رسالة الفكر
-
(١)
رسالة الفكر
-
(٢)
دور المفكر في البلاد النامية (أشكال التعبير)
***
(١) رسالة الفكر١
ليس الفكر كلمةً تُقال، بل هو شهادة على العصر. وتعني الشهادة كلمة الحق التي تفصل بينه وبين الباطل، وهي حكمٌ على واقع وكشف لحقيقته، والمفكر هو هذا الشاهد، والشاهد هو الشهيد. فليست الشهادة فقط إظهارًا للواقع على أنه حقيقة، بل هي أيضًا فعل شعوري، يعبر عن وجود المفكر؛ فوجود المفكر في حد ذاته في العصر شهادة، والمفكرون شهداء الحق؛ أي هم الذين يشهدون على عصرهم، وهم الذين قد يلقون الشهادة؛ أي الاستشهاد، جزاءً على شهادتهم، المفكرون في العصر هم الشهداء. لذلك كان سقراط شاهدًا على عصره وشهيدًا له، وكان ابن حنبل في محنته شاهدًا على عصره وشهيدًا له، وكان جيوردانو برونو الذي حُرق علنًا بأمر من محاكم التفتيش، لإيمانه بالعقل وبالعلم الجديد، شاهدًا على عصره وشهيدًا له.
ويكون المفكر شاهدًا وشهيدًا إذا حقق رسالة الفكر. فما هي رسالة الفكر حتى يكون شهادة وما هي رسالة المفكر حتى يكون شاهدًا وشهيدًا؟
أولًا: رسالة الفكر كشف الواقع
-
(١)
ليست رسالة الفكر عرض أكبر كمية من المعلومات، وتغطية الواقع وتغليفه بها، بدعوى نشر الثقافة، أو تعريف الناس بما تجهل، أو الاطلاع على أحدث نظريات العصر. ويتسابق العلماء الجهال في ذلك، كل منهم يقتطف نظرية ويعلنها. وتكون عظمته بمقدار ما يقتطف ويعرض. فإن كان رحيمًا بسَّط وسهَّل، وإن كان عظيمًا صعب وعقد، فالعلم له أهله. وتكثر الندوات، وتتوالى المقالات، ويتحادث المتعالمون بعضهم مع بعض. العالم يُعطي علمًا للذي يريد، والذي يريد يتعلم حتى يكون عالمًا، كلا الطرفين يتعاطى العلم، وينقله للآخرين. وتكون هذه هي رسالة الفكر! تراكم للمعلومات دون المعرفة بنشأة العلم، وتراسب طبقات من النظريات دون وعي بتقدم العلم. فالعلم ليس هو المعلومات بل كيفية نشأتها؛ أي النظرة العلمية التي كانت شرطًا لها ولوجودها. وفي هذه الحالة يتم طمس الواقع وتغليفه، ويشارك العالم في الابتعاد عنه وإظلامه وعدم رؤيته. ويستبدل بواقعه الخاص واقعًا آخر مزيفًا، مركبًا، مصطنعًا، خاصةً إذا كان واردًا من بيئةٍ حضارية أخرى. وهو في نفس الوقت واقع هش لأنه يكفي أن ينتفض الواقع الأول حتى يتساقط هذا الواقع العلمي المتراكم، باعتباره أحد أسباب الزيف. وقد لا يبعد ما نسميه بالاستعمار الثقافي عن هذا كثيرًا؛ فقد حاول الاستعمار نشر معلومات في البلاد المستعمرة، بل وأكبر قدر منها حتى ينزع العقول عن بيئتها، ويحشوها بعلمٍ عصري، يضمن به ولاءها. وفي نفس الوقت، يشعرها بعجزها، ويربي لديها عقدة نقص من هذا العلم العصري، في لحظةٍ لم تعِ هذه العقول فيها بعدُ واقعها الحاضر، أو تراثها القديم. وقد حاولت الطبقات المثقفة السير في ذلك، كما حاولت الطبقات المثقفة الجديدة السير في نفس التيار من أجل الشهرة العلمية بأسرع الطرق، واستعراض المعلومات؛ ومن ثم يتحول المفكر إلى عارض، وفي بعض الأحيان إلى تاجر أو إلى بائع متجول، وكأن المفكر له بضاعة وهي العلم. وقديمًا هاجم سقراط السوفسطائيين الذين يظنون أنهم يحملون علمًا أو يبيعونه، في حين أن سقراط نفسه كان لا يعلم شيئًا. وإن علم شيئًا فإنه يستخرجه من الذي يعلمه. وقد سار في هذا الطريق كل مفكر عاجزٍ لا تتحمَّل قدراته أكثر من العرض. فما أسهل نقل المعلومات وما أصعب رؤية الواقع نفسه. لذلك غلب على دراساتنا جمع المادة وعرضها في أي مجالٍ أو حول أية شخصية، أو في أي فترة أو عصر. كذلك تعودنا على جمع الموضوعات من الكتب الجاهزة. فإذا أردنا بحث أي موضوع مثل الجمال أو القيمة أو الحقيقة جمعنا كل ما قيل عنه، ورتبناه وبوبناه، ويكون الموضوع قد تمت دراسته، في حين أن تحليل الواقع نفسه الذي قام به العلماء السابقون يمكن أن يكون هو المنهج الذي يجب اتباعه؛ أي الذهاب إلى المصدر الأول المباشر الذي صاغ منه العلماء على الطبيعة نظرياتهم. وإذا استمر الفكر في العرض المستمر، فإنه ينتهي إلى الكل ولا شيء، ولا يكون صادقًا في شيء، فإنه يعرض كل ما تقع عليه يداه حتى ولو كان متناقضًا، ولا مانع من أن يكون أوروبيًّا يعرض الأدب الأفريقي، أو رأسماليًّا يعرض للمذاهب الاشتراكية. عرض المعلومات على هذا النحو فيه نهاية للفكر؛ وذلك لأن الفكرة كالسكين، تنفذ إلى الواقع ولا تتراكم فوقه. وإذا انتهى الفكر انتهت الحركة، وفقد الفكر رسالته في توجيه الواقع. وما يظنه العالم جهلًا في واقعه قد يكون أكثر علمًا من معلوماته التي يستعرضها. فالحكمة الشعبية عند الجماهير تعطي علمًا أو حكمة، وتجعلهما على وعيٍ بالحياة ولا يستطيع أحد أن يتعالم عليها أو أمامها.
ويشتد الأمر كربًا عندما يتطلب الواقع تحليلًا له، وعندما ينادي بالتوجه المباشر نحوه. ومع ذلك، يتطلع المفكرون، ويعرضون عليه معلومات غريبة عليه، يمجُّها ويرفضها وينفر منها. ففي واقعنا المعاصر، ونحن نعاني من مرارة احتلال أراضينا وتبديد ثرواتنا لا تكون رسالة الفكر في الحديث عن امتلاك الفضاء الخارجي، وكأن الأرض قد ضاعت من تحت أقدامنا، ونبحث عن أرضٍ أخرى في الفضاء، وكأن مشكلتنا الأساسية لمن الفضاء اليوم ونحن ما زلنا في سبيل استرداد الأرض.٢ والمشكلة في الحقيقة إسقاط من مجتمعٍ معين يود امتلاك كل شيء حتى النجوم، ونحن نردد وراءه بعقلية الملكية. إن كل مفكر يقوم بذلك يساهم في محاولة مقصودة لطمس واقعنا المعاصر، ولتحويله من مشاكله الأساسية إلى مشاكل مفتعلة باسم الثقافة، وتحت ستار عالم الفكر. وقديمًا سار بعض المفسرين والشراح على هذا المنوال، فجمعوا في الشروح الكبيرة أكبر عدد ممكن من المعلومات حول النصوص. فإذا تحدثوا عن سفينة نوح، تحدثوا عن خشبها؛ نوعه ومكانه، أعداد الألواح، ومساميرها، وطريقة صناعتها، معلومات كلها لا تفيد في رؤية الواقع الذي عاش فيه المفسر نفسه، في حين أن تفسير المنار مثلًا نجده موجهًا نحو الواقع. وتكون وظيفة المفسر حينئذٍ تحريك الواقع بالنص، وتغييره بالفكر. -
(٢)
ليست رسالة الفكر ترديد أي نظريات تقال في أية بيئة حضارية، خاصةً إن كانت هذه النظريات تمس حضارة المفكر المردد. فما زلنا نتحدث نحن عن الشعوب البدائية، وعن عقلياتها وأمزجتها وطبائعها وتصوراتها، وهو ما تخلت عنه الحضارة الغربية منذ أكثر من نصف قرن، إلا من دراسة أبنيةٍ عامة للفكر البشري، بصرف النظر عن مستوى الرقي الحضاري لكل شعب.٣ وهذا النوع من الدراسات يتطلب إعادة دراسة وفحص وتمحيص؛ لأنه يقوم على بعض المسلَّمات غير العلمية في تصنيف المجتمعات وفي مقاييس التصنيف ذاتها. بل إن كثيرًا من أشكال الفن المعاصر لتعود إلى أشكال ما سماه الاجتماعيون المجتمعات البدائية؛ أي إن أقصى ما توصل إليه المجتمع المتقدم هو عود إلى ما سماه من قبل المجتمع البدائي! رسالة المفكر أن يعيد النظر في هذه التقسيمات التي تكشف عن عقلية الباحثين أكثر مما تعطي موضوعًا علميًّا أو نظرةً محايدة، وهي نظريات كالاستشراق تمامًا الذي يكشف عن عقلية الباحث الأوروبي أكثر مما يعطينا علمًا عن تراثنا القديم، ولربما يستطيع الباحثون الذين لا ينتمون للحضارة الأوروبية دراسة هذه الحضارة نفسها والحديث عن عقلية أوروبية تفقد التوازن وينقصها التكامل.٤
-
(٣)
ليست رسالة الفكر الحديث بلغة العلماء، عرض النظريات على المستوى العلمي الخالص. فالعلم الخالص في بيئةٍ تنحو نحو التغيير إيثار للسلامة والعافية وحسن المعاش. رسالة الفكر هي التعبير عن الواقع بأسلوبٍ مباشر، يفهمه الواقع نفسه، ويؤثر فيه، وليس بأسلوب العلمية الخالصة؛ فلا يمكن مخاطبة الجماهير مثلًا عن مشاكلها بمعادلاتٍ وصل إليها الباحث بالرياضة البحتة، أو بنظرية المجموعات، كما لا يمكن توعية الجماهير من أجل أن تكون السلطة الفعلية بيديها، وتستطيع أخذ القرارات في صالحها — لا يمكن توعيتها بعرض نظريات السلطة والصفوة عرضًا علميًّا خالصًا دون توجيه نداء مباشر للجماهير. قد تكون رسالة الفكر حاليًّا في البلاد المتحررة حديثًا استعمال الأسلوب المباشر أو لغة الداعية، دون الوقوع في الخطابة المبتذلة. العلم دعوة وليس بحثًا خالصًا. وهناك فرق بين البحث العلمي الذي يجريه الباحث على مكتبه بين مراجعه ومصادره أو حتى في الميدان على الطبيعة وبين مخاطبة الجماهير ونشر الوعي الثوري بينها. ولا يعني استعمال الأسلوب المباشر في مخاطبة الجماهير الوقوع في الديماغوجية، أو نقصًا في العلمية؛ فأحاديث ماوتسي تونغ وكاسترو وكاميلو توريز وغيفارا وبن بركة لم تكن صياغات علمية نظرية أكاديمية بل كانت نداء مباشرًا للجماهير على كافة مستوياتهم الثقافية. لذلك أيضًا نزل الوحي بأسلوب التخييل، واستعمال الصور الفنية من أجل إفهام الجماهير، ولم يستعمل لغة علمية خالصة للخاصة، والوحي حقيقة مطابقة للواقع لأنه وصف له وهو يتغير. قد يقوم المفكر بذلك عن حسن نية طبقًا لإيمانه بالموضوعية والعلمية، ولكن في عصرنا هذا، عصر الجماهير العريضة، تفرض هذه الجماهير على المفكر أسلوبها وطرق فهمها. وقد يكون جيلنا جيل المفكرين المعبرين عن عصر الجماهير، وليس جيل العلماء المتخصصين. وقد تكون توعية ملايين من الناس أكثر جدوى في عصرنا هذا من التخصص الدقيق في علمٍ ما، هذا على مستوى العمل السياسي وليس على مستوى البحث العلمي أو الإنتاج الصناعي.٥
-
(٤)
ليست رسالة الفكر البحث النظري الخالص في المسائل النظرية الخالصة التي قد لا يُنتج منها عملًا. فالحديث عن تصور الطبيعة عند اليونان أو عند الرومان أو الحديث عن آخر النظريات الطبيعية المعاصرة أو عن آخر ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا، كل ذلك من شأنه إما عدم التأثير المطلق، ونقل المعلومات من كتابٍ إلى كتاب أو من كتابٍ إلى مجلة أو من مجلةٍ إلى جريدة، أو إلى خلق أساطير جديدة، والنظر إلى هذه الإنجازات على أنها أعاجيب العصر، أو أنها القدرة التي لا مردَّ لها، أو إلى تأبيد التخلف وتقوية الإحساس به. فمهما سار المجتمع النامي وتقدم فإنه لن يلحق بركب المجتمع المتطور لأن معدل التغيير لديه أسرع مما لدينا بمئات المرات! والعجيب أن البيئات التي هي أحوج إلى التحليل المباشر للواقع وإلى التغيير الفكري والاجتماعي هي التي تروج لأحدث النظريات في المنطق والطبيعة والرياضة، وهي التي تستقطب نوعًا معينًا من المفكرين يقومون بهذه المهمة؛ أي إغماض العين عن الواقع وعما يدور فيه ثم الحديث عما يحدث في الفكر في الشرق والغرب، خاصة في الغرب، فنجد أن أساطين الفكر لدينا قد تجمعوا في بيئةٍ معينة من أجل نشر العلم والفكر الحديث، ويكون الثمن هو إغماض العين عما يدور تحت أقدامهم من سلب للثروات من الداخل أو من الخارج، ويكون عالم الفكر حينئذٍ غطاء يستر تحته نهب الواقع والتواطؤ الضمني بين أهل الفكر وأصحاب السلطة.
-
(٥)
ليست رسالة الفكر تحليل أكبر عدد ممكن من المعلومات، والتعامل معها برفق، كأنها موجودات هشة يُخشى عليها من الانكسار. صحيح أن ذلك أفضل من العرض. ولكن التحليل والمقارنة والنقد وإعادة الصياغة والفك والتركيب، كل ذلك له أضرار بالغة. أولًا: ليست الأفكار أشياء مستقلة عن واقعها، ولا يمكن التعامل معها كمجودات مستقلة، ولا بد من الرجوع إلى الواقع والتي هي تصوير له حتى يمكن الحكم عليها. صحيح أن هناك حدوسًا واحدة تتكرر في الزمان، ولكنها أيضًا تدل على مستوى نفسي معين، وعلى تصورٍ محدد للعالم؛ أي إنها أيضًا تعبر عن واقعٍ إنساني حضاري. ثانيًا: يوحي التحليل بأن هناك حقائق موجودة خارج العالم، أو بأن العالم لا حقيقة فيه؛ وذلك لأن ميدان النقد والمقارنة هو ميدان خالص للأفكار، وكأن هناك صدقًا نظريًّا في الأحكام، وكأن النظريات صادقة أو كاذبة في ذاتها. وعادةً ما يكون مقياس النقد أو القبول النسبي مقياسًا ذوقيًّا خالصًا، يرتبط بمزاج الباحث، وبتكوينه النفسي. ثالثًا: يتم التحليل بروح نسبية، مع عدم أخذ المواقف الحاسمة؛ لأن الموقف الحاسم يتطلب قرارًا، والتحليل لا يأخذ قرارًا، أو لأن الموقف الجذري هو اختيار، والتحليل النسبي ليس فيه اختيار، أو لأن الرفض لا يكون إلا نتيجة للعيش على مستوى الواقع، والتحليل النسبي عيش على مستوى الأفكار الخالصة، حتى وإن ظهرت بين الحين والآخر بعض المواقف الفكرية الواضحة، فإنها تتحدد بهذا الشكل النسبي، لأنها لا تلزم الواقع بشيء. رابعًا: يوحي التحليل الفكري الخالص بأن البحث والفكر من شأن الخاصة وحدهم أو من عمل الأرستقراطية المثقفة التي يكون الفكر فيها والموضوعات الثقافية جزءًا من حياة الطبقة الراقية، وغالبًا ما تكون هذه الموضوعات على هامش الفكر، وليست في جوهره، تحوم حول الواقع ولا تنفذ إليه. خامسًا: يفصل التحليل النظري نهائيًّا بين الفكر والواقع، وينتهي إلى رفض الواقع للفكر كليةً وكفره به. وتكون هذه هي نهاية ثقافة الطبقة، وبداية الواقع الذي يفرض فكره الذي يعبر عنه.
-
(٦)
رسالة الفكر إذن هي التحليل المباشر للواقع بل هي عرض الواقع نفسه؛ فالواقع فكر، أو الاتحاد بالواقع والعيش معه والحديث بلغته وعلى مستواه. الواقع بطبيعته حركة، والفكر هو التعبير عن حركة الواقع. الواقع حركة مستمرة، يتجاوز حاضره إلى مستقبله، والتجاوز هنا إلى الأمام، في حركة التاريخ. الواقع بطبيعته يتجه إلى الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى؛ ولهذا تطور الوحي في التاريخ، منذ إبراهيم حتى عيسى، مطابقًا لحركة الواقع، حتى أعلن الواقع نفسه في الإسلام، وكان عبيد مكة وضعفاؤها وأذلاؤها يريدون الحرية والمساواة. فالوحي كله نداء للواقع العريض، وكل فكرة فيه نداء لواقعٍ خاص ومجموع هذه الوقائع هو ما يسمى بأسباب النزول. التحليل المباشر للواقع هو الذي يكشف عن هذا التقدم الباطن فيه، كما يكشف عن معوقات تقدمه، كخطوةٍ أولى في سبيل إزالتها. لا يهم في ذلك اتباع المناهج الحدسية أو الاجتماعية، الفلسفية أو العلمية؛ فواقعنا يتحدث عن نفسه، يمكن رؤيته بالعين المجردة، وبالوصف الحسي الساذج، كما يمكن تحليله بالمناهج الاجتماعية والإحصائية، وكلاهما صحيح؛ الأول يعطي الفكرة والثاني ينظرها ويضمن يقينها، والمفكر الذي يقدر له البقاء هو هذا الذي يعبر عن واقع عصره، أو إن شئنا، روح عصره، فالروح هي الواقع. وقد اعتبر الأصوليون القدماء الحقيقة ذات طرفين: النص والواقع، وأن النص بدون واقع فراغ وخواء. وأن مهمة المفكر هي تحقيق المناط؛ أي رؤية مضمون النص في الواقع المعاصر الذي يعيش فيه هذا المفكر أو الفقيه أو المجتهد. وحديثًا أيضًا أصبحت الطبيعة مصدر كل فكر، وهي خير من كل كتاب.
