كتاب السادات
انتهيتُ وشيكًا من قراءة كتاب السادات الأسطورة، للأستاذ موسى صبري. ولا شك أني تأخرتُ في الانتهاء من قراءة الكتاب. وقد كان ذلك لأنني أقرؤه في إمعانٍ شديد، وهو في نفس الوقت كتابٌ ضخم تستغرق قراءتُه الكثيرَ من الوقت، ولكن المُتعة التي تُصاحِب القارئ في رحلته الطويلة تجعلُه يستعذب جهد القراءة.
فالسادات علامةٌ من أهم علامات جيلنا، وأثَره ليس مقصورًا على مصر وحدها، وإنما هو اتسع فشَمِل العالم أجمع.
فإنَّ هذه الأسطورة المسمَّاة أنور السادات استطاعت أن تُبهِر العالم أجمع، حتى لأذكُر أنني كنتُ في باريس، وركبتُ مع زوجتي سيارةَ أُجرة، وكان ذلك عقب أن عبَر السادات التاريخَ إلى القدس، وسمعَني السائق أُكلِّم زوجتي بلغةٍ لم يفهَمها فقال: من أي البلاد؟
قلتُ: من مصر.
قال: إن لكم زعيمًا عظيمًا. أتُحبونه في مصر أم لا؟
قلتُ: بل نُحبه كل الحُب.
قال: إننا لم نُحب زعيمًا من خارج بلادنا مثل حبنا لديجول كما أحببنا أنور السادات. وكَم فرحتُ بما قاله السائق! وقارنتُ بين هذا الذي يقولُه وبين ما كنا نسمعه قبل ذلك حين كُنا نُلِم بباريس.
وخرجتُ من المقارنة بشعورٍ من الاعتزاز برئيسنا أكرم الله مثواه. إن إنسانًا لم يستطع أن يشغل من صفحات التاريخ الحديث ما شغلَه السادات بعناوين المجد والسموق؛ فالعالَم لم يسمع عن دولةٍ تنهزم هزيمةً لم يشهَد التاريخ لها مثيلًا، ثم تستطيع في مدى سنواتٍ ستٍّ أن تقلب هذه الهزيمة إلى نصرٍ لم يشهد التاريخُ له مثيلًا أيضًا. والعالم لم يشهَد إنسانًا يُواجهُه ويُنفِّذ ما يعتقدُ أنه الصواب على رغم كل التحديات إلا أنور السادات. والعالم لم يشهَد زعيمًا يُضحِّي بنفسه ليُنقِذ وطنه ضاربًا عُرضَ الأُفقِ بالدِّعايات والشِّعارات الجوفاء الفارغة إلا أنور السادات.
وتَمُر السنوات ويتَبارى الذين وجَّهوا إليه سهامهم المسنونة لينالوا بعض ما نال، فيخذلُهم الطريق وهم في غيِّهم، بدلًا من أن يعترفوا بالخطأ الذي وقَعوا فيه يزدادون عَداءً للرجل، حتى وهو في مثواه الأخير.
ولستُ أدري أي مصير كان ينتظرنا إذا نحن لم نَستظلَّ بالسلام. وكيف يتصوَّر إنسانٌ أن عدُونا كان سيسكُت على الهزيمة لتكون نهاية علاقته بمصر، وهي الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تُحاربه، والعدُو يعيش في المنطقة تحت شعار القوة وحدها، والقوة ما زالت كما كانت في العصر الحجري هي الحقيقة التي تحكُم علاقات الدول بعضها ببعض؟ ولو لم تكن إسرائيل مذعورةً من أمريكا الطرف الثالث من معاهدة السلام لما خنعَت، ولافتعلَت ألف سببٍ لتدخُل في حرب مع مصر. رحم الله السادات في عليين. أدركَ — رحمه الله — هذا جميعه، وأَصَر أن تكون أمريكا شريكًا ثالثًا في المعاهدة، وبهذا الإصرار اكتسبَت المعاهدة قوَّتها وجبروتَها. واستطعنا أن نعيش السلام الذي نعيشه اليوم والحرية التي نحياها الآن، واستطعنا أن نتفرغ لأزماتٍ جَرَّها علينا حُكم الطغيان لمدة تقرب من عشرين عامًا، وفرضَتها علينا سنواتُ الحرب التي تواصلَت منذ عام ١٩٤٨، حتى عام ١٩٧٣.
ومع أن هذه الحقيقة ساطعةٌ لا شك فيها نجد المُغرِضين والأفَّاكين، والجبناء، والنهَّازين، لا يتركون فرصةً إلا اهتبلوها لينالوا من الزعيم الأسطورة.
