حتى أبطال أفغانستان!
ليس شيءٌ بغريبٍ على الشيوعيين، وقد تعوَّدنا أن يطلُعوا على الناس في كل يومٍ بلونٍ جديد من الجرأة على الحق، والإساءة إلى مشاعر الناس قاطبة، والتهجُّم على العدل الواضح، الذي لا يختلف عليه اثنان، ما دام ليس بينهما من هو صاحبُ غرضٍ أو مائلٌ مع الهوى، أو حائدٌ عن الطريق القويم. الذي لا شك فيه ليس شيءٌ على المُلحد بغريب، وما من شيءٍ منه يدعو إلى الدهشة. وأيُّ تصرُّفٍ يُمكن أن يُثير العجَب من قومٍ باعوا دينهم بالمال، وتخلَّوا عن أوطانهم، ورضُوا أن يكون وطنهم بلادًا أخرى، وانسلَخوا عن جماعتهم، ليُخلِصوا ولاءهم لجماعةٍ أبعدَ ما تكون عن مُقدَّسات جماعتهم ومُثلها وقيمها وأخلاقها؟
ليس شيءٌ بغريبٍ من قومٍ هذا دأبهُم، ولكنني مع ذلك فُجعتُ دهشةً وعَجبًا وأنا أتابع الحملة الجديدة التي يشُنُّها الشيوعيون على أبطال أفغانستان. وزادت فجيعتي وهم يُطلِقون على الشعب الأفغاني الذي يُقاوِم الاستعمار متمرِّدين. أيكون المُدافِع عن حقه متمردًا؟ ماذا يقول هؤلاء الملاحدة؟
إنهم لا يشنُّون حملتَهم على الجيوش الغازية المُعتدية ولا على الحُكم العميل السفاح. لا، ليست على هؤلاء حملتُهم.
وإنما حملَتُهم على المجاهدين الأبطال الذين يقفون بأيدٍ عزلاء أمام الوحوش الضارية الذين يَغْزون وطنهم.
تُرى أتولَّاك العجَب أيُّها القارئ؟ أعرفتَ في حياتك وقاحةً مثل هذه الوقاحة؟ وما أضعفَ الكلمة في وصف هؤلاء المصريين أو الذين يقولون إنهم مصريون وهم يؤيدون الاحتلال، والغزو، والجبروت، وسفك الدماء، والاعتداء على أمن الدول وسلامتها بلا وازعٍ من ضمير أو حياء!
لا يشُك أحدٌ أنَّ الأوامر قد صدَرَت لهم من حزبهم بشَن هذه الحملة الرَّعناء الظالمة الهوجاء على قومٍ يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإن محمدًا رسول الله، ثم يرمون بأنفسهم إلى أتونِ الهَولِ الذي فتَحه عليهم الغزاة.
ولا يشُك أحد أنَّ هذه الأوامر كانت مشفوعةً بالمغريات وبالتهديدات في وقتٍ معًا. ولكن ألم يَبقَ للشيوعيين في مصر بقيةٌ مهما تكن هينةً من خجل؟ أو ظلٌّ مهما يكن واهنًا من حياء؟ أو أثارةٌ مهما تكن واهيةً من الحفاظ على مشاعر المسلمين الذين يعيشون بينهم؟ بل لا يُبالون بمشاعر المؤمنين جميعًا. لكَم قرأنا كتاباتٍ في أزمانٍ مختلفات وفي عصورٍ عديدة، فما وجدنا كاتبًا واحدًا يُدافِع عن الاحتلال والقهر، وغزو الدول المطمئنة الوادعة، فأيُّ كُتابٍ هؤلاء الذين طلَع علينا بهم الزَّمن الأخير، وفي أي مدادٍ يغمسون أقلامهم إلا أن تكون الدماءُ هي مدادهم، والمال المنهوب والرشوة المنهمرة باعثهم، والذي تنكسر أمامه كلُّ مشاعر الإنسانية التي أودعَها الله في نفوس البشر.
يشهد غزو أفغانستان اليومَ العامَ السابعَ له، بعد أن بدأَت روسيا هذا الغزو بجيشٍ قوامُه ثمانية آلاف وخمسمائة جندي، وثمانمائة دبابة، وثلاثمائة طائرة. وما أضخمَ هذه الأعدادَ في مواجهة شعبٍ أعزلَ ليس بيده إلا بنادقُ عتيقة الصنع! ولأن روسيا لا تعرف معنى الإيمان، فقد حَسِبَت أن الغزو لا يستغرق أكثر من بضع ساعاتٍ من نهار أو ليل، ولكن روسيا تجهل أنَّ هؤلاء الضِّعاف أجسامًا هم العمالقة نفوسًا، وأن هذه الأجساد الهزيلة تملكُ قوةً أعظم من أسلحة العالم أجمع.