ثانيًا: رسالة الفكر تطوير الواقع
-
(١)
ليست رسالة الفكر هي تبخير الواقع، وتفريغه من مضمونه، وتصريف طاقاته، أو تمييع انتفاضاته؛ وذلك بالتحليل الذكي الذي يقوم به بعض المفكرين. يستخدمون نفس البيانات العلمية التي يمكن للتحليل المباشر أن يصل إليها، ولكنهم يقضون على دلالاتها، أو يؤوِّلونها بحيث تفيد عكس ما تشير إليه. لذلك احتاج كل نظام إلى مجموعةٍ من المبررين الأذكياء من أجل القيام بهذه المهمة، باستعمال علمهم ودرايتهم، خاصةً ولو كانوا من أساتذة الجامعات الذين يوثق بعلمهم على الأقل نظرًا ومن حيث المبدأ. فإذا قصر المبرر عن أداء الدور أو قام به بطريقةٍ مكشوفة أو فاضحة، أو لم تؤثر طريقته وأساليبه في الجماهير، استغنت الأنظمة عن خدماته، وبحثت عن مجموعةٍ أخرى أكثر ذكاء لم تظهر ألاعيبهم بعدُ أمام الجماهير، أصبح المفكرون كالنجوم تتهاوى وتتساقط، أو كالشهب تعلو وتهبط في حين أن الرسول قال: «أصحابي كالنجوم فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم.» ويستعمل المبررون وسائل عدة من أجل تبخير الواقع، وتفريغه من مضمونه، ومن أجل المحافظة على مصالحهم الخاصة، وعلى مراكز الحواة، أو لاعبي السيرك. فإذا حدثت بعض الانتفاضات في الواقع مثلًا، اعتبرها الأذكياء جزءًا من حركات الشباب العالمية، وليست تعبيرًا عن غضبٍ بيئي محض من أوضاع موجودة بالفعل يود الواقع تغييرها؛ ومن ثم يحوِّل المبررون الأذكياء الخاص إلى العام؛ وبالتالي ينتفي وجود الخاص، ويضيع ثقله. ويمكن لفريقٍ ثانٍ اعتبار هذه الانتفاضات تعبيرًا عن أزمةٍ نفسية للشباب، وموقفًا شخصيًّا، أو إن شئنا مرضيًّا، وليس موقفًا عامًّا أو سويًّا، وليس تعبيرًا عن واقعٍ فعلي؛ ومن ثم تضيع الموضوعية في الذاتية، ويضيع السوي في المرضي، ويكون الواقع حينئذٍ في حاجةٍ إلى رعاية، وليس مصدرًا للسلطة. ويقوم فريقٌ ثالث باعتبار هذه الانتفاضات تعبيرًا عن سوء نية حتى يفصل بين طلائعها وواقعها، ويقضي على موضوعيتها وصدقها، ويشك في كل تطوير جديد للواقع، وخاصةً وأن البيئة قد تعودت على الأفعال القائمة على الهوى والغرض، والتي تبدو في ظاهرها لخدمة القضية العامة وهي في حقيقتها تعبير عن مطلبٍ خاص. وقد يقوم فريقٌ رابع باعتبار أن هذه الانتفاضات دخيلة على الواقع، من فعل المندسين والمتسللين، وكأن الواقع لا يتحرك إلا بفعلٍ خارجي، وكأنه بطبيعته ساكن، خاصةً في بيئةٍ تأنف الدخيل والأجنبي لطول خبرتها الطويلة معه. رسالة الفكر ليست في تبخير الواقع بل في إعطائه أكبر قدر من الأصالة والكثافة، وفي دفع الواقع إلى التعبير عن نفسه بصورةٍ أكثر حسمًا وأشد إيضاحًا، وفي إعطاء انتفاضاته أكبر قدر ممكن من الحقيقة. فرسالة الفكر هي في دفع الواقع ومساعدته بالجهد البشري من أجل تأصيل حركته التلقائية.
-
(٢)
ليست رسالة الفكر تسكين الواقع والإبقاء عليه كما هو دون تغيير أو تبديل. من أجل المحافظة على النظام. فكل تغيير شغب، وكل جديد بدعة، وكل إعلان للواقع تهور أو غرور. وفي بعض البيئات، تكون مهمة المفكرين هي استتباب الأمن، واستقرار النظام حتى يظهروا وكأنهم حماة الأنظمة وحارسوها، وحتى يصلوا إلى أعلى المراتب بما أثبتوا من جدارةٍ في حفظ النظام؛ وبالتالي يتحول المفكر إلى ناظرٍ أو إلى مفتش أو بعض الأحيان إلى شرطي. يحسب المفكر أن كل حركة في الواقع ضد النظام، وكل حديث صريح منافٍ للأمن؛ لأنه تعوَّد باستمرار أن يبلغ الرؤساء التمام والكمال، وبأنه استطاع ضمان ولاء الواقع لهم. رسالة الفكر ليست في تسكين الواقع بل في البحث عن معوقات تقدمه، وعن أسباب سكونه إن كان ساكنًا. رسالة الفكر دفع الواقع وتطويره بل وتفجيره. ففي لحظات التحول الحاسمة في التاريخ يتفجر الواقع، وتحدث الثورات، يتحرك فجأة وبعنف، وينتهي دور المفكرين المهبطين، وحفظة النظام. وقد يشبُّون من جديد، ويصبحون ثوريين من أجل لعب الدور من جديد، وهو المحافظة على الثورة الجديدة، فوظيفتهم الدائمة هي خدمة الأنظمة، وليست قيادة الواقع أو على الأقل تركه لطبيعته الخاصة. وجودهم مرتبط بوجود السيد، يدورون في فلكه، يتعايشون منه ويتسابقون إلى خدمته.
-
(٣)
ليست رسالة الفكر إشباع حاجات الواقع بعد تسكينه، وظهور طاقاته المختزنة في النشاطات الزائفة والرغبات المفتعلة؛ فقد يحدث في بيئةٍ ما أن يتم تسكين الواقع. ولكن لما كان الواقع بطبيعته الحركة، فإن طاقاته تتجمع ثم تظهر في أنشطةٍ زائفة، يتم تصريفها عن طريق الفن والإعلام. وتكون حجة ذلك هي أن الفن والإعلام يشبعان رغبة الواقع، ولا ينفصلان عنه، في حين أن مهمة الفن والإعلام، كمهمة الفكر دائمًا، هي رفع الواقع وتطويره، وليس إشباع حاجاته الحاضرة، لا سيما وأنها مجموعة مختزنة من الطاقات، لم يتم تصريفها تصريفًا طبيعيًّا من أجل تطوير الواقع ودفعه.٦ في مثل هذه البيئات يكثر الفن الرخيص، والفِرق التي تستجدي ضحك الجماهير والتخفيف عنها، وكلما يتم تسكين الواقع تظهر هذه الأعراض. رسالة الفكر هي في تغيير الواقع، وليس في إشباع حاجاته الشاذة، وإعادة الواقع إلى حياته الطبيعية ومساره التلقائي. ولقد كان الفكر عند قدماء الطبيعيين هو نهوض الطبيعة أو ارتقاؤها، أو الانتقال من القوة إلى الفعل، كما وصف أرسطو، هي الطبيعة التي تنحو نحو غاية. وقد جاء الوحي مصدقًا للطبيعة ومطورًا لها.
-
(٤)
ليست رسالة الفكر تبرير الوضع القائم بل تطويره والمساهمة في دفع حركته التلقائية. فالتبرير نفاق؛ لأنه ليس تعبيرًا عن مقاصد موجودة بالفعل لدى المفكر، بل تعبير عما تعودت السلطة في المجتمع على سماعه، وما تود تكراره، حتى تقرأ السلطة نفسها، ويحدث الخداع المزدوج بين المفكر وصاحب السلطة. وبهذا يتخلى المفكر عن صفته كشاهد على العصر، ويصبح مبررًا للسلطة التي يرفضها في قرارة نفسه، ويمحي عنه شرط وجوده، وهي الشهادة الصادقة. ففي بعض البيئات مثلًا التي يكون فيها النظام السياسي قائمًا على الاستسلام التام للسلطة، وهو ما يعترف به المفكر في حياته الخاصة، وعلى السمع والطاعة من الجميع، وعلى تسليم الأمور كلها للسلطة تقرر وتدبر، وعلى القناعة بلقمة العيش والسعي وراءها فتلك مهمة الإنسان؛ حوَّل المفكر هذا الوضع في حديثه العريض الموجه إلى الجماهير — وهو في حقيقته موجه إلى السلطة — إلى فلسفة رفض يستطيع الفكر فيه أن يرفض ويعترض وأن يثبت وجوده بالنفي والاحتجاج. وإذا كان الوضع السائد يقوم على القهر والغلبة، وعلى طاعة الأوامر طاعةً عمياء، وعلى التسليم بكل ما يقال أصبح لدى المفكر المبرر وضعًا يقوم على فلسفةٍ في الحرية، وعلى تأكيد للذات الحرة، وعلى ممارسة لما نادى به الفلاسفة القدماء من تحقيق لحرية الفكر والسلوك. وإذا كان الوضع السائد يقوم على سيادة الطبقة التي في السلطة، وتغطية نفسها بغطاءٍ نظري محض، تعبر فيه عن طبقة المحكومين، حوله المفكر المبرر إلى وضعٍ يقوم على فلسفة عمل، وعلى ممارسة للفكر النظري، وتحقيق للشعارات، وتطبيق للأحاديث العابرة. فيقلب الواقع، ويجعل من الستار النظري واقعًا متحققًا. وإذا كان الوضع السائد الذي يعيش فيه المفكر قائمًا كله على الخوف من المحكومين، وعلى الضعف المتناهي للبناء الداخلي، أصبح لديه قائمًا على فلسفةٍ في القوة، وينفخ في البالون فيحيله منطادًا! وإذا كانت البيئة التي يعيش فيها المفكر بيئة مغلقة على نفسها، لا تود الاستفادة من تجارب الآخرين، حتى وإن أعلنت قيامها بذلك، أصبحت لديه فلسفة انفتاح، وهو يعلم حق العلم أنها تقوم على بناءٍ طبقي صرف. وإذا كانت بيئة المفكر تقوم على المحافظة على الأوضاع الراهنة دون تغيير أو تبديل. فإن المفكر يرى فيها فلسفة جوهرها التغيير الجذري. وهكذا يقلب المفكر الحق باطلًا، والباطل حقًّا، ويفقد حياته، ويضيع شرف الكلمة. وقد لا يدل التبرير بالضرورة على عجزٍ بل قد يدل على إيثار السلامة، وعلى رغبةٍ في التعايش، أو على أن الجبن سيد الأخلاق، أو على الرغبة في المحافظة على المكاسب الشخصية؛ فهو عجزٌ سطحي، ولكنه في الحقيقة نفاق، وتبرير يقوم على النفاق. لذلك نجد في القرآن أكبر هجوم شهده تاريخ الفكر على النفاق والمنافقين. رسالة الفكر هي النفي، ونفي الوضع من أجل تغييره وتطويره. فالفكر أساسًا رفض وثورة، وبالرفض يتغير الواقع، والفكر الذي لا يغير لا يكون فكرًا بل يكون تبريرًا. وما تم عمله لا يتحول إلى فكرٍ بل يصبح جزءًا من الواقع وتطوره. الفكر هو البادئ بالتغيير والعامل على تحقيقه، وليس الذي يتحدث عن ماضٍ سلف، وأصبح جزءًا من التاريخ. وقد حاول ماركيوز بيان رسالة الفكر على أنها رفض وجعل من الوضعية تبريرًا للوضع القائم.٧
-
(٥)
ليست رسالة الفكر تفريغ طاقات الواقع المختزنة بمرور الزمن عن طريق الكلام، وتفريغ شحنات الغضب عن طريق البيانات، وإعلان النوايا، وإسماع الخطب. ففي كثيرٍ من الأحيان، يحدث في بعض البيئات أن يتشابك الواقع، وتتأزم المشاعر، ويكون الحل الطبيعي وقتئذٍ هو الثورة على الأوضاع من أجل التغيير، فتجيء الخطبة السياسية التي تمارس شجاعة ابن البلد على مستوى الكلام، فتخفف الأزمة الشعورية، ويشعر الجميع بأن مشاكل الواقع قد حُلَّت، وذلك عن طريق التخفيف على النفس. وبمرور الزمن، تشحن الأنفس من جديد، ثم تكون الخطبة حتى أصبحت رسالة الفكر تفريغ الطاقات الثورية. رسالة الفكر هي تنظيم جاد لهذه الطاقة، وليس تخديرًا لها، وتحويلها إلى وعيٍ ثوري، أو تنظيم سياسي فعلي حتى تمارس الجماهير الثورة بطريقها الطبيعي. لقد أصبح للخطبة السياسية في بعض البيئات وظيفة، وهي حل المشاكل على مستوى الانفعال. وفي هذه الحالة تقوم الخطبة بمقام الفن في تطهير الانفعالات، كما هو معروف عند أرسطو، خاصةً في بيئةٍ تعودت على أن الكلام هو أثره في النفس وليس تحليله للواقع، ويكون التاريخ السياسي هو تاريخ إعلان البيانات السياسية، وليس تاريخ التحولات الاجتماعية، وبمرور الزمن يفقد الكلام قيمته، إلى أن يتحرك الواقع نفسه، باعتباره الكلمة الأخيرة التي تطلق لأول مرة، فتصمت الكلمات القديمة وتضيع هباء. فالطاقة المخزونة هي مادة الفكر، وحركة الواقع لا تفرغ بالكلام، بل تتحول إلى حركةٍ في الواقع؛ وبالتالي يكون الفكر قد أدى رسالته.
-
(٦)
ليست رسالة الفكر التعبير المكبوت، والتذمر المكبوح في الحلقات الخاصة، ثم الرضا الفاضح والموافقة العلنية في الواجهة الاجتماعية والحلقات العامة؛ فذلك ما يعيب الفكر؛ أعني ازدواجية الفكر بين لغتين: اللغة الخاصة واللغة العامة. ولن يتحرك الواقع إلا إذا تحولت اللغة الخاصة إلى لغةٍ عامة. يكفي أن يحدث هذا التحول مرة حتى يتبع الواقع كله. إن الإنسان بوجهٍ عام، والمفكر بوجهٍ خاص، ليخسر حياته لو ظل يعيشها من وراء ستار، يحفظ مقاصده بين جنبيه، لا يكشف عنها إلا في خفر، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا همسًا، في حين أن التعبير العلني هو الوسيلة لأن يعيش الإنسان حياته. ولحظة صدق واحدة قد تكلف الإنسان عمره، وتكون هي حياته كلها، خير من مائة عام يعيشها ولا تعبر عن شيء، ولا تحتوي إلا على واجهة عرض يراها الآخرون، ويشمئزون منها. ويمكن للمفكر أن يكتم إيمانه الرصين ولكن لا بد أن يعبر عنه مرة، ويكون حينئذٍ شهيدًا أو شاهدًا على الحق وعلى حامليه، كما فعل الرجل من بلاط فرعون تأييدًا للحق: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ. وإذا كنا نعاني من ازدواجية الشخصية، وازدواجية الفكر، وازدواجية السلوك، وازدواجية الحديث، فإننا على الأقل يمكننا القضاء على ازدواجية الحديث كجزءٍ من تحقيق وحدة شخصيتنا الوطنية.٨ رسالة الفكر أن ما يتهامس به الكل هو الذي يمكن التعبير عنه علنًا، فالفكر لا يدخل ضمن نطاق المحرمات!
ثالثًا: رسالة الفكر مضمون الواقع
-
(١)
ليست رسالة الفكر ترديد الأشكال دون النفاذ إلى المضمون. فالفكر بطبيعته مضمونه هو الواقع ذاته، وليس ما يطرأ عليه من أشكالٍ خارجية. فمثلًا صحيح أن في البلاد النامية التي هي في معظمها بيئات زراعية، يجب أن يكون واقعها هو حكم الأغلبية، وأن يكون للفلاحين والعمال أكثر من خمسين في المائة، ولكن رسالة الفكر هي أن تجعل هذا التمثيل حقيقيًّا؛ أي أن يحقق في الواقع تمثل الأغلبية دون الاكتفاء بالشعار، وتحقيق الشعار بحيث يتحقق الشكل دون المضمون؛ أي عندما لا تكون الأغلبية قوة مؤثرة حقيقية، أو عندما يكون تمثيل الأغلبية في ممثليها صوريًّا محضًا. ومن هنا جاءت صفة التكرار في فكرنا القومي، الكل يردد نفس الشيء، ولا ينفذ أحد إلى المضمون، أو يبين كيفية تحقيق مضمون الشعار؛ ومن ثم تساوى المقتنعون به وغير المقتنعين، ما دام الأمر لا يتعدى مجرد الشكل، بل أصبح الجميع يتسابقون في الترديد من أجل كسب ثقة الأغلبية، والأخطر من ذلك أن تعتقد الجماهير بالفعل أن المبادئ هي ما لديها من أوضاع، وما ترى من أحداث؛ وبذلك تضيع فاعلية المبادئ وجاذبيتها للجماهير التي وحدت بينها وبين ما تشاهده أمامها. ومهما حاول المفكر إنقاذ المبادئ، والتمييز بين المبدأ والتطبيق، فإنه يتهم نفسه؛ إذ أين كان هو حين كان التطبيق، ما دام المفكر هو الأمين على رسالة الفكر؟ رسالة الفكر هي إعطاء الشعار مضمون الواقع، حتى ولو طرحت الشعارات أولًا دون مضمون؛ فقد تكررت وذاعت. فتحالُف الشعب العامل معناه أن تكون الأغلبية لهذا التحالف، وأن تكون له السيادة الحقيقية وليست سيادة الطبقة الحاكمة عليه، والاشتراكية الإسلامية شعار، ورسالة الفكر أن تعطيه مضمونه الثوري؛ من الإقلال بين الدخول المتفاوتة، وتحريم للملكية المستغلة، وإعطاء العامل أجره المساوي لقيمة العمل، وأن يكون فائض القيمة لبيت المال وليس لصاحب رأس المال. رسالة الفكر أن يبين الطرق والوسائل من أجل تحقيق الشعارات المطروحة من حيث هي مضمون، والتجارب الفعلية من أجل محو الأمية خير من رفعه كشعارٍ مجرد، والتغيير الفعلي لأوضاع الجامعة ومناهج التدريس بها وربطها بالثقافة الوطنية خيرٌ من رفع شعار إصلاح الجامعة أو التعليم.
-
(٢)
ليست رسالة الفكر تغيير السطح والجذور باقية، وإعادة توزيع الدخل على نفس الطبقات والمعدمون باقون، وبتغيير المواد في الجامعة بإضافة مادة أو حذف أخرى، أو رفعها إلى سنةٍ قادمة، أو خفضها إلى سنةٍ ماضية والمشكلة الأساسية باقية في بناء المادة نفسها، أو بطريقة تناولها، أو في صلتها بالثقافة الوطنية؛ بل رسالة الفكر مواجهة الأبنية الأساسية؛ مثل إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات المحرومة، أو إعادة تخطيط الخدمات من أجل الطبقات الكادحة أو تخطيط التعليم من أجل تكوين الثقافة الوطنية، أو نشر التراث من أجل إعادة تقييم الفكر القديم، أو في تخصيص المعونات للمسرح والسينما ودورهما يبقى كما هو دون تغيير. فالفكر هو الذي يبحث عن الأساس، والأساس موجود في بناء الواقع نفسه. وإن من أخطر ما يواجه المرحلة الحالية من تطور البلاد النامية هو عدم مواجهة المشاكل من الأساس، والمفكر هو الذي يدرك الأساس، وكذلك تدركه الطبقات الشعبية بحسها التلقائي لطول ألفتها للواقع ومعاناتها له. ولكن المفكر يتخلى عن القيام بدوره، والطبقات الشعبية ليس بيدها الأمر.
-
(٣)
ليست رسالة الفكر التشدق بالعلمية أو بالمعاصرة والتظاهر بالتجديد، بل القيام بذلك بالفعل عن وعيٍ وفي صمت. فالتفسير العلمي للقرآن كما يبدو على صفحات الجرائد اليومية تشدق بالعلمية، وتملق لحس الجماهير الديني، ورغبة في مزيدٍ من الشهرة، وتلفيق رخيص، في حين أن النظرة العلمية هي تحليل لهذا الواقع نفسه بمناهج البحث الاجتماعي وبالتحليل الإحصائي. التفسير العلمي للقرآن ليس هو التفسير الطبيعي الكوني؛ فهذا ادعاء وتعالم، بل التفسير الاجتماعي الذي يضع الواقع الحالي للمسلمين كوجهةٍ أخرى للنص، كما كان يفعل المصلحون الدينيون الذين كانوا مصلحين اجتماعيين في نفس الوقت. رسالة الفكر هي إبراز البعد الاجتماعي للنص، وهو البعد المحسوس الذي يكشف عن بناء الواقع، وليس البعد الكوني أو البعد الغيبي الذي يتستر فوق الواقع، ويزيد في إبعاد الناس عنه. ليست رسالة الفكر افتعال التجديد، والتكسب باسمه كما تفعلن بنات الليل، ولكن ممارسته عن وعيٍ وفي صمت، ودون فرقعة فكرية من نجمٍ سينمائي يود الإعلان عن نفسه. كان المجددون دائمًا مطرودين من أراضيهم كما كان الأفغاني، أو معذبين من الحكم ومضطهدين من السلطات كما كان ابن حنبل، أو مسجونين في القلاع كما كان ابن تيمية، وكانوا يبغون وجه الحق لا التكسب الرخيص أو الإثارة الصحفية مع حديث الكواكب والنجوم.
