لم يتَّسِعِ الوقت
حين تقرَّر أن يُسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها، لم يُفكِّر في شيء آخر إلا أن يزور الأماكن المقدَّسة، ويطوف حول الكعبة المُكرَّمة، ويقف أمام شباك النبي .. ولم يكن تَوقُه إلى العمرة عن أي شعورٍ بالإيمان، بل كان كل ما يُفكِّر فيه هو تَحدِّي هذه الرواسب التي تُسيطِر على أفكار المسلمين، والتي يرى أنَّ انصياعَهم لها ما هو إلا تعلُّق ببقايا الأبوة وعهود الصِّبا والطفولة. وكان واثقًا أن الإنسان المُتحضِّر لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين والتعلُّق بأوهامه.
وهو واثقٌ من نفسه وأفكاره، قد ازداد بها وثوقًا حين اختار المذهب الشيوعي مذهبًا، وانسلكَ في قالبه، وواجَه كل ما واجهَه أصحاب المذهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.
والوظيفة التي يرتَع فيها الآن ما هي إلا نهلةٌ من فيض البحر الذي انسكَب على أبناء مذهبه؛ فما كانت الشركة البولندية لتُعيِّنه لو لم يكن شيوعيًّا غارقًا في الشيوعية، وهَب لها نفسه وإلحاده، ويُقدِّم إليها فقره لتردَّه عليه غنًى ووفرة ورفاهية ورخاء.
وقد استطاعت الشيوعية أن تُوفِّر له ما لم تستطع الرأسمالية أن تُوفِّره لأحدٍ من أمثاله؛ فسيارته كاديلاك من آخر طراز. نعَم السيارة رأسمالية، ولكن ما دام الشيوعي قد استخدَمها فإنَّ سيارته هذه الكاديلاك بالذات تُصبح شيوعيةً بالتخصيص.
ومنزلُه من أفخم منازل الزمالك، وأثاث بيته غالي الثمن غلاءً فاحشًا. ولا يهمُّ مِن بعدُ إن كان يتَّسِم بالذوق السليم أو لا يتَّسِم؛ فكل ما يهمُّه أن يكون غالي الثمن.
أما ملابسه فهي في الحق مضحكة؛ فإنه يبدو مصابًا بعمى الألوان؛ فتراها تختلط على جسمه كقصةٍ غير معقولة، أو كموسيقى صاخبة يعزفُها قومٌ لا قائد لهم، ولا نُوتة تجمع بينهم، ولكن كل وَحْدةٍ من وحدات ملابسه ثمينةٌ في ذاتها، واضحٌ أنه بذل فيها المال الكثير. فيما يركَب أو يسكُن أو يلبَس.
وكان يَتِيهُ دائمًا بين الناس بأنَّه لا يمُد يدَه لأي دولةٍ شيوعية، وأنه شيوعي بالمبدأ لا بالجيب. وهو بطبيعة الحال يرى وظيفتَه هذه التي يشغلُها، والتي تسكُب عليه المال، حقًّا طبيعيًّا له، لا صِلة لها بالشيوعية.
هو يرى ذلك أمام الناس حين يُخاطِبُهم، ولكنه في دخيلة نفسه يعرف تمامًا أنه لو لم يكن شيوعيًّا لما زاد دخلُه على دخل زملائه الذين تخرَّجوا معه، والذين يَعجِز مرتَّبهم أن يُطاوِل عُشر مرتَّبه.
هو واثقٌ كُلَّ الوثوق أن ذلك الخير الذي يمرحُ فيه سببُه الوحيدُ الذي لا سبب غيره أنه شيوعي. ويعلم أن الكلية التي تخرَّج فيها قد منحَت الحياةَ لآلاف من أمثاله، أغلبُهم أكثرُ منه علمًا ودرايةً بهذا العمل وإتقانًا له.
ولكنَّ الشيوعيين وحدهم من هؤلاء الآلاف هم الذين يستطيعون أن ينالوا ما تَهبُه له الحياة من حَظْوة. وأصحابُ الجُرأة فيهم هم الذين يستطيعون أن يُواجهوا الناس أنهم لا يمدُّون يدَهم لأي بلدٍ أجنبي. وهو من أصحاب الجُرأة هؤلاء.
حين نزل إلى جدَّة قصَد فندق الرياض؛ حيث كانت شركتُه قد حجَزَت له حجرةً فاخرة ذات غرفةٍ ملحقة وتليفزيون. وبعد أن أودَع الحجرةَ حقيبتَه، ونظر إلى المرآة، واطمأن على القصَّة غير المعقولة التي يضعُها على نفسه، نزل إلى بهو الفندق ينتظر أصحاب العمل الذي جاء من أجله.
ولكنه فوجئ بصديقه رفعت جالسًا في البهو.
– أنت؟! أنتَ في السعودية؟
– عمل.
– فقط؟
– طبعًا سأعمل هذه العُمرة التي تحكُون عنها في دينكم.
– وأنتَ، ألكَ دينٌ آخر؟
– أنتَ تعرف.
– فعلًا .. أنت مسكين .. أنت بلا دينٍ على الإطلاق.
– أحمَدُ الله على ذلك.
– بل احمَدِ الشيطانَ إن شِئتَ.
– المهم أنتَ ماذا تفعل هنا؟
– أنا جئتُ من أجل هذه العمرة التي نؤمن بها نحن المسلمين.
– وهل قمتَ بالعمرة؟
– ليس بعدُ. أنا على موعدٍ مع الأصدقاء أن نقوم بها.
– أذهب معكم.
– ألا تخاف؟
– أخاف!
– ألا تخاف أن تؤمن؟ إنَّ للكعبة روعةً وإن لقبر الرسول ضياءً لا تراه العين، وإنما ينفُذ إلى القلب، وإلى حنايا المشاعر، فيرُجُّ الإنسان رجًّا عميقًا، وترى روحكَ حلَّقَت إلى عليِّين، تطوف مع النبي في رحلة آخر دينٍ أُرسل إلى الناس، وتراه معذَّبًا في سبيل عقيدته، ثم تراه في خطبة الوداع أتمَّ دينه، وبشَّرنا أنَّ الله رضي لنا الإسلام دينًا، يخطب في أصحاب حجِّه: إن دماءكم وأموالكم حرامٌ بينكم، حُرمةَ يومكم هذا، في شهركم هذا، في عامكم هذا.
ويهتفُ بهم وهو يختمُ رسالتَه إلى البشرية: اللهم هل بلغت؟ ويصيحون: نعم. ويهتف مرةً أخرى: اللهم فاشهد.
أتحتمل هذا جميعه؟
– قد لا يحتمله السذَّج من أمثالك، أمَّا أنا فأحتمله. إني واثق.
– لكَم أخشى أن أجدكَ أكثر سذاجةً مني ومن أصحابي المؤمنين!
– لقد جرَّبتُ نفسي مع الإيمان.
– حقًّا؟
– ووجدتُ نفسي غير قابلٍ للإيمان على الإطلاق.
– هل أنت واثق؟
– كل الثقة.
– وكيف عرفتَ؟
– تعرَّضتُ لمحنةٍ فلم أذكُر الله.
– ما نوع المحنة؟
– هل يهمُّك هذا؟
– كل الأهمية.
كنتُ راكبًا سيارتي وغفَت عيني لأجد نفسي غائصًا بسيارتي في الماء، وحاولتُ أن أفتح باب السيارة فاستعصى عليَّ. ورحتُ أُحاول وأنفاسي تختنق بي تشُدُّني إلى الموت في جذبٍ آسرٍ عنيف. ولم أجد أمامي إلا أن أُحاوِل الخروج من شُباك السيارة، فرحتُ أدفع جسمي خلالها دفعًا، ثم لم أدرِ بعدُ من أمر نفسي شيئًا.
– أُنقذتَ وأنت مغمًى عليك؟
– نعم.
– ومتى كنتَ تُريد أن تذكُر الله؟
إننا نحن المؤمنين نذكُر الله حين نصبح عاجزين؛ فإنَّ الله يأمرنا أن نُدبِّر نحن أمر أنفسنا، ونتوكَّل عليه، ولا نتواكَل.
وقد كنتَ أنتَ مشغولًا بإنقاذ نفسك، وحين جاءت اللحظة التي يجب أن تقول فيها أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله كنتَ مُغمًى عليك، يا صديقي إن هذه التجربة لا تصلُح دليلًا تطمئن إليه أنك مُحصَّن ضد الإيمان.
– أترى ذلك؟
– لا شك في ذلك. أتأتي معنا؟
– لا، سأذهب وحدي.
وأثار الحديثُ الكثير من الوساوسِ في ضميره: ما مصيري إذا اهتزَّت مشاعري من الإيمان، واستيقظَت من سُباتها تلك البذرةُ القديمة التي ألقى بها في نفسي أبواي، وسقَتها البيئةُ والتقاليد، وتاريخُ أجدادي الطويل ذلك في ظل العقيدة؟
وما البأس أن أُومن وأظل في عملي؟ هُراء .. إن عملي متوقِّف على إلحادي، ولماذا ألُقي بنفسي إلى صراعٍ أنا في غِنًى عنه، وما لي لا أُبعِد مشاعري عن هذا الامتحان؟ قد أجُوزُه، وأظلُّ على إلحادي، أو قد أرسبُ وأعود إلى الإيمان، ويومئذٍ وداعًا للكاديلاك، والملابس الأنيقة والعيش السعيد.
وبعد أيامٍ التقى الصديقان في بَهو الفندق.
– أراك تُنهي إقامتكَ بالفندق.
– عائدٌ إلى بيتي.
– هل أدَّيتَ العمرة؟
– لم يتَّسِع الوقت.