إنَّ قوتهم هي إيمانهم أنْ لا إله إلا الله، التي تخفق بها قلوبهم، وأنَّ محمدًا رسول الله، التي تجري بها دماؤهم في العروق، وبهذا الإيمان صُدَّ هؤلاء الغُزاة، الزُّحوف الغازية، وبُهت الذي كفر، وإذا الغُزاة الجبابرة يطلبون المدد، ويتوالى المدد إرسالًا فإذا جنودُ الغزو ترتفع أعدادُها ارتفاعًا مُذهلًا؛ فالآلاف الثمانية لا تُصبح عشرة أو عشرين أو خمسين أو مائة، بل تُصبِح مائتَين وثلاثين ألف جندي، وإذا الدبَّابات التي تُحارِب اليوم في أفغانستان تُصبِح ثلاثة آلاف دبَّابة، وإذا الطائرات تُصبِح سبعمائة طائرة. كل هذه الجيوش تُحارِب الحق والحق وحده.
ومع كل هذه الجحافل الضخمة لا يستطيع الغُزاة أن يستَولُوا على أكثر من عُشر مساحة أفغانستان، ويظل المجاهدون المؤمنون محتفظين بتسعة أعشار أرضهم.
وتُرغِم الحكومة العميلة الجيوشَ الأفغانيةَ النظامية أن يُحاربوا آباءهم، وإخوتهم، وأبناءهم. ويُحاوِل بعضٌ منهم أن يرفض هذا القتالَ المفروضَ عليهم مع ذوي قُرباهم، وأصحابِ الأرض والحق، فإذا بالحكومة العميلة تُرغِمهم إرغامًا ساحقًا أن يستمرُّوا في حرب أنفسهم. وتطلُع علينا وكالات الأنباء بخبرٍ عنوانُه إعدام عشرين جنديًّا أفغانيًّا، رفضوا القتال ضد الثوار.
وتستمر الحرب سبع سنوات، والجيوش الزَّاحفة بكل جبروتها محاصَرة بالإيمان حولها، وتُصبِح كمن مشى إلى رمالٍ متحركة تبتلع كل قادمٍ إليها، ولا تتركه حتى يموت خنقًا فيها. ويزداد السُّعار وتتحوَّل الجيوش السفَّاكة المغلوبة المدحورة من حرب الرجال إلى مُحاربة الأطفال، فإذا هم يُعذِّبون الأطفال، ويقتلونهم أمام أنظار آبائهم، وأمهاتهم. ويذكُر الأفغانيون ما شهده أتباع الرسول من كُفار ذلك الزمان الجاهلي، ويزدادون إصرارًا على التمسُّك بإيمانهم وبأرضهم.
وقد يقول قائلُهم: ولكن عُتاة مكة والمجرمين من أهل الكفر لم يُعذِّبوا الأطفال أمام والديهم. ثم ما يلبثون أن يرتدُّوا إلى إيمانهم: إذن فبُشرانا؛ فبقَدْر الهَول الذي نشهده يكون إكرامنا عند العدل المُطلَق عالِم الغيب والشهادة.
هذه الوحشية التي لم يشهد أي تاريخٍ لها مثيلًا يُباركُها الشيوعيون في مصر بإيعازٍ من شياطينهم، وتتوالى مقالاتهم في أكثر من مجلةٍ تؤيد الغزو، وتتمدَّح به، وتذكُر أفضاله وآثاره العظيمة على البلاد. وهم في حمأة اندفاعهم في المديح لا ينسَون أن يقولوا إن الغزو يعمل على نشر التعليم جميعه، والتعليم الديني خاصة. ولا يذكُرون أن الهاربين من جناتٍ بلغوا في باكستان وحدها ثلاثة ملايين نفس. ولا يهمُّهم ما تتناقلُه وكالات الأنباء عن السرقات، والرِّشى، والاعتداء على الحرمات التي تمارسها القوات الغازية على أفغانستان جميعًا حكومةً وشعبًا.
ما لهم هم وهذا؟ إنَّ الأوامر قد صدَرَت لهم أن يمدحوا وأن يقولوا إنَّ الغزو حمل معه إلى أفغانستان الحياة السعيدة الهانئة، وإنه طبَّق قوانين الإصلاح الزراعي ومبادئ ماركس الخالدة، ووهب الشعب المكاسب الاشتراكية. وتتزايد جُرأتُهم على الحق، فيصُبُّون سخيمتهم على السادات الزعيم الخالد، أنه سلَّم أسلحةً روسية للمجاهدين. ويَرونَ أن هذا الذي صنعه السادات عَملٌ من أعماله الجديرة باللوم؛ فهم اليوم يَرونَ أن كل ما صنعه السادات سيئ حتى مساعدة أصحاب الأرض أن يستردُّوا أرضهم.
