مقدِّمة ونتيجة
عشتُ في بيتٍ قدَّر الله له أن يكون ميسور الأمور في مطالب الحياة، ولكنه باذخ الغنى في معرفة الناس، وتردُّدهم عليه؛ فمنذ وعيتُ الحياة وألِفتُ أيامها لم أذكُر أننا تناولنا طعامًا دون ضيفٍ معنا. ونحن أُسرة يظُن الناس بها الغنى، ونحن نسعَد بهذا الظن، ولا ننفيه على الرغم من مجانبته للحق؛ لأننا حقًّا أغنياء، فارعٌ بنا عماد الغنى، ولكن ثروتنا ليست من المال كما هي عند سائر الأُسر، وإنما ثروتنا هي الناس.
وهو فَرعٌ من الإقطاع الذي لم تستطع قوانينُ الإصلاح جميعًا أن تقترب منه؛ ولذلك لم يفقد أبي ولا فقَدتُ أنا ولا إخوتي سهمًا واحدًا من أرضٍ أو غير أرضٍ في قوانين الإصلاح الزراعي، وكذلك — والحمد لله — لم نَفقِد سهمًا واحدًا من الثروة البعيدة مرامي الحصر من حُب الناس. وحين تقدَّم أخي الدكتور شامل إلى انتخابات عام ٧٧ ذهبتُ لأَمُرَّ بالبلاد معه. كان الظن مني أنهم سيعرفونني مما يُنشر لي أو عني مما يصنعه لي التليفزيون، وما أُذيعه في الإذاعة. ولم يكذبني هذا الظن، ولكن الذي خذلَني أن كل هذا لم يكن يَعْنيهم في شيء، وكانوا يقولون لي ولأخي في وجهنا، وبغير محاولةٍ للمداورة إننا لن ننتخبَكَ من أجلكَ أو من أجل أخيك، ولكننا سننتخبُكَ من أجل أبيك. وكان قد مَرَّ على وفاة أبي في تلك السنة أربعة وعشرون عامًا. ونجح شامل.
لا تعجل بربك؛ فقد أراك تقول: ما لي أنا وهذا الذي تكتب؟! وأي شأنٍ لي أن تكون غنيًّا، أو تكون فقيرًا؟ وما شأني أن يكون ثراء أُسرتك من المال أم من الرجال؟ ولكَ في ذلك العُذر، ولكنكَ لو تحمَّلتَ المقدمة لبلغتُ معكَ إلى النتيجة.
ولْأَعُد الآن بعد هذا الاعتذار العارض إلى حقيقة الغنى في الأُسرة التي أنتسب إليها؛ فعلى الرغم مما تواتَر عنها من غنًى، فإنَّ الذين خالطوها وأوغلوا في صِلاتهم بها عرفوا حقيقة الأمر منها. وقد كان العالم الأديب ظريفُ ظُرفاء عصره الشيخ البشري من هؤلاء، وكان يقول عنا: إذا رأيتَ شخصًا مرتفع القامة عريض المنكبَين شديد الأناقة وكل ثروته قرش تعريفة فاعرف أنه أباظي. وهكذا كشَف البشري ما نُحاول أن نُخفيَه، وما تُساعِدنا طبيعة أجسامنا على أن نستُره.
فأنا إذن رَبيتُ بين الناس منذ تفتَّحَت عيناي على معالم الدنيا، وكان أبي عضوًا بمجلس النواب، طَوالَ فترة الحياة النيابية من بدايتها إلى نهايتها. وكان هذا يجعلُني أُخالِط كل البيئات مُخالطةَ مُعاشَرةٍ مُتعمِّقة في حياتهم، واسعة الأبعاد في خاصة شئونهم. وكانت هذه المعرفة مفروضةً عليَّ لا أملك فيها حقَّ الانتقاء الذي يملكُه كل إنسان في اختيار أصدقائه؛ ولهذا تعوَّدتُ أن أتحمَّل ألوانًا من الناس شتَّى، أعرف عيوبهم وأغفرها لهم، وأتبيَّن نقائصهم وأتغاضَى عنها؛ ولهذا يعجَب أصدقائي حين يَرونَني أقبلُ من الناس ما لا يقبلُه غيري، وأقول حين أُجادلهم: إنكم تُحاسبونهم بمقياس طبائعهم فتغضَبون، ولو حاسبتُموهم بمقياسِ طبيعتِهم هم لالتمستُم لهم العُذر؛ فليسوا هم الذين خلَقوا أنفسَهم، ولا هم الذين نسَجوا عقولَهم ورغباتِهم، ومطامعَهم، وآمالَهم، ومطامحَهم، وإنما تداولَتهم الحياة فصنعَت منهم هذا الذي تَرون، وأنا أستطيع أن أقبَل ما فيهم من عيبٍ محاولًا دائمًا أن أذكُر ما لهم من حسنات. ولكل إنسانٍ جانباه، فماذا علينا إذا نحن أغضَينا العينَ عن عَيبه، وقَبِلناه من أجل ما فيه من فضل.
