لا اقتصاد بغير ثقة
إن رئيس جمهورية مصر رجلٌ نادر المثيل، في طهارة اليد، وشرف الذمة، والبُعد كل البُعد عن مواطن الشبهات. أذكُر أنني كنتُ يومًا في مكتب أحد الوزراء بالمملكة العربية السعودية، فإذا أحد الجالسين يُوجه إليَّ الحديث: أسمعتَ ما فعلَه رئيسكم منذ قريب؟ قلتُ: لا أعرف ما تقصده.
قال: لقد شاعت هنا قصةٌ نتناقلها جميعًا، وكلنا إعجاب برئيسكم؛ فقد قيل: إن ابنه سافر إلى فرنسا في رحلةٍ دراسية، فإذا أبوه يشتري له تَذكِرةَ سفر سياحيةً في الدرجة الثانية، بعد أن أجرَت عليها الشركة التخفيض الذي تمنحه للطلبة جميعًا. وسافر ابن رئيس الجمهورية دون أن يُحيط به أي مظهرٍ من المظاهر التي تلحق بأبناء الرؤساء.
قلتُ: أنا لم أسمع بهذه القصة، ولكنها ليست عجيبة على رئيسنا؛ فهكذا هو. وحين عُدتُ إلى القاهرة تأكَّدتُ من صدق ما رواه لي المواطن السعودي، وللناس همسٌ مسموم، ولهم بينهم حديثٌ يستعذبون فيه الخوض في أقدار الناس وأمانتهم.
ومثلي بعدما يسمع كل ما يدور همسًا وأغلب إن لم يكن جميع ما يتناقله الناس في تنادُمهم أقسم — وما أنا بحاجة إلى قسم — أنَّ أحدًا لم يذكُر الرئيس محمد حسني مبارك إلا وتحدَّث عن طهارة يده، وبُعده كل البُعد عن أي مظنةٍ لشائبة. ولقد قلتُ إنني لستُ بحاجة إلى قسم؛ لأنَّ هذا الذي أقوله سيؤيِّدني فيه كل قارئ، سواء كان مؤيدًا للرئيس مبارك أو معارضًا له.
كان من الطبيعي إذن أن تُصبِح الطهارة هي سمة العهد جميعه، وأن تكون هي الصفة التي يتحلى بها كل من يجلس على مقعد ذي سلطان وإدارة.
ولكن — وا أسفاه! — الهمس يدور في كل مكانٍ بكبائر التهم، والناس تلُوكُ كثيرًا من الأسماء بشتَّى سرقاتٍ واحتيالات، واستغلالٍ للنفوذ، واقتناصٍ للفرص، واستيلاءٍ على ما ليس لهم بحق، وتستُّرٍ على لصوص، وحمايةٍ لمن يستحلُّون أموال الدولة.
والهمس يدور أنَّ كثيرًا من الاتهامات حُوِّلَت إلى المدَّعي الاشتراكي. وقد أكرمنا الله في منصب المدَّعي الاشتراكي بقاضٍ من أمجدِ القضاة، وأنقاهم سمعة، وأحسنِهم سيرة، وأشرفِهم قصدًا وغاية وتصرُّفًا، إلى جانب علمٍ وافر وقدرةٍ فائقة على مواجهة قضاياه، فالذي لا شك فيه إذن، مع ما يعرفه الجميع عن هذا القاضي، أنَّ جهازه ليس فيه العدد الكافي للاضطلاع بذلك الكَم الوفير الذي يتدفَّق على محكمته.
وليس الأمر يسيرًا؛ فإنَّ وظيفة المدَّعي الاشتراكي تُعتبر من أخطر الوظائف إن لم تكن أخطرها في هذه السنوات التي نجتازها، ومصر في أشد الحاجة إلى هذه المحكمة لتُواجه الفساد الذي يَحيق بأجهزتها، والذي حاق بها في خروج مصر من الاقتصاد المُغلَق إلى الاقتصاد الحر، ومن عصر الحكم المفرد إلى عصر الديمقراطية والحرية.
وإنَّ التقرير الذي طلع علينا به مكتب المدَّعي الاشتراكي يُظهِر بجلاءٍ حاجةَ مصر الماسَّة إلى هذه المحكمة، ولكن لا بد أن يتهيأ للمدَّعي الاشتراكي كلُّ ما يتطلَّبه عمله الخطير من معاونين، يستطيع بهم أن يُواجه هذه الموجةَ الطاغيةَ من الفساد والرشوة والسرقة واستغلال النفوذ.
ولا مجال للقول هنا إنَّ وظيفة المدعي الاشتراكي وظيفةٌ استثنائية في السلطة القضائية؛ فإنَّ الحالة الاستثنائية لا بد أن تُواجهها الدولة بقضاءٍ استثنائي، والقائمون بالأمر في مكتب المدَّعي الاشتراكي قضاةٌ جميعُهم من السلطة القضائية، وعلى رأسهم قاضٍ من أعظم قضاة مصر، فمن الطبيعي إذن أن يكون عددهم كافيًا لما استشرى في مصر من فساد؛ فإنه لولا المدَّعي الاشتراكي لهُرِّبَت من مصر أموالٌ تزيد على الأموال التي هُرِّبَت أضعافًا مضاعفة، ولولاه لأفلَت من العقاب مجرمون ارتكبوا أبشع الجرائم معتدين على الآمنين من بني مصر، وشرُّ عدوانٍ لهم على اقتصاد مصر نفسها.
