إيجابٌ ولا قبول
إذا قصد إليكَ شخصٌ ما لا تعرفه ولا يعرفك، وقال لكَ إنه عازفٌ ماهر على العود، فما أيسر أن تطلب إليه أن يُحضِر عودًا ويعزف عليه! وما هي إلا غمزة ريشة أو غمزتان حتى يُصبح الادِّعاء حقيقة، فهو إما أن يكون عازفًا أو لا يكون.
وإذا قصدَك شخصٌ آخر، وقال لك إنه رَسَّام وعرض عليك بعض أعماله فما هي إلا نظرة، ثم لا تحتاج إلى الثانية، حتى تعرف إن كان رسَّامًا أم مدَّعيًا.
كل الفنون كذلك إلا الأدب — وما أكثر ما يُظلم الأدب بجميع أشكاله!
كان الشعر له عمودٌ وقافية، فحين هدَموا العمود وطمَسوا القافية ظن الكثيرون أنَّ الشعر تحرَّر من كل القيود، حتى لأستقبل في الجريدة كثيرًا من شبابٍ وغير شبابٍ لا يعرفون ما هو الوزن، ولا ما هي التفعيلة، ويريدون أن ينشُروا شِعرهم بالأهرام!
وأذكُر أن صديقًا لي طلَبني ذات يوم، وقال لي إن ابنته تكتُب شعرًا رائعًا، وإنه يريد أن يصحبها إلى مكتبي لأقرأ شعرها. وجاء الصديق وابنتُه وألقيتُ نظرةً على ما تعتبره شعرًا، وقلتُ لها بكل بساطة: يا ابنتي، هذا ليس شعرًا.
كان هذا منذ سنوات. وقد نسيتُ هذه الواقعة تمامًا حتى لقِيَني هذا الصديق منذ قريب، وإذا هو عابسٌ مُغضَب، يقول لي إنني حطَّمتُ موهبة ابنته، وأصبحَت تكره الأدب والأدباء منذ لقائي، فكثير من الناس يظنون أنَّ موهبة الأدب هذه متاحةٌ للجميع، وأنه حتمٌ علينا أن نقبل منهم هذا الظن. والحقيقة أنني أعتبر هواية أي فنٍّ نوعًا من الجُموح الذي يجعل صاحبه منجذبًا انجذابًا مغناطيسيًّا شديد الأَسْر، يأخذ عليه كل حياته. وإذا ركب هذا الجموحُ إنسانًا لا موهبة له أكَلَه الفن واعتصَره دون أن يحقِّق من حياته شيئًا.
ونظرةٌ واحدة على المُمثِّلين الذين يقومون بأدوارٍ ثانوية، تجعلُك تعرف كم هو قاسٍ ذلك الفن، وكم هو متكبِّر لا يرحم ولا يعطف، ولا يلين لرجاء أو توسُّل أو وساطة، فكل هؤلاء كانوا يريدون أن يصبحوا نجومًا، وانتهى بهم الأمر إلى ما ترى. وإنك لواجدٌ بقايا الاعتصار هذه في كل فنٍّ من الفنون بلا استثناء؛ فأنا حين أقسو إنما أُحاول أن أحمي من أقسو عليه أن يكون ضحيةً جديدة للفن.
ولكن الأدب بالذات مظلومٌ بكثيرٍ ممن انتسبوا إليه عَنوةً واقتدارًا بفراماناتٍ من بعض ذوي النفوذ، فما أكثر مَن تُكتب أسماؤهم في كشوف الأدباء وهم من الأدب براء!
وأذكر في الستينيات أن عُرض على لجنة القصة في المجلس الأعلى للفنون والآداب خطابٌ موجَّه إلى رئيس الجمهورية، يشكو صاحبُه القائمين على أمر القصة أنَّهم لا يعترفون به، مع أنه ظاهرةٌ لا مثيل لها؛ لأنه يكتب القصة دون أن يعرف القراءة والكتابة، والخطاب موقَّع ببصمة إبهامه؛ فهو حتى لا يملكُ ختمًا.
