خلقَه، فسوَّاه، فعدلَه
يقع كثيرٌ من الناس في خطأٍ فادح حين يقسِّمون الناس إلى طبقات، ويُطلِقون على كل طبقةٍ أحكامًا عامة، وكأنهم فصائلُ من البقر والماشية، يصدُق على الواحدة منها ما يصدُق على المجموع. والفضل في تصنيف هؤلاء البشر يرجع إلى النظرية الشيوعية التي تَشابَه البقر عليها، وجعلَت البشر وهم البشر من خشب وحديد، فالنظرية لا تعترف بالروح؛ ومن ثَمَّ فهي لا تعترف بإنسانية الإنسان. وكل غني شِرِّيرٌ سافل مُستغِل، وكل فقيرٍ شريفٌ نبيل مظلوم.
ويأبى الواقع هذا؛ فأنت تجد بين الأغنياء الشريف واللص، والنبيل والسافل، والكريم والخسيس. وتجد هذا التباين نفسه في كل فئة من فئات المجتمع، بل إنَّ الأسرة الواحدة التي يعيش أفرادها في ظروفٍ اجتماعية واحدة يخرج الأبناء فيها لكل ابنٍ خلقه الخاص، وأفكاره التي ينفرد بها لا يماثله فيها أحد. وتجد فيها الابن اللص، وتجد فيها المتطرف في الشرف، الذي يرفض أن يحيد عنه قيدَ أُنملة. وتجد في الأُسرة الفتاة المستهترة، وتجد فيها الفتاة المُغالية في المحافظة على القيم والأخلاق، إن كانت هناك مُغالاة في المحافظة على القيم والأخلاق.
والتركيبة الخلقية هذه عجيبة في شأنها؛ فهي كملامح الوجه لا تعرف كيف تكوَّنَت مُقوِّماتها؛ فكما تجد في الأُسرة الأسمر والأبيض، وخشِن الشعر وناعمه، تجد ذلك التبايُن في الأخلاق أيضًا.
وتُطالِعكَ الحياة بأشياءَ مذهلة؛ فالحقد — كما يقول العلم، وكما تقول طبيعة الأشياء — لا يكون إلا من إنسانٍ يشعُر بالصغَر، إذا قارن نفسه بإنسانٍ آخر، فيشعر المفضول بالحقد على الفاضل، وكثيرًا ما يشعر بالحقد على المُفضِل الذي وهب له من الخيرات ما لم يكن يتوقَّعه.
ولكني رأيتُ حاقدين وهب الله لهم الثراء العريض، والشهرة البعيدة، والهناء العائلي، وفضَّلَهم على كثيرٍ من نفس فئتهم، وجيلهم.
ولكنها تركيبة النفس، هذه التي لا يعرف أحد كيف تتكوَّن، ولا لماذا، ولا يستطيع أي عالمٍ في الاجتماع أو في علم النفس أن يجد لها السبب المُقنِع أو الرأي الفصل.
وما بعجيبٍ أن يفضُل بعض الناس بعضًا في الرزق؛ فكذلك خلقَهم الله.
يقول سبحانه وتعالى في سورة الزخرف، الآية (٣٢): أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
تعاليتَ يا الله سبحانك، وتقدَّسَت آلاؤك، أترى كيف يُنهي الآية بأنَّ رحمة ربك خيرٌ مما يجمعون؟ فالتفاوت في الرزق لا يكون إذن إلا هنا في هذه الحياة الدنيا، وليس في العليا. أمَّا هناك فرحمة ربك خيرٌ مما يجمعون، ولا يرتفع بعضٌ فوق بعضٍ درجاتٍ أو درجة، وإنما تشملهم جميعًا رحمةُ ربك في كريم سببها؛ فلا سيد هناك ولا مسُود ولا مُسخَّر ولا مسخَّر له، إنما هي رحمة ربك فحسب.
وتُحاول أن تجد في الحياة الدنيا نظامًا يمكن أن يسير بغير رئيس ومرءوس، فلا تجد هذا النظام في أبشع صورة وأبعدها عن الإنسانية في البلاد الشيوعية؛ فرئيس الحزب هناك هو الذي يبسُط الرزق لمن يشاء ويَقْدِر، مُتعسِّفًا غاية التعسُّف ظالمًا كل الظلم، واضعًا نفسه في مكان رحمة السماء، التي تعطي فلا تعطي إلا بالعدل الإلهي، وتَقْدِر الرزق، فلا تَقْدِره وتجعله قليلًا أو ضئيلًا إلا بالميزان الأعلى من القسط الأوفى، من رحمة عالمٍ رحيمٍ متعالٍ.
ولكنَّ الشيوعيين يقولون ما لا يفعلون، ويدَّعون ما لا يعملون، فيُطالبون بالعدل للكادحين، ثم يسحقون هؤلاء الكادحين. ويُطالبون أن يكون الحكم للطبقة العاملة، ثم يُلقون بأثقال أحزابهم في مختلف الدول الشيوعية على هذه الطبقة أفدحَ ما يكون الإثقال.
ويُحاولون مع ذلك أن يجتذبوا إليهم هذه الطبقة في الدول التي لم يُصِبها وباؤهم بالألفاظ الجوفاء، والخطب الرنانة، وبالمنشورات الكاذبة.
ويتساءل بعض قوم: لماذا لا يستطيعون مع كل هذه الجلَبة، وهذا الضجيج، وهذه الأماني التي يُزيِّنون بها نظريتهم، أن يجتذبوا إليهم العمال في كل أنحاء العالم، وخاصة البلاد التي لا يحظى فيها العمال بتلك الأجور العالية التي ينالها عمال العالم الرأسمالي؟ والأمر لا يحتاج إلى إعمال فكر، ولا إلى إمعان نظر؛ فإنَّ الإيمان بالله يقف دائمًا حصنًا منيعًا ضد الشيوعية في جميع أنحاء العالم، ولا أقول في مصر وحدها؛ فقد رأيتُ في بولندا طاقةً من الإيمان لم أتصور أن أجدها في بلدٍ قط.
