الكلمة العربية
ما بالُ أقوامٍ لا يُدرِكون ماذا يعني لقَب كاتب؟! أقرأ كتابًا عظيمًا للعالم الجليل الشيخ عبد العزيز عيسى .. وإني لأعلَم أنك ستَعحَب كيف اتصلَت الجملة الأولى بالجملة الثانية، وأنك ستسأل: وأين أنتَ من قولكَ لقب كاتب إلى قفزتكَ العجيبة، حيث كتاب تقرؤه لعالمٍ ديني جليل؟ وأعلم أنكَ ربما لم تستطع أن تُصبِّر نفسَكَ بعضَ حينٍ ليتَّصِل ما انفَصَل، ويستبين ما غمُض، ويتضِح ما استَبْهَم.
كتابُ الشيخ الجليل كتَبه وهو شابٌّ يافع، والكتاب من أمتَع ما قرأتُ. وقد تفضَّل مولانا الشيخ فأهداه إليَّ بغير إهداء؛ استحياءً منه أن يكون الكتابُ الذي كتَبه وهو في مَيْعة الشباب غيرَ جديرٍ بالقراءة اليوم، وخاصةً وقد سلك الفتى بعد ذلك طريقًا غير طريق البحث الأدبي، وأخذ سمَقه الموفَّق إلى الشريعة السمحاء يتعلَّمها ويعلِّمها وينتفع بها وينفع. ولو كان مولانا الدكتور يقرأ ما نُفْجَع به من بحوثٍ يتبجَّح بها أصحابها ويشمخون، ويُدلي بها كُتابها وتميلُ رقابهم كِبرًا لا كبرياء، وتتصاعد أنوفُهم في أنَفَة العلماء، ولو درءوا الحقَّ عن أنفسهم لأدركوا أنهم علماءُ في الجهل والتكبُّر، وفي التشامُخ وفي تصعير الخدود، ولكنهم — على أية صورةٍ من الصور — ليسوا في العلم عُلماء.
ولو كان مولانا الدكتور يقرأ لهؤلاء — وحاشاه أن يفعل — لاعتَز بكتابه العظيم، ولعَلِم أنَّ ما كتَبه كان في الأدب عِلمًا .. وعِلمًا عميقًا يستحقُّ عليه كل إجلال وإكبار.
ويُنادي بي هذا الحديثُ عن الصِّلة بين لغة القرآن الكريم واللغة العربية، وكيف ينبغي للأجلَّاء من عُلماء الدين أن يكونوا أئمةً في لغة القرآن. وحسبُنا أن نذكُر الأئمةَ الأربعة وتلاميذَهم المشاهير، وكيف كانوا جميعًا يهتمُّون باللفظ العربي، ويتغَلغَلون إلى أبعدِ أعماقه، حتى إذا جلَسوا للفُتيا كانوا على وعيٍ بلُغة المُعجِزة الوحيدة الباقية من معجزات السماء التي أنعَم الله بها على أنبيائه.
وإني لذاكرٌ في هذه العُجالة التي أكتبها بعضَ أبياتٍ مما اختاره واستَحسَنه الشيخ عبد العزيز عيسى، لتكون معي شاهدًا على رَهَافة حِسِّه الأدبي، ورِقَّة مشاعره الفنية، وإدراكه الواعي بموسيقى اللفظ والبيت. اقرأ معي ما اختار ليتَمثَّل به من شِعر عمرو بن الحارث الجرهمي:
واقرأ ما استَشهَد به من شعر:
ثم يختارُ لكَ ثلاثةَ أبياتٍ من أروعِ ما قرأتُ في الشعر العربي، وفي تحرُّج العالم الثَّبت، لا يقطع أنَّ صاحبها هارون الرشيد، وإنما يكتفي بالقول بأنها نُسبَت إليه. تقول الأبيات:
ويمضي الأديبُ العالم في حُسنِ اختيارِه من أبياتٍ إلى أبيات، فتحارُ أيها تختار وأيها تدَع، إلا أنني لن أَحرِمك من أبياتٍ أستدل بها على أن الأندلسيين من الشعراء، كانوا يُحاولون التجديد دون إسرافٍ في التقليد، فيَروي لك:
ثم يمضي الأستاذُ الكبير بعد ذلك عارضًا لمُختلف الفنون الأدبية في الأندلس العربية، فيقدِّم إليك أمثلةً من شتَّى ضروب الأدب، فيتكلَّم عن الخَطابة في الأندلس ودواعيها، وأساليبها، ثم يُقدِّم إليكَ بحثًا رائعًا عن تطوُّرها من الإطالة إلى الإحكام، ومن الشقشقة اللفظية إلى استعمال الكلمة المؤدِّية، مع حفاظٍ على الموسيقى الأسلوبية والعربية في وقتٍ معًا، ثم ينتقلُ بعد ذلك إلى الكتابة في الأندلس، ويقدِّم منها أمثلةً صادقة كل الصدق مع ما يذهب إليه من تطوُّر. حتى إذا بلَغ الشِّعر في الأندلس عَرضَ لأغراضه جميعًا، ثم هو في درايةٍ واعية، ونظرةٍ مُتعمِّقةٍ فاحصة، يغوصُ إلى أقصى أبعادِ هذا الشعر، مُبْديًا رأيَه في لفظِه، ومبناه، ومعناه، وموسيقاه، وقافيتِه، حتى يصل بكَ بعد ذلك إلى الحديث عن عوامل الرُّقيِّ بالأدب الأندلسي، وعنايةِ الخلفاء والملوكِ بالأدب.
وبعدُ، فعَوْدًا على بَدْء.
إنَّ لقَبَ الكاتب الذي يحملُه مولانا الجليل الوزير السابق الشيخ عبد العزيز عيسى، هو الذي أتاح له أن يصِل إلى ما وصَل إليه من مكانةٍ وعلم .. لأنه كاتب، ولأنه عَرفَ سِر الكلمة العربية استطاع أن يصل في علمه الديني إلى المكانة الرفيعة التي يتبوَّؤُها في العالم العربي والإسلامي جميعًا. ولو جَهِل سِر هذه الكلمة لأصبح عمادُ الدين الأساسي مُستبهمًا عليه. ولو جَهِل سِر الكلمة لما درى كيف يشرح ما حصَّله من علمٍ باذخ، بلغة يفهمها عنه الناس.
فلا خير في عالم دينٍ لا يعرف سِر الكلمة العربية؛ لأنه — بإذن الله — لن يفهم القرآن .. ولا خير في عالمٍ فهِمَ ولم يستطع أن يُفهِم الآخرين. وبهذا الكتاب الذي أشرُف بتقديمه اليوم إليك، عَرفْنا السر الحقيقي الذي جعل مولانا الشيخ عبد العزيز عيسى هو هذا الصرح الشامخ في ميدان الله ودينه، وميدان شَرف الأساتذة وكَرامة العلماء.
أمَّا الخطاب الأول فقادمٌ إليَّ من الأستاذ محمد عبد الوهاب حسن، المركز الثقافي الجامعي، القاهرة، ص. ب ٢١١٩، القاهرة.
وفي الخطاب تعريضٌ بي وبالأمانة التي يفرِضُها عليَّ العلم. وواضحٌ أنَّ الأستاذ كان يُريدني أنْ أُجيب خطابًا بخطاب؛ فصندوق البريد لا يصلُح لغير البريد.
ولكنني أنشُر فَحْوى خطابه؛ لأنه خطابٌ يحمل المعارضة. ولو لم أكن واثقًا من أن مُعارضتَه لن تُعرِّضه لأي أذًى لَمَا نشرتُ خطابه، وأعتبرُه سرًّا بين قارئ وكاتب، ولكنَّ الأمر ليس كذلك؛ فقد تكلَّم في قضيةٍ عامَّة تكلَّمتُ أنا فيها، فأصبح من حق القُراء أن يُشاركوني ويُشاركوه فيما ذهب إليه كلٌّ منا، ثم أنا بعد ذلك أفدي حريته وسلامته بدمي وجسمي وكل ما أملك، لا شجاعةً مني، ولكن لثقةٍ راسخة في نفسي بالعدل الذي أصبحنا نعيش فيه. وبنفس هذه الثقة الرَّاسخة كتَب هو خطابه، وأسفَر عن اسمه، وما عليه في ذلك من حرج؛ فالأصل أن يكون الإنسان حرًّا يُبدي ما يراه من رأي.
لن أُحاوِل أن أُصحِّح للأستاذ الكاتب الأخطاء اللغوية والنحوية التي وقع فيها؛ فما ادَّعى أنه كاتب، ولا هو ادَّعى أنه عالم.
ولن أحاول أيضًا أنْ أُساجلَه بأسلوب المهاجمة الذي ارتضاه لنفسه؛ فما عليه في ذلك بأس، ما دام يُريد أن يَستعرِض قدرته على اختيار الأسلوب البعيد عن آداب النقاش. وميدانُ الهجوم، والبدء به، والرد على الهجوم أمرٌ الغالبُ فيه شرٌّ من المغلوب، وأنا لا ألجأ إليه إلا مُضطرًّا، وهو أمرٌ اضطُرِرتُ إليه كثيرًا، فمَرنتُ عليه بصورةٍ أُشفق معها أن أُساجل صاحب الخطاب خشيةَ أن يمتنع بعد ذلك عن إبداء رأيه. أتركُ هذا جميعًا جانبًا، وأسأله وأرجوه أن يجيب.
هل يرى الأستاذ أنَّ المعارضة هي «لا» فقط أم هي محاولةٌ لإبداء الرأي الآخر لتأخذ الأغلبية بالرأي الأحسن؟ وإذا كان المُعارِض مقتنعًا أنه على غير حق، أيكون أمينًا إذا عارض لوجه المعارضة فقط؟ وليُحاوِل أن يبدو أمام الناس جريئًا؟ وهل يرى الأستاذ أنَّ هناك حُكمًا في العالم مهما يكن اسمه يمكن أن يصلُح بغير قانون؟ وهل يرى أن وجود القانون ديكتاتورية، أم أن عدم وجوده هو الفوضى والرجوع بالبشرية إلى عصر ما قبل التاريخ؟ وأنت يا سيدي، زعمتَ أنني أدعو إلى الدكتاتورية فيما كتبتُ، ويبدو يا سيدي، أنك لم تقرأ لي من قبلُ شيئًا، بل إنك حتى لم تُشاهِد ما ظَهر عن أعمالي من أفلامٍ في السينما أو التليفزيون. ولا تثريبَ عليكَ في هذا، ولكنني كنتُ أرجو على كل حالٍ أن تُبيِّن لي فيما كتبتُ بمقالي الأخير ما أدعو به إلى الدكتاتورية، إلا إذا كانت دعوتي إلى المعارضة الشريفة دعوةً إلى الدكتاتورية! وكنتُ أرجو أن تُجيب على التساؤلات التي بدأتُ بها مقالي. وكنتُ أرجو — ولا أزال أرجو — أن تقرأ التاريخ يا سيدي، وأن تدرُس الديمقراطية يا سيدي. وكنتُ أرجو — ولا أزال — أن أذكُر عهدًا لم يمُرَّ عليه إلا عشر سنوات ونصف، كان المصريون فيه يرتعدون إذا فكَّروا أن يفكِّروا.
وأنتهِز هذه الفرصة لأرُدَّ على الخطاب الآخر الذي جاءني من الإسكندرية لكاتبٍ شاء أن يُخفيَ اسمه. وأشهَد أن كاتبه صاحبُ أسلوبٍ رفيع، وقلمٍ عليم باللغة واللفظ. وأشهد أنَّ كاتبه أديبٌ من الطبقة الأولى، وأني أُوافِقه على نقده، ولكنَّنا يا سيدي لا نُحاسِب عهدًا بأكمله بأخطاء بعض أفراد؛ فأنا يا سيدي في وادٍ وأنت في وادٍ. لا شك أن بيننا مَن يستحق العقاب، ومَن يستحق هذه السخرية القادرة التي تناولتَه بها، ولكن أيُعمينا هذا عن أمنٍ أظلَّنا بعد رعب، وعن سلامٍ وافانا بعد حربٍ قاتلة صَلِيانها في أبداننا وفي نفوسنا، وعن ثقةٍ من العالم بنا بعد بُغضٍ وكراهيةٍ واحتقار؟
إن شأننا مع المُسيء أن نتهمَه بشرطٍ واحد، أن نملك عليه الدليل، وما الدليل بعزيز، ولا هو صعب المنال. وبعدُ، سيدي فإن حُطام عشرين عامًا لا يمكن أن يُزال إلا في سنواتٍ أربعين على الأقل؛ فما أيسَر أن تَهدِم، وما أصعَب أن تَبني! اللهم هل أجبتُ؟ اللهم فاشهَد أنني أصدقُ ما أكون مع نفسي، وإليكَ وحدَك سبحانك أتركُ الحكم عليَّ، وحسبي عظيمُ عَدلِك، أو فحسبي كريمُ غفرانِك.