تحطيم الهواء
يشهر الكاتب المبتدئ قلمه الطفل، ويشرع سنَّه الأخضر الغض، ويهتف صارخًا: سأُحطِّم. وأوَّل ما يتصوَّر أنه سيُحطِّمه التقاليد؛ فهي عنده تلك القيود التي رثَّت على تعاقُب الأزمان، والتي عبَرَت الأجيال مقدَّسة الخطى، بفضل جمود العقول في رأيه، موفورة الجلال بفضل الشعوب التي تأخذ بها فيما يظن.
ويحسب الكاتب النضير الإهاب أنه أصاب من الأمر مفاصله، وأنه وقع على طلبته، ووجد الشيء الذي إذا حطمه فسيُصفِّق له الشباب، والمتحررون بتفكيرهم، والمتسامون بعقولهم.
ويكتب الطفل، وما هي إلا بعض سطور حتى يجد التقاليد تحيط به من كل جانب، وأن القيم الكبرى التي اعترفَت بها البشرية قبل ظهور الأديان ثم أكَّدَت الأديان معانيَها، وثبَّتَت رواسيَها، وشدَّت أطنابها، هي المُثُل الثابتة التي لا تستطيع أي قوةٍ شريفة أن تقف في مواجهتها، بل إنَّ القوى الوضيعة إذا ما واجهتها، فإنما تواجهها خفيةً متسترةً بأستار هذه القيم نفسها، مُتَّشِحةً بخمار هذه المثل الرفيعة، مُحاولة أن تميل بها عن طريقها، وتحيد بها عن جادَّتها، وتصرفها عن سِمَتها الواضحة الجلية، التي لا سمة غيرها؛ فالشرف واضح، والصدق جلي، والخلق الرفيع هو الخلق الرفيع، مهما تتكالب حوله الأغراض، وتتثعلب دونه شراذم اللئام. ماذا يستطيع الكُتاب الذين يريدون أن يحطِّموا التقاليد أن يحطِّموا؟ أيستطيعون أن يحطِّموا الشرف؟ أيستطيعون أن يحطِّموا الحب؟! كيف؟! يمتدحون البغض مثلًا؟ والحقد والسخيمة السوداء والغل المعتم الوضيع؟
أيستطيعون أن يقولوا إن الأمانة شر، وإن السرقة رفعة، أم إن الصدق سقم، وإن الكذب متعة؟
إن القيم ثابتة لا تتغير، وكل الذي تغيَّر هم الناس؛ فقد أصبحوا يعرفون الشر ويأتونه علانية، ولكنهم بعدُ لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، أن يدافعوا عنه.
إنَّ الشباب الذي يريد أن يحطِّم التقاليد لا يحطِّم إلا الأعراض الهينة الساذجة البسيطة، التي لا تمثل إلا مظاهر هذه القيم، والتي لا تصل إلى لبابها أو حقيقتها، فمن الأمور مثلًا التي يُصِر الكُتاب من الشباب على تأكيدها، حُرية الفتاة في الاختيار. ويتوهم الشاب أنَّه أتى بجديد يحطِّم به التقاليد. وقد يكون في إرغام الفتاة شيء من التقاليد، ولكنها تقاليدُ لا تمثل القيم الحقيقية، بل هي حتى لا تمثل الدين، وهو القمة لعُليا القيم؛ فالنبي — عليه الصلاة والسلام — كان يرى أنَّ الفتى يجب أن يرى عروسه مُقبلة مُدبرة، ويرى — عليه الصلاة والسلام — أنه أحرى بالعروسين أن يؤدَم بينهما، أي يأكلان معًا. وكان الرأي في الإسلام أنَّ الفتاة لها أن تختار زوجها. وكُتب التراث مليئة بالروايات عن الفتيات اللواتي رفضن الخاطبين لهن.
فأنت إذن أيها الكاتب الشاب لم تُحطِّم قيمة؛ فالقيمة ثابتة، وإنما حَطَّمتَ مَظهرًا ليس من القيم في شيء. وحين يكتب الشاب عن احترام الأبناء لآبائهم، فهم يُحاولون أن يحطِّموا عماد البيت وأساسه، إذا مالوا إلى مظاهر الاحترام، فإنهم سيجدون مُتسعًا يُقر الاحترام في دخيلة نفوسهم. والاحترام علاقة مُتبادلة؛ فالأب غير المحترم لا يحترمه ولن يحترمه أبناؤه، فإذا وقفوا له رائحًا وغاديًا فهم قردةٌ لا يدُل وقوفهم إلا على السخرية والتحقير، وليس يعني مُطلقًا الإجلال أو التوقير.
والفتاة في تصرفاتها قد تعدو على المظاهر. وقد نجد مؤلفين من الشباب أو مؤلفات من الثائرات يقولون لها اصنعي ما شئت؛ فما دمت شريفة فقد حل لك أن تخرجي حين شئت، وترجعي حين أردت، والعبرة بما تصنعين، وليس بما يبدو منك. والكُتاب هنا يوقعون الفتيات في كارثة ما من سبيل إلى عِلاجها؛ فالشرف سُمعة. وأقولها ثانية وثالثة وعشرًا.
الشرف سمعة، فإذا راحت الفتاة تعبث بهذه السمعة بغير حكمة، ولا تعقُّل، أو بصيرة، أصبحَت في نظر المُجتمع عاهرة، وهي التي ستدفع الثمن وحدها. والمُصيبة الكبرى حين تكون شريفة، وتُرمى بهذه الوصمة، والناس لهم الظاهر، وهم معذورون؛ فما من أحدٍ يصل في أمر الشرف إلى الحقيقة العارية، وإنما الأمر كله سماعي حين يتجاوز الفاعلين.
ليت هؤلاء الشباب من الكُتاب يُوجهون همهم إلى الدولة، وليس إلى التقاليد. ليتهم يقولون للدولة ونقول معهم لا تظلمي فئة على حساب فئة، ولا تطحني الموظفين في ساحتك حتى لا يشب الحقد بنفوسهم، وتغلي مراجل الغضب في ضلوعهم على كل المجتمع. ليتهم يقولون للدولة ملكتِ فأسجي، وحكمتِ فاعدلي. فالعدل قديم وليس فيه جديد، والعدل قيمة لا سبيل لنا أن نعدوها.
ليت الشباب من الكُتاب يقولون للناس إذا ضاقت فإلى فرج، إن ادلهم الليل فسوف ينكشف عن صباح.
فإن الأمل بالشباب من الكُتَّاب خليق وبالمؤمنين منهم أخلق. ليت الشباب من الكاتبين يكفُّون عنا تلك السموم التي تموج بها رواياتهم؛ فكلها يأسٌ أسود مرير شديد المرارة، وكلها قاتمٌ داكن القتامة لا فُرجة فيه لأمل.
ليت الشباب يكتفون بما تكرَّر من المعاني السقيمة، التي تثير طبقات المجتمع بعضها على بعض، والتي تفتعل الإحَن والعداوات بين أبناء الوطن الواحد؛ فتلك نغمةٌ يصطنعها الشيوعيون ليُدمِّروا بها المجتمعات؛ لأنهم هم لا يسيطرون إلا على المجتمعات التي تم تدميرها.