إن مصرَ اليومَ تُعاني أعظم ما تعاني من شاغلي مناصبَ كبرى، ثارت حولهم وحول أقاربهم الأقربين تُهمٌ دامغة.
وتُعاني مصرُ اليومَ من قياداتٍ تنحرف باتجاهها إلى أسوأ ما واجهَتْه مصر من أهوالٍ سياسية، واقتصادية، وخُلُقية، واجتماعية.
وقد عاشت مصر فترةً طويلة من الزَّمن في ظل حُكمٍ حطَّم القيم الأخلاقية والإنسانية شر تحطيم، ونرى الكثيرين ممن عملوا في ظل هذا الحكم يتولَّون أخطر المناصب وأكثرها حساسيةً وفعالية.
وللسياسة والحكم رجالٌ أولًا وقبل كل شيء، فإذا فقد الشعب ثقته فيمن يتولَّون المناصب الخطيرة في دولتِه، فكيف يمكن أن يثق باقتصاد دولتِه، وكيف يجوز لنا أن نُطالِبَه أن يُقدِّم أمواله في المشاريع الاستثمارية؟ وكيف نُريد ممن يملك العُملة الصعبة أن يُساهِم بها في اقتصاد مصر؟! وكيف نأمُل أن يُساهِم أبناء مصر في الخارج في دعم اقتصاد مصر، ويُرسلوا أموالهم إلى مصر وديعة، والوديعة لا بد أن تكون وادعةً أمينة؛ فمن أين يأتي الأمن إلى نفوس المصريين في الخارج، وهم يَرونَ المصريين في الداخل يخافون على أموالهم من هول الإشاعات التي تُحيط بهم مع الهواء الذي يتنفَّسون، ومع الماء الذي يشربون؟ وأين الأمان في بلدٍ تتعالى فيه صيحات أقوامٍ يُشرِفون على قطاعاتٍ هامة في حياتنا نسمع في رنين صيحاتهم القضاء على الحرية الاقتصادية أو الحرية السياسية؟
إنَّ أنصار الطغيان ودعاة الشيوعية أصبح لهم اليوم في مصر صوتٌ مرتفع عالي الطبقات، تؤيد كوارثَهم بعضُ مناصبَ غاية في الأهمية، وعلى درجةٍ عالية من الحساسية.
والصوت المرتفع يستطيع أن يبتلع في أطوائه الحقائق المؤكَّدة. والذي لا شك فيه أنَّ شعب مصر يكره الطغيان، كما يكره كلُّ شعبٍ أن يحكمه طاغية.
والذي لا شك فيه أن شعب مصر يرفض الإلحاد ويؤمن بالله إيمانًا عميق الجذور بعيد الأصول.
ولكن الأصوات المرتفعة التي هيَّأ لها الإعلام المصري أن تكون صيحاتٍ بعيدة المدى، استطاعت أن تبتلع المبادئ الحقيقية التي يعتنقها الشعب المصري، والتي يحافظ عليها حفاظه على الحياة، وهي الحياة. وهو يؤكِّد ذلك بالأدلة الدامغة، وأقربها الانتخابات التي لم يستطع الشيوعيون فيها أن يفوزوا بمقعدٍ واحد.
ولم يكن عجبًا أن يكون هذا دأب الشيوعيين في كل مكانٍ في العالم. ولعل آخر ما بدا من كراهية الناس لهم انتخابات السودان، وقد كان صوتهم في السودان مرتفعًا عاليًا، ذا هزيمٍ كهزيم الرعد، حتى لقد ظننا أنهم سيفوزون بالأغلبية في انتخابات المجلس النيابي. وتتم الانتخابات وتظهر النتائج، فإذا هي حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها مقالي تُسفِر عن نتائجَ تؤكِّد أنَّ الشعوب لا تُطيق الشيوعية، ولا تتصوَّر أن تُحكم بها؛ فحين يفوز حزب الأمة السوداني بثمانية وثمانين مقعدًا، ويفوز حزب الاتحاد بستين مقعدًا، ويفوز المستقلون بخمسة مقاعد لا ينال الشيوعيون إلا مقعدَين رُبَّما نجحا برغم أنهما شيوعيان لا لأنهما شيوعيان.
هكذا الشعوب في جميع أنحاء العالم من غربه إلى شرقه، لا يختلف في ذلك شعبٌ عن شعب ولا أصحابُ بيت عن أصحاب بيتٍ آخر.
وهكذا كان حتمًا علينا أن ننظر في أمر هؤلاء الذين يتولَّون مناصب، ولا بد أن يكون اختيارنا لهم مبعثًا للفوز بثقة الشعب فيهم؛ فإنه لا أمل لنا أن ينتعش اقتصادنا إلا إذا استقرت الثقة كل الثقة بين من يتولَّون عظائم أمورنا.