الشخصيةُ المثاليةُ في الفنِّ الدرامي
المثاليةُ في الفن غيرها في مفهوم رجال الدين أو رجال المجتمع. وهذا أمرٌ قد يصدمُ رجال الدين، وأنا لا أذكُره هنا في معرض التحبيذ أو التفنيد، وإنما هو حقيقةٌ فنية. وربما احتاج الأمرُ مني أن أسوق مثالًا أو بعض أمثلةٍ للشخصية المثالية في مفهوم رجال الدين؛ فهي تلك الشخصية التي لا تأتي المحرَّمات على أي لونٍ من ألوان هذه المُحرَّمات، ولا بد لها أن تُصلي الصلواتِ الخمس، وأن تصوم الشهر، ولا تَقرَب الزنا، وتؤدِّي الزكاة. والشخصية المثالية في المجتمع لا تبعُد كثيرًا عن هذا، وإن كان رجال المجتمع يكتَفُون بأن يكون الشخص أمينًا لا يكذب، ولا يسرق، ولا يحتال، ولا يخادع. وليس يُعنى علماء المجتمع بفرائض الدين؛ فهم يعتبرون أن صِلاتِ الإنسان بربه أمرٌ ليس لهم هم أن يُصدِروا فيه أحكامًا، وإنما يُصدِرون أحكامهم على صِلة الإنسان بمجتمعه؛ فمن كان على وِفاقٍ مع هذا المجتمع فهو شخصيةٌ سوية، ومن ليس كذلك فهو عندهم منحرفٌ مائل عن الطريق، طريدٌ من المجتمع.
الفن لا يعترف بهذه المقاييس، والدليل على ذلك حاضرٌ من قريب؛ فشخصية «أرسين لوبين» مثلًا شخصيةٌ مثالية في الفن الروائي، مهما تكن رواياته بوليسيةً مرصودة للتسلية وإزجاء الوقت، وإنما أخذتُه لأنه مثالٌ غاية في الوضوح لمثالية الفن الروائي. وإن كان مؤلِّفه حاول أن يُسمِّيه «اللص الشريف»، إلا أن هذه التسمية كانت بقصدِ الإبهار ولَفتِ الأنظار إلى اجتماع المتناقضَين. وهيهات أن يعترف المجتمع أن اللصَّ يمكن أن يكون شريفًا.
لا علينا؛ فقد تواتَرَت الشخصياتُ الروائية بعد ذلك في الأدب العالمي، وأغلبها بعيدٌ كلَّ البعد عن مثاليات الدين، أو مثاليات المجتمع؛ فنجد «شتاينبك» مثلًا يقوم بتجربة في روايتَيه الخميس العذب، وطريق السردين المعلَّب، والروايتان منفصلتان في موضوعهما انفصالًا تامًّا، ولكن الأشخاص في كلٍّ منهما لا تتغير، والأماكن أيضًا. وهذه تجربةٌ جديدة في الشكل حاولها «شتاينبك» فيما حاول من تجديداتٍ في الشكل، ولكن الذي يهمُّني فيما أسوق إليكَ من حديثٍ أنَّ أشخاص الروايتَين إنما هم جماعةٌ من الصعاليك الخارجين على المجتمع بكل مفاهيم الروايتَين يقومون بعملٍ مثالي على كل المقاييس؛ فهم في طريق السردين المعلَّب يبذلُون كل جهودهم بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ليحصلوا على مِجهَرٍ لعالِمٍ يعيش بينهم فقيرًا، لا يستطيع أن يحقِّق اكتشافاته العلمية، ولا يملك ثَمنَ مِجهَر.
وهم في رواية الخميس العذب يبذلون جهودهم المشروعة وغير المشروعة أيضًا، ليُتِمُّوا زواجًا بين فتاةٍ يوشكُ أن يفوتَها سن الزواج من شخصٍ هم يُحبونه، ويعلمون أنه يريد الزواج بها، ولكن موارده المالية لا تكفي.
والأمثلة كثيرةٌ لا تكاد تُحصى. وإن جاز لي أن أضرب مثلًا من عملٍ لي قدَّمتُ شخصية الأخ الأكبر في رواية «ثم تشرق الشمس»؛ فهو من الناحية الدينية لم يكن متدينًا، ولكنه من الناحية الفنية يمثِّل نوعًا متفوِّقًا من الترفُّع؛ فهو يرفُض أن يتزوَّج هوى طفولته وحياته وشبابه؛ لأنه أصبح فقيرًا، حين ظل أبوها على غناه الباذخ، وهو في موقفٍ آخر يأبى أن يمسَّ فتاةً أُعجبَت به، وأُعجب بها؛ لأنَّها أُخت أستاذه الذي أصبح صديقه. ومثالٌ آخر لا أستطيع أن أنساه في هذا المجال، وهو رواية «أفراح القبة» لأستاذنا نجيب محفوظ؛ فشخوص الرواية جميعها مرفوضةٌ من المجتمع بكل مقاييس المجتمع، ولكننا في نفس الوقت نجد لكل شخصيةٍ مثاليتَها الخاصة التي تؤمنُ بها أعمقَ الإيمان، وهو بإيمانه هذا يلتزم في كل ما يقوم به من أعمالٍ يبدو أغلبها أمام المقاييس العامة للدين أو المجتمع مرفوضًا رفضًا كاملًا.
