لستَ وحيدًا
يخطئ من يظن أن الإنسان إذا اختار الحق طريقًا، والصدق منهجًا، يلقى دائمًا التأييد من الناس؛ فليست الحياة بهذا العدل الذي قد يظن، وإلا ما سُمِّيَت الدنيا دنيا، وما سادت فيها الفوضى، ولا تعملَق الأقزام، ولا ساد الهُزلاء، ولا استأسد البُغات.
فصاحبُ الحق من الطريق كراكب الأسد قد اختار أصعب الوسائل مركبًا، وأبعدها عن الأمن؛ فما هو مركبٌ ذلول. وما هذا بعجيب؛ فالطريق الذي اختاره وَعْر يعنُف بالسائر فيه أشدَّ العنف، ويُزلزِل كيانه كل مُزلزَل، حتى ليكادُ يرميه عن الطريق إلى طرقٍ أخرى كلها يُسرٌ ونعومة، وهناء ورغَد.
فالمؤيِّد للحق مؤيدٌ لأقل فريقٍ في الدنيا عددًا؛ فأغلبُ الناس على غير الحق؛ منهم الباحث عن مالٍ مهما تكُن الوسيلة إليه؛ خطفًا، أو سرقة، أو دعارةً خُلُقية، ومنهم الباحث عن الجاه قد اتخذ سبيله إليه نفاقًا وخداعًا، وكذبًا، ودفاعًا عن الباطل ومساندةً للظالم بستار المظلوم، وتأييدًا للسفاح بدَرء الفضيلة، ومنهم الباحث عن سرادبَ إلى منصبٍ أو كنز من ذهبٍ مسروق، وليس يَعْنيه أسبابُ وصوله وطرائقه؛ فالطريق كلها عفَن وإهدارٌ لكرامة، وسفكٌ لدماء، وإراقةٌ لماء الوجه، وبُعدٌ كل البُعد عن الحياء.
وينظُر السائر على طريق الحق إلى البشر الآخرين على هذه الطرق، فيجدُهم يصِلون إلى غايتهم بهزَّة خصرٍ من مومسٍ يستجلبونها، أو قبضة مالٍ من خزائن لا يملكونها، أو سكبًا من نفاق يبذلُه من لا حياء له لمن لا عقل له، ثم تنفتح المغاليق، ويبلُغ السائر على الموبقات إلى هدفه ومبتغاه.
وقد تعوَّد الناس — أغلب الناس — ذلك من الناس، أغلب الناس، حتى أصبح جمهور البشر لا يُصدِّقون أنَّ أحدًا يمكن أن يقول الحق لوجه الحق؛ فهم دائمًا يبحثون عن سببٍ خبيث للرأي الطيب، فإن عزَّهُم أن يجدوه وأعياهم البحث اختلقوا من الخُبث ما حلا لهم، ولفَّقوا من التُّهم ما يَعِن لأفكارهم.
وحين يتبيَّنون أن صاحب الكلمة الحق كان يقولها لوجه الله، والشرف، والضمير، يكون القائل قد مات، أو يكون قد قارَب الموت، حتى لا يعنيه أنصَفَه الناس أم ظلموه. وليس يُبالي أن كانوا أدركوا أنه كان يصدُقهم ولا يُخادعهم أم لم يدركوا.
وهكذا — والحديث إلى الشباب — لا تنتظر أن تنال من طريق الحق، إذا أنتَ اخترتَه، تكريمًا أو إعجابًا بموقفكَ الصلب في سبيل الحق، فإذا كنتَ تُرضي الناس — أغلب الناس — فاختر غير الحق طريقًا، وغير الضمير شريعة، وغير الشرف سبيلًا، وابتَعِد ما استطعتَ عن مثل هذه المعاني السامية، واختَر عكسَها تمامًا رفيقًا ومنهجًا.
ولكن لا تحسب أنكَ إذا سرتَ مع الشرف فلن تنال أحسن الجزاء، بل إنكَ ستنال ما لا يستطيع غيرك أن يحصل عليه، بشرط أن تُقدِّر هذا الذي تحصُل عليه؛ فإنَّ الجوهرة المُنقطعة النظير لا تُصبح ذات قيمة إلا إذا وقعَت في يد من يُقدِّرها.
من المؤكَّد يا أخي، أنك لن تُرضي كل الناس، بل ومن المؤكَّد أيضًا أنك لن تُرضي أغلب الناس، ولكنك ستُرضي أهم مخلوق في حياتك، وهو أنتَ وضميرك .. إذا كان ضميرك خالصًا وأرضيتَه، فقد أرضيتَ ربك، وأرضيتَ الشخص الوحيد الذي يلازمكَ لا يفارقكَ في صحو وفي نوم، وفي زحمة الناس، وفي انفراد. تراه في المرآة وتراه وأنت لا تراه، فإن رضي عنكَ هذا الذي هو أنتَ فقد بلغتَ ما لم يبلغه أحدٌ مهما يكُن له من جاه ومال وسلطان.
وحتى يرضى عنك هذا الأنت الذي هو ضميرك الخالص لله لا بد أن تدفع الثمن من حقد الحاقد الذي يريد أن يصبح مثلك ولا يستطيع، ومن كيد المنافق الذي يبيع نفسه لكل من يدفع الثمن، ومن غضب السفلة على الشرفاء، وسخط الوضيع على الكرام، وحسد الخطَّائين لمن يبتغون إلى الله الوسيلة.
وإذا وجدتَ قليلًا من الناس معكَ في الطريق يعينونك على الوحدة، ويؤيدون موقفك، ويشُدُّون أزرك، فالفرد من هؤلاء أمةٌ بأَسْرها، فالجزاء كما ترى أعظم بكثيرٍ مما تتصوَّر بشرط أن تُقدِّره وتُحسن تقديره، وتذكر البيتَين الرائعَين: