الناسُ والملائكة
حين يرتفعُ الإنسان إلى مسابح السماء، وتَرِفُّ له أجنحةٌ كأجنحة الملائكة، يحقِّق جانبًا في الإنسانية أصبح مُعطَّلًا غائبًا عن الحياة .. وقديمًا قيل إن الحيوان صُنع من الشهوة، وإن الملائكة صيغَت من الروح، وإن الإنسان ركِّب من كلَيهما، فمن غلبَت شهوتُه على رُوحه كان شرًّا من الحيوان، ومن غلبَت روحُه على شَهوتِه كان خيرًا من الملائكة.
ومنذ عهدٍ ليس قريبًا اتُّهِم أحد الضباط بأنه يتآمر على قلب نظام الحكم، وزُجَّ به إلى المُعتقَل دون مُحاكمة، وما لبِثَ أن جاءه من جاءه.
– اعتَذِر يُفرجْ عنك في الحال.
– أعتذر عن ماذا؟
– عما فعلتَ.
– فإذا كنتُ لم أفعلْ شيئًا.
– اعتَذِر والسلام.
– إذا اعتذرتُ فقد اعترفتُ أنني صنعتُ شيئًا.
– أنت تريد أن تبقى في السجن.
– أنا لا أريد أن أعتذر عن شيءٍ لم أصنعه.
– حتى لو أدى ذلك إلى أن تبقى في السجن سنينَ لا تعرف لها عددًا؟
– أن أبقى في السجن وأنا مرتاحُ الضمير خيرٌ من أن أكون خارج السجن، وقد صنعتُ شيئًا لا يرتاح إليه ضميري.
– محاولة بطولة؟
– بل محاولة شعور بالرضا عن النفس. إنَّ نفسي إذا أغضبتُها أصبَح عذابُها لي أكبر من أي سجنٍ أو قَيد. إنَّ نفسي هذه لا تتركُني في صباحٍ أو مساء، وستظل تنغِّص عليَّ عيشي جميعًا، فإرضاؤها عندي خيرٌ من تَرْكي للسجن ألفَ مرة.
ورفض الضابط أن يعتذر، وظل في المُعتقل إلى أن فُتِحَت جميعُ المعتقلات. ولو كان هذا الضابط صنَع هذا فقط ما اهتمَمتُ بهذا الحديث عنه؛ فالذي يُرضي ضميره ليس ملاكًا، وإنما هو إنسانٌ يُقارِن بين حرية النفس والحرية من القيود، ويختار حرية النفس.
ولكن الذي وقَع لهذا الضابطِ في السجن هو الذي جعلَني أقدِّم قصته. مرَّت على السجين فترة، فإذا هم يأتون له بزميلٍ في السجن، وتقوم بينهما صلةٌ أقربُ ما تكونُ بصِلَة الابن البارِّ بالأب صاحب المُثُل الرفيعة.
أما الابن فمهندسٌ في بواكير عمره، وأما الأب فهو من عَرفْت. أمَّا التهمة التي دخل بها المهندس إلى السجن فليس لها أي أهمية؛ فقد لا تكون هناك تهمةٌ على الإطلاق.
أُعجِب الضابط بالمهندس وأحَبَّه، وأحَبَّ المهندسُ الضابط، حتى كان يومٌ سَمِعا فيه أن المهندس أوشَكَ على الخروج من السجن، فتقدَّم المهندسُ إلى الضابط.
– لقد عاشرتَني وعرفتَني كما يعرف الأب ابنه.
– وأحببتُك أيضًا كما يُحب الأب ابنه.
– وإني أريد لهذه العلاقة أن تتوطَّد.
– ليس من سبيل؛ فليس هناك علاقةٌ أوطد من علاقة الأب بابنه.
– إن لك ابنةً وأريد أنَّ أخطبها.
– لكَم أُحبُّ ذلك!
– لقد عرفتُها وعرفَتني من زيارتها لك، وما أظُنها ترفُضني.
– اسمع. إن ابنتي في الجامعة.
– أعرف ذلك.
– إن أردتَ أن تقدِّم لي معروفًا فاخطب ابنةَ أختي.
– أخطبُها.
– إنها لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ولن تجد شخصًا يُكرمها، فكن أنت هذا الشخص.
– سأكون.
وهكذا ارتفع الإنسان إلى مسابح الملائكة. كلاهما كان عظيمًا؛ أمَّا الأب والخال فقد آثَر مصلحةَ ابنة أخته على مصلحة ابنته، وفضَّل أن يخطبَ الشابُّ الذي عَرفَه وأَحَبَّه وأُعجِب به والذي يستطيع أن يَطمَئِن على فلذة كبده إذا هي عاشت في حِماه، ابنةَ أُخته وليس ابنته. وأمَّا الشاب فقد قَبِل في سبيل الصداقة والإعجاب بالمُثُل الرفيعة التي رآها في الضابط، أن يخطبَ فتاةً كلُّ ما يعرفُه عنها أنها تجهل القراءة والكتابة، وهو مَن هو علمًا وثقافة.
وخرج المهندس من السجن وخطب ابنة أخت الضابط، ولم تنتهِ القصة. بدأ المهندس يُعلِّم الفتاة، ثم انتظمَت في الدراسة. واليومَ المهندسُ في بعثة في أمريكا، والفتاة معه تُعِد نفسَها لتنال الدكتوراه في الأدب. إنَّ السماء دائمًا تُحب الملائكة.