ولكنَّ أخلاق الرجال تضيق
من أعظم الأبيات التي صادفتُها في قراءاتي ذلك البيت العظيم:
فالبيت مع جمال صياغته يضع قاعدةً وطنية تظل الأيام تُردِّدها، وتؤيِّدها على مدى السنوات الطوال. وقد قيل هذا البيت منذ ألف عام ونيِّف، وباليقين لم يكن الشاعر يدري أن مصر ستُلاقي من العنَت والقهر ما لاقَته، ولم يكن يدري أن الآلاف من أبنائها سيتركونها مهاجرين، ويتركها أيضًا غير أبنائها، الذين اتخذوا منها موطنًا، واختاروها دون بلاد الله بلدًا لهم، ولكن المصري الذي يهاجر يحمل مصر معه، ويأبى في اعتزازٍ لا أعرف له مثيلًا أن يتخلى عن جنسيته المصرية. قد يقبل أن يحمل جنسيةً أخرى، ولكنه قَطُّ لم يترك جنسيته المصرية، بل إن الأغلبية الكاثرة منهم تتوق أن ترجع إلى مصر لتكون ملاذه الأخير، ومراح اطمئنانه، ومبعث دفئه من بَرد الغربة وهجير الوحدة.
وكنتُ مع أخي وصديقي الأديب الفنان فاروق خورشيد في اليونان، وكنا نمشي في شوارع أثينا نتبادل الحديث باللغة العربية، فإذا أقوامٌ يتحلَّقون حولنا وقد رنَّت في آذانهم أنغام اللغة المصرية، ولا أقول العربية فهم لا يعرفون إلا اللغة المصرية، أو أكثرهم على الأقل لا يعرف غيرها، ويصيحون بي وصديقي: أنتم من مصر. أنتم من البلد الحبيب. كيف الحال هناك؟ أنستطيع أن نرجع الآن؟ وفي يومٍ كنتُ أُحادث صديقي فاروق ونحن في طريقنا إلى صيدلية لنشتري منها بعض دواء. ودخلتُ إلى الصيدلية ووجَّهتُ حديثي بالإنجليزية إلى صاحبها، فإذا هو يُجيب في لغةٍ عربية خالصة، وليست مصرية، وفي لسانٍ فصيح ليس فيه من العجمة أثَر، قال صاحب الصيدلية: نعم يا سيدي، إن هذا الدواء عندي. ودُهِشتُ وصديقي من هذه اللهجة العربية النقية وسألتُه: كيف عرفتَ أنني أتكلم العربية؟ وضحك وهو يقول: لقد سمعتُ حديثكما وأنتما قادمان إلى الصيدلية. وراح الرجل المثقَّف يسأل عن أنباء مصر، ولم تكن في ذلك الحين تَسُر، فرُحْنا نحن نحاول أن نتستَّر على ما بها، وما ندري إن كنا أفلحنا أم تعثَّر بنا الكذب.
وأرى في كل عامٍ في لوزان بسويسرا عائلةً يونانية، تُصر على أن تلتقي بي، وتتعرف مني ومن زوجتي على أنباء مصر. وعلم الله أننا قد نجد الأُسرة تعلَم من أنبائنا ما لا نعلمه.
فإذا كان هذا حال الأجانب الذين تمصَّروا، أو أقاموا في مصر دون تمصُّر، فما ظنك بنا نحن الذين رضعنا ألبانها، وسرت شوارعُها وحواريها وأزقتُها، وريفُها، وبحرها، في الحوافي البعيدة من مسارب نفوسنا؟! لنا بين ربوعها ذكرياتُ الطفولة والصِّبا والشباب، ومن أقام لحِقَت به أيدي الكهولة والشيخوخة، ولنا في باطن أرضها أجداد وأجداد أجدادنا وآباؤنا، ولنا مشرق بسمة أبنائنا وعناؤهم، وخُطى أقدامهم في لعب وفي جِد، ولنا مستقبل هؤلاء الأبناء، وغدُهم الذي أصبح غدنا نحن ما عشنا، وأهم جزءٍ منا إذا نحن فارقنا الحياة. ولا أستطيع أن أذكُر مصر ولا أذكُر الحنين إليها عند ملك الشعر العربي شوقي الخالد وهو يقول:
وعدَت على مصر العوادي، وما زلنا، وأحسب أننا سنظل لسنواتٍ نعاني آثار الزلزال المُدمِّر، الذي ترك مَرافقَ مصر ركامًا مُتهتك الأوصال، ممزَّق النواحي. والناس تصرخ وتشكو، والناس تُحب الشكوى، منذ وعيتُ السياسة، لم يرضَ الشعب المصري عن حزبٍ حاكم قط، حتى وإن كان هو الذي اختاره وأجلسه على كرسي الوزارة، وحسبي لأذكُر لك مثالًا لا تنساه مصر. ألم ينجح الوفد في آخر انتخاباتٍ دستورية في مصر قبل الثورة؟ وكان بحاله عارمًا أخاذًا؛ فقد كانت الانتخابات بعد أن ظل مُبعَدًا عن الحكم أكثر من خمسِ سنوات. ومع ذلك فحريق القاهرة وقع بعد سنة وبضعة أشهرٍ قليلة من تولِّي الوفد مقاليدَ الحكم. ومهما قلتُ إنَّ هذا الحريق كان وليد مؤامرة، فالذي لا شك فيه أنَّ الشعب لو أراد التصدي للمُعتدين لصدَّهم ولردَّهم على أعقابهم دون أن يُلحِقوا بالقاهرة الحبيبة ما ألحقوه بها من خراب.
وفي الأمس القريب وصل إليَّ خطاب من مجهول، وإن كانت الجهة التي تفضَّلَت بإرساله إليَّ غير مجهولة. وأعفُّ عن الرد عما جاء بالخطاب من دناءة، فما تعوَّدنا من هذه الجهة إلا مثل هذا، وإنما أُجيب في شأنٍ واحد مما جاء في الخطاب، وهو غضبُه على أنني لا أتكلم في مشاكل الشعب. لكَم يتاجرون بك أيها الشعب العظيم! وهل يحتاج الشعب لأحدٍ أن يذكُر له مشاكله، أليس هو أدرى الناس بها؟ ما أسخفَ الطبيب إذا وصف للمريض داءه الذي هو أدرى الناس به، دون أن يصف الدواء!
فإذا أنا تصدَّيتُ لهذه المشاكل على غير علمٍ مني مكينٍ بدوائها، فأنا ذلك الطبيب الذي يُردِّد على مسامع المريض أعراض مرضه، ثم يتركه ويمضي دون أن يذكُر له الدواء.
وإنما قُصارى الأمر معي أن أُهيب بالحكومة أن تُنفِّذ رأي العلماء؛ فهي قد استشارت رجال الاقتصاد، أفتُراها نفَّذَت شيئًا من آرائهم؟
أما أن أتكلَّم عن مشاكل التليفونات فمن أين لي الخبرة بذلك؟ ولكن لماذا لا يمتدح الناس التقدُّم الذي تحقَّق في هذا المرفق؟ أنَسُوا أنَّ وسط القاهرة، ومصر الجديدة، والمعادي، ظلت سنواتٍ لا ينطق فيها تليفون؟ ألا ينبغي علينا أن نحمد التقدُّم حتى يجد العاملون عندنا بعض الاعتراف بالفضل بدلًا من أنهار الذمِّ التي لا يقف سيلُها؟
أو أتكلَّم على مياه الصرف أو غير ذلك، فإنني أكون كذلك الطبيب السخيف. أنا لن أردِّد كالببغاء ما يعرفه الناس مغتنمًا بالحديث الفرصة لأُهاجم الحكومة، فلستُ بذلك، فما أصبح الهجوم على الحكومة اليوم بطولة. وفيمَ البطولةُ وجرائدُ المعارضة تقول ما تشاء وتختلق ما تشاء أيضًا، وتصدُر مع ذلك في مواعيدها، بل وتسافر إلى الخارج أيضًا تحمل أنسام الحرية التي تشهدها مصر إلى العالم المتحضر الذي أصبحَت الحرية فيه أمرًا لا يحتاج إلى الإشادة به، وتُعلن هذا العالم أننا نسير في هذا الطريق، وأننا عنه لا ننكص؟ فلنَضرِبْ إذَن صفحًا عن الخطاب وأصحابه وعن ذلك المجهول المعروف، ولا أُحب أن أروي بيت المتنبي المعروف؛ فقَدْر ما أُبغض الناقصين أُبغِض أيضًا أن أمدح نفسي.