ما أجمل هذا الحريق!
علاقة الابن بأبيه علاقةٌ عنيفة آسرة؛ فالابن دمي وحياتي، وما بعد مماتي. يختلف الابن مع أبيه، وما أسرعَ ما يتبيَّن له الصواب الذي كان عليه أبوه! يُحبه ويحمد له أنه نصح فصدق النصيحة، ونظر فأحسن النظر، وتوقَّع فأفلح توقُّعه، أم هو يُحس أن أباه دائمًا يتقدَّمه، ويرى أبعد مما يراه هو، ويعرف أكثر مما يعرف؟ هل يُحب الابن أباه إذا أخلص النصح، وصدق منه الحدْس، أم يُحس بالغيظ منه أنه توقَّع فأصاب في حين توقَّع هو فأكدى وأخطأ، ولم يُصِب من الرأي مفاصله؟ أيُحب الابن أباه لقاء حب أبيه له، أم يضيق به وبحُبه هذا الذي يقيِّد حركته، ويحدُّ حريَّته، ويحبس عربدَته؟ وماذا يستطيع الأب اليوم أن يفعل؟ أمَّا في علاقة جيلنا نحن بآبائه فقد كانت المشكلة محسومة، أو إذا شئتَ الحق لم تكن هناك مشكلة، وإنما كان الأب يأمر ولا يتصور الابن أن يكون جواب الأمر إلا الطاعة والخضوع، والمسارعة إلى الاستجابة. وإنما اليوم وقد انهارت كل القيم الموروثة، ماذا يستطيع الأب أن يفعل؟ هل يوافق ابنه في كل ما يذهب إليه، ويتركه يخوض تجربته مُقدِّرًا أن الناس اليوم لم تعُد تؤمن بتجارب الآخرين، وإنما تؤمن الأغلبية العظمى منهم أن ما يقع للآخرين لا يمكن أن يقع لهم، وكل إنسانٍ يحسب أنه جنسٌ وحده غير البشر، وأنَّ ما يصدُق على آحاد الناس وجماعاتهم لا يمكن أن يحدُث لهم هم؟ إذن فيتركُ الأب ابنه يخوض تجربته، أم يقف في كبريات الأمور وقفةً حاسمة حازمة؛ ليعلم الابن أن الأب واحدٌ من العقبات التي لا بد أن يتخطَّاها إلى مبتغاه ومطلبه، وقد يكون كبرى العقَبات وأشدها مراسًا وأصلبها عودًا وأعتاها مكسرًا؟
إن حب الآباء العنيف لأبنائهم قد يؤدِّي بهم آخر الأمر إلى كراهيتهم في بعض الأحيان؛ لأنهم يرون فيهم أَسْرهم، ورعبهم، وخوفهم، وقلقَهم، وزوال أمنهم، وزعزعة حياتهم؛ فهم خيولٌ جامحة ثائرة، ولا تفكِّر، تسير في الطريق قد يبدو أوله ممهدًا في حين يعرف الآباء أن الهاوية نهايته. يفرضون على الآباء رغباتهم حتى وإن كانت هدمًا لرغبات أبوَيْهم. وقد يبلغ الآباء من العمر مكانًا يطمئنون عنده على قابل أيامهم، ولكن يظل الأبناء هم رعب أيامهم، وتهديد أمنهم، ومصدر شقائهم الذي هو في نفس الوقت مصدر سعادتهم من كثرة ما يخاف الآباء على الأبناء. يخافون عليهم، وهم يتعثَّرون في الطريق، ويُرعَبون على مستقبلهم، وهم في قمة نجاحهم؛ فالأب يخشى على ابنه المتعثر ويخشى على ابنه الناجح ألا يدوم له النجاح. وحين ترى أبًا يروي عن أبنائه ويُكثر من الرواية فلا تلُمه ولا تضِق به؛ فليس إلى إملالك يقصد، وإنما يستمد منك الطمأنينة، ويلتمس في ابتسامتك الثقة في المستقبل؛ فهؤلاء الأبناء مصدر شقاء آبائهم من كثرة ما يثيرون في نفوسهم من القلق، ومن شدة ما يؤجِّجون من الرعب. ومن عجب أن يجتمع في معينٍ واحد الهناء والشقاء، والأمل واليأس، والطمأنينة والرعب! وحين يفكِّر الآباء في كل هذا يكرهون أبناءهم أو يكادون من كثرة ما يُحبونهم حبًّا مُدمِّرًا عاصفًا، يلتهم كالحريق حياتنا، ولكن ما أجملَ هذا الحريق وما أحبَّه إلى الآباء!
ثار في نفسي هذا جميعه وأنا في طليطلة أقف على أعتاب قصر الكزار، والكزار هو الاسم الذي ننطقه، وما هو في الحقيقة إلا كلمة القصر ينطقها الإسبان الكَثر بفتح الكاف وسكون الثاء، وينطقها السياح الكزار، وتختلف الألفاظ لتؤدي معنًى واحدًا هو القصر.
في إحدى غُرفات هذا القصر قصة أنقل مضمونها إليك، ولا تعجب أن تثير في نفسي كل هذا الذي قدمته بها؛ فإننا نستطيع أن نُسيطر على عقولنا، أو قد نُسيطر على قلوبنا مع كثير من الجهد، ولكن هيهات لنا أن نسيطر على خيالنا. وبنا الآن إلى قصة القصر، إنها تُروى عن الجنرال سكردوه في الحرب الأهلية الإسبانية، وقد كان جنرالًا بالجيش ومتحصنًا مع قواته في القصر، فإذا بالتليفون يدق عنده، وإذا المتحدث زعيم القوات الشيوعية المعادية له، وإذا هو يُبلغه أنهم أسروا ابنه، وهم يُخيِّرونه بين أن يُسلِّم القصر أو يقتلوا ابنه، وفي هدوء يقول الجنرال: دعوني أكلِّم ابني.
ويُمسِك ابنه بالتليفون ويعرف الأب بدمائه وقلبه لا بأذنه صوت الابن ويقول له: ولدي أنا أُضحِّي بك في سبيل وطني، في سبيل إسبانيا. ويقول الابن: هكذا أريدك أن تكون.
ولا يصل إلى قلب الجنرال بعد ذلك أو أذنه إلا صوتُ طلقٍ ناري نقَل الابن إلى السماء، وترك الأب لا في الأرض وإنما في السماء أيضًا بما قدَّم من تضحية.
تُرى هل دارت بنفس الابن أو أبيه همسة أو خلجة من تلك الخلجات التي قدَّمتُ بها قصتهما الخالدة؟ من يدري؟ ولكن لنا نحن أن نروي بيت شوقي:
وأي وفاء لدَينٍ يؤدِّيه وطنيٌّ لوطنه أعظم من الابن؟ فالنفس وهي النفس أقل شأنًا، وأهون عند الأب ألفَ مرة من جرحٍ يُصيب ابنه، أو حتى يخدشه، فكيف إذا كان وفاء الدَّين للوطن هو حياة الابن جميعًا، دم الإنسان وحياته وما بعد الحياة؟