وجهان لعملةٍ واحدة
كنتُ أحسبُ أن الكتابة في موضوعٍ ينبغي ألا تزيد على مرةٍ واحدة أو مرتَين على أكثر تقدير. وكنتُ أحسبُ أن المهتمين بالحياة العامة يتابعون عن كثبٍ ما يكتبه الكُتاب، ولكن يبدو أنني كنتُ ساذجًا في حُسباني هذا غاية السذاجة. والدليل على ذلك كتبتُ مرةً عن صلة بالأدب والسياسة فلم تكفِ، ووجدتُ من يُجادلُني في هذا الشأن، فكتبتُ ثانية فلم ينتهِ الجدل، فكتبتُ ثالثةً واعتقدتُ أنني وفَّيتُ الموضوع حقَّه في جميع أبعاده، وأنني لن أجد من يُناقِش هذا الأمر مرةً أخرى معي على الأقل.
ولكن خذلَتني الحقيقة، وتبيَّنتُ أنني كنتُ فيما أظُنه واهمًا؛ فقد فاجأني أستاذٌ فاضل من أكثر الناس صلةً بالحياة العامة، بل هو من العاملين في غمارها، بل لا عمل له إلا هذه الحياة العامَّة؛ فهو كاتبٌ مُتمكِّن، وصحفيٌّ ذو مكانة، وأنا من المُعجَبين بما يكتُب، ومن المُعجَبين به صديقًا وإنسانًا وصحفيًّا.
فاجأني صديقي برأيٍ له عن الصفحة التي أشرُفُ بالقيام بأمرها في الأهرام؛ فهو يقول إنك تكتبُ في هذه الصفحة السياسية، بينما القُراء ينتظرون أن يقرءوا فيها أدبًا، ومساحة السياسة في الأهرام ضخمة، بينما الأدب ليس له إلا نصيبٌ قليل، وصفحتُكَ تُمثِّل جانبًا ضخمًا من هذا النصيب، فإذا كتبتَ مقالاتكَ في السياسة أسهمتَ في إضعاف هذا النصيب.
وناقشتُ الصديق، ثم رأيتُ أن حُجتي ينبغي لها أن تكون للناس كافةً وليس للصديق وحده.
وبادئ ذي بدء، أنا لستُ أستاذًا جامعيًّا أكتُب في الأدب الخالص؛ فإن أحدًا لا ينتظر مني أن أكتُب فصلًا في خصائص الشعر الجاهلي، أو أكتُب مقارنةً بين الأدب في العصر العباسي الأول وبين الأدب في العصر الحديث.
كما أن أحدًا لا ينتظر مني — وأنا الروائي والقصَّاص — أن أكتُب فصلًا في نقد رواية أو مجموعةٍ قصصية. وحين أفعل ذلك أدخُل في ميدانٍ ليس لي؛ لأنَّ النقد حين أكتُبه أفعل ذلك عن تذوُّقٍ شخصي، وليس عن المبادئ الأكاديمية. وأنا نفسي كاتبُ روايةٍ وقصة، ومن الطبيعي أن أكون من بين المتعرِّضين لنقد النقَّاد، وليس من المفروض أن أكون أنا نفسي ناقدًا.
والواقع أن المقالات النقدية القليلة التي أكتُبها هي على سبيل التنويه، وليست على سبيل النقد المنهجي المتخصِّص؛ فلهذا النوع من النقد أساتذتُه المهيَّئون له بثقافتهم ودراستهم وطريقهم الذي اختاروه في الحياة. وإذا كان بعضهم يميل مع الهوى، ومع الصداقات، ومع المذاهب الأيديولوجية التي يعتنقها، فهذا لا ينفي أن للنقد أهلَه. وإذا كان أغلبهم لا يقوم بواجبه من متابعة الأعمال الأدبية التي تظهر في حياتنا، فهذا لا ينفي أن للنقد كُتَّابه.
ومن المؤكَّد الذي لا شكَّ فيه أنني لستُ من بينهم. والآن أعود إلى صديقي الذي دهمَني برأيه، فأي نوعٍ من الأدب الخالص تُريدني أن أكتب؟
أنا أعرف.
الذي ينبغي لي في ميدان الأدب الخالص، ولا ينبغي لي غيره أن أكتب رواية.
وأحسبُ يا صديقي أنني لا أتكاسل عن هذا ما أسعفَتني الفكرة؛ فالرواية ليست بحثًا، وإنما هي فكرةٌ تطرقُ ذهن الكاتب، ويظل بها وتظل حتى يرى أنها تصلُح أن تكون رواية فيكتبها.
