لا يُخلِف الله وعدَه
أنا من المقتنعين كل الاقتناع أن رئيس التحرير هو وحده المسئول عن السياسة العامة للجريدة. وطبيعي أنَّ رئيس التحرير يعنيه غاية العناية أن تُحقِّق الجريدة التي يرأس تحريرها النجاح الأدبي والمادي معًا؛ ولذلك فهو بطبيعة الهدف الذي يتغياه يُبعِد نفسه كل البعد عن إساءة استعمال الحق المخوَّل له بالقانون وبالأعراف الصحفية.
وأشهد أن إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام من هؤلاء الذين لا يسيئون استعمال حقوق رئيس التحرير. ولعل القُراء لا يحتاجون في هذا إلى دليل؛ فنحن نكتب ما نشاء في حريةٍ تامة، ولكن يحدث — ونادرًا ما يحدث — أن يتصل رئيس التحرير بواحدٍ منا يطلب إليه في أدبٍ جم أن يُخفِّف من حدَّة مقالة أو عبارة، أو قد يحدث مرةً كل عامٍ أو عامَين أو أكثر أن يطلب رئيس تحرير الأهرام أن يكتب أحد كُتاب الأهرام مقالًا آخر غير الذي كتبه. وطبيعيٌّ أن يغضب الكاتب، ولكن هذا الأمر حين يحدث إنما يتصل بالسياسة العامة للجريدة، التي يقع على رئيس التحرير وحده واجب توجيهها. وأنا أدري بما أعرفه من خُلق إبراهيم نافع أي حرجٍ يشعر به وهو يطلب إلى الكاتب هذا المطلب العسير.
ولعلكَ سائلٌ نفسك فيمَ هذا الحديث اليوم! الواقع أنَّ مقالة الأستاذ سيد ياسين التي نُشرَت في صفحة الأدب الأسبوع الماضي، وصلَتْني متأخرة، فبادرتُ بطلب جَمْعها، وعزمتُ في نفسي أن أردَّ على ما جاء فيها اليوم، وكان طبيعيًّا أن أُخبر الأستاذ إبراهيم نافع بما تتجه إليه نيَّتي؛ فكلانا كاتب في الأهرام. ومن الطبيعي أن يكون رئيس التحرير على درايةٍ بما يكتبه كلٌّ منا ردًّا على الآخر، أو تعليقًا عليه. وهكذا رأيتُ — ولأول مرة — أن أُنبئ الأستاذ إبراهيم نافع بما أنتويه من أنني أجَّلتُ ردِّي على الأستاذ سيد ياسين إلى الأسبوع التالي، فإذا هو في أدبٍ جم يرجو أن نُوقِف النقاش عند هذا الحد.
وقد كان الأستاذ إبراهيم من الرقَّة والعذوبة بحيث لم أستطع مناقشته، وصبَّرتُ نفسي وقرأتُ المقال، فإذا الأستاذ سيد يُعفيني من الرد تمامًا، فهو لم يزد في مقاله على أنه صنَّفَني وصنَّف نفسه بالصورة التي يطيب له أن يُطالع بها نفسه. ولو كان الأستاذ سيد ياسين قد تفَضَّل فناقش ما جاء في مقالتي لكنتُ عاودت الكَرَّة، ورجوتُ رئيس التحرير أن يسمح لي بالمناقشة.
ولكن الأستاذ سيد لم يناقشني، وإنما صنَّفَني، فيا أستاذ إبراهيم نافع، أنا إذن أستجيب لطلبك، وأكُفُّ قلمي عن الرد، ولن أُراجعكَ، لا ولن أُناقشك؛ فأنت وحدك المسئول عن مقدار الحجم الذي ينبغي للنقاش بين كُتاب جريدتنا الكبرى.
فلنَضرِب صفحًا عن هذا. ودعونا نلقي نظرةً على أُمنا التي تتجاذبها صراعاتٌ من الشعارات البعيدة عن الحرية، في وقتٍ لا حياة لنا فيه إلا بالجدية، والويل لنا أقصى الويل إذا ظللنا نمضغ الألفاظ الجوفاء التي ألقت بهَزْلها وهُزالها على كُبريات المرافق في حياتنا، فإذا نحن نصيرُ إلى هذا الذي صرنا إليه.
ما بال أقوامٍ يثور ثائرهم وتحفر معاطسهم وتبرق أقلامهم بالترَّهات إذا ذكَر كاتب أو نائب في مجلس الشعب أو الشورى كلمة القطاع العام؟!
أي عفريتٍ كافر خبيث ألقى في رُوعِهم أنَّ مصر تستطيع أن تستغني عن القطاع العام كل القطاع؟ هيهات! قسمًا ما ارتعدَت مفاصلهم، ولا وجلَت قلوبهم إلا بما يعلمون كل العلم ما جرَّه القطاع العام بصورته الحالية من خراب ودمار على الاقتصاد، وأخلاق أبنائنا الذين عملوا فيه، فظنوا أنه مرتع للسرقة والإتلاف والرشوة والاختلاس.
أمَّا القطاع العام كفكرة فلا يُمكن أن يُلغى؛ ففي إلغائه انهيار لاقتصادنا لا شك فيه، ولكن ألا ينبغي علينا وجوبًا أن نجعل منه مصدر كسب لا خسارة، ومورد دخل لا مصرف إنفاق، وإذا نحن لم نفعل فما مصيرنا؟! وما مصير علاقتنا بالدول التي تُقدِّم إلينا الأموال معوناتٍ أو قروضًا؟! أما القطاع العام في ذاته فهو مبدأٌ معمول به في كل الدول الديمقراطية، وما من دولةٍ في العالم تخلو من القطاع العام. وقد درسنا في كلية الحقوق نظام الريجي الذي كان معمولًا به في فرنسا، وقد كانت الدول في ظل هذا النظام تحتكر صناعة الكبريت، وفي ثلث القرن الأخير اتسع حجم القطاع العام في فرنسا اتساعًا كبيرًا، وشمل الكثير بل والكثير جدًّا من الصناعات الكبرى.
وكذلك الأمر في إنجلترا، وكذلك في جميع البلاد التي تعمل في نظام الحكم الحر أو الديمقراطي. ولا أعرف دولةً على وجه الأرض تستغني عن القطاع العام أو ترفضه. ولو أننا استقصينا بالإحصاء لتأكَّد هذا الذي أذهبُ إليه.
وإنما ندعو في مصر إلى أمرٍ آخر بعيدٍ كلَّ البعد عن إلغاء القطاع العام جميعه. إنَّ كل ما نرجوه أن يبحث أئمة الاقتصاد وأساتذته فيما يجدر بالدولة أن تجعل منه قطاعًا عامًّا، وما يجمُل بها أن تتركَه للقطاع الخاص.
وأعتقد أن أحدًا لا يستطيع أن يُناقش أن الصناعات الكبرى لا بد أن تكون من القطاع العام، مثال ذلك الحديد والصلب والغزل والنسيج، وكل ما ترى الدولة بالنظرة الاقتصادية الواعية أنه يُحقق للدولة الفائدة الكبرى. وليس من الحتم أن تتمثَّل الفائدة في الناحية المالية فقط، بل قد يكون بقاء هذه المؤسسات في إطار ملكية الدولة أمرًا يتصل بما هو أهم من المال، مثال ذلك الإذاعة والتليفزيون والتليفونات والسكك الحديدية.
ومن المؤسسات الهامة في مصر، على سبيل المثال لا الحصر، شركات الأقطان التي فرضَت لها الدولة ضريبةً خفية تصل إلى قرابة خمسمائة جنيه على الفدان الواحد، وبطبيعة الحال أصبحَت هذه المؤسسات تردُّ على الدولة مبالغَ خيالية، لا نستطيع بأي حالٍ من الأحوال أن ننقصها من ميزانيتها، وإلا انهار الاقتصاد المصري كله. وهكذا نرى أننا لا نفكِّر مطلقًا أن تنظر الدولة المصرية إلى الدول الأخرى فيما تُبقيه في قطاعها العام، وما تُعفيه منه؛ فليس في العالم الحر — فيما أعتقد — دولة تستولي على محاصيل الأرض بالثمن الذي تفرضه إلا في مصر.
ولكن لا بأس فقد أصبح ضرورةً لا غنى عنها.
فوَلْولةُ المنتفعين وأصحاب اللافتات، وأبناء الشعارات، كلما ذُكر القطاع العام بنوعٍ من التهريج مَرنوا عليه، وأصبح ذلك دأبهم، مرضٌ أصيبوا به، وليس لهم منه شفاء. إذن، فلنتجه بالحديث إلى الجانب الآخر من القطاع العام.
هل حقَّقَت الفنادق ما كان يجب أن تُحقِّقه من أرباح، ومن طيب سمعة، ومن اجتذاب سائحين؟ علم الله أن أميرًا عربيًّا ينزل الآن بأحد الفنادق، ويصرُخ من سوء الخدمات في الفنادق صُراخًا يكاد يصل إلى بلاده. يطلُب الطلب، وتمر الساعات وينساه قبل أن يستجيب له المسئول. وتُرسَل إليه الرسائل، فتظل في حيازة مَن تسلَّمها من موظفي الفندق يومًا ويومَين، قبل أن تصل ليد الأمير أو مرافقيه، والطعام في الفندق لا يُسيغه أحد، إلى غير هذا مما نعلم جميعًا.