فالشخصية المثالية في الأعمال الفنية إذن ليس حتمًا أن تكون مثالية، وفقًا لرأي الدين أو المجتمع. وإنما مثاليتُها تنبعثُ من داخل العمل الفني ذاته، ووفقًا لمعنى المثالية التي تعتنقُها الشخصية من خلال تكوينها الفني.
إلا أنَّ هناك كُتَّابًا بعينهم لهم في رسم الشخصية المثالية طريقةٌ عجيبة؛ فالمفروض أصلًا أن تكون الشخصيةُ المثالية الروائية قريبةً إلى نفس المتلقِّي للعمل الفني. حسبُك أن أُذكِّرك ﺑ «أرسين لوبين» مثلًا، والشخصيات الأخرى في الروايات العالمية، يُحاول دائمًا المؤلِّف أن يجعلها قريبةً إلى النفس غير منفِّرة، حتى تكون مثاليةً مقنعةً إقناعًا فنيًّا، حتى وإن لم تَصِل إلى الإقناع الخُلقي، ولكن الكُتاب الشيوعيين يُطبِقون على شخصياتهم المثالية بأيديولوجيَّتهم، ويصبُّونهم في قالبٍ حديدي، فإذا أنتَ أمام شخصيةٍ خشبية، يُحيط بها المِنجَل والمطرقة، إن حادت يمنيًا أو يسارًا، كما يريدها الفن الروائي أن تحيد، سارع المِنجَلُ وأعادها إلى القالب. وإن حاولَت أن تُبديَ رأسها من التابوت الذي وُضعَت فيه سارَعَت المطرقة تدُق رأسها لتعودَ إلى القالب.
الحقيقة التي لا شك فيها أنَّ الشخصياتِ الروائيةَ في الأدب الشيوعي تهربُ من الشيوعية، شأن كلِّ من جثَمَت الشيوعية على بلاده؛ مثل الناس الأحرار .. الأحرار بحقٍّ في ألمانيا الشرقية، وفي المجر، وفي تشيكوسلوفاكيا، والآن في بولندا، وفي الحبيبة أفغانستان، وفي اليمن الشيوعية.
لقد رفضَت الشخصياتُ الرِّوائية في الأدب الشيوعي المذهبَ الشيوعي، وهربَت منه وتحرَّرَت، وتمرَّدَت على مؤلِّفها ومذهبه، فمن أطبَق عليه فخُّ الكاتب، وقع كريهًا شاحبًا حاسدًا ذميمًا. وليس على الشخصية في ذلك حرج؛ فالحرية هي طبيعة الفن، فإن وقعَت في مخالب القالب وصلَت فتيلًا إلى الجمهور بلا وجود أو بوجودٍ بغيض. وأنا أسأل المؤلِّفين الشيوعيين لماذا وأنا أدري أنني لن أجد عندهم جوابًا. إنما الجواب عندي أنَّ كل فنٍّ يدخُل في قالبٍ محكوم عليه بالسقوط، وكل فنٍّ يصدُر به فرمان أو مانفستو مقضيٌّ عليه بالفشل الذريع، الذي لا تشوبه مَسْحة من نجاح؛ فالفن شعاعٌ من داخل النفس، ولا بد مع الشعاع من نور، والنور عند الكاتب لا بد أن يكون جذوةً في كيانه، شعلةً في نبضه، إشراقًا في نفسه. وكيف للمُلحد لا يعرف إلى السماء طريقًا أن تُضيءَ نفسَه أيُّ ومضةٍ من شعاع؟ وكيف لذليلٍ تُلقى إليه الأوامر لتكون نفاذًا بلا مناقشةٍ من رأي أو منطق أو ضمير، أن يعرف حُريةَ الفنَّان، وشلَّالاتِ الضياء التي لا تستمدُّ جلالها إلا من نور الله؟ سبحانَه! آياتُه كل مخلوقاته، ولكن أعظم آياتِه قوله سبحانه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ سبحانكَ! إنهم وحقِّك كما قلتَ إنهم لا يُبصرون.