وأنا أعرف بين مَن نراهم في المحافل الأدبية أمثالًا كثيرة لهذا الأُمي، ومع ذلك يجدون في أنفسهم الجُرأة أن يتصدَّروا الساحة الأدبية، ويفرضوا جهلَهم عليها. والغريب — أو ربما ليس غريبًا — أنهم ظلُّوا يُوهِمون أنفسَهم أنهم أُدباءُ حتى صدَّقوا الفِرْية وآمنوا بها، واعتَبروا انتسابَهم إلى الأدب أمرًا مفروغًا منه، لا يحتَملُ مناقشةً أو جدالًا.
وهم بطبيعة الحال لا يخجَلون أن يُصدِروا أحكامهم على الأدباء جميعًا. وهم في إصدارهم لهذه الأحكام لا يقبَلون استئنافًا أو مراجعةً أو مناقشة. وإنهم في ذلك لمعذورون؛ فإن أي إنسانٍ مهما يكُن شأنُه يستطيع أن يُصدِر أحكامًا، ولكنَّ القُضاةَ المثقَّفين وحدَهم هم الذين يستطيعون أن يكتبوا الحَيْثيَّاتِ والأسباب.
قد يظُن البعض أن هؤلاء قد وصَلوا إلى هدفهِم مهما تكن الوسيلةُ التي اصطنعوها لوصولهم هذا، ولكن الحقيقة غير ذلك.
لقد توسَّلوا فعلًا إلى الأدب بغير طرائقه المشروعة من موهبة وثقافة، وقدَّموا بدلًا من ذلك نفاقًا، أو إلحاحًا، أو استغلالًا، أو أموالًا، أو غير ذلك من وسائل الوصول، ولكن هل وصلوا؟
باليقين الذي لا يتزعزع أنهم لم يصلوا إلى شيء.
فالأدب لا يكون إلا إذا اتفق طرفان وقَّع كلٌّ منهم بدلًا من عقدٍ واحد عشراتٍ ومئاتٍ من العقود، وإن لم يُكتَب العقد ولم يتمَّ توقيع.
إن الأدب لا يكون إلا إذا تم إيجابٌ وقَبولٌ يُمثِّلان الطرفَين في العقود؛ أمَّا الإيجاب فهو ما يكتُبه الكاتب. وأما القَبول فهو إقبال القُراء على ما يكتب.
وهكذا يتضح لكَ أن هؤلاء الأدعياء لم يصلوا إلى شيء مطلقًا؛ لأن العقد لم يتم؛ فإن عقدًا ما لا يتم بالإيجاب وحده، وقد قدَّموه وألحُّوا في تقديمه، ومرَّغوا رءوسهم في التراب ليُتاح لهم تقديم هذا الإيجاب، حتى إذا أُتيح لهم ذلك وقدَّموه، امتَنَع الطرف الآخر عن التوقيع، وذهبَت صيحات الإيجاب صرخاتٍ بلا صدًى، وأصواتًا بلا سامع. إن القارئ لا يحفِل بهم، ولن يكون الكاتب كاتبًا ولا الشاعر شاعرًا حتى يكون له قارئ. وهذا القارئ هو أعدل قاضٍ عرفه التاريخ؛ لأنه القاضي الذي لا تجوز عليه الحيلة، ولا يجرؤ أحدٌ أن يوجِّه إليه أمرًا، ولا يجسرُ إنسانٌ أن يقف ببابه حاملًا بطاقةَ توصية، حتى وإن كان كاتبها أعظم أدباء العالم.
فالصلة بين الكاتب والقارئ صلةٌ خيوطها من حريرٍ تنسجُه في انسجام ومحبة روحُ الكاتب، ومشاعر القارئ خفيةٌ لا يُحِس بها أحد، لكنها مع ذلك صِلةٌ تبقى إلى الأبد، ويُسلمُها زمان إلى زمان في أمانة، وفي حُب وفي إعزاز. ورُبَّما كانت هذه الصلة هي أغلى ما يعتَز به الكاتب، وإنها ولا شك هي التي تجعلُه دائمًا يكتب بمدادٍ من دمه ويضع فيما يكتب سنواتٍ طويلة يقتطعها من عمره، ومن متعته، ومن سعادته، ثم يُحِس وهو يبذل كل هذا أنه يبذلُه لمن يستحقه، ويستحق ما هو أكثر منه، إن كان هناك ما هو أكثر من الحياة، ومن الدماء، ومن نبض القلوب.