حَيْرة مع مليمٍ ناقص
كانت المدارسُ تبدأ قبل أن يجمع الفلَّاحون القطن، فكان أبي يُرسلنا إلى القاهرة، ويبقى هو في القرية؛ ليُشرِف على جمع القطن. وكانت مديرة منزلنا سيدةً كبيرة السن، وكان زوجها صديقًا لأبي، فحين مات عنها عاشت هي معنا، ترعى أمري أنا وإخوتي. وكانت مصاريف المنزل ومصاريف أيدينا في يدها. وبطبيعة الحال فرتكتُ أنا مصروفي في لحظات، وأصبحتُ يا مولاي كما خلقتَني. وجاءني صديقي إحسان عفيفي، وهو اليوم الدكتور إحسان عفيفي، وقال: إن فيلمًا جديدًا ظهر للوريل وهاردي، ومعروض في سينما متروبول. وعملتُ الحسبة وتبيَّنتُ أنني أريد خمسة قروش لأذهب إلى السينما وأركب الترام ذهابًا وإيابًا؛ فتذكرة السينما صالة درجة أولى ثلاثة قروش ونصف القرش، والترام ستة مليمات ذهابًا ومثلها إيابًا، ويبقى ثلاثة مليمات. ذهبتُ إلى أم عبده وطلبتُ منها القروش الخمسة، وطبعًا سألَتني فيمَ تريدها فقلتُ لها أشتري كتابًا. وكانت بعض الكتب في ذلك الحين تُباع بخمسة قروش. وتظاهَرَت أم عبده أنها صدَّقَت، ونفحَتْني القروش الخمسة.
بكَّرنا في يوم الجمعة أنا وإحسان ذاهبَين إلى السينما، وركبنا ترام ٣٣ إلى العتبة، ودفع إحسان تذكرة الترام. وحين حاولتُ أن أحتج قال: ادفع لي عند عودتنا. فابتلعتُ احتجاجي. كنتُ يومذاك في الابتدائية بمدرسة العباسية، وكان إحسان بالسنة الأولى الثانوية بمدرسة فاروق الأول الثانوية. وهكذا كنتُ لا أعرف أحدًا من أساتذته.
ووقفنا عند شباك التذاكر فرأى أستاذًا له مع آنسةٍ يقفان عند شباك البلكون، فطار عقله، وهتف بي في جنون فرحان: أستاذ الإنجليزي معه واحدة، ويقطعان بلكون، لا بد أن نقطع بلكون معهما.
– نقطع معهما؟!
– نعم.
– كيف؟
– كدا.
– بكم تذكرة البلكون؟
– بأربعة قروش ونصف.
– وكيف أرجع؟ تذكرة الترام بستة مليمات، ولن يبقى معي إلا قرش تعريفة.
– ولا يهمك. أنا أقطع لك تذكرة الترام.
كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق. قطعنا تذكرة البلكون، وظللتُ طوال الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأحاول أن أردَّها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.
لم أتمتَّع بالفيلم مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي. وانتهى الفيلم وأُضيئت الأنوار، والتفتُّ إلى إحسان، ليس هناك إحسان، امَّحى، ألغاه الوجود، أصبح كأنه لم يُولد، ولا إحسان على الإطلاق.
وقفتُ بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان.
ماذا أفعل؟
الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنني ساكنٌ جديد بحي العباسية، ولا أعرف إلى بيتي طريقًا إلا من محطة الترام، أما أين ينتهي بي الأتوبيس، وكيف أذهب إلى بيتي، لا أعرف. مشيتُ إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتُها.
– هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟
– لا ولكن ترام ٣٣ هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.
المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه. ووجدتُ نفسي أقول في بلاهة: ولكني أريد أن أركب الأتوبيس. ونظر إليَّ محدِّثي يبحث عن لهجةٍ أجنبية في كلامي فلا يجد، فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح، ولستُ به؛ لا كلامي ولا منظري يدُلَّان على ذلك طبعًا. لم يخطُر له على بالٍ أن معي تعريفة، وليس معي ستة مليمات؛ فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقًا بأي حال وعلى أية صورة.
وجدتُ على محطة الأتوبيس صديقًا لي من مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له، هات مليمًا، أهذا معقول؟ تواريتُ عنه حتى لا يراني. وجاء الأتوبيس وركبتُ وسألَني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟!
– العباسية.
– أي عباسية؟!
– العباسية القريبة من شارع الجنزوري.
– تحتاج إلى قرش صاغ.
مصيبة! لم تقدر على المليم، فكيف تقدر على التعريفة كاملًا؟
– اذهب بي إلى آخر محطةٍ تُوصل إليها هذه التعريفة.
وأدرك الركاب الأزمة. وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحمًا، فكان كلامي يرنُّ في أسماعهم جميعًا. والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدُل على أنه ميسور الحال، وليس معه إلا تعريفة. أي شعبٍ عظيم هذا؟ في لحظةٍ واحدة سرَت في الأتوبيس معانٍ كثيرة، كلها رفيعة، وشريفة، وجميلة؛ فأنا عند الكبير منهم ابن، وعند الصغير أخ. وتسارعوا جميعًا إليَّ؛ منهم من يريد أن يدفع لي فأبيتُ خجلًا شاكرًا، ومنهم من يريدُ أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدلُّوني على طريق البيت فقط.
ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إليَّ الكمساري أن أنزل هنا. وينزل معي بعض الركَّاب ويقومون جميعًا بإرشادي إلى الطريق.
وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي. عاد إلى الحياة من جديدٍ بعد أن حُلَّت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامةٌ معتذرة لا تُغني شيئًا.
– أين أنت؟!
واحتجزتُ دمعي حتى لا يراه، وذهبتُ إلى البيت، وتلقَّتني أم عبده.
– أنا أعرف أن القروش الخمسة التي أخذتَها لم تكن لكتاب، أنتَ ذهبتَ إلى السينما.
لم يكن ينقصني إلا أم عبده أيضًا. النهاية. تُرى هل استفدت شيئًا من البحث عن المليم؟ لا أظن.