ويقول قائلهم: إنَّ الروس اكتشفوا البترول والغاز، وفتحوا لهم العيادات الطبية، وجهَّزوها وأنشَئوا مصانع للسيارات، بل أنشَئوا عشرات المصانع، ونشرَت الجيوشُ المعتديةُ المَحبَّة والسلامَ في ربوع البلاد. إلى غير هذا من المآثر والأفضال التي تعوَّد الاحتلال أن يدَّعي أنه يفعلها في الأراضي المحتلة. وكلها أكاذيبُ لا ظل لها من الحقيقة. وما يقولها قائل إلا نال ثمَن قولها.
أحسب أن الغيظ قد تملَّكَك مما تقرأ، ولكن ما يهم. المهم أن يتمدَّحوا بالغزو والاحتلال والقضاء على الدين والإيمان وحق الإنسان الطبيعي في أن يعيش آمنًا في وطنه مطمئنًّا. وقد سُمع من يقول وأي عجيبة فيما يصنعون؟! أنسيتَ أنهم أيَّدوا احتلال إسرائيل لفلسطين، هاتفين بحياة روسيا التي كانت الدولة الثانية في العالم اعترافًا بالدولة الإسرائيلية، لم تسبقها في ذلك إلا أمريكا التي ما زالت الوطنَ الأُم لإسرائيل حتى اليوم؟ وهم أنفسهم اليوم الذين يُلصِقون بالسادات العظيم كل ما في قاموسهم من سفالات؛ لأنَّه وقَّع السلام مع إسرائيل، وهم هم أنفسهم أعلى الناس صوتًا في الدفاع عن فلسطين وعن القضية.
متى كان لهم رأي يقفون إلى جانبه أو مبدأ يثبتون عليه إلا الإلحاد بالله ورفض الانتماء إلى الوطن؟
ولا يكتفون بالقول، بل هم يشفعونه بالعمل، ويؤلِّبون العمال في المحلة، وفي شركة إسكو، بعد أن خاب سعيهم في تجمُّعات الطلبة. يريدون لمصر أن يتحطَّم فيها الإنتاج، وأن يعُمَّها الخراب؛ لأنَّ تربتهم هم هي الأرض الخراب. ولولا أن رئيسَ مصر مسلمٌ قوي الإيمان، مصريٌّ عميق المصرية، لطالبوه أن يستدعي الجيوش الغازية في أفغانستان، لتنشُر في مصر الخير والبركات، والسعادة والهناء، التي لا يخجلون أن يقولوا إن الجيوش الغازية قد نشرَتْها في أفغانستان.
ليقُل الشيوعيون ما يشاءون، ولكن أحسب أنه ينبغي أن يقف بهم الأمر عند الكلام، فإذا تعدَّاه إلى العمل، وإلى التسلُّل في الجماعات من عُمَّال إلى غير عمل وعمال، فنحن لهم بالمرصاد؛ فإنَّ الأمر جِدٌّ لا يصلُح معه الهَزْل. وإذا كانوا يركبون الحرية ليقتُلوا بها الحرية، فليكن هذا في الكلام فقط، وهم في هذا الميدان يمرحون ما شاء لهم المرح، حتى لقد طغى صوتهم في أجهزة الإعلام على كل صوت، وهم يقولون في مجلَّاتهم وفي الصحف القومية ما شاءوا أن يقولوا، ولكن الفرق بعيد بين صيحاتهم هذه، وبين أن تُصبح هذه الصيحات عملًا وفتنة تؤلِّب المخابيل البُلهاء على الديمقراطية والحرية التي تنعم مصر بها اليوم.
وإذا كانت الحكومة قد وسَّعَت لهم مجالات الإعلام جميعها، من صحف إلى مجلات إلى إذاعة إلى تليفزيون، فإنَّ على هذه الحكومة نفسِها أن تمنعهم أن يُثيروا الفتنة ويُشعِلوا الثورات.
وإذا كان وجودهم الواضح بالإعلام يُهدِّد الاقتصاد المصري تهديدًا عنيفًا تَدريه الحكومة كل الدراية، فإن الفتنة التي يُريدون إشعالها هي القضاء الكامل على هذا الاقتصاد الذي لا يحتمل اليوم أقل هزَّة؛ فحسبه ما يُعاني، وحسبنا نحن المؤمنين بالله؛ فإنه نعم الوكيل.