نوعٌ واحد من الناس لا أُطيقه ولا أُحب أن أعرفه، ولا أحتملُ أن أنظر إليه، ولا أشتهي أن تجمعني به صِلةٌ أو وشيجة، ولكنه نوعٌ مفروض على الحياة يدمغُها فلا تستطيع الحياة منه خلاصًا، ولا أستطيع أنا فِكاكًا من مخالبه أو مجانبةً له؛ فحيثما قلَّبتَ وجهكَ فستراه، وأينما ولَّيتَ سحنتكَ فأنتَ مُلاقيه، لا في أنحاء العالم الأربعة بل أنحائه الثمانية.
أنتَ مُلاقيه في عملكَ، وأنت مُلاقيه في مَسْلاتك، وأنتَ مُلاقيه في كل مجتمعٍ يضُم بعضًا من الناس .. أنتَ مُلاقيه.
إنه الرجل ذو الصَّغار، أو قل إذا شئتَ الرجل الصغير، ولا تقُل الطفل؛ فالرجل الطفل حبيبٌ إلى النفس فيه براءة، تُسعِده ابتسامةٌ وكلمةُ ترحيب، وتُشقيه تقطيبةٌ وفتورُ لقاء، وهو قريبٌ لا خُبث فيه، ولا تحايُل، ولا دخَل ولا قذى.
أمَّا الرجل الصغير فشيءٌ آخر، وكلمة شيءٍ هنا مقصودةٌ لذاتها. ويقول القاموس في معنًى من معاني الصَّغار: صغُر؛ أي هان وذَل. وهذا هو الصَّغار الذي أَقصِده، صَغار الهَوان والذِّلة. وهو نوعٌ من الخُلق يستطيع الإنسان — إن كان إنسانًا — أن يجتَنبه في نفسه؛ لأنه هو الذي يصنَعه بنفسه في نفسه؛ فهو يشعُر في داخله أنه هيِّن أو أنه ذليل؛ ولهذا يخشى الأعزَّةَ الكُبراء، ولأنه يخشاهم يحاربهم، وكُلما حاربهم غاص في حَمْأة الهوان؛ لأنَّ الأعزَّة الكُبراء لا يَشعُرون بالصِّغار؛ فحين تنشَب الحرب بينهم يُسفِر الأمر عن شخصٍ ممسك بسيفٍ من ورقٍ يحارب به أحذية عدُوه؛ لأن أقصى ما يملك أن يبلغ الصغير من الكبير هو الحِذاء، فإذا هو بين الناس أضحوكة. ويظل الكبير كما هو كبيرًا، بل إنه سيزداد شموخًا؛ لأنَّ الناس ستُضطَر أن تُقارِن بين شخصَين؛ أحدهما رأسُه في السماء، والآخر رأسُه في الحذاء.
الهَوانُ يصنَعه الإنسان اكتسابًا لا وراثة؛ فهو دائمًا يشعُر في دخيلة نفسه أنه صغير؛ لأنه لم يُنشِّئ نفسه على أن يكون كبيرًا، فإن كان صاحب مهنة تراه لا يُتقنها لأنه فضَّل أن يلهو حين كان غيره يعمل، وإن كان صاحب مالٍ بدَّده؛ لأنه آثَر أن يستمتع حين آثَر مثيلُه أن يُنمِّي ثروتَه.
وشَر مكانٍ ترى فيه الصغير إذا نال منصبًا أو جاهًا؛ فهم أيضًا ينالون أحيانًا منصبًا؛ لأن الهيِّن الذليل يستطيع أن يجعل رأسه مَوطِئ نعال، ويقبل ما لا يقبله الكريم، وتلك عند الأخلاق منقصةٌ ومضيعةٌ لماء الوجه، وسقوطٌ بأقدار الرجال، ولكنها عند الصِّغار مفخرة، وقُدرةٌ على ما لا يستطيعه غيره، وذكاء وتحايل، وحُسن مدخلٍ ومعرفة بمكامن الأبواب.
إذا قُدِّر لك — لا قدَّر الله لك — أنْ تُعامِل صغيرًا في مكان كبير عَرفتَ حينئذٍ لماذا قال القاموس، والقاموس لا يقول إلا ما قاله العرب، والعرب من أعظم الشعوب حكمةً ومعرفةً بالناس: «صغُر أي ذَلَّ وهان».
ومن أطرف جُمل الحوار التي قرأتُها تلك التي دارت بين اثنَين، قال أحدهما: والله ما أبالي مدَحَني الناس أم نمُّوا.
فقال له صاحبه: استرحتَ من حيثُ تَعِب الكرام.
تُرى هل عرفتَ الآن لماذا سُقتُ هذه المقدمة الطويلة؟ ربما قلتَ إن النتيجة بسيطةٌ ولم تكن في حاجة إلى كل ما قدَّمْته بها، ولكن أليس الحديث بضاعتنا؟ فإن لم أكن أمتَعتُكَ بالمقدِّمة فالذي لا شك فيه أنني أرحتُكَ بالنتيجة.