بالتأكيد.
سكت رقم «صفر» قليلًا، ثم أضاف: إن «كريم الدين» كان في «سويسرا» أثناء إجراء المزاد. وقد شوهد في البنك في اليوم التالي، حيث شاهد الماسة التي أصبحت من أملاكه، ثم غادر البنك، وسافر مباشرةً عائدًا إلى بلده، وبعدها بثلاثة أيام اختفت الماسة.
مرَّت دقائق صَمَت خلالها رقم «صفر»، بينما كان الشياطين ينتظرون حديثه، وعندما استمرَّ الصمت قطعه «عثمان» قائلًا: أعتقد أن هناك حلقةً مفقودة.
جاء صوت رقم «صفر»: كيف أيها العزيز «عثمان»؟
ردَّ «عثمان»: إن احتمال وجود ثري مزيَّف مسألة يجب أن نضعها في اعتبارنا.
شمل القاعة صمت قلق؛ فالاحتمال الذي طرحه «عثمان» يمكن أن يكون حقيقة، وفي هذه الحالة ينبغي إجراء تحقيق سريع حول الثري العربي، والتحقُّق من أنه هو الذي ذهب إلى البنك، وأنه هو نفسه الذي غادر «سويسرا».
قطع صوت رقم «صفر» صمت القاعة قائلًا: إنه احتمال قائم فعلًا.
سكت لحظة، ثم أضاف: يجب على الشياطين أن يتحرَّكوا بسرعة، وهناك يمكن أن تتابعوا الموقف مع عملائنا.
صمت مرةً أخرى، ثم قال: أودِّعكم الآن وإلى اللقاء.
تردَّد صوت خطواته مُبْتعدًا حتى اختفى في نفس اللحظة. غادر الشياطين القاعة إلى غرفهم في انتظار تعليمات رقم «صفر». ولم يكَد «أحمد» يدخل غرفته حتى كانت شاشة التليفزيون في الغرفة تحمل أسماء الشياطين المكلَّفين بالمغامرة، وكانت الأسماء تضم «أحمد»، «عثمان»، «فهد»، «قيس»، «رشيد».
في دقائق كان قد أعدَّ كلٌّ منهم ما يحتاجه ووضعه في حقيبته السحرية، ثم رفع سماعة التليفون، وضغط زرًّا يفتح على خطوط الشياطين، ثم تحدَّث إليهم قائلًا: مجموعة «الماسة الزرقاء» تلتقي بعد خمس دقائق.
سمع الشياطين كلمات «أحمد»، فوضع كلٌّ منهم السمَّاعة واتجه إلى الباب. كان «أحمد» أول من وصل إلى جراج المقر السري، وبعد دقيقة واحدة كانت بقية المجموعة قد انضمَّت إليه. قفز «رشيد» إلى عجلة القيادة، وأخذ كلٌّ من الشياطين مكانه. وفي لمح البصر كانت السيارة تأخذ طريقها إلى بوابة المقر الصخرية التي فُتحت عندما اقتربت السيارة، ثم أُغلقت مرةً أخرى، بينما كانت السيارة تقطع الطريق كالبرق في الاتجاه المحدَّد.
كانت أول محطة طيران هي «روما»، ثم منها إلى «جنيف». وعندما كانت الطائرة تُحَلِّق في الطريق إلى «روما» بعد أن غادرت أول نقطة انطلاق لها، كان الشياطين قد احتلوا أماكن متناثرة في الطائرة؛ ففي مثل هذه المغامرة يحتاج الشياطين إلى معلومات؛ فهم يبدءون مغامرتهم بمعلومات ناقصة، والقاعدة التي يتبعها الشياطين أن السفر خيرُ طريق لجمع المعلومات وإقامة العلاقات؛ ولذلك فإن كلًّا منهم كان يحاول أن يبدأ علاقةً ما بمن يجلس إلى جواره.
