حين تتحطَّم الحقيقة
كانت دعوة جمعَت الكثيرين من أصحاب الرأي. وبدأنا نتجمَّع. وكان من أوائل الذين جاءوا صديقٌ صاحب نظرة وعمق. وما إن اجتمع بعض المدعوين حتى بدأ الحديث، وراح الصديق صاحب النظرة العميقة يقول، وقال كثيرًا.
الشيوعيون يسيطرون على وجه الإعلام المصري، وليس الأمر مجرد ظهورهم بعنف وإصرار، وليس هو مجرد إلحاحٍ شيوعي على شعب يكره الشيوعيين، وإنما الأمر أخطر من ذلك، وأجل شأنًا؛ حيث إنَّ الإعلام هو واجهة مصر كلها، وواجهة مصر هو اقتصادها. ويُحدثنا العاملون في السفارات الأجنبية أنهم يتابعون كل ما يُقال في الإعلام المصري في شتى المناحي، وهم يكتفون بالأخبار؛ ولذلك فهم يُدهشون لماذا يتجه الإعلام هذا الاتجاه الشيوعي؟ الأدب الآن شيوعي ومُسيطر، وهذه أشياء لها دلالاتٌ خطيرة، وخاصة على الاقتصاد، وعلى الشباب الذي لم يختر بعدُ طريقة، وهذا الشباب يريد أن ينتشر وسيُضطَر أن يتلوَّن بالشيوعية؛ ليجد أمامه المجال مفتوحًا للنشر.
ولم نجد بدًّا أن نُوافق القائل في كل ما قال؛ فجميع الحاضرين كانوا يشعرون بأن الذي يقوله هو الحقيقة الكاملة.
ويعود إلى الحديث:
وهكذا حين اطمأن الشيوعيون إلى مكانتهم في الإعلام المصري، تفشَّوا في الجامعات تفشيًا لم يتمتعوا به في حياتهم كلها، ولا أظنهم يتمتعون به في أي دولة من دول العالم. وها هم أولاء يتاجرون بمصر، ويستغلون الأحداث الفردية التي لا تحمل أي مدلول؛ ليُقيِّموا الأبطال وليجعلوا أنصارهم يُحرِّكون الاضطرابات كل يوم. ويذيع زملاؤهم من العملاء في المحطات الأجنبية الأكاذيب، ويُهوِّلون من شأن التحركات الطلابية، ويجعلون منها ثوراتٍ شعبية. وهذه التصرفات كلها متصلة الحلقات، فيؤيدهم فيها أعداء الحكم، والطامعون فيه، والحاصلون على الأموال من الدول التي تُكِنُّ لمصر الديمقراطية كل عداء، تلك الدول التي تنفق في سبيل إثارة القلاقل في مصر الأموال المجنونة في انهمارٍ لا ينقطع سيله. ويُحاول هُواة البطولات الزائفة أن يركبوا الموجة ويبلغوا من هواياتهم البطولية، ما يُتيحه لهم المتطرفون من الملحدين وغير الملحدين. وليس يعنيهم أنَّ الناس منهم يسخرون، وهم يجعلون أنفسهم أشبه بالقراقوزات ويبتعدون بتصرفاتهم الرعناء السخيفة عن ساحة الساسة المحترفين. وهكذا تَرونَ أن كل هذه الأمور لم تأتِ عفوًا، وإنما هي مؤامراتٌ حُبكَت عُقدتُها بأيدٍ متمرسة في حبك المؤامرات. وهل هناك أكثر تمرُّسًا من المتطرفين، ملحدين وغير ملحدين، في حبك المؤامرات؟ ولا يستطيع أحدٌ منا أن يناقش ما يقول صديقنا؛ فجميعنا يرى أنَّ ما يقول صدقٌ لا شك فيه، وحق لا يحتمل النقاش. ويعود إلى القول: ويزداد الأمر سوءًا حين نجد من يمتدح أيامَ الطغيان، والاعتداء على الأعراض والأنفس والأموال، بل إن بعضهم يُهدِّد من يحاول أن يتنقَّص من عظمة هذه الأيام وجلالها، ويقول في وقاحةٍ لم نَرَ لها مثيلًا في العالم: كأن الاعتداء على الأعراض والأموال وعلى الأنفس قد وقع على كل فردٍ في مصر! وهو يعلم أنه ما دام قد وقع على فردٍ واحد، فكأنما وقع على مصر جميعها. وأذكر أنني قرأتُ كتابًا لكاتبٍ فرنسي يُقدِّس نابليون بونابرت، ويُعجب به في كل ما صنعه، ولكنه حين يصل إلى الحرية يقول إن بونابرت كان طاغية، إلى درجة أن عدد الصحفيين الذين اعتُقلوا في عهده كان أربعين صحفيًّا. وأذكُر أنَّ الكاهن الأكبر لعهد الطغيان في مصر دافَع عن عهده في جريدة الأهالي قائلًا ما معناه: ما هذه الضجَّة الكبرى التي يضجُّونها عن المعتقلين؟ إن كل الذين كانوا في السجن عند وفاة الرئيس الأسبق لم يتجاوزوا الأربعة عشر ألف سجين! ويأتي الكاتب الآخر المدافع عن أيام الطغيان، فيرى أنه ما دام الاعتداء على الأعراض والأنفس والأموال لم يقع على كل فردٍ من أفراد مصر فهو مقبولٌ مباح لا عيب فيه، ولا ضرر منه. وهو بعد ذلك يُهدِّد. ما له لا يفعل وهو ربيب عهد القهر والتهديد؟!
ويصمتُ الجميع ولا يجدون شيئًا يجبرون به إلا الأسى والحزن. ويعود الصديق إلى الكلام: ويزيد الأمر سوءًا أن الأحكام حين تصدُر لا تُنفَّذ من فورها، فيحسب المجرمون أنهم يستطيعون أن يتمادَوا في غيهم ويمرحوا ما شاء لهم إجرامهم. ونسمع عن لصوصٍ سرقوا المال، وتتطاول السنوات قبل أن نسمع خبرًا عن مواجهتهم، ثم نجدهم يتحصَّنون بشتى الحيل حتى يُؤجِّلوا مواجهة القضاء. والقضاء نفسه بطيء، ولعله الجهة الوحيدة المعذورة في هذا البطء؛ فالعاملون في السلطة القضائية هم أقل بكثيرٍ مما يُعرض عليهم، ولكن هذا البطء يجعل الشعب يتململ، ولا يستطيع أحد أن يلومه، إذا ظن أن العقاب لا يقع على من يستحق في الموعد المعقول. والأدهى من ذلك أن التراخي في مواجهة اللصوص يُشجع الآخرين على قبول الرشوة حتى أصبح الأمر ظاهرةً عامة، الاستثناء فيها يدعو إلى الإجلال والإكبار، وغاية الاحترام. وقد كان ينبغي أن يكون عكس ذلك، فتكون الأمانة هي أصل، والرشوة هي الاستثناء. وأنتم تعرفون كم يُؤثِّر هذا على سمعة مصر عند المستثمرين، كما تعرفون أن الاستثمار يُعتبر هو العمود الأول في آمالنا الاقتصادية اليوم. ونوافق، ويستطرد الصديق: فإذا نظرنا إلى الصحف المعارضة نجدها تذكُر وقائع بذاتها الإجابة عليها إذا لم تكن حقيقة غاية في البساطة واليسر، ولكن لا تقرأ تكذيبًا، فإذا نُشر فهو يستخفي في خجل، وكأنه هو الأكذوبة. تُرى ألم يصبح الشرف للذمة أمرًا ذا أهمية، وأصبح الحفاظ على نقاء السمعة أمرًا لا يستحق أي عناء؟ فإن يكن الأمر كذلك — وكم أرجو ألا يكون — فما لنا لا نقرأ إلا تكذيباتٍ نادرة، وتظل الاتهاماتُ فادحةً تُصيب كرامة الكبار الموظَّفين في مقتل دون أي تكذيب؟ وقبل أن يُتِم الصديقُ حديثه؛ فقد كان يبدو أنه يحمل في جعبته أكثر مما أفضى به، أقبل أحد الوزراء كان مدعوًّا إلى مكاننا هذا، وجاء متأخرًا كعادة الوزراء، كان الله في عونهم، يشهدون من المناسبات ما تنوء به العصبة ذات العدد. ولم يُكمِل الصديق الحديث بطبيعة الحال، وانتقل الكلام إلى موضوعاتٍ أخرى، ووجدتُ الصديق يقول حديثًا غير الذي كان يقول. ولم أعجَب؛ فمن الطبيعي في دعوةٍ اجتماعية وليست سياسية ألا نحاول أن نُسيء إلى أحدٍ من المدعوين؛ فهم إنما جاءوا جميعهم لينسوا أعمالهم، ويُروِّحوا عن أنفسهم، فليس عجيبًا أن يحاول الجالسون جميعًا أن يختاروا من الأحاديث ما لا يُثير جدلًا. وتَفرَّق الحديث بددًا، وأخذ كلٌّ منا بطرف. وبعد أن كُنَّا جميعًا أذنًا واحدة نسمع ما يقول الصديق، أصبحنا آذانًا وألسنة، وتناسَينا مآسينا العامة والخاصة، وسمرنا، وانصرف كلٌّ منا إلى شأنه.
صديقنا هذا ليس كاتبًا وليس صحفيًّا، ولكنه يكتب في الصحف من حين إلى آخر مقالاتٍ يُشارك بها في الرأي العام. قرأتُ مقالًا نشره بعد اجتماعنا هذا.
وما أعجَبَ ما قرأتُ له!
إنه يقول في مقاله أشياء تتناقَض كل المناقضة مع كل الذي قاله لنا في أُمسيتنا تلك. إنه يخاف الشيوعيين والمتطرفين، وينافقهم، وبالقطع هو لا يخاف الحكومة؛ فالحكومة اليوم أصبحت لا تخيف أحدًا. ويلٌ لنا من أنفسنا إذن.
إذا كان الفلاسفة قالوا إن الحقيقة لا بد أن تكون واحدة، وإذا كانت اليوم قد أصابتها قنبلة النفاق، فأصبحَت جُذاذاتٍ وقِطعًا صغيرةً متناثرة على شتى الأفواه، وفي كل جهات العالم.
وإذا كانت الحقيقةُ اليوم عاجزةً أن تكون واحدةً في مفهومها العام.
فلا بد، لا بد، أن تَظلَّ الحقيقة واحدةً بالنسبة للشخص الواحد. كيف تكون الحقيقة شتى حقائق بالنسبة للشخص الواحد، وكيف يستطيع شخصٌ واحد أن يُعِد حقيقةً لحديث الأصدقاء، وحقيقةً أخرى لحديث المسئولين، وحقيقةً ثالثة للنشر في الصحف وعلى الناس؟
أين الحقيقة يا أخي وما نقول جميعًا؟!
وإذا كان أصحاب الرأي لا يحافظون على الحقيقة الواحدة فمن يحافظ؟!
تولَّاني حزنٌ شديد وأنا أقرأ مقال الصديق؛ فأنا لا أتصور أن شخصًا له علمه يصنع بنفسه هذا الذي صنَعه.
ماذا هو قائل إذا التقى بي أو بأحد الذين شَهِدوه وهو يقول آراءه الصريحة الصادقة في ليلتنا تلك؟
أغلبُ الأمر أن أمثال هؤلاء لا يعتمدون على حياء الآخرين؛ فأنا لا أستطيع أنْ أقولَ له مواجهة أيُّها الصديق أنت منافق، ولكنني لا شك أستطيع أن أنقل أمره إلى النَّاس جميعًا، وأحتفظ باسمه لا أذيعه في هذه المرة، ولكنني أشفع الحديث بتهديد. لا تأمن أيها المنافق أن أذيع اسمكَ إذا تكرَّر منكَ ما رأيت؛ فإن أصحاب الأقلام مسئولون أن يُقدِّموا الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة إلى قُرائهم وإلى التاريخ في وقتٍ معًا.