الأدب والسياسة
الشيوعية والدين عنوان كتابٍ جديد للأستاذ الباحث المُتعمِّق، والشاب في نفس الوقت، طارق حجي. وقد راقني الكتاب ورأيتُ واجبًا عليَّ أن أُنوِّه به، ولكنني قبل ذلك أُحب أن أُبيِّن ناحيةً أحسب أنها تخفى على كثيرٍ حتى على الذين يعملون في الميدان السياسي، سواء كانوا مُقحَمين عليه أو علماء فيه.
فكثيرٌ من الناس يظن أنَّ الأدب منفصل عن السياسة؛ ولذلك يحرص كثيرٌ ممن يريدون أن يكتبوا في السياسة أن يُقصوا الأدباء عن هذا الميدان. وبعض الصحفيين يظنون أنهم ما داموا يذهبون إلى مكاتب الوزراء ويخرجون بالأخبار، أو ما دام يتصل بهم العارفون بالأمور، ويُملون عليهم الأخبار، فهم وحدهم أصحاب الحق في الكلام في السياسة، والتعليق عليها، وأن كل من يتجرأ من الأُدباء باقتحام هذا الحرم المقدَّس إنما هو دخيل، يسير في غير طريقه، ويُعلِّق على ما لا يعلم، ويدَّعي ما ليس له بالحق.
ولكن الحقيقة البسيطة أنَّ كل أديبٍ لا يعتمد على السياسة أعظم اعتمادٍ إنما يكون أديبًا خارج عصره لا يمثِّل وطنه، ولا زمنه، ولا يمثِّل الصدق الفني في أدبه؛ لأنَّ الصدق الفني إنما ينبُع من خلايا المجتمع، وهذه الخلايا تُشكِّلها السياسة كما تُشكِّل هي السياسة، يؤثِّر كلٌّ منهما في الآخر تأثيرًا عميقًا.
وليس هذا الأمر جديدًا على الأدب؛ فمنذ امرئ القيس، إلى حسان بن ثابت، إلى شعراء العصور المتتابعة، إلى شوقي، إلى عزيز أباظة، ومن عاصَرهم، ومن جاء بعدَهم كانت السياسة من أهم المحاور التي دار عليها شعرهم، وحسبك نظرة إلى روايات الشاعرَين العملاقَين لتَصلَ إلى صدق ما ذهبا إليه، ثم امضِ حثيثًا في الأيام، واقرأ مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور تجد السياسة أساسها الأوَّل.
وأترك الشعر وأقرأ القصة وأذكر عودة الروح، ثم بنك القلق، فإذا انتقلنا إلى المسرح العربي الذي أنشأه توفيق الحكيم، تَجد السياسة تقف وراءه في الغالبية الكاثرة من رواياته؛ السلطان الحائر، إيزيس، الورطة، شجرة الحكم. ولن أستطيع الإحصاء.
وأنتقل إلى الرواية في الجيل الثاني، ولستُ بحاجة أن أذكِّرك بنجيب محفوظ والثلاثية، واللص والكلاب، والكرنك، والحب تحت المطر، وثرثرة على النيل. ومرةً أخرى أعجز عن الإحصاء. ثم ننظر إلى يوسف السباعي فنجده أرَّخ الثورة المصرية جميعًا، حتى وصل إلى ابتسامة على شفتَيه، وإحسان، وشيء في صدري، وفي بيتنا رجل، والرصاصة لم تزل في جيبي، والثقوب، وكثير وكثير. ولن أذكُر لنفسي شيئًا.
إنما أريد فقط أن أقول إنَّ الأديب شاهد عصره، وإن السياسة هي العنصر الذي يقف دائمًا وراء أعماله.
والسياسة هي حياةُ الناس ومجتمعهم. والأديب هو نبضُ هؤلاء الناس، وهو مرآةُ هذا المجتمع الصادقة. وكل أديبٍ يقفُ بناحية عن السياسة لا بناحية عن عصره جميعًا، يصبح شيئًا هلاميًّا لا عصر له، ولا مجتمع متميزًا له، أو لفنه.
ونحن حين نُناقش النَّظرية الشيوعية، إنَّما نُناقش نظريةً تصدَّت للمجتمع العالمي في كل نواحيه، ولم تترك للفرد جانبًا واحدًا يتصرف فيه بوحيٍ من ضميره، أو منطقه، وإنما صنعَت هي كل شيء له جاهزًا محتومًا عليه، لا يستطيع منه فكاكًا، ولا عنه حودًا. وقد بدأَت بدين الناس فمَحَته؛ لأنَّ كل ما وضَعَته بعد ذلك يتعارض مع الدين، ولا سبيل لهم أن يقيموا نظريتهم قبل أن يمحقوا الدين أولًا؛ ولهذا عجبتُ حين سمعتُ أن شيوعيًّا وقف منذ قريب يقول إن الدولة حين تُنادي بالدين إنما تُثير نوعًا من الفتنة. وهذا الشيوعي يعرف الحق ولكنه يُخادعه ويُخادع نفسه شأن الشيوعيين جميعًا. الآن الأديان جميعها تُحارب الشيوعية فهي حربٌ عليها جميعًا، وإنما تتحد الأديان وتتواصل قُواها أمام هذه الحرب ضد إلحاد الشيوعية وكُفرها.
وهذا الكتاب الذي أعرضه عليك لكاتبٍ شاب مُتعمِّق واسع الثقافة، سَعَةً أَعجَب أن سَمحَت بها سنوات عمره، وهو يُناقِش النظرية الشيوعية مُناقشةً علمية يبدؤها بوقفة عالمٍ مُحايد. وفي كتابه الشيوعية والأديان يعرض ويُحلِّل العلاقة النظرية والعملية بين الماركسية فكرًا وتطبيقًا — والتطبيق هو الأهم اليوم — وبين الأديان. وأنت واجدٌ أن كل صفحة من هذا الكتاب أساسٌ يُسلمُك إلى أساسٍ آخر في الصفحة التالية، حتى يتم الكتاب أمامك آخر الأمر بناءً فلسفيًّا ينهض صَرحُه على المزاوجة بين النظرية وواقعها التطبيقي.
ويبدأ الكتاب بكشفٍ ناصع لا لبس فيه ولا شك للموقف الأيديولوجي الماركسي من الأديان، فإذا أنت أمام البون الشاسع الذي يفصل التناقُض الذي لا يحتمل الجدل بين فكرة الدين في عميق جذورها، وبين الأيديولوجية الماركسية. ولا يفوتُ الكاتبَ الذكي العميقَ البحث أن يتبعَ موقفَ الشيوعية العملي من الدين، وكيف حاولَت أن تُخادع في هذا الموقف، وتُراوغ فيه منذ عام ١٩٥٥م، في تصوُّرٍ ساذج أنها تستطيع أن تُفوِّت على أعدائها تسلُّحَهُم بالفكر الديني في محاربتهم. وبعدُ، فلا سبيل لي أن أُلِمَّ بالكتاب جميعًا، ولكنني حريصٌ أن أُهنِّئ المؤلِّف بكتابه الصادق، وبحثه العميق المتمكِّن، وأقدِّم الكتاب مثلًا رفيعًا لكل من يتصدَّى للبحث من العلماء والمفكِّرين.