-
(٤)
ليست رسالة الفكر التعبير عن الانفعالات الفردية والانطباعات الشخصية للكتاب؛ فذلك مجاله الأدب، بل رسالة الفكر دراسة وتحليل مباشر للواقع الموضوعي. فكثيرٌ من مفكرينا يعبرون عن واقعهم بما يسمونه أدب الرحلات، بعد أن نعموا بإجازة طويلة وبمالٍ وفير ليروا وجه الأرض وتحويل مشاكلنا الواقعية إلى موضوعاتٍ للتندر الصحفي أو للمقارنات الحضارية بأساليب التهكم والسخرية. فكل واقع له بناؤه الخاص، وتحليله يتم من داخله بصرف النظر عن مستواه الحضاري، الفكر أكثر من الأدب اتجاهًا نحو الموضوعية، وأقل منه لجوءًا إلى الانطباعات الشخصية والإحساسات الفردية. إن معاناة الواقع أكثر من معاناة الأديب، بل هي معاناة ثورية لا تعبر عن نفسها في الشكل الفني بل في العمل الثوري. رسالة الفكر تحويل الانطباعات الشخصية إلى حقائق، والانفعالات الفردية إلى وقائع، فمهمة الذات المفكرة كشف الواقع وليس تصدره بشخصية الكاتب حتى يمكن الحديث عن الشخص أكثر مما يتحدث عن الواقع، بل الأجدى وضع الواقع نفسه في الصدارة وما المفكر أو الكاتب إلا كاشفٌ له.
-
(٥)
ليس الفكر وظيفة بل رسالة، وليس وسيلة لكسب العيش بل قد يكون طريقًا للجوع والعري والتشرد والطرد والحرمان. ليس الفكر هو الذي يعطي شعورًا بالأمان أو الاستقرار بل هو الذي يسبب القلق. المفكر بطبيعته شهيد العصر، كما كان الأنبياء قديمًا شهداء عصورهم. ولكن الغالب على كثيرٍ من المفكرين هو أن الفكر لديهم وظيفة يقومون بها على خير وجه. فإذا حان وقت الانصراف عادوا إلى حياتهم الطبيعية. ليس الفكر لدى هؤلاء رسالة تؤرقهم بل وسيلة للتكسب وللاستزادة؛ فيمكنهم الكتابة عن أفريقيا وهم لا يشعرون حتى بوجودها، ويكتبون عن الاشتراكية وهم لا يؤمنون بها، وعن طبقات الكادحين وهم لم يروها على الإطلاق. حتى أصبح من الصعب في مثل هذه البيئات التمييز بين الكتَّاب؛ فالكل يتحدث لغةً واحدة، وهي اللغة المتداولة في السوق، يزايد بعضهم على بعض حتى احتارت الجماهير بينهم، وتساءلت كما تساءل الأشعري من قبل حين فقد مصحفه بينما كان يعطي درسه في المسجد وحوله التلاميذ ركعًا خشعًا من الإيمان القوي وقال: كلكم يبكي فمن سرق المصحف! رسالة الفكر هي التعبير الصادق عن حياة المفكر، فالفكر ليس بضاعة بل رسالة، وليس وظيفة بل دعوة، تلك كانت رسالة الفقهاء قديمًا، عندما كانوا يتصدرون واقعهم كطلائع له، ويرفضون أن يؤجروا على ذلك، فتلك كانت شهادتهم على عصرهم.
-
(٦)
رسالة الفكر حقيقة هي مضمون الواقع ذاته؛ فالفكر الغريب على الواقع أو الطائر فوقه قد رفضه تراثنا القديم برفضه أن يكون للموجودات الذهنية المجردة وجودٌ عيني متحقق في الخارج، ونقد علماء الأصول القدماء للمنطق الشكلي الذي لا يُعنى بالمضمون. كان الوحي عند القدماء هو المضمون، كان فكرًا وكان واقعًا معًا. وربما كانت محاولات الوحي السابقة في تطور النبوة تهدف إلى تحقيق هذه الغاية، وهي تطابق الفكر مع الواقع.
رابعًا: رسالة الفكر الواقع ذاته
-
(١)
ليست رسالة الفكر الإشادة بالماضي السحيق كنموذجٍ فريد لا يتكرر، فذلك نسيان للواقع الحاضر ومحاولة التعويض عنه بالعيش على التراث الماضي ومجد الجدود. صحيح أن الماضي له ثقله على الحاضر، وصحيح أيضًا أن الحاضر إن هو إلا تراكمٌ للماضي. ومع ذلك فالحاضر واضح، وله بناؤه كما أن له تطوره، والعيش خارجًا عنه بإيجاد نمط له سابق هو هدم له وقضاء عليه. ليست رسالة الفكر في تجاوز الواقع إلى الوراء؛ فذلك عدم قدرة على الاتحاد به، أو إيثار الطريق الأسهل، وهو اللجوء إلى المثل الأعلى القديم. صحيح أيضًا أن العود إلى المنبع الأول قد تكون دعوة لتطهير الواقع، والعودة إلى بساطة الطبيعة، ولكنها دعوة متطهرة أكثر منها دعوة ثورية، وتطبيق لنموذج أكثر منها رفضًا للأخطاء الحاضرة. إن الصفاء الأول يمكن العثور عليه بالرجوع إلى الواقع ذاته ورفض كل تغليف فكري له، وليس بالضرورة بالعود إلى نموذج فريد سابق. لذلك نجد في ثورات غيفارا كاميلو توريز الصفاء الأول للأنبياء.
-
(٢)
ليست رسالة الفكر أيضًا الإشادة بمستقبل قريب زاهر، تحل فيه جميع الأمور، وينعم فيه الجميع بالخير والضياء، وتجاوز الحاضر إلى الأمام إلى مستقبل طوباوي، تكون وظيفته التسكين والتخدير. لذلك عارض الاشتراكيون العلميون الاشتراكية الطوباوية؛ لأنها نقصٌ في الوعي بالواقع، كما عارض فلاسفة التنوير استخدام الأخرويات في الأديان من أجل إيهام الناس بأن ملكوت الله ليس على هذه الأرض. لقد طالت الوعود وانتظرت الجماهير، والكل يمني نفسه بالشفاء العاجل. إن الأخرويات في الأديان لم يكن لها هدف إلا الثورة على الحاضر وتحويله إلى واقعٍ أفضل، والغاية التي لا تحرك الجماهير تكون تعويضًا لآلامها وتسكينًا لعذابها. إن تسيير الواقع ولو خطوةً واحدة خيرٌ من العيش في مستقبلٍ زاهر بالتمني.