والذي ينبغي لي في ميدان الأدب الخالص أن أكتبه قصةٌ قصيرة أو صورةٌ قلمية. وأحسبُ يا صديقي، أنني أفعل ذلك ما وافَتني فكرة القصة أو الصورة القلمية، ولكن الأمر ليس يسيرًا. وأنا في هذا الشأن لستُ مطلق الإرادة، إنما أنا أتلقَّى الفكرة وحيًا، فإن لم تأتِ فهيهاتَ لي أن أكتُب افتعالًا، أو تَعسُّفًا، ولكن الأمر يا صديقي أخطرُ من هذا وأجلُّ شأنًا، كيف استطعتَ وأنت تعمل في الصحافة وفي الأدب أن تضع هذه التفرِقة بين الأدب والسياسة؟
إن الأدب إذا انفصل عن السياسة أصبح أدبًا ميتًا غير جدير بالوجود؛ فالأديب شاهدٌ على عصره، والأديب أديبٌ بأسلوبه في كل موضوعٍ يتناولُه.
والأديب حين يكتب الرواية سياسي، وهو حين يكتب القصة، بل إن الأديب هو الناقد السياسي أيضًا؛ لأنه حين ينقد الرواية ينقدها في ظل الحياة الاجتماعية التي تُصوِّرها، والحياة الاجتماعية سياسة.
السياسة هي كل الحياة التي يعيشها الأديب في كل بابٍ من أبواب الأدب، يكتُب هذه الحياة، ويُترجمها إلى الناس، إلى الذين يُعايِشونه، وإلى الأجيال القادمة جميعًا. وعميد الأدب العربي كتب مقالاتٍ سياسية صريحة، ثم هو سياسي حين كتب أحلام شهرزاد، والمعذَّبون في الأرض، وشجرة البؤس، والأيام، ودعاء الكروان، وأُدِيب. وهيكل باشا من الزعماء السياسيين، وصل إلى الزعامة السياسية بأدبه وحدَه، وهو أديبٌ سياسي حين كتَب كُتبه الإسلامية، وأديبٌ سياسي حين كتب روايته. إن رسم المجتمع سياسة، وآمال الأديب في الحياة سياسة.
والعقاد ما رأيك في أدبه السياسي؟ ألا يَكفيك اسمُ العقاد مثالًا رائعًا على اندماج الأدب بالسياسة؟ فعبقرياته أدبٌ سياسي، ومقالاته الصريحة في السياسة أدبٌ سياسي، وكُتبه في البحث أدبٌ سياسي. ولا يستطيع الأدب إلا أن يكون سياسة أم هو غير كائن.
وتوفيق الحكيم أديبٌ سياسي منذ كتَب أهل الكهف حتى يومنا هذا. وقد كانت له في أخبار اليوم مقالاتٌ سياسية أسبوعية، وروايته كلها سياسية؛ منها الصريح الذي لا شك فيه؛ مثل شجرة الحكم، والسلطان الحائر، وإيزيس، ومنها ما تتوارى فيه السياسة خلف الرمز؛ مثل بنك القلق، والورطة، والصفقة، وكل رواياته لا أستثني منها شيئًا؛ فمسرح المُجتمَع كلُّه سياسة؛ لأنَّ السياسة هي المجتمع، والمسرح المنوَّع كلُّه سياسة. حتى وإذا تركنا هذا الجيل إلى الجيل التالي له.
أليست روايات نجيب محفوظ كلها سياسة؟! فماذا تكون إذن؟ إن منها الصريح مثل ميرامار، والثرثرة، والحب فوق الهضبة، وأمام العرش، ومنها غير الصريح، وكلها تتناول المجتمع الذي هو السياسة.
إن مجال السياسة هو المجتمع ومجال الأدب هو المجتمع، فلا يمكن أن يكون بينهما انفصالٌ بأي حالٍ من الأحوال.
إن ما كتَبه عبد الرحمن الشرقاوي في الأدب التاريخي سياسة، وكل مسرحياته سياسة، فليس عجيبًا أن يكون مقاله الأسبوعي في الأهرام سياسةً أدبية.
هو سياسةٌ أدبية وأدبٌ سياسي في وقتٍ ومعًا. إنَّ الأسلوب الذي يكتُب به الأدباء في السياسة لا يتأتى إلا لأدباء، وهذا هو الأدب السياسي.
وأرجع معك إلى شوقي، أليست رواياته سياسية؟ وعزيز أباظة أليست رواياته سياسية؟ واستَعرِض معي بعض ديوان شوقي. إنه تاريخ مصر في عهده قدَّمه إلى الأجيال شِعرًا. اقرأ معي لشوقي:
واقرأ معي لشوقي في وداع كرومر:
وبعدُ، فماذا أنت قائل؟ هذه المقالة التي قرأتَها الآن أليسَت أدبًا؟ إنها أدب ولكنها أيضًا سياسة. إنهما وجهان لعُملةٍ واحدة لا ينفصلان.