ولكن أبناء الشعارات يصرخون حذارِ أن يقترب أحدٌ من القطاع العام، أو يمس ذِكْره بكلمة. يناقشون الإيمان! نعم الإيمان، ويرفضون أن يمس أحدٌ قدسية القطاع العام.
هل قدَّر الله لكَ أن تدخل محلًّا تجاريًّا من محلات القطاع العام؟ لا شك أنكَ فعلتَ. وإني أسألكَ بربكَ — رجلًا كنتَ أو كان القارئ سيدة — هل شعرتَ أن مكانًا ما من مناحي الحياة جميعًا يمتهن إنسانيتكَ كما يمتهن إنسانيتكَ محلٌّ تجاري من محالِّ القطاع العام؟ ولِمَ لا والبائع لا رقيب عليه من ضمير، وهو سينال مرتَّبه سواء اشتريتَ أو لم تشترِ، وليس من أحد في المحل جميعًا يهمه أن يزداد البيع؛ فالمحل يفقد الحافز الشخصي فقدانًا تامًّا.
وأذكُر هذه المتاجر حين كانت بيد أصحابها، وأذكر صيدناوي باشا صاحب محلات صيدناوي، واقفًا على باب المتجر الخارجي، وتمر به امرأةٌ خارجة من المتجر، وهي في الملاءة الملفوفة، وفي يدها طفلها، ويقترب منها صيدناوي بمنتهى الأدب.
– لماذا لم تشترِ شيئًا يا سيدتي؟
وتقول السيدة: لم أجد ما أريد.
– وما الذي تريدينه؟
تقوله له: لقد كنتُ أريد مترًا من قماشٍ مُعيَّن رخيص الثمن. فإذا بالباشا يقول لها في أدب: موجود عندنا. تفضلي معي.
ويذهب إلى القسم الخاص ببيع هذا القماش، ويجد لها ما تريد، ويُنزِل عقابه على العامل الذي استهان بالسيدة وبمطلبها.
اذهب أنتَ اليوم إلى متجرٍ من متاجر القطاع العام، واطلُب شراء أغلى ما عندهم من أي بضاعة، وستكون سعيد الحظ إن وجدتَ إنسانًا يُكلمك كإنسان.
إنني أتصوَّر أن تكون الدولة منتجةً للصناعات الكبرى، ولكن لماذا تكون الدولة وسيطًا بين المصانع والمستوردين والجمهور في نظامٍ يدَّعي الحرية الاقتصادية؟
لقد شهدنا الدولة المصرية تبيع سندويتشات الفول والطعمية. وهكذا لم يكن عجيبًا أن تبيع الكباب والفراخ المشوية.
أيهما أجدى على الدولة أن تكون التجارة حرة وتفرض ضرائبها التصاعدية على التجار، ويدخل الربح المؤكَّد إلى خزائن الدولة، أم تنزل الدولة منافسًا للتجار، وتخسر الخسائر الفادحة التي أصبحَت حديث الناس في العالم أجمع؟
ويتباكى المتباكون على العاملين في القطاع العام! لكم الويل يوم يُحشر المنافقون إلى جهنم وبئس المصير. هل وجد هؤلاء العمال مكانًا في القطاع الخاص وتركوه إلى القطاع العام؟ إنَّ العمال جميعًا يعلمون أن دخلهم في القطاع الخاص سيكون أضعاف ما يتقاضَونه من القطاع العام. وإذا كانت الدولة في القطاع العام تُعيِّن أصحاب الشفاعات، فإنَّ القطاع الخاص يجعل العامل يشعر بأهميته لأنَّه محتاج إليه فعلًا بغير وساطة أو شفاعة.
وبعدُ، فما هذا إلا مثلٌ أضربه، له مئات الأشباه والأمثال. وأساتذة الاقتصاد وجهابذته أقدَر مني على دراسة القطاعات الخاسرة جميعًا. وهم أيضًا قادرون بعون الله على جعل مصارف الخسارة موارد كسب للدولة، لو أننا ردَدنا عنهم الرعب الذي يثيره أصحاب الحناجر الكاذبة والشعارات الملفَّقة، والذين لا عمل لهم إلا تخريب الاقتصاد المصري، ليزرعوا أشجارهم التي لا تنمو إلا في الأرض الخراب! فليعمل الاقتصاديون بحرية العلماء، وشجاعة الوطنيين، وليكونوا على ثقة أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. بهذا وعد عباده. ولا يخلف سبحانه وعدًا.