ويظهر كتاب موسى صبري وكأنه لم يظهر. ويستطيع الشيوعيون والنَّاصريون بما لهم من أصواتٍ صارخة، وعلى رغم قلَّتهِم الضئيلة، أن يفرضوا الصمت أو شبه الصمت على الكتاب. ولو ظهر لطفلٍ منهم صفحةٌ من كتابٍ لملئوا الدنيا ضجيجًا وعجيجًا؛ فهو الكتاب الأوحد وهو العبقرية والخلود، وهو المجد التليد، والفن الأصيل، والرفعة التي لا تُدانيها رفعة، والسُّموق الذي لا يعلو إليه سُموق. وسبحان الله العظيم من قبلُ ومن بعدُ!
وأجد في كتاب السادات الأسطورة شيئًا رُبَّما حلا لي أن أُعلِّق عليه؛ فقد أعاد إليَّ شخصيًّا ذكرياتٍ لا تنمحي من ذهني؛ فقد جاء في الصفحة ١٨٠ من الكتاب هذه الواقعة، أرويها كما جاءت، وهذه الواقعة حدثَت في معتقل الزيتون، حيث كان المؤلِّف مُعتقَلًا، وحيث التقى لأول مرة بالزعيم السادات:
وذات صباحٍ طلبني جلال الدين الحمامصي للتحدُّث معه في غرفته، ثم أغلَق الباب بالمفتاح.
وقال: سأُفضي إليك بسرٍّ سياسي خطير، وحذارِ من البَوحِ به لأي إنسان.
قلتُ: خيرًا.
قال: هل لفَت نظركَ شيءٌ في أخبار الصحف؟
قلتُ: لا.
قال: هناك خبرٌ هام أنَّ النائب إبراهيم دسوقي أباظة «باشا» عضو الأحرار الدستوريين قدَّم استجوابًا للحكومة عن سوء معاملة المُعتقلين السياسيين.
قلتُ: وما أهمية ذلك؟
قال: لقد فكَّرنا هنا بأن من واجبنا الوطني أن ندعم هذا الاستجواب.
قلتُ: كيف؟
قال: هذا هو السر. لقد قرَّرنا أن يهرب عددٌ من المعتقلين هنا، ووقع الاختيار عليكَ ضمن من تقرَّر هربُهم.
وشرح لي جلال الحمامصي التخطيط الكامل للهرب، وبابُ الحجرة مُقفل بالمفتاح. ويمضي المؤلِّف بعد ذلك شارحًا قصة الهرب من المُعتقل؛ ذلك الهرب الذي دبَّره الزعيم السادات والذي نجح.
وإنما أروي هذه الواقعة لأذكُر ما لم يذكُره المؤلِّف عن ذلك الاستجواب الذي قدَّمه أبي. والواقع أنَّ المؤلِّف لم يكن محتاجًا في واقعة الاستجواب إلا إلى هذا الجزء الذي أوردَه، فلا لوم عليه ولا تثريب أنه لم يمضِ في الواقعة إلى نهايتها.
فالذي حدث أن حكومة الوفد اختارت اليوم الذي ستُناقِش فيه الاستجوابَ المقدَّم من أبي لتعتقل في ذات اليوم المرحوم مكرم عبيد باشا. وهكذا وقف أبي على المنبر، وبدلًا من أن يُناقِش الاستجواب، قال: إننا متضامنون مع مكرم عبيد باشا في كل ما فعله، ولتفعل بنا القوة الغاشمة ما تشاء.
وجُن جنون الحكومة الوفدية، وفُوجئنا في بيتنا بعد منتصف الليل بقواتٍ ضخمة من الشرطة تُحاصِر البيت ثم تقتحمه، وتعلن أبي أنها ستفتِّش البيت. وعرفنا أنها كانت تبحث عن الكتاب الأسود الذي أصدَره مكرم عبيد باشا في ذلك الحين، بمُعاونةٍ من الأستاذ جلال الحمامصي. وقد كُنا فعلًا نُوزِّع الكتاب من بيتنا، ولكن أبي بعد أن ألقى كلمته في مجلس النواب، توقَّع أن يدهموا البيت ليبحثوا عن الكتاب أو المنشورات الأخرى، التي كانت تُوزَّع في هذه الأيام في ظل الحكم العسكري والصحافة المهدَّمة، فهرَّبنا كل ما كان لدينا من نُسخ. وجرى التفتيش، وحسبنا نحن أهل البيت أن هذا الذي يحدُث شيءٌ بربري بعيدٌ كل البعد من أي معنًى كريم.
واليوم حان لي أن أشْهَدَ أنَّ التفتيش الذي تم كان تفتيشًا هينًا لينًا شريفًا، إذا نحن قارنَّاه بما كان يحدُث بعد ذلك في سنوات الطغيان الغاشمة، وأين بضعة شرطة يمُرُّون بالغرف، أو يفتَحون الدواليب والأدراج، من تلك العواصفِ التي كانت في عصر الطغيان تُدمِّر البيوت تدميرًا، حتى إذا انحسرَت لم تترك إلا تُرابًا مَهيلًا وفَناءً مُلحقًا.
ذكريات، وما لنا لا نذكُرها؟ أليست الذكرى تنفع للمؤمنين؟!