كان «أحمد» يجلس بجوار شابٍّ متوسِّط العمر، مستغرقٍ في قراءة مجلَّة مصوَّرة. بينما كان «فهد» يجلس بجوار سيدة عجوز استغرقت في النوم، أمَّا «رشيد» فكان يجلس بجوار رجل أسمر، له لحية صغيرة، وكان يبدو وكأنه عربي، أو آسيوي. في حين كان «قيس» يجلس بجانب فتاة رقيقة الملامح، استغرقت في النظر من نافذة الطائرة، التي كانت بجوارها. أمَّا «عثمان» فقد أغمض عينَيه واستغرق في النوم. في حين كان الرجل الضخم الذي يجلس بجواره يُراقبه في اهتمام … فقد كانت ملامح «عثمان» الأفريقية لافتةً للنظر.
ألقى «أحمد» نظرةً إلى المجلَّة المصوَّرة في يد جاره، فوقعت عيناه على تحليل سياسي عن علاقة القوى العظمى بالدول الفقيرة. قال «أحمد» في صوتٍ هادئ: إنها علاقات مُعقَّدة.
نظر الشاب الجالس بجواره إليه، وقال: هل تهتَم بمثل هذه التحليلات السياسية؟
ردَّ «أحمد»: نعم؛ ففي عالمنا هذا ينبغي أن نعرف الكثير؛ فعلاقات القوى العظمى بغيرها تهم البشر جميعًا.
وهكذا بدأ الحوار بينهما … لكنه لم يكن حوارًا مفيدًا بالنسبة للمغامرة، وإن كانت فائدته عامة؛ فهو في النهاية نوع من الاستطلاع لرأي الشباب في عالمنا المعاصر. قطع الحوارَ بينهما صوتُ مذيعة الطائرة تطلب ربط الأحزمة؛ فسوف تنزل الطائرة في مطار «روما»، الذي لا يَبعد أكثر من خمس دقائق.
لم يتوقَّف «أحمد» عن حديثه؛ فبينما كانت أصابعه تقوم بربط الحزام. كان يرد على سؤالٍ وجَّهه إليه الشاب الذي كان سينزل في «روما». كان «أحمد» يقول: إنني أدعوك لزيارة بلادنا؛ فسوف ترى أشياء مختلفةً عمَّا تقرؤه عنها.
ابتسم الشاب وهو يقول: أرجو أن تُتاح لي الفرصة، وسوف أكون سعيدًا.
ثم تبادل الاثنان بعض المعلومات في نفس اللحظة التي كانت عجلات الطائرة تلامس أرض المطار. وعندما توقَّفت حيَّا الشاب «أحمد»، ثم انصرف.
نظر «أحمد» في اتجاه الشياطين. كان كلٌّ منهم منهمكًا في الحديث مع جاره، وعندما وقعت عيناه على «قيس» ابتسم؛ فقد كان منهمكًا في الحديث مع الفتاة، لكن ابتسامة «أحمد» تراجعت بسرعة؛ فقد سدَّ المكان جسمٌ ضخمٌ دخل لتوِّه من باب الطائرة. ألقى نظرةً سريعةً على المقاعد وأرقامها، ثم أخذ طريقه في اتجاه «أحمد»، وبصوتٍ خشنٍ قال: هذا مكاني.
هزَّ «أحمد» رأسه بمعنى نعم وأفسح له الطريق، وبصعوبة مرَّ الرجل العملاق وألقى بنفسه في المقعد المجاور، فاصطدمت حقيبة يده في ظهر المقعد الأمامي، ثم طارت في الهواء لتستقر في ممر الطائرة. صرخ العملاق: الحقيبة!
ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً عليها. كانت قد انفتحت وتناثرت بعض محتوياتها … أسرع «أحمد» يجمع الأشياء، بينما كان العملاق يحاول أن يقف. لفت نظر «أحمد» تمثال صغير ﻟ «بوذا» من الصين وقد انشطر نصفَين. وعندما همَّ بوضع يده عليه كان العملاق يقف فوق رأس «أحمد» وهو يزأر: دَعْه لا تلمسه!
وقفت يد «أحمد»، وبسرعةٍ كان الرجل يُغلق الحقيبة التي كان «أحمد» قد وضع فيها ما تناثر منها. عاد الرجل إلى مقعده وألقى نفسه فيه، فأخذ «أحمد» مكانه. كان العملاق يضع الحقيبة فوق رجلَيه في حرص … لفت نظر «أحمد»، ودارت في رأسه أسئلة كثيرة جعلته يُخفي ابتسامةً وهو يقول لنفسه: هل يكون العملاق هو بداية الخيط؟