أما في مصر ذات الألف مئذنة، تقدمُها مئذنة الأزهر الشريف ومنارته، فهيهاتَ للشيوعية والإلحاد أن تجد فيها مراحًا أو مرعًى خصيبًا كان هذا المرعى أو غير خصيب. وإنما ستظل نبتًا شائنًا في مباءةٍ عفنة من الكفر والاعتداء على كل نبيل وشريف في حياتنا. وسيظل الصائتون بها جماعةً من المهازيل والهُذاة، يُنشئون الخرائب، ويَنعِقون فيها، وتبقي مصر مشرقة الآفاق، مضيئة الجنبات، بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، بل وبأجراس الكنائس، وحرص المسيحي المصري على دينه وعلى إيمانه وعلى إخوته من أبناء وطنه.
وأخرى تقف كالصرح المريد أمام أكاذيب الشيوعية والشيوعيين، تلك هي الحقيقة التي اتضحَت معالمها عند تطبيق النظرية. وحسبك نظرةٌ عابرة سريعة إلى عدد الهاربين من جحيم الشيوعية إلى البلاد التي يسود فيها القانون الإلهي، والقانون البشري. وأُذكِّرك بذلك القطار الذي جمع به سائقُه عشراتٍ ممن خنقَت الشيوعية أنفاسهم، وسار القطار حتى بلغ ذلك الجدار الذي يفصل برلين الشيوعية — والتي يُسمِّونها ديمقراطية تمحكًا في الديمقراطية، وتمحلًا — عن برلين الغربية، وإذا بسائق القطار يدخل بقطاره وبمن معه في الجدار نفسه معرِّضًا نفسه وصَحْبه لموت الصدمة، مُفضِّلًا ومُفضِّلين الموت عن تلك الحياة المقيتة، التي تجثُم على إنسانيتهم في الحكم الشيوعي. وما حدث في تشيكوسلوفاكيا وما حدث في المجر وما يحدُث اليوم في بولندا؛ كل هذا وأشباهه كثيرٌ أثبت لعمال العالم أن وعود النظرية الشيوعية كذبٌ واهم، لا تعرف الحق ولا يعرفها الحق. والذين يقاومون الشيوعية شباب، وكانت قبلهم أجيالٌ أخرى قاومَتْهم. وأُذكِّرك بكتاب كرافتشنكو الشهير «آثرت الحرية»، ولكنَّ هؤلاء المُقاومين ليسوا جيلًا بأكمله؛ فالحياة لا تعرف التماثل في الأجيال، وإنما تجد في الجيل الواحد الجسور الجريء، وتجد الخانع الخائف. وكذا لا تنطبق صفةٌ واحدة على جماعة بأكملها أبدًا؛ فالله سبحانه شاء — برفيع حكمته — أن يُلزِم كل إنسان طائره في عنقه. وما دام الأمر كذلك — وهو كذلك — فكل فردٍ في كل جيلٍ له مقوِّماته، وله معالمه الخلقية الخاصة به. وإن كانت بعض أوضاعٍ سياسية قد أنشأَت بعض قيمٍ فاسدة، إلا أن الخير بقي خيرًا، والشر بقي شرًّا، وليس هناك أحدٌ لا يعرف الخبيث من الطيب، ولا الحلال من الحرام. وإنَّ بين الشيوعيين أنفسهم — وهم من أنكروا الله وهو الله — من ترغمه الإنسانية أن يكون شكورًا إذا مسَّه خيرٌ من إنسان، ومن لا يستطيع أن يجحد المعروف إذا نال معروفًا. مع أن النظرية تُحذِّرهم أن يخدعهم غير الشيوعيين باللمسات الإنسانية، فيصرفوهم عن مذهبهم الدموي، الذي لا يعترف بتفرُّد الكيان البشري، إلا أن بعضًا منهم مع ذلك لا يستطيع أن يتخلى عن إنسانيته، ولا يطيق أن يجحد الفضل للمُفضِل. وهكذا يُحطِّمون هم أنفسُهم بتصرفاتهم فكرةَ أنَّ الطبقة ينطبق على الفرد منها ما ينطبق على الجميع، وأنَّ الجيل بأكمله يصدُق على الواحد منه ما يصدُق على الجيل بأَسْره، بل إن الحزب الشيوعي أثبت ما أثبتَته جميع أحزاب العالم، أن ما يتصف به أحد أفراد الحزب ليس من الحتم أن يتصف به جميع أفراد الحزب، حتى وإن ربطَت بينهم بعضُ مبادئ وأفكار الحزب الشيوعي. والأحزاب المتطرفة عامة تُمثِّل عند من يقتنع بها دون دافعٍ مالي أو نفعٍ شخصي فترةً أكثر مما تُمثِّل عقيدة.
فهي عند غير المنتفعين قطعةٌ زمنية من المراهقة الفكرية، ما يلبث الفتى إذا شبَّ عن طيش الشباب ورعونته أن يرتد عنها؛ فالإنسان رغم أنف الشيوعية يتأثَّر بسنه وبثقافته. قد يترك أقصى اليسار أو أقصى اليمين إلى موقفٍ عادل في الحياة، يتعمَّقها ويبلُغ من أسرارها وجذورها ما يجعله إنسانًا سويًّا، كما أراده الله أن يكون؛ فهو سبحانه الذي خلقه فسَوَّاه فعدلَه، في أي صورةٍ ما شاء ركَّبه.