«بروك» … هل يكون هو الصيد الثمين؟!
نظر «أحمد» إلى العملاق نظرةً جانبيةً سريعة. كان متجهِّم الوجه، تبدو عليه الشراسة، قال في نفسه: لا أظن أن الحديث معه يمكن أن يُفيد الآن. ربما عندما ترتفع الطائرة في الفضاء وينقضي بعضُ الوقت، يكون قد هدأ.
ولذلك تشاغل بقراءة إحدى المجلات التي تضعها شركة الطيران لتسلية الركاب. بعد قليل بدأت الطائرة تتحرَّك، ثم ارتفعت حتى استقرَّت في الجو. إنها في الطريق إلى محطتها الأخيرة، إلى «جنيف».
كانت عينا «أحمد» تجري فوق الكلمات دون أن يفهم شيئًا؛ فقد كان ذهنه يفكِّر في كيفية بداية الحديث مع العملاق، قال في نفسه: إن البداية العادية يمكن أن تكون مفيدة.
نظر إلى العملاق وهو يبتسم قائلًا: هل أستطيع أن أعرف كم الساعة الآن؟
نظر له العملاق لحظة، ثم قال: إنني في العادة لا أحمل ساعة؛ فالوقت لا يهمني.
ابتسم «أحمد» قائلًا: معذرة؛ فقد كنت أظن أنك تحمل ساعة.
شعر أن الرجل لا يُريد أن يبدأ معه الحديث … لكن كان من الضروري أن يحاول مرةً أخرى، وقال: هل أنت ذاهب إلى «جنيف»؟
ردَّ العملاق: أظن أن هذه آخر محطة للطائرة.
مرةً أخرى شعر أنه لا يريد الحديث، ومع ذلك قال: هل هذه أول مرة تذهب إلى هناك؟
ردَّ العملاق: هل هذه مسألة تُهمك؟
قال «أحمد»: ربما؛ فهذه أول مرة أذهب فيها إلى «جنيف».
ردَّ: أعرفها جيدًا …
سأل «أحمد»: هل هي حقًّا جميلة كما يقال، أو كما يظهر في الصور؟
ردَّ: إن الجمال مسألة نسبيَّة؛ فقد تُعجبني ولا تعجبك، والعكس بالعكس كذلك.
قال «أحمد»: هذا صحيح، لكن على العموم يقولون إنها بلد جميل.
ردَّ: نعم.
استمرَّ «أحمد»: اسمي «تيمور» من «تنجانيقا» في أفريقيا.
انبسطت ملامح العملاق وهو يقول: لكنك لست أسود!
ابتسم «أحمد» وقال: كثيرون في أفريقيا ليسوا سودًا؛ فأنا تجري في عروقي دماء مصرية، هل تسمع عن مصر؟
ردَّ العملاق بقليلٍ من الابتسام: نعم، لقد زرتها مرة، وشاهدت الهرم الأكبر …
أبدى «أحمد» دهشةً وهو يقول: هذا رائع! لقد زرتها أنا أيضًا، ونزلت في فندق قريب من الهرم، وأبي الهول، اسمه «ميناهاوس».
ابتسم العملاق لأول مرة وهو يقول: لقد نزلت في نفس الفندق، وكنت سعيدًا تمامًا …
قال «أحمد»: لعلك اشتريت بعض التحف الفرعونية من مصر؟
قال العملاق: للأسف، لم يكن لديَّ وقت لذلك.
قال «أحمد» بود: عندما نصل إلى «جنيف» أقدِّم لك هديةً مصرية؛ فأنا أحمل بعضها، جاءتني خصوصًا لأنني أعرف أن الأوروبيين يُحبون الأشياء المصرية.
ابتسم العملاق ابتسامةً عريضةً وهو يقول: سوف أكون شاكرًا.
