كل سلامٍ عندهم حرب
أعرفهم وشاء قدَري أن أعرف خبيء حياتهم، وجميعهم يدين بغير الله، ويصرف ولاءه لغير الوطن، ولكلٍّ منهم مُتَّجَه في الحياة ومَنحًى، ولكلٍّ منهم نحلة أو مهنة، تختلف عن مهنة الآخر، أو نحلته. ولستُ أدري كيف تتابعوا إلى ذهني يشد كلٌّ منهم الآخر إلى تفكيري، ويقف أمامي فأرى عجبًا.
وأنا اليوم أُحاوِل أن أُقدِّم بين يدَيكَ هذا العجب، فلا أدري أأذكُره بادئًا أم أذكره منتهيًا أم لا أذكره مطلقًا وأتركك تصل إليه وحدك. وأنا واثقٌ أنك بهذا خليق.
ولكن هذه الصور التي لا أدري ما الذي جعلني أحاول أن أرسمها لك نوعٌ من الكتابة يجمع بعض ملامحِ القصة، وبعض ملامحَ من المقالة. وإذا أنا قدَّمتُ لك هذه الصور التي أريد أن أقدِّمها لك اليوم، ولم أكشف لك عَمَّا جعلها تتتابع إلى ذهني، ممسكًا بعضها برقاب بعض، أكون قد جنحتُ بقلمي إلى الشكل القصصي الذي يُشير ولا يُصرح، ويُومِض ولا يكشف، ويهمس في خفاء ولا يُجاهر في علن.
وأنا أحب — ولا أدري لماذا — أن أحتفظ لهذه الصور بطابعها هذا الذي لا يجعل منها قصة، ولا يجعل منها مقالة.
دعني أعرض عليك هذه الأشكال.
أمَّا الأوَّل فقد كان جده يعمل في بيت، وكان أهل البيت يعتبرونه واحدًا منهم، حتى إن الأبناء كانوا لا يُنادونه باسمه إلا إذا سبقوه بكلمة عم. وظل هذا حالهم وحاله حتى كبر الأبناء وتزوَّجوا، فكانوا يزدادون له احترامًا وتوقيرًا، كلما مرَّت بهم السنون وعلَت بهم السن.
وقد لقي هذا الجَدُّ ربَّه بعد أن أصبح ابنه موظفًا بالحكومة بشهادةٍ متوسطة. واستطاع هذا الأب بجهدٍ جهيد وكفاحٍ مرير أن يعلِّم ابنه موضوع هذه الصورة فتخرَّج من كلية.
مسكين هذا الفتى! لقد شب في زمن الحقد، فهو ينظر إلى ماضي أُسرته في فزع وقرف وإشفاق، ويخشى أن يعلم الناس حقيقة هذا الماضي. والمجنون لا يعرف أن الناس تعرف هذا الذي يخشاه، وأنهم يقدِّرون جدَّه أكثر مما يقدِّرون أباه، وأنهم يحتقرونه هو مع أنه يحمل هذه الشهادة التي حصل عليها؛ فقد كان أبوه وأسرته جميعًا قومًا شرفاء يُحبهم الناس، ويُقدِّرونهم لأنهم عامَلُوا ربهم في تخشُّع المُسلم الصادق، وعاملوا الناس في ودٍّ وإيناس، يسعَون لهم ويسعَون بينهم بالخير والحب والصفاء؛ فجَدُّه وأخو جَدِّه كانا في زمانهما صفحةً مضيئةً مشرِّفة من صفحات الحياة، يراهم الناس فيحمدون الله أنَّ بينهم مثل هؤلاء الأتقياء. وليس يُعنَى الناس في كثيرٍ أو قليلٍ بهذه الشهادة التي يحملها هذا الغِر ما دامت شهادتُه لم تستطع أن تجعل نفسه شفيفة، ولا استطاعت أن تجعل في قلبه حُبًّا.
مسكينٌ هذا الفتى! يأكله الحقد، فتشتعل النار في نفسه، وهي نار لا تأكل إلا صاحبها؛ لأن صاحبها أهونُ كثيرًا من أن تُحس به الحياة.
وهو ملحد ولكن إلحاده يغريه وحده، كما يغري الضياع صاحبه، فإذا كانت الأرض لا تُحس به أو بإلحاده فكيف بالسماء؟
كل حسنٍ في عينَيه قُبح، وكل سلامٍ في نفسه حرب .. وكل الدنيا في عينَيه قاتمة كنفسه، كئيبة كإلحاده، لا دفء فيها ولا إيناس، ومن أين وهو غريب أشد الغربة عن أهله وهم أهله، وعن وطنه وهو وطنه، وقبل كل هؤلاء عن دينه وهو دينه؟
مسكين هذا الفتى! اختلَّت موازين الحياة في نفسه، وانقلبَت؛ لأنه يظن أنه ينتسب إلى جَد وأسرة لا يُشرِّفانه، وهو في هذا حقيرٌ ساقط الرأي، ولأنَّ أسرته تراه أنه ملحد ويأبَوْن أن تمس أيديهم يد الإلحاد فيه، كما يأبَوْن أن يُمِدُّوا حياته بدفء الأقارب، وحب الأهل، وهم في هذا محقُّون.
