ما أبعدَ الثقافة عن اللافتات!
جاءتني باحثةٌ إنجليزية منذ بضع سنوات، وكانت تريد أن تُجري معي حوارًا لأنها تكتب رسالةً جامعية عن الأدب العربي. وعلى عادة المصريين وسذاجة الشراقوة دعوتُها إلى الغداء، ورأيتُ من المُناسب أن أدعو قريبًا لي كل دراسته باللغة الإنجليزية، فهو يتقنها إتقانًا رُبَّما يفوق به أبناءها.
وجلسنا ثلاثتنا، وسألَت الباحثة عن كتاباتي ما حلا لها السؤال، ثم بدأَت مناقشتَها مع قريبي ذي الثقافة الإنجليزية، وراحت تُحادثه عن طه حسين؛ فيحدِّثها عن ديكنز، فإن حدثَتْه عن توفيق الحكيم حدَّثها عن شو. سألته عن العقاد أجابها عن لوك، فإذا هي تنتفض في غضب:
– سيدي لقد بدأتُ أدرس أدبكم بعد أن فرغتُ من دراسة أدبي أنا، فكيف سمحتَ لنفسك يا سيدي أن تدرس أدبي، قبل أن تدرُس أدبك أنت؟! لو لم يكن لك أدب وأدبٌ عظيم لعذرتُك، أما ولكم هذا الأدب فلا عُذر لكم. وقريبي ذو حياءٍ فخجل من نفسه، وخجلتُ له.
تُرى أنجدُ هذا الخجل على وجوه القائمين بشأن المسرح اليوم؟ فقد كنتُ — والله — أُعِد نفسي لحديثٍ غير هذا الحديث، وموضوعٍ غير هذا الموضوع، فإذا بالراديو يُفاجئني في الأمس بحديثٍ طويل عن اتجاه النية في المسرح المصري، أن يعرض مسرحياتِ شكسبير وموليير باللغة العربية البسيطة، كما يقولون، على مسرحٍ من مسارحِ مصر العربية.
وإنه لشيءٌ عظيم أن يتجه المسرح اتجاهًا جادًّا، ولكنه شيءٌ مفجع ومحزن وأليم ومخزٍ، أن يبدأ بأدبٍ غير أدبه، ومسرحٍ غير مسرحه.
إنَّ النية فيما قال الراديو أن تُسجَّل هذه المسرحيات للتليفزيون. تُرى هل يعي هؤلاء الذين يرفعون هذه اللافتات أي مهانةٍ يُلقون فيها بأدبهم؟
أيُّها الأساتذة الأجلاء من رافعي اللافتات هل سجَّلتم رواياتِ شوقي كلها للتليفزيون؟ هل سجَّلتم رواياتِ عزيز أباظة كلها للتليفزيون؟ هذا إنْ شئتم شعرًا، فإن أردتم نثرًا فهل سجَّلتم رواياتِ توفيق الحكيم كلها، كلها، كلها للتليفزيون؟ وهل سجَّلتم رواياتِ باكثير كلها للتليفزيون؟ فإن لم تكونوا قد فعلتم، وأنتم لم تفعلوا، فما هذا العبث الذي تُذيعونه على الناس؟!
ما أعظمَ أن نرى شكسبير! ولكن بشرطٍ واحد أن نكون قد رأينا شوقي جميعه، وعزيز أباظة جميعه، الشعر صعب على الممثلين، ولكن من قال إنَّ الثقافة عبثٌ ولافتات؟ ادفعوا للممثلين أجرًا يُرضيهم يصبح الصعب هينًا لينًا. وما أروع أن نرى موليير! بل وكورني وراسين وميلر وغيرهم، وكل من شئتم من أعلام الغرب، ولكن ليس قبل أن نرى أعلامنا وروائعنا وإنْ رغمَت من الأنوف أنوف.
وأخرى، ما مسألة اللغة المبسَّطة هذه؟ ما هذه اللهجة المضحكة؟ من قال لكم إن الشعب شكا من اللغة الحلوة؟ إنَّ هذا الشعب الذي تغلب عليه الأمية ذو حساسيةٍ في اللفظ الأدبي، يندر أن يرقى إليها كثيرٌ من دعاة الثقافة، وبهذه الحساسية الرَّهيفة أقبَل على روايات شوقي وهو شوقي وعزيز وهو عزيز، وأقبَل على تراجمِ مطران لشكسبير وهما مطران وشكسبير.
فما هذا الجهدُ والكدُّ والمالُ المبذول في الترجمة؟ وهذه المسرحيات ترجمَها واحدٌ من معالم الشعر العربي الحديث.
إن كانت هناك لفظةٌ صعبة أو تركيبٌ عسير، فما أيسر أن يسهُل الصعب ويلين! فما ترجمها الشاعر الكبير شعرًا، وإنما ترجمَها بالنثر، وما أطوعَ النثر في الاستبدال والتغيير! وما أعظم ثراء اللغة العربية، وما أكثر المترادفات فيها!
يا أيها اللامن المسئولين لقد غشاكم من أيام الطغيان ضلال اللافتات المرفوعة على الهواء، والشعارات الهلامية المُشهرة على فراغ. وليست الثقافة، ولن تكون، لافتاتٍ وشعارات، وإنما هي جهدٌ وبحث وعناء، لتكون مُتعة وزادًا وغناء.
أنا لن أخاف ولن أرتعد إذا أطلقتم في الهواء أسماء شكسبير وموليير. ولن يخاف أحدٌ ولن يرتعد أن يُعارضكم ويصيح بكم: مِلتم عن الحق فعودوا، وتركتم الطريق فاستقيموا.
وإن كان نطق شكسبير، وموليير، وراسين، وكورني، وبرنارد شو، وإبسن، يعزف في قلوبكم وعلى ألسنتكم نغمًا تهفو له نفوسكم، وترتاح له أفئدتكم أنكم صرتم مثقفين، فجرِّبوا المتنبي والبحتري، وشيخ المعرة، وأبا تمام، وشوقي، وعزيز، وتوفيق الحكيم، وعلي باكثير، ربما استجابت لهذه الأسماء قوميتكم، واستقام بها لسانكم. وإن كان لا بد أن تذكروا الأسماء الغربية وتمثِّلوا رواياتها، فمازجوا على الأقل بين مصر العربية والغربيين، مُمازجة العادلين لا الظالمين، والمُقسطين لا القاسطين. وسلامٌ عليكم في المثقَّفين المتفرنجين ولا أقول الهازلين.