هل هم منتهون؟
للقلم وجمة، وبعد الحادثات يسود صمتٌ فيه ألم، وفيه تفكير، وفيه ذهول، ويصيب القلمَ في أيدينا وجوم؛ فهو ذو نبض وذو حياة. ومن كان ذا نبضٍ وذا حياة يصيبه الوجوم كما يصيبنا. وماذا أنت قائل لقومك اليوم؟ أما الأحداث فقد تناولَتها الأقلام جميعًا، ولم يعُد في جنباتها مجال للقول إلا أن يكون القول وجومًا، وهمومًا، وحزنًا، ومع الوجوم يثور التفكير ويغتلي. وننظر في الجرائد القومية التي صدَرَت بعد الحوادث فنجدها على حالها، وكأنها لم تشهد الأيدي الخائنة تُحرِّك النفوس الجاهلة، وتُعاوِد تشعل الفتنة في أرجاء مصر جميعًا.
أعداء مصر الملحدون المنتمون لغير ترابها الداعون لغير حبها، تتصدَّر صورهم وأحاديثهم بعض الجرائد القومية.
وكأن لم يكن بالأمس القريب حريقٌ هم مشعلوه بأحاديثهم وكتاباتهم قبل أن ينشَب، وهم الذين أشعلوه بخيانتهم وبمؤامراتهم في الليل. وسيلتهم إليه الرشوة الحقيرة، ينهالون بها على نفوسٍ مأفونة، لا علم لها يقف بها عن الشر، ولا خُلق لها يردُّها عن التمرُّد، ولا كرامة لها تمنعها عن الرشوة، ولا وطنية لها تَزعُها عن إشعال الحريق في وطنها، ولا عقل يذودها عن أن تُحرق نفسها في عملٍ انتحاري جماعي، فما أحرق هؤلاء الغوغائيون إلا أنفسهم، وهل مصر إلا هم لو كانوا يعقلون؟
وتُطالعني صفحاتُ الشيوعيين في الجرائد القومية، يُحلِّلون ويتحلَّلون، ويُفلسفون ويُناعمون، وينافقون في غير خجل، ويكذبون في غير حياء، ويقولون غير ما يعتقدون، في تبجُّح لا يأتي إلا لقومٍ باعوا إيمانهم بالإلحاد، وباعوا أوطانهم بالخيانة، ولا ألوم إلا الجريدة التي تسمح لهم؛ فالصحف اليوم في عصر الحرية هي المسئولة وحدها لا تقف على كتفَيها سلطة، ولا تتخلَّل أصابعها رقابة من خارجها، وإنما ضمير الجريدة وحده هو الفيصل، والحسُّ السياسي هو صاحب القرار.
فليقل الشيوعيون ما شاءوا أن يقولوا في صحفهم، وما هي بالقليلة العدد، أمَّا أن يفرضوا علينا في جرائدَ تنتمي بجميعها إلى مصر، فتلك كبيرةٌ لا تُغتفَر. وهم يعلمون أنَّ هذا الذي يفعلون أثار نفوس الناس في مصر جميعها، وأثار مخاوف المهتمين بشئون مصر في خارجها، سواء من أبناء مصر أو كانوا من الذين يُفكِّرون في القدوم إليها، ليستثمروا أو ليجعلوا من ربوع مصر وآثارها مكانًا لسياحتهم الآمنة، أو لسباحتهم التي تريد أن ترى آثار مصر، التي يعتبرها العلماء متحف العالم أجمع.
هم يعلمون ذلك. وكان من الطبيعي أن يعودوا إلى العقل منهم والرشاد، بعد هذه الفتنة الباغية التي شهدتها مصر، ولكن لا عقل ولا رشاد. ولا تزال صفحاتهم كما كانت قبل الفتنة بل هي أشد سوءًا وأكثر سوادًا واحمرارًا، ولكَ أن تختار أي اللونَين شئت.
كان عليهم أن يعلموا أنَّ مصر ترفض هذه الفتنة وتُحاربها؛ لأنَّ مصر وقفَت بجانب جيشها الشرعي، ولم تقف بجانب المعتدين المجرمين الآثمين، كما يتمنى الملحدون المنتمون لغير مصر.
ولو لم يكن الشعب المصري يؤيد رئيسه ويتمسك به لكانت الفرصة أمامه مُواتيةً أعظمَ ما تكون المواتاة، ولأحرقوا مع المُحرقين، ولأتلفوا مع المتلفين، ولدمَّروا مع المُدمِّرين.
ولكن الشعب المصري لم يُحرق ولا هو أتلف ولا دمَّر. والشعب المصري أيضًا لم يتخذ موقفًا سلبيًّا، ولم يبتعد عن الأحداث في غير مبالاة، وإنما وقف المصري عونًا على المفتونين، وعلى المُحرقين، وعلى المتلفين المدمِّرين.
الشعب المصري اليوم يُحس أن مصر بلاده. وما كان ليشعُر بذلك لو كان رئيسه جبارًا طاغية منفردًا وحده بالسلطان، مُبعدًا الشعب عن أي رأيٍ في مصير البلاد.
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية، ويشهد الشعب معي، أنكَ لم تكن في يومٍ ما طاغوتًا، ولا منفردًا برأي، ولا متباعدًا عن الشعب، ولا مُتكبِّرًا عليه.
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية، ويشهد الشعب معي، أنكَ لم تُمسك على شعبك سلاحًا، ولا كنتَ عليه سوط عذاب، ولا حاولتَ أن تخرق الأرض وتبلغ الجبال طولًا.
وأشهد يا رئيس الجمهورية أنك لم تُصعِّر خدَّك للناس، ولا مِلتَ عنهم تهاونًا أو متكبرًا عليهم، بل أنتَ منذ عرفناك ذو تواضُع في غير ضعف، وذو كبرياء في غير تكبُّر، وذو حديثٍ سلس المجرى قريب المأخذ، لا تقف في مجراه صخور من الافتعال أو التصنُّع، أو التخلُّق بغير خلاقك، بل أنتَ دائمًا على سجيَّتك المصرية الأصيلة، إن ثُرتَ فلمصر وليس على مصر، وإن غضبتَ فلشعب مصر ولم تكن غضبتُك يومًا على شعب مصر.
لم نعرف في عهدك أن مصريًّا زَجَّ به الزبانية العُتاة إلى معتقل. وما سمعنا يومًا أن شخصًا قُتل خفيةً عن الناس في أطواء المعتقل، حتى إذا سأل عنه ذووه قيل لهم هرب فهو مجهول المصير. ولم تَستولِ حكومتك على أموال الناس، ولم تتعرَّض سلطةٌ في عهدك لأحدٍ تستلب كرامته؛ فالعرض في عهدك مصون. ولم يسمع أحد أن كلابًا أو آدميين اعتدَوا على أعراض نساء أو رجال باسم الدولة في عهدك المبارك.
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية أنكَ أعطيتَ المعارضة الطريق المفتوح على مصراعَيه، وأن كثيرًا منهم حفروا هذا الطريق بالأكاذيب والإثارة، وبعضهم دمَّره بالافتراء والتآمر والخيانة، فلم تُغلِق يومًا جريدةً معارضة، ولا أنتَ حتى منعتَ جريدةً قومية أن تقول كل ما يَعِن لكُتابها أن يقولوا، بعد أن كانت الأصوات كلها تصدُر عن بوقٍ واحد.
ولقد حذَّرتَ ولم تُهدِّد، وبصَّرتَ ولم تصادر، وكنتَ صادقًا في تحذيرك وتبصيرك، ولكن هل وعى الآخرون الدرس؟ وهل ارعَوى غاويهم أو رشَد سادرهم؟ لا أظن.
أحسبُ يا رئيس الجمهورية أنكَ كنتَ ترى المستقبل يوم قلتَ مراتٍ اخشَوا العواقب، واحرصوا على ألا تُشعلوا فتنةً لن تصيب الذين ظلموا وحدهم.
وهاج هائج المعارضة، ووجَّه بعضهم حديثه إليكَ في محاولاتٍ صبيانية للبطولة الزائفة من أن يختاروا الصدق طريقًا للرأي، والأمانة وسيلة للمعارضة، راحوا يُفسِّرون حديثك أنه تهديدٌ يغاير الديمقراطية والحرية.
وا أسفي لهم فهم لا يعقلون!
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية أنكَ لم ترمِ مصير مصر إلى شَركِ الحروب وأهوالها ومصائبها بغير داعٍ لها إلا الأمل في زعامة أو رغبة في مجدٍ شخصي مزيَّف؛ فأموال مصر في عهدك آمنة في مستقرها، وإن اعتدى عليها لص أو منحرف كنتَ له بالمرصاد. لم تحمِ يومًا قريبًا، وإن كان أخًا، ولا تستَّرتَ على مُعتدٍ وإن كان منكَ في أقرب مكان. ولو أنَّ الشعب قارن بين كل ما سرقه السارقون، وما انتهبه المجرمون في عهد الحرية، وبين نفقات يومٍ واحد في أي حرب من الحروب لكانت المقارنة وكأنها بين إبرة وصاروخ، أو بين نقطة ماء ومحيط؛ هذا إن لم نذكُر الدماء التي نزفَت، والتي هي أغلى ما عَرفَته البشرية.
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية، أنك لم تكذِب الشعب في يومٍ من الأيام، ولم تخدَعه، ولم تَعِد وعدًا أنت تعرف أنكَ لن تُنفِّذه، ولم تُعيِّر الشعب المصري أنه كان بلا كرامة، ولم تُحاول يومًا أن تُهوِّن من عظمة شعب مصر، ولم تستخفَّه أو تَستهِن به.
وأشهدُ يا رئيس الجمهورية، أنكَ منذ تولَّيتَ وأنتَ تعرف أنك واحدٌ منا، يُسعدك ما يُسعدنا ويُضنيك ما يُضنينا، تحيا حياتَكَ في غير سَرَف ولا مظاهر، في كرامةٍ تليق بإنسان، تمشي على الأرض هونًا فلا مختالٌ أنت فخور ولا مثَّال أنت ولا أنت ذو شَره.
لهذا يا رئيس الجمهورية كان الشعب معك لا عليك؛ لأنه يعرف عن يقينٍ أنك معه لا عليه، ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضَّ من حولك، ولما وقف حولك وحول وطنه يذود عن حياضه، ويُدافع عن آماله، ويردُّ الخونة المعتدين في إصرار وثبات وشجاعة وصمود.
ونحن يا رئيس الجمهورية اليوم ننتظر نتائج التحقيقات. وليس لنا أن نقول ما لا نعلم، ولكن من حقنا أن نُفكِّر وأن نستنتج وأن نتوقَّع، وأن نرى المقدِّمات لعلها تصل بنا إلى الحقائق.
إنَّ المتمرِّدين مجرمون لا شك في إجرامهم، ولكن المجرم الأكبر ما زال خافيًا عن العيون، وإن كانت بعض ملامحَ منه بدأَت تُطِل علينا. من بين هذه الملامح تلك الجنيهات في جيوب الفقراء الثائرين، من أين جاءوا بها، وكيف توالت أرقامها تصيحُ إنها من مصدر واحد، وما المصدر؟ هذه واحدة من الملامح.
وبعد الملامح التي تدُل على المجرم الأكبر جاءت واقعةٌ عظيمة الدلالة؛ هذه السيدة المصرية العظيمة التي تقفل شباكها، ولم تهرب إلى العمق، من سراديب بيتها، وإنما وقفَت في النافذة تُصوِّر الأحداث، وهي تعلم تمام العلم أن هؤلاء المجانين لو رأَوها أو رآها واحدٌ منهم لكان القتل هو أهون مصيرٍ لها. هذا إذا لم يصحبه حرق لعمارتها كلها، وأهلها وذويها وجيرانها جميعًا.
صورةٌ من حب المصريين لمصر، تحمل صورةً للخونة الذين لا نريد أن نصرِّح بما نستنتجه في شأنهم، وإن كان أمرهم معروفًا للجميع، ولكن الأمر في يد العدالة فمن حقها علينا أن ننتظر كلماتها في ثقة كاملة بأمانتها وذكائها في وقتٍ معًا. وبعدُ فمن حقنا اليوم أن نقول مع شوقي: