حريقٌ وكوبُ ماء
أحسبُ وأنا أخشى أن تكون الحكومة وقد أصدرَت البيانات الطوال بضرورة الإنتاج، وحتميته، قد اطمأنَّت أنَّ الناسَ سيُسارعون إلى الإنتاج، وأنَّ كل شيءٍ سيسير في نَهجه الأمثل. هيهات!
أنا لم أجد في حياتي شيئًا الجهدُ المبذول فيه لا يأتي بثماره قَدْر هذا الذي يُسمُّونه بالتوعية.
كم من أموالٍ أُنفقَت في سبيل التوعية بعواقب زيادة النسل والانفجار السكاني، وما يصحبه من أهوالٍ في الغد، من ضيق في العيش، ومن تقتير في الرزق! وكم قالوا انظر حولك، وانظر أمامك، وانظر خلفك! فكانت النتيجة مزيدًا من الانفجار السكاني. ولعل التوعية صنعَت عكس ما أُريد منها، فذكَّرَت مُنصرِفًا عن زيادة النسل فجعلَته يزيده حين كان لا ينوي أن يزيده.
والناس لا تُحب النصيحة. والذي يستنصحك إنما يريد أن تؤيِّده فيما استقر عليه هواه، فإن كانت نصيحتُك تؤدِّي إلى غير ما يميل إليه بحث عن ناصح قال فيها إن النصائح هي أثقل الطيبات على النفوس وهو مُحق.
لن تجد عاملًا يستغل ما أتاحَتْه له قوانين العمال من إجازات، ومن تهرُّب، ومن قعود عن العمل، يترك هذا جميعه ويُسارع إلى ما تفرضه عليه الأمانة وشرف المعاملة، ويُقبل على العمل الإقبال المفروض فيه؛ استجابةً إلى النداء الصادر من الحكومة أو من غيرها. لا شيء يردُّ السادر المنصرف عن الجدية في الحياة إلى الطريق القويم إلا القانون. أمَّا التي يُسمُّونها بالتوعية فلا خير فيها مطلقًا.
إنَّ العامل حين يتهرَّب من العمل ويدَّعي المرض، ويستنفد إجازاته جميعًا، يعلم كل العلم أن الذي يصنعه لا يتفق مع الأمانة، ولكنه يصنعه مع ذلك، وهو مستعدٌّ أن يبذل نُصحَه لجميع الآخرين أن يقوموا بواجبهم خير قيام، ولكنه يستثني نفسه؛ فالإنسان يعتقد أنه دائمًا استثناءٌ من القاعدة. إنه هو … وهل في العالم أجمع مثله؟! هو فلتة الطبيعة. وهو الاستثناء الوارد على مخلوقات الله. وهو يَحِق له ما لا يَحِق للآخرين.
فأيُّ توعيةٍ تُوجَّه إلى هذه الأنانية يعتقد هو أنها أصلًا تُقال للآخرين، ولا تُقال له هو؛ لأنه هو يعرف كل شيء، ولا يُحيط إنسانٌ بما يعلمه هو.
ولمَّا كان الله هو الذي برأ النفوس وخلقها، فإنه يعرف مخلوقاته بكل ما يتذبذب في جوانحهم من هواجس. وهكذا أرسل سبحانه كِتابه إلى العباد بالوعد والوعيد والإنظار والأمل.
لأنه يدري أن الإنسان لا يسير على الهُدى إلا خوفًا وطمعًا. والآيات التي تَعِد الإنسان بالفوز بالجنة وبالنعيم كثيرة، والأخرى التي تتوعَّد الإنسان بالنار والعذاب كثيرة.
ولكني أختار من بينها قولَه تعالى في سورة الأعراف (الآيات ١٦٥ وما بعدها): فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ صدق الله العظيم.
والله سبحانه وتعالى كان يستطيع أن يضع مخلوقاته جميعًا على الجادَّة، ويُلزمَهُم الطريقَ القويم، ولكنه جلَّت مشيئته أراد أن يحمل الإنسان الأمانة ويختار، وأرسل إلى الناس رسله يُبشِّرون بكل ما في الجنة من هناءٍ لم تَرَه عين، وما سمعَت بمثله أُذن من قبلُ، ويُنذرهم بالسعير والغسلين والزقُّوم لمن لم يخشَ الوعيد.
فالبيانات إذن التي تدعو إلى زيادة الإنتاج ثرثرةٌ فارغة، لن يستجيب لها أحد؛ فكل الذين يعطِّلون الإنتاج يدركون جريمتهم التي يرتكبونها، وهم في غير حاجةٍ إلى هذه الدعوة إلى زيادة الإنتاج. وما لهم لا يستلبون من الدولة ما أباحه القانون من إجازاتٍ تزيد على مائة وعشرين يومًا في العام، وأغلبهم يعتقد أن ما يُسرق من الحكومة والقطاع العام حلالٌ مباح؟! فمال الحكومة عندهم سائبٌ لا صاحب له!
إنَّ القوانين التي تحكُم العُمال عندنا لا مثيل لها في العالم. وإني لأعجب كيف نريد أن تنهض الصناعة عندنا في ظل هذه القوانين! وأقرأ ما يكتبه المتخصِّصون من أن عمال العالم أجمع يعملون ثماني ساعاتٍ في اليوم، ومنهم من تصل ساعاتُ عمله إلى عشر ساعات، بينما لا يُكمِل العاملُ عندنا العملَ الساعةَ ونصفَ الساعة في اليوم.
وكيف نريده أن يعمل وهو يعلم أنه لا رئيس له.
في أي دولة في العالم يُفصَل رئيس مجلس الإدارة في توقيع قلم، ولا يُفصَل العامل المسيء الكسول غير المنتج؟ بل إن الوزير، وهو الوزير، يُبعَد عن الوزارة في غمضة عين، بينما لا يستطيع الوزير أن يفصل أي عاملٍ في وزارته، أو المصانع التابعة لوزارته.
الوزير تُحاسبه المجالس النيابية، والعامل لا حسيب عليه ولا رقيب.
وأذكُر قصةً رواها لي مديرٌ عام لمصلحة السكك الحديدية، استقال منذ بضع سنوات، وكان معروضًا عليه العمل في شركةٍ أجنبية بمرتَّبٍ يفوق مرتَّبه عدة أضعاف، واستدعاه رئيس الوزراء ورجاه أن يبقى، فقال المدير السابق: إنني من أجل مصر مستعد أن أترك المرتَّب الضخم المعروض عليَّ في العمل خارج الحكومة وأبقى، ولكن بشرطٍ واحد.
وقال رئيس الوزراء: ما هو؟
قال: حين عُيِّنتُ مهندسًا بالدرجة السادسة بمصلحة السكك الحديدية، تسلَّمتُ دفتر جزاءات، فإذا وجدتُ أي تقصير أثناء تفقُّدي للآلات والعربات، وقَّعتُ الجزاء الفوري على العامل المقصِّر، واليوم وأنا في أكبر منصبٍ في المصلحة لا أطلبُ شيئًا إلا أن يكون عندي دفتر مثل الذي تسلَّمته وأنا موظَّف أبدأ حياتي في هذه المصلحة نفسها.
وقال رئيس الوزراء: هذا غير ممكن.
واضطُر المدير أن يقول: وأنا آسف. لا أستطيع البقاء في منصبٍ لا مسئولية لي فيه إلا أن أتمتع باللقب دون أيِّ فعالية.
واستقال المدير العام. وأعتقد أن كل الذين جاءوا بعده يريدون أن يقولوا نفس الذي قاله هو، ولكنهم يعلمون أنه مستحيل التنفيذ.
إن عهد الطغيان قدَّم الرشاوى من دماء مصر، إلى التجمُّعات الكبرى، واليوم تُغلق دوننا المسالك.
فإذا قلنا أدرِكوا المجالس التشريعية في مصر، وحافِظوا على كرامة مصر بإلغاء نسبة الخمسين في المائة في مجلسَي الشعب والشورى، وجدنا من يقول هذا مخالف للدستور. وإذا قلنا إن الاقتصاد المصري قد دُمِّر تدميرًا تامًّا بالقطاع العام على صورته الراهنة، والقوانين التي تحكُم العمال، وجدنا من يقول هذا مخالف للدستور.
وإذا قلنا إنَّ مصر قد تدَهوَر التعليم فيها حتى أصبح جهلًا، وحتى صارت الشهادة العالية فيها لا تعني أنَّ صاحبها نال ما ينبغي من التعليم، وإذا قلنا أَدرِكوا التعليم بالمال من القادرين، ومن القادرين وحدهم، وجدنا من يقول هذا مخالف للدستور.
ووسائل تغيير الدستور واردةٌ في الدستور نفسه، فإذا لم يتغيَّر الدستور لإنقاذ مصر فلأي شيءٍ يتغير الدستور؟
الأمر الذي لا شك فيه أنَّ هذا الدستور قد وُضِع من أجل المصلحة العُليا لمصر. وإذا كان الدستور قد وُضِع من أجل مصر، فلا يُعقل أن نُضحِّي بمصلحة مصر من أجل الدستور. وإذا كان ما نُطالب به عدلًا، فالعدل أحقُّ بأن يُتَّبع في الدستور أولًا.
فالدستور هو أبو القوانين، فإذا لم تتحقَّق فيه العدالة فهيهاتَ لها أن تتحقَّق في أي ناحيةٍ من نواحي الحياة.
وإن هذه الموضوعات التي نثيرها أساسياتٌ في حياتنا، ونحن نُدرك الآن الأزمة الطاحنة التي نُواجهُها، فإذا لم نأخذ طريقنا في شجاعة وفي إصرار إلى الأساسيات، فكل الذي يصدُر من قراراتٍ ومن قوانينَ لن يُفيد إلا كما يفيد كوبُ ماءٍ نُلقيه على حريق يلتهم بلدًا بأكمله. ويأبى الله هذا والمؤمنون.