-
(٣)
ليست رسالة الفكر الحديثَ عن الأشخاص بل الحديث عن المبادئ العامة التي هي من طبيعة الفكر. الوحي ذاته مستقل عن الأنبياء وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ. ومهما بلغ الأشخاص حدًّا أقصى في تحقيق الرسالة فإن الأبقى هو الفكر. وقديمًا قال أرسطو بعد نقده لأستاذه أفلاطون: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» ليست رسالة الفكر في جعل الشخص مركز العلم، كل شيء يخرج منه ويرجع إليه، الواقع كله منه، وكل ما يحدث فيه من تغير فيض منه. وقديمًا جعل الصوفية المسلمون الوحي مركزًا حول شخص النبي، وتحدثوا عن محمد الحقيقة الذي انبثق منه الكون، وخرجت منه الرسالات، وهبط منه المطر، وصدر عنه العلم، والحقيقة أن الواقع منفصل عن الشخص، والفكر منفصل عن الشخص المعبر عنه. وقديمًا حصل تحول أساسي في الفكر المسيحي القديم، عندما تحول محور الفكر المسيحي من الكلمة إلى الشخص، ومن الوحي إلى شخص المسيح، فبدل الدعوة إلى الفكر والأخلاق كانت الدعوة إلى الإيمان بشخص المسيح. وحديثًا أيضًا ترفض المجتمعات الثورية الأصيلة عبادة الشخص Culte de la personne، وذلك حتى يكون الخلود للثورة وللمبادئ، وقد يكون ذلك سبب منع التشخيص في الإسلام؛ وذلك لأن الفكر الحق لا يشخص ولا يتعين في فرد. إن كل مظاهر التشخيص تدل على تخلفٍ حضاري، وعلى سيادة الخرافة، كما هو الحال في تشخيص الأفريقيين لقوى الطبيعة. إن المبادئ في التربية الوطنية هي أن الأمم والمبادئ هي الخالدة لا الأشخاص. ومن تراثنا القديم نجد أن ابن رشد والفلاسفة أعطوا الخلود للإنسانية أو للعقل البشري الكلي، وليس للنفس الجزئية التي تود المحافظة على عملها الصالح لنفسها لا لخير المجموع.
-
(٤)
ليست رسالة الفكر اتباع منهجين مختلفين، الأول علمي فيما يتعلق بالظواهر الاجتماعية، والثاني ديني فيما يتعلق بالعقائد والتاريخ المقدس. الفكر له منهج واحد يطبقه في شتى الظواهر، ولكن عند بعض المفكرين نجد هذه الازدواجية المنهجية. فهم يشعرون بالأقلية الطائفية وسط أغلبية أخرى، مع أن الثورة الحقيقية تمنع قسمة الجماهير إلى طوائف، ولا ترضى إلا بالقسمة الثورية، ويختارون الالتقاء على الدنيا لا على الدين، فالدنيا للجميع والدين للفرد، ويكون لهم منهجان؛ الأول: تقدمي اجتماعي ثوري للدنيا، والثاني رجعي فردي للآخرة. ويرفضون تطبيق المنهج الاجتماعي على الدنيا والدين معًا؛ أي إنهم يريدون في الدنيا المحافظة على التصور الأفقي للعلم؛ أي الإنسان في التاريخ، ويريدون في الدين المحافظة على التصور الرأسي للعالم أي الإنسان مع الله، والحقيقة أن الموقف العام لمثل هؤلاء المفكرين هو موقف المحافظة؛ لأن انتسابهم إلى المنهج الاجتماعي إن هو إلا من قبيل اللحاق بالأغلبية.
-
(٥)
ليست رسالة الفكر خلق رقابة داخلية عليه؛ إذ كثيرًا ما يراقب المفكر نفسه قبل الكتابة، ولا يكتب إلا ما مرَّ أولًا على هذا الرقيب الداخلي. والكتابة على هذا النحو من أشق الأمور وأصعبها على النفس؛ لأنها ليست تعبيرًا عما يدور فيها، بل منعًا له وتحويرًا وتبديلًا؛ وبالتالي تفقد الكتابة وظيفتها الأساسية في التعبير، وتصبح من المداراة وفنًّا من فنون الحواة، والحقيقة أن رسالة الفكر هي في أن يكتب المفكر ما يعتقد، وأن يعبر عما يشعر به، وأن يتخلى عما تعوَّد عليه من الرقابة الداخلية التي قد يكون فرَضها على نفسه دون أن يطلب أحد منه ذلك، توخيًا للسلامة وإيثارًا للعافية. إن الرقيب الوحيد الممكن داخليًّا هو الضمير الذي هو حياة المفكر وشرفه، وكثيرًا ما يلزم الضمير صاحبه إما بأن يقول خيرًا أو ليصمت. وقد يكون الصمت شهادة على الواقع أبلغ من مخالفة الضمير والشرف والأمانة. ضمير المفكر، وشرف الكلمة، وأمانته على الواقع.
-
(٦)
ليست رسالة الفكر استعمال حجة السلطة، سواء السلطة السياسية أو السلطة الدينية، بل الفكر يستمد سلطاته من ذاته، بالتحليل المباشر للواقع. وإن كثيرًا من المفكرين ليتحدثون عن نظرية الإسلام في موضوعٍ معين، معتمدين على السلطة الدينية، ورافضين وسيلة الحجة والإقناع. وقد يقوى الفكر ويشتد كلما واجهته السلطة السياسية. الفكر يستمد سلطته من ذاته وتعظم سلطته وتقوى كلما كان تعبيرًا عن الواقع ذاته. لذلك فإن وسيلة التعامل مع المفكرين هي وسيلة الحجة والإقناع. وقد يقوى الفكر ويشتد كلما واجهته السلطة بحجة السلطة ورهبة السلطان. وقد تظل فكرة واهية على مدى السنين لأن طريق رفضها كان طريق السلطة، في حين أن مقاومتها بالحجة كان يمكن القضاء عليها في لحظاتٍ معدودات. وقديمًا استطاع معاذ بن جبل أن يقارع الخوارج الحجة بالحجة فرجع منهم الآلاف معه. إن الفكر هو الأبقى، وفي عصورنا الحديثة طالما كان النصر للفكر مهما كان حجر السلطة عليه.
(٢) دور المفكر في البلاد النامية (أشكال التعبير)٩
لقد آن لنا الآن أن نبحث عن دورنا في مجتمعاتنا. وإن كثيرًا من مظاهر الاضطراب الثقافي والفكري فيها لناشئة عن نقصٍ في وعينا بهذا الدور المحدد الذي علينا القيام به. والغرض من هذا المقال توضيح هذا الدور حتى يمكننا بعد ذلك ملء هذا الفراغ الذي نشعر به أمام واقعنا الذي يتطلب مفكرًا يعي القديم ويرى الجديد، وينقل الحضارة من مرحلةٍ إلى أخرى، كما فعل ديكارت في الحضارة الأوروبية عندما نقلها من العصر الوسيط إلى العصر الحديث.
كما لا يعني الدور القيام برسالةٍ ممْلاة ومعروفة مسبقًا كما هو الحال في رسالة الأنبياء أو في رسالة كبار المنظرين الذين تسلحوا من قبل بأيديولوجية جاهزة، بل يكشف الدور عن أزمةٍ حادة يعيشها المفكر لأن دوره لم يتضح بعد؛ ولأنه يمارس هذا الدور كما تشاء الظروف، وكما تفرض الأحداث حتى ليصل به الأمر إلى أن يقوم بدورين مختلفين أو — إن شئنا — بدورين متعارضين. الحديث عن الدور إذن هو حديثٌ عن أزمة، وأزمة تستعصي على الحل النظري. وقد لا يكون لها حل إلا في الواقع بعد التجربة والممارسة.
وتتلخص هذه الأزمة في أن المفكر في البلاد النامية يعيش في حيرة بالنسبة لأشكال التعبير لا يدري ماذا يفعل وأي شكل يختار خاصة وأن هذه الأشكال تبدو