حكمتَ فلم تُنصِف
للنقد متعةٌ خاصة عند الناقد وعند السامع. ولا أقصد النقد الأدبي، وإنما أقصد النقد بعامة. ولا أقصد النقد بمفهومة الفني الذي يعني تقويم الأعمال والناس، وإنصافهم بذكر ما فيهم من خير وما فيهم من شر، وإنما أقصد النقد الذي جرى الناس على أن يُطلِقوه على الهجوم والتجريح والتشنيع والإساءة. لهذا النوع من الحديث متعةٌ خاصة يُحس طعمها المتحدث؛ فهو بها يؤكِّد ذاته، ويُحس أنه في مشرفٍ رفيع يُطل منه على الحُكام ووجوه الساسة والمجتمع والناس، ويُطلِق عليهم أحكامه القاطعة الجامعة المانعة. وليس يعنيه أن يقوم حكمه على أساس، ولا يهمُّه أن يستقيم به المنطق، ولا يبالي أن يقدِّم الحيثيات للحكم. ولا يأبه إن كانت معلوماته صادقة أم كاذبة، إنما المهم أولًا وأخيرًا أن يُهاجم ويجرح. وقد يصل التجريح إلى القتل الأدبي ولكن، ما البأسُ ما دام هو قد لاك الهجوم بلسانه واطمأنَّت به نفسه؟ إنه عظيم، وإنه يعرف ما لا يعرفه أحد، وإنه نافذ النظرة، قاطع اللسان، قادر على الهجوم.
ويعلم الله أنَّ حينًا من الدهر قد مَرَّ على هؤلاء القوم كانوا إذا فكَّروا في هذا الذي يصرخون به اليوم لسارعوا إلى صنابير المياه والحنفيات يغسلون رءوسهم خشية أن تشي بهم رءوسهم إلى مصادر الرعب والسفَّاكين من الحكام. في هذا الحين من الدهر كانت النفوس تخاف من نفوسها، وتهلع الأفئدة من أفئدتها، والجوانح من جوانحها.
ولكن الحرية هي الأصل، وعودة الحرية ليست فضلًا وإنما هي حق، ولكن مع كل حقٍّ واجب، فإذا نحن نلنا حقنا فينبغي علينا أن نفرض على أنفسنا واجباتها.
فتلازُم الحق والواجب حضارة. وليس من الحتم أن يُفرضَ بقانون، وإنما ينبغي على الإنسان المتحضر المثقَّف أن يشفع كلَّ حق يُمارسه بالواجب الذي يلازمه. وحق الحرية يُلازمه واجب العمل؛ فالحرية بغير عملٍ فوضى، والحكم بغير ضميرٍ ظلم، والحرية نور والظلم ظلام. وكما نطالب الحاكم بأن يكون عادلًا في حكمه لنا لا بد أن نُطالب أنفسنا بأن نكون عادلين في الحكم عليه. ومهاجمة الحكام لمجرد الرغبة في الهجوم والتظاهُر بصورة الأبطال، أو لاستغلالِ ما نتمتع به من حرية، أو لإشعار أنفسنا بأننا أصحاب رأي ونقد وشجاعة، افتئاتٌ على كرامتنا نحن لا على كرامة من نهاجمه.
ثار في نفسي كل هذا، وأنا أقرأ مقالًا لأستاذٍ جليل أُكِن له كل إكبار واحترام في إحدى المجلات. والأستاذ أستاذ في التاريخ، والمقال محاكمة لأجيالٍ من الحكام سالفة. وإذا بالأستاذ المؤرخ يتناول تاريخ مصر كلَّه بالسخرية الشديدة، فكلُّ تاريخنا ظلام، وكلُّ رجاله لصوص، وكلُّ الناس فيه سفَّاحون أو أذلَّاء. وأُشهِد الله أن نفسي جزعَت مما كتب الأستاذ، فإذا كنا نرفض الظلم من عامة الناس، ومن جهلائهم، فنحن أشد رفضًا للظلم من الأستاذ المؤرخ العالم.
فلِلسخرية مواضعها، ولأحكام التاريخ جلالها. وليس يُرضي الله ولا الناس ولا الحق — والحق اسم من أسماء الله — أن يحكم رجلٌ في مثل مكانة هذا الأستاذ مثلما هو مفروض في سنه من حكمة ووقار على بني وطنه — حُكامًا ومحكومين — بكل هذا العَسْف والحَيْف والبعد كل البعد عن الضمير والحق والعدل.
يستطيع الأستاذ — إذا شاء — أن يستمتع بالكتابة الساخرة في قصة أو رواية أو مسرحية، أما أن يعرض لمصر وهي مصر، ولناسها وهم ناسه، بهذا الاستخفاف والهزء؛ فوا ضيعتنا إذن لكل معنًى شريف! ووا ضيعتنا أيضًا للوطنية، وللخُلق الذي يُنتظر من أمثاله!
إن الأستاذ الجليل قديم في صناعة العلم. ولا يحتاج لمثلي، وقد أكون منه بمثابة الابن، أن أُذكِّره بأمانة القلم الذي يحمله، ولا يحتاج لمثلي أن يسائله: ما هذا الذي تبثُّه إلى شبابٍ ليس يدري عن تاريخ وطنه؟ ويُسائله: ألم تفكِّر فيما قد تجرُّه كتابتُكَ هذه الجائرة على المثُل العليا من آثام؟
وأين الحق فيما تقول، وكيف أصبحَت مصر كما هي اليوم إن كان حكامها كلهم لصوص، وشعبها كله ذليل، كيف أنبتَت الأئمة الأجلَّاء في الفن والأدب والعلوم جميعًا، ورُبما اعتبرك البعض واحدًا من هؤلاء الأئمة؟
وكيف كانت ثاني دولة في العالم تسير بها القطارات، وكيف كانت أعظم دولةٍ في منطقتها؟ إن العدَم لا يُنبِت إلا عدَمًا، وما كانت مصر عدمًا قط.
بل إنها من القوة والعظمة بحيث استطاعت أن تُقاوِم كل ما مر بها من أهوال وتعيش، وقد عاشت وستحيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
اصرف سخريتك إلى غير كرامتنا أيها الأستاذ، والعب بقلمك في غير تاريخ مصر، وتسلَّ في أيامك بغير ماضينا الذي هو باعث حاضرنا وأمل مستقبلنا.