استمرَّ الحديث بين الاثنَين، وأصبح العملاق أكثر ودًّا، وكانت هذه فرصة للدخول في حديث التماثيل الفرعونية وتاريخها، فأخذ «أحمد» يحدِّث العملاق عنها، ثم قال في النهاية: إنني من هُواة جمع التماثيل، ولديَّ قطع نادرة منها؛ بعضها أتيتُ بها من الصين، والبعض من اليابان، ومن «الهند»، وأهمها عندي تمثال ﻟ «بوذا».
فجأةً تغيَّر وجه العملاق، وشعر «أحمد» أنه أخطأ في الحديث عن «بوذا»، وأنه في النهاية يمكن أن يفسد هذه العلاقة التي استطاع بعد جُهدٍ أن يقيمها مع العملاق. سأل «أحمد»: هل أحزنتك؟
قال العملاق في هدوء: لا، غير أن التمثال الذي معي، وهو ثمين جدًّا، قد انكسر.
قال «أحمد» بمرح: هذه ليست مسألةً هامة. إنني يمكن أن أعيده كما كان؛ فلديَّ نوع من اللصق يعيد الأشياء المكسورة إلى حالتها الأصلية، ولا يستطيع أحد أن يكتشف ما فيه.
ظهر نوعٌ من التردُّد على وجه الرجل، لكنه بعد لحظةٍ قال: هل المادة معك الآن هنا؟!
ردَّ «أحمد»: نعم إنها مع زميلي، وسوف أُحضرها حالًا.
وبسرعة قفز من مكانه في اتجاه «قيس» الذي كان يجلس في نهاية الطائرة. كان يريد أن يختفي عن أعين العملاق لأنه قد قرَّر خطةً ما. أخذ طريقه إلى دورة المياه بعد أن تجاوز «قيس»، وعندما أغلق الباب على نفسه أخرج مادةً لاصقةً من حقيبته السرية، وخلط بها مادةً خاصة، ثم عاد. وجلس بجوار العملاق الذي ابتسم قائلًا: إنني أعتذر لك؛ فلم أقدِّم لك نفسي برغم طول الحديث.
سكت لحظة، ثم قال: اسمي «بروك»، وأعمل في الأعمال الخاصة.
ابتسم «أحمد» وقال: أهلًا بك يا سيد «بروك». هيَّا بنا ننتهي من مشكلة التمثال.
فتح «بروك» الحقيبة فظهر تمثال «بوذا». كانت عينا «أحمد» ترصد محتويات الحقيبة بسرعة؛ فلم تكن تهمُّه عندما جمعها عند سقوط الحقيبة، أمَّا الآن فقد أصبحت هناك أهمية لأي شيء. كانت الأشياء في الحقيبة قليلةً إلى حد أنها تلفت النظر؛ مفكرة صغيرة، عدة أقلام لا تبدو غريبة، ولَّاعة على شكل مسدس صغير، عدة أكياس من القطن، وبينها كان يرقد تمثال «بوذا» الذي انشطر إلى نصفَين.
أخذ «أحمد» نصفَي التمثال وأخرج المادة اللاصقة، ثم مرَّ بها على طرفَي التمثال، وضمَّ النصفَين معًا، وضغط عليهما قليلًا. نظر إلى «بروك» وقال: بعد دقيقتَين سوف يعود التمثال كما كان، وأراهن إذا استطاع أحد أن يكتشف أنه مكسور.
ابتسم «بروك» وقال: إنني أشكرك؛ فقد أنقذت تمثالًا عزيزًا عندي.
مرَّت الدقيقتان، فرفع «أحمد» يدَيه عن التمثال، ثم قال: الآن تستطيع أن تدقَّ عليه دون خوف.
نظر «بروك» إلى «أحمد» مُتردِّدًا، ثم أخذ يدق برفق على التمثال، إلا أن «أحمد» ابتسم قائلًا وهو يتناول التمثال منه: دعني أجرِّب حتى نطمئن.
