هيبة الكُتاب
تأتي الفكرة إلى الكاتب، وتروقُ له، ولا يُمعِن فيها النظر، ولا يُمعِن فيها الفِكْر، وإنما يُسارِع إلى القلم ويكتُبها. وقد يظُن أنه جاء بما لم يأتِ به الأوائل ولا الأواخر، أو قد يتهاون ويظُن أنها مجردُ كلمةٍ يقرؤها القارئ في بعضٍ من دقائق، ثم يرمي بها دُبر نفسه، فكأنه ما قرأ شيئًا.
ويلٌ للكاتب إن كان هذا دأبه؛ فإنَّ القارئ يرصُد على كاتبه كل كلمةٍ يقولها. وقد يُطالِع القارئُ كاتِبَه بكلمةٍ قالها منذ سنواتٍ وسنوات.
والكاتب لا يستطيع أن يذكُر كل ما كتَبه، وخاصةً إذا كان كاتبًا منتظمًا في جريدة أو مجلة. لا عاصم للكاتب ألا يُناقِض نفسه إلا أن يكون صادقًا مع نفسه هذه؛ فالنفس لا تتناقض. قد يختلف بها الحال من الرِّضا إلى السخط، ومن الإقبال إلى النفور، ومن الانشراح إلى الضيق، ولكنها في رضاها وسخطها، وفي إقبالها ونفورها، وفي انشراحها وضيقها تظل كما هي، لا تنماع مقوِّماتها، ولا تتغيَّر دعائمها، ولا تختلف القيم الأساسية التي تتوطَّد على أطنابها معالمُها واتجاهاتُها.
والكاتب إنسانٌ قسَم الله له أن يكون مرسومُ تَعيينِه صادرًا من السماء، وهو مرسوم من مادتَين؛ المادة الأولى صادرة إلى الكاتب كن كاتبًا فيكون. والمادة الثانية للقُراء، اقرءوا لهذا الكاتب فيقرءون. ولا يكون الكاتب كاتبًا إلا إذا اكتمل المرسوم بمادته الثانية تلك؛ فليس هناك كاتبٌ بلا قُراء.
وقد كان الكُتاب في مصر قومًا يستعينون على إقامة مكانتهم في المجتمع بوظائفَ أخرى؛ فمنهم من كان يعمل رئيسًا لتحرير جريدة. ومنهم من كان يعمل موظَّفًا ويحرص على هذه الوظيفة. ومنهم من بلَغ كرسي الوزارة على سِن قلمه، ونال رتبة الباشوية بأدبه، ولكنَّ كاتبًا واحدًا في تاريخ مصر صمَّم أن تكون قيمةُ الكاتب في مصر مُستمدةً من أنَّه يحمل لقَب كاتب وفقط، فما استعان في بناء قيمته بوظيفة، ولا سعى إلى رتبة، وإن كانت الرتب والنياشين والأوسمة والقلائد قد سعَت إليه؛ ذلك هو أستاذنا وأستاذ الجيل الذي سبقَنا، كبيرُ كُتاب العالم العربي اليوم، توفيق الحكيم.
فكما أنشأ توفيق الحكيم المسرح العربي المصري، أنشأ في نفس الوقت القيمة السامقة للكاتب بما هو كاتب فقط، لا بما هو باشا، ولا بك، ولا بما هو وزير، أو نائب وزير، أو وكيل وزارة.
وعلى نَسَقه مشى نجيب محفوظ، ومشت الأجيال اللاحقة تستمدُّ القيمةَ العُليا لنفسها في المجتمع بلقب كاتبٍ فقط، مُدرِكين أنَّهم يحملون هذا اللقب بمرسومٍ صادر من فوق سبع سموات، لا يُلغيه إنسان، ولا يعوقُه عن أن يكون حقيقةً دامغة لا تقبل الجدل من سلطانٍ مهما يكن شأنه، ولا جماعة مهما تكن كافرةً عاديةً على الحق، ولا قوة في الأرض بالغةً ما بلغَت هذه القوة من جبروت.
وقد مرَرنا بأزماتٍ عسيرة، ووقَف الكاتبُ الشريف ليكون الضياءَ الوحيد في حالكِ الظلمات، ولتكون كلمتُه نورَ الحق في جائح الظُّلم، وفي جوائح الليالي الداكنة السوداء. بهؤلاء الكُتاب ظل وجه مصر مُشرِقًا في طول البلاد العربية وعَرْضِها، بل وعلى اتساع العالم والمعمورة أجمع، تُعلن أنَّ مصر الخالدة الباقية فيها الكلمة الشريفة، وفيها من يستطيع دائمًا أن يقول الله أكبر على كل مَن طغى وتجبَّر؛ فأنا لا أعرف وظيفةً في العالم تَعدِل أن يكون الإنسان كاتبًا؛ لأنَّ كل وظيفةٍ بها إنسان أو جماعة، ولكن الكاتب يُصدِر الأمر بكينونته كاتبًا السماء، وهيهات للأرض أن تُطاول السماء.
إنسانٌ واحد هو الذي يستطيع أن يَعزِل الكاتب من وظيفته، هو الكاتب نفسه؛ لأن الله حين منحه موهبة الكتابة أخذ عليه عهدًا غير مكتوبٍ أن يكون شريفًا، لا يخادع الناس، ولا يقول إلا ما يؤمن به، ولا يُفشي إلا الخير، ولا يدعو إلا لما هو الأسمى والأرفع من قيم الحياة. لقد وهب الله للكاتب قبسةً من نوره، وما كان لقبسةٍ من نور الله أن تكون خداعًا، أو غشًّا أو كذبًا، أو دعوة للسفول، أو اعتداءً على الحق، أو اعتسافًا لكرامة الإنسان، فإذا خان الكاتب العهد سقط عنه اللقَب، وأصبح حفنةً من تراب الحياة، ترابُ الموت بالنسبة إليها أمل، وأي أمل. ومهما يبلغ الكاتب من وظائفَ فهو إنما يتولى الوظائف ليؤدي واجبه نحو وطنه، ولا ينكُص عن نَدْب بلاده له أن يقف في خدمتها في الميدان الذي تريده فيه أن يكون، ولكن مهما تكُن هذه الوظيفة رفيعة ومهما تُكسِبه من سلطان وهيبة، يظل لقبُ الكاتب أعظمَ رفعة، وهَيبةُ كلمةِ كاتبٍ لا تَلحَق بها هَيبة.