اللغة في القصة والرواية رؤية وليست بحثًا
كانت اللغة العربية قبل ظهور عمالقة الأدب الحديث الوسيلة والغاية. وكان الكُتاب يضَعون جَمالَ اللغة في المقام الأول، ثم ليس يهمُّ من بعدُ إن كانوا قد قالوا شيئًا فيه بحثٌ وأصالة أو لم يقولوا، فحين جاء رعيل النهضة بعباقرته الكبار تغيَّرَت موازينُ الأدب، وأصبحَت اللغة أداةً لا غاية، ولكنهم مع ذلك حَرصُوا على جمالها وسلامتها.
فطه حسين الذي أدخل أصول النقد الحديث في الأدب العربي، والذي أصَّل الدراسات الأدبية على القواعد الفلسفية الغربية، والذي كتب في كل ألوان الرواية، كان يكتُب بأسلوبٍ موسيقي رفيع، وفي ألفاظٍ منتقاة شريفة، تقع من الأذن والنفس أحسَنَ موقع. والعقاد ذلك العملاق السامق كان حريصًا في كتابته أن تؤدِّي كلُّ لفظةٍ المعنى المطلوب منها في تحديدٍ واضح، وكأنها ثوبٌ مُفصَّل على المعنى أدقَّ تفصيل وأحسَنَه؛ فلا هي واسعةٌ فَضْفاضة تلُمُّ في طواياها معانيَ أخرى، ولا هي ضيقةٌ حَرِجة تخنُق المعنى وتعُوقُه عن الانطلاق. والغريب أنه نهَج هذا النهج في الشِّعر أيضًا، جامعًا في شِعره بين العقل وتأمُّله، وبين المشاعر وسُموِّها.
وكتب هيكل روائعه الخالدة فإذا هو يُطلِق أسلوبه سهلًا ميسورًا جاريًا في نقاءٍ رقراق، وفي عفَّةٍ شفيفة بلورية.
واهتَم أستاذنا توفيق الحكيم بقضية اللغة اهتمامًا كبيرًا، فكتب مسرحيةً بتلك اللغة الغريبة التي يظنُّها القارئ عامية وهي عربية، وعمَد إلى تجاربَ خاصةٍ في الحوار اللغوي مثل هذا النهج الذي انتهَجَه في مسرحية الورطة. وهذه اللغة يظُنها السُّذَّج سهلةً مُيسَّرة لكل مَن يمسك القلم بينما هي في الحقيقة من أصعب أنواع الأساليب وأشدها عنتًا وإرهاقًا للكاتب. ولا يستطيع الكاتب أن يكتُب بها إذا لم يكن على ثَروةٍ لُغويةٍ باذخة.
وكذلك اهتَم تيمور بقضية اللغة بطريقٍ آخر؛ فمع أنه بدأ حياته راصدًا قلمه للقصة دون كبير عنايةٍ بلُغتها، حتى لقد كتَب بعض رواياته باللغة العامية، إذا هو يعود إلى اللغة الأصلية في إصرارٍ عليها، وتمسُّكٍ بها. ويزداد حِرصُه على اللغة العربية السليمة، فيتوفَّر على جميع ألفاظ الحضارة مُحاوِلًا أن يجعل لكل جديدٍ من مخترعات العلم اسمًا عربيًّا. وأذكُر أنني كثيرًا ما ناقشتُه في هذا الجهد، وكانت حُجتي عنده أنَّ هذه المُخترَعات لو وُجدَت في الجاهلية لظلَّت باسمِها الذي اختُرعَت به، والدليل على ذلك الألفاظ الفارسية الكثيرة التي دخلَت اللغة العربية وأصبحَت جزءًا منها، مثل سندس وإستبرق، ومثل فنجان والكنكة، والأرابزين، والفستان، والستان، ولكنه لم يكن ليقتنعَ بهذه الحُجة، وظل يُوالي جهدَه.
ولعل من المناسب أن أذكُر هنا حوارًا دار بيني وبين أحد القُراء، حين كتبتُ مرةً أنَّ القرآن استعمل ألفاظًا فارسية الأصل، فإذا بخطابٍ يصل إليَّ فيه أن القرآن عربيٌّ بنص القرآن، وذكَّرني بآياتٍ كثيرة منها الآية الكريمة السامقة: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ولقد فات صاحبَ الخطاب أنني لم أقصِد مُطلقًا القول إن القرآن غير عربي — لا قدَّر الله. إنما أقصِد أنَّ هذه الألفاظ الفارسية التي دخلَت إلى اللغة العربية أصبحَت عربية وإن كانت من أصولٍ أعجمية، شأنها شأن الناس في كل أنحاء العالم.
وحتى نعودَ إلى ما كُنا بصَدده نُكمِل الكلام عن هذا الرعيل وصِلَته باللغة العربية، ونترك مصر فنجد الأدباء في أنحاء الوطن العربي جميعًا نهَجوا هذا المنهج. وحسبُكَ أن تذكُر ميخائيل نعيمة، وإسعاف النشاشيبي، وجبران خليل جبران؛ فهذا الرعيل إذن حافَظ على اللغة الرائعة، إنما لم يجعلها هدفًا .. كانت وسيلة، ولكن هذا لم يمنَعه من تجميل الوسيلة؛ فبها يصِل إلى حيث يجب أن يصل من نفس قارئه وعقله وقلبه.