رفع التمثال، ثم دقَّ به على طرف الحقيبة في قوة دون أن يحدث شيء. كانت عيناه تراقبان وجه «بروك» الذي يبدو منزعجًا. ضحك «أحمد» ضحكةً خفيفةً وهو يقدِّم له التمثال: إنه الآن كما كان، وربما أصبح أقوى قليلًا؛ فطبيعة هذه المادة أن تتغلغل في ثنايا الشيء المكسور لتصبح قطعةً منه.
أخذ «بروك» التمثال وقد غطَّت وجهه السعادة، ثم لفَّه في القطن وأغلق الحقيبة. وعندما وضعها فوق ركبتَيه ابتسم قائلًا: سوف لن أنسى لك هذا الصنيع أبدًا، وأتمنَّى أن نلتقي فيما بعد.
قال «أحمد»: هل ستبقى طويلًا في «جنيف»؟
قال «بروك»: هذا يرتبط بمدة انتهائي من العمل.
سكت قليلًا، ثم قال: غير أنني أظن أنني لن أمكث طويلًا.
وقبل أن يفتح «أحمد» فمه قال «بروك»: أين تنزل؟
ردَّ «أحمد»: ليس في مكان محدَّد. إن ذلك سوف أعرفه عندما نصل إلى «جنيف»؛ فنحن أتينا تبعًا لشركة سياحية.
وبسرعة سأل: أتنزل في فندق مُعيَّن؟
ردَّ «بروك» بسرعة: لا، إن أحد الشركاء سوف ينتظرني في المطار.
وبعد لحظة قال: يمكن أن نتفق عندما نصل على طريقة للقاء.
شعر «أحمد» بجهاز الاستقبال يسجِّل رسالةً ما. وضع يده على صدره حيث يختفي الجهاز وقد عرف أنها من أحد الشياطين، بل إنه عرف محتواها قبل أن يتلقَّاها. كانت رسالةً شفريةً تقول: ««٢٥-٣-٢٩-١٩» وقفة «٢٩-٧-٢٩-١٧-٢٩-٢٠-٢٩-٢٧» وقفة «١-١٨-٢٥-٧» وقفة «٢٩-١٧-٢٩-٢٠-٣» وقفة «٦-٥» وقفة «٦-٨-٢٩-٥» وقفة «٩-٢٠-١-٢٨» وقفة «٣-٥-٢٩-٨» وقفة «١٧-١» وقفة «١١-١-٢٠» وقفة «١٤-٢٨-١-١٢-١» انتهى.»
ابتسم «أحمد» عندما تلقَّى الرسالة، حتى إن «بروك» الذي لاحظ ذلك سأله: ماذا يسعدك؟
ردَّ «أحمد»: لقد تذكَّرت اللحظة الأولى التي جلستَ فيها إلى جواري. لقد كنت غاضبًا تمامًا … وقد كنت أتمنَّى أن أجد من أتحدَّث إليه؛ فالمسافة طويلة … الآن ها نحن قد صرنا أصدقاء.
ضحك «بروك» ضحكةً لفتت انتباه رُكَّاب الطائرة؛ فقد تردَّدت الضحكة القوية في فضاء الطائرة، وقال: إن اللحظة الأولى لا تكفي للحكم على الإنسان. من الضروري أن يتعامل أولًا، ثم يضع حكمه في النهاية.
ابتسم «أحمد» قائلًا: هذا صحيح.
في نفسه اللحظة كان يرسل رسالةً إلى «فهد» ردًّا على رسالته، شرح له فيها ما حدث. بعدها مباشرةً جاءته رسالة من «رشيد» الذي التقط رسالة «فهد»، قال ﻟ «أحمد» فيها: «يبدو أنك وقعتَ على صيدٍ ثمين. تهنئتي لك».
أخفى «أحمد» ابتسامةً حتى لا يسأله «بروك» مرةً أخرى. كان «بروك» ينظر من نافذة الطائرة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، جعلت «أحمد» يقول في نفسه: هل يمكن أن يكون هذا الوجه الهادئ وجه عضو في عصابة؟ وهل يمكن أن يكون هو صاحب المهمَّة الخطيرة؟! … وهل يكون كما فكَّرتُ تمامًا؟
قطع تفكيرَه صوت مذيعة الطائرة تقول: إننا نقترب من الحدود السويسرية الآن، وبعد ربع ساعة سوف نكون فوق «جنيف». كابتن الطائرة وطاقمها يهنِّئونكم بسلامة الوصول، ويتمنَّون لكم إقامةً سعيدةً في «جنيف».
مرَّت دقائق. كان الركَّاب خلالها قد بدءوا يجهِّزون حاجياتهم، ثم جاء صوت المذيعة من جديدٍ يطلب ربطَ الأحزمة؛ فقد دخلت الطائرة مجال العاصمة السويسرية. وعندما انقضت ربع ساعة بالضبط كانت الطائرة قد تجاوزت العاصمة «برن»، ودخلت مدينة «جنيف» … وما هي إلا دقائق أخرى حتى كانت تأخذ طريقها إلى أرض المطار. وعندما توقَّفت ابتسم «بروك» وهو يقول: أرجو أن نلتقي في صالة المطار عند مكتب الاستعلامات.
حيَّاه «أحمد» وظلَّ يرقبه وهو يغادر الطائرة. تجمَّع الشياطين عند الباب ونزلوا الواحد بعد الآخر. سأل «فهد»: أين الصيد؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: لا تخشَ شيئًا. إن كان فعلًا هو الصيد الذي نرجوه فلن يفلت منا.
أخذوا طريقهم إلى صالة المطار. ومن بعيد قرأ الشياطين لافتةً مكتوب عليها «مكتب استعلامات المطار». مرَّت ابتسامة على وجوههم جميعًا، واتجهوا إليه، لكن «بروك» لم يكن هناك … همس «مصباح»: هل أفلت الصيد؟
ردَّ «أحمد» مبتسمًا: لقد توقَّعت ذلك، لكنه لن يفلت!
أخذوا طريقهم إلى الخارج، وفجأةً صاح «رشيد»: أليس هو؟!
نظر الشياطين في نفس الاتجاه الذي نظر إليه «رشيد». كان «بروك» يدخل سيارة «مرسيدس» بنية اللون. أسرع «قيس» وأخرج نظارته المكبِّرة ووضعها على عينَيه، وقبل أن تختفي السيارة كان قد استطاع أن يقرأ رقمها. ومع أن الرقم كان مكوَّنًا من ستة أرقام، إلا أنه حفظه بسرعة.
سأل «أحمد»: هل التقطت الرقم؟
ردَّ «قيس»: نعم، إنه ٩٨٦٣٢٤.
قال «أحمد»: رائع. هذه إضافة جديدة.
سأل «عثمان»: تقصد رقم السيارة؟
ردَّ «أحمد»: ليس الرقم فقط، ولكن اختفاء «بروك» قبل أن نلتقي حسب رغبته يؤكِّد شكوكنا فيه.
وبسرعة تحرَّك الشياطين إلى حيث كانت سيارتهم في الانتظار. وعندما فتح «فهد» الباب بالمفتاح السري جاء صوت عميل رقم «صفر» يرحِّب بهم. وعندما أغلق آخر واحد فيهم الباب بعد أن ركبوا السيارة، تردَّد صوت العميل مرةً أخرى يقول: «فندق السلام» بزاوية ٤٥ من النقطة «ب».
شكره الشياطين، وانطلق «فهد» بالسيارة إلى حيث يقع «فندق السلام». في نفس الوقت ضبط «أحمد» مؤشِّر جهاز الْتقاط الإشارات على موجة مُعيَّنة، فتحرَّك المؤشِّر إلى اتجاه محدَّد.
وقال «أحمد»: إن الصيد تحت أيدينا الآن!