من هذا التناقُض نبت في نفس الفتى سرطان الشيوعية.
وفي صورةٍ أخرى بعيدةٍ في جذورها كل البعد عن هذه الصورة قريبةٍ منها في حقيقتها.
كان أبوه ثريًّا غاية الثراء، وبقَدْر ثرائه كانت سخافته، وتفاهة تفكيره. وكان رحمة الله عليه جاهلًا كل الجهل، والجهل في اللغة له معانٍ كثيرة؛ المعنى المعروف الذي يجعل صاحبه حيوانًا أعجم، لا يفهم عن أحد، ولا يفهم أحدٌ عنه، لا يقرأ في الكتب، ولا يقرأ في الحياة، فهو جاهل. وهناك معنًى آخر كانت تستعمله العرب؛ فيقال: جهل فلان على فلان؛ أي أساء إليه وتهجَّم عليه. ويقول عمرو بن كلثوم في معلَّقته:
وأبُ هذه الصورة فيه من الجهل، بل ربما كانت فيه معاني الجهل كلها، إذا كانت له معانٍ أخرى.
والرجل في البيت المصري هو ربُّ الأسرة وقيِّمها، وممثلها الأعلى؛ فحين شبَّ صاحب الصورة عن سن الطفولة، وبدأ لقاءه بالصبا والشباب، وجد هذا الأب التافه الجاهل. وقد اجتمع عليه أيضًا البخل والبخل عند الفقير مَسبَّة، ولكنه عند الغني كارثة، وكثيرًا ما يختلط البخل بالخسة والدناءة، فيصبح البخيل بين الناس أهزوءة، ويُصبح بين أهله مسخرة.
وحين يُصبح عماد البيت مسخرة، فليس غريبًا أن يُصبح صاحب الصورة شيوعيًّا.
أمَّا الصورة الثالثة فهي عن أبِ هذه الصورة أيضًا، وقد كان هذا الرجل جديرًا بأن يكون موضع احترامٍ وتوقير، ولكن شاء الله فجعل منه موضع احتقارٍ وامتهان. وأكمل هو أسباب احتقاره فسرق شركةً كبرى كان يرأسُها، وشَبَّ الفتى وأبوه في سجنَين من الحديد والاحتقار معًا.
وكان من الطبيعي أن يصبح الابن رافضًا للمُجتمع كله، الذي امتهَن أباه واحتقَره. وما دام المُجتمع قد فعل، فهو يرفض الله وهو شيوعي.
أما الرابع فهو ملحد بسبب آيةٍ كريمة تُخاطب الإنسان، وتقول له: إنَّ الله خلقه فسوَّاه فعَدلَه. ولكن صاحب الصورة يعتقد أن الله خلقه فقط وما سوَّاه ولا عدلَه. وهو يصدُر في ذلك عن غباءٍ مُطلق؛ فالله سبحانه وتعالى حين يقول هذا للإنسان إنما يريد — عزَّت مشيئته — أن يميِّز الإنسان عن الحيوان، أمَّا إذا كان الإنسانُ قبيحَ الوجه مشوَّه القوامِ غيرَ معتدل القامة، غيرَ مُتناسقِ الأطراف، فهو لا يُخرجه بذلك عن الإنسان الذي ينتسب إليه، وإنما هو امتحانٌ من الله سبحانه وتعالى الذي قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ. وفي هذا الاختيار يُكرِم الله سبحانه عبده ويُتيحُ له أن يقترب منه بروحه إذا كانت سليمة، ولم يسمح لها صاحبها أن تلتوي بالتواء ظاهره. وحين يصل الإنسان هذا الإنسان إلى ربه، يجدُ نفسه أجمل الناس جميعًا؛ فالذي يعرف الطريق إلى السماء تُصبح الأرض عند كبريائه هيِّنة لا تساوي أن يُقيم لها وزنًا، ولكن صاحب الصورة شوَّه داخل نفسه أكثر مما شوَّهَته الطبيعة، فحقد وألحد.
وما دام قد حقد وألحد فما بغريبٍ عليه أن يكون شيوعيًّا.
والصور شتى ولكن المرآة ازدحمَت، ولكنني ما زلتُ أعجب كيف جرَّت كلُّ صورة من هذه الصور الصورةَ الأخرى! ويزداد عجبي أنني كُلَّما ذكرتُ شيوعيًّا وجدتُ هذه البؤرة العفنة من الحقد رسبَت في أصله، أو ثبتَت في نفسه، أو تجلَّت في سحنته، سمة واحدة لا يخطئها البصر، ولا تغيب عن البصيرة.