وجاء الجيل الثاني وحاوَل أن يُحافِظ على اللغة، ولكن محاولته لم تكُن في جمال جيل الروَّاد، وإن كنا لا نستطيع أن ننسى محمد عبد الحليم عبد الله، وعبد الرحمن الشرقاوي. كما لا نستطيع أبدًا أن نُغفِل اللغة الجديدة التي ابتكَرها العملاق نجيب محفوظ للرواية؛ فقد جعل الأسلوب العربي يخدمُ الرواية بحيث يُماشِيها مماشاة اللون للَّون، فهو يصف حينًا، فإذا هو يختار أرق اللفظ وأحلاه؛ لأنَّ ما يصفه حلوٌ رقيق، أو يصف حينًا آخر، فإذا الأسلوب قاتمٌ لا شفافية فيه؛ لأن ما يصِفُه قاتمٌ بلا شفافية. وهكذا أكمَل نجيب فضلَه على الرواية العربية لا في البناء وإنما أيضًا بالأسلوب الذي يُقيم به هذا البناء.
وجاء الجيلُ الثالثُ الذي أجدُ نفسي واحدًا منه، وما أحسبُ أنني سأكون مُتجنِّيًا إذا قلتُ إن بعض جيلنا اهتَم باللغة وعناها، وكانت تُشكِّل عنده جزءًا عضويًّا من العمل الفني. ولعل فتحي غانم يمثِّل هذا الاتجاه أحسَنَ تمثيل، ولكن يؤسفُني كل الأسَف أن بعض كُتاب جيلي هذا وقفوا من اللغة موقفًا عَدائيًّا، مُعلنِين أنهم فنانون وليسوا مُعلِّمي لغة، وكأنما الفن الأدبي يمشي في طريقٍ بعيد عن طريق اللغة، أو كأنما الفن الأدبي شيءٌ مجرد بلا مُقوِّماتٍ من أسلوبٍ قوامه اللغة، ومن بناءٍ عماده اللغة؛ فقد تكون اللغة عِلمًا، ولكنه عِلمٌ لا يغني الأديب عن أدوات العزف؛ فبغيرها لن يستقيم له لحن. ولمَّا كان الإنسان بطبيعته يميل إلى الأسهل، فقد اختار كثيرٌ من شباب الجيل الرَّابع أن يُغمِضوا أعينَهم عن اللغة تمامًا، فإذا بقصصهم تُصبِح لقيطةً لا تعرف لها أصلًا تُنسَب إليه.
وقد يختار بعضٌ منهم تلك الجُمل القصيرة ليميز بها قصتَه، وهذا الأسلوب نفسه لا عيب فيه، ولا ضير عليه؛ فهو يتمثَّل في جُملٍ حاسمةٍ حادَّة باترة، تجعل السرد حيًّا، تتواكَب فيه الومضاتُ السريعة، لتكون آخرَ الأمرِ ضياء.
ولكن هذا الأسلوب يحتاج إلى ثراءٍ لفظي كبير. وحسبُكَ أن تقرأ نجيب محفوظ وهو يستعمل هذا الأسلوب في بعض قصصه القصيرة، لتعرف أنَّ هذا الأسلوب يستطيع أن يكون شامخًا ضخمًا؛ فاللفظة فيه تؤدي وظيفة جملة، أو لعلها أحيانًا تؤدي وظائفَ جملٍ كثيرة. ولن يتأتَّى هذا لكاتبٍ إلا إذا كانت ثروتُه اللغوية واللفظية ضخمة. كما ينبغي له أن يكون حسُّه اللغوي مُكملًا شفَّافًا يُدرِك أعماق المعنى في الكلمة، كما يُدرِك كل الإشعاعات التي تصدُر عن اللفظ.
فلا ضير على جيل الشباب أن يستعمل هذا الأسلوب، وإنما لا بد له أن يوفِّر له أمرَين؛ الأمر الأول: أن تكون القصة التي تُروى محتملةً لهذا الأسلوب، متوافقة مع حَزْم الجُمل وحدَّتها. والأمر الثاني: أن يكون الكاتب مُدركًا لموقع الكلمة التي يستعملها وأعماقها.
وإن كان بعضُ النقاد الكبار قد بذلوا غاية جهدهم ليُلغوا الأدب العربي، ويقيموا بدلًا منه مَسخًا من أدبٍ لا نعرفُ له أصلًا، يُبصبِص للأدب الإنجليزي، ويتقافز على الأدب الفرنسي، ويتكئ على الأدب السوفييتي، ويرفُض الساحة العربية، فإننا نَعذرُ بعض الشباب الذين تابعوا المزمار الأجنبي مُتابعة الفِيران إلى بِركةٍ يغرقون فيها، ولكنَّ تمهيد العُذْر لهم لا يرفع عن كاهلهم عبء القيام بواجبهم، كأدباءَ عربٍ لا مكان لهم إلا في الأدب العربي. لهم أن ينظروا إلى كل آداب العالم، ولكن ليُفيدوا بها أدبهم، وليُنشِئوا آخر الأمر أدبًا عربيًّا خالصًا في لغته، وفي شكله، وفي مضمونه جميعًا؛ فهم لن يبلغوا في أي أدبٍ آخر ما يُقدَّر لهم أن يبلغوه في أدبهم؛ فلكل أدبٍ كُتاب. والعالَم في غير حاجةٍ إلى أجانب ليقتحموا عليهم آدابهم. والعالَم حين يقرأ ما يُترجم لنا إنما يَقْرؤنا على أننا كُتابٌ مصريون، فإن وسَّعوا حولنا الوطن فعلى أننا كُتابٌ عرب. هكذا خُلقنا، وبهذا الذي خُلقنا عليه نحن مُعتزُّون، ولا نريد عنه مُنصرَفًا، ولا نبغي عنه حِوَلًا. والحمدُ لله على هذا غايةَ الحمد وأكملَه.