اتنين فلاج وهات مليم
أنا من جيلٍ يُشرِف اليوم على خمسينيات حياته، مظلومون نحن جيل الأربعينيات، الذين وُلِدنا في أواخر العشرينيات. وحين جاءت الثلاثينيات التي كان الجنيه فيها يشتري عمارة، ويبقى منه ما يشتري بيتًا كنا نحن أطفالًا. وكان الحصول على القرش في ذاته عمليةً تحتاج إلى مناورة ومداورة.
وكنا في هذه السنوات نحب أن نتفرَّج على السينما، وكان أهم ما فيها حلقات الشجيع تومكس وغيره من مشاهير الأبطال. وكنتُ أظل الأسبوع كله حريصًا أن أُبقي على قرشٍ لي وقرشٍ لزميل طفولتي إبراهيم، الذي جاء من البلدة خصوصًا ليكون رفيق ملعبي.
ثم نتعرض بعد ذلك للرعب الشديد أن يلحظ أحدٌ تغيُّبي وتغيُّبه عن البيت فترة الساعات الثلاث التي نقضيها بالدرجة الثالثة في سينما الأهلي. حتى إذا كبرتُ بعض الشيء ولم أعُد أحتاج لمن يلاعبني دخل إبراهيم إلى المطبخ سالكًا طريقه إلى أن يكون واحدًا من الطهاة في الأُسرة، وأتممتُ أنا رحلة الشقاء في الدراسة.
وحين ألمَّ بنا الشباب في بواكيره الأولى، التقينا به شبابًا أسود لا نور فيه؛ فقد أقبلَت الحرب العالمية الثانية، وأُطفئَت أنوار القاهرة، وأُطفئ معها نور شبابنا. ولولا أن رمَت بنا الهواية إلى الأدب والقراءة لقطعناه شبابًا فارغًا لا تدانيه أي متعة ولا صخب، ولكننا نحن الذين أحبَبنا الأدب وانصرفنا إلى قراءته، ووجدنا متعتَنا وضجيجنا جميعًا في القراءة. وكنا نجتمع في بيت أحدنا نُناقش ما قرأنا، ويمتد النقاش حتى الوهن الأخير من الليل، فنقوم إلى بيوتنا وننقلبُ إلى أهلنا وقد أوهمناهم أننا كنا نُذاكِر.
وفي ليلةٍ سهرنا في بيت صديقنا الأستاذ عثمان نويه، الذي كان بمثابة الأستاذ لنا، ولكن حبه للأدب كان يجعله يشاركنا في حديث طه حسين، وتوفيق الحكيم، والعقاد، والدكتور حسين هيكل، تاركين مربَّع أرسطو والمنطق والفلسفة والجغرافيا.
وأوغل بنا الليل والوقت صيف والنسمة رخاء، وقمنا وقام معنا صاحب البيت للمشي على غير هدًى.
ولم أجد معي سجائر. وقد كان العثور على سجائر في هذه الأيام ضربًا من المعجزات؛ ولهذا ظَللتُ بخيلًا بها حتى اليوم.
ووجدتُ دُكَّانًا يتخفَّى وراء الظلام يُنير مصباحًا خجولًا، يُحيطه بأسطوانةٍ ورقية من بقايا عُلبةِ سجائر قديمة. وكان باب الدكان لا يزيد على ربع ضلفة من ضُلف الأبواب العادية.
– عندك سجائر نمرة ثلاثة؟
– لا.
– عندك بحاري؟
– لا.
– كرافن إيه؟
– لا.
– ملك مصر أو سفير؟
– لا.
وانغمستُ في حديثي مع صاحب الدكان، ونسيتُ أمر من معي حتى وجدتُ يدًا تنبعث من الظلام، تحمل نصف قرش وتضعه على منضدة البائع، لتقول في حسم: اتنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
أدرك الأستاذ عثمان أنني أُحادث الرجل بلغة لن يفهمها؛ فلو كان عنده شيءٌ مما ذكرتُ لما سهر إلى آخر الليل، ليهتبل ربحًا لن يزيد على ملاليم. وأراد الأستاذ عثمان أن يُعلِّمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمها. اتنين فلاج وهات مليم. أي إنه يعرف الثمن تمامًا. وقد تعلَّمتُ الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.
لمن أتكلم، وماذا أريد أن أقول، وكيف أصل بما أريد إلى فهم من أكلِّمه؟ تلك هي مشكلة أمام الكاتب أو المتحدث.
تستطيع أن تكون أستاذًا عظيمًا في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تُخاطب بها من تخاطبهم؛ فهناك كلامٌ يُقال في المدرَّج بأسلوبٍ معيَّن وألفاظٍ بذاتها، وهناك كلامٌ يُكتب في المجلات المتخصصة، وهناك كلامٌ يُكتب للجرائد اليومية، وهناك حديثٌ خاص للندوات العامة. ومعرفة كل مجالٍ وما يتطلَّبه من كلامٍ هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس.
ولكنَّ كثيرًا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصِّصة، وكثيرٌ منهم يكتب في الكتب كلامًا لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية. وتختلط الأمور عليهم وعلى قُرائهم، ويقعون في أحابيل «الأستذة» ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم، حتى لا يُقال عنهم جهلاء ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له، ولا يجد له فاهمًا .. كم يحتاج هؤلاء الأساتذة إلى عثمان نويه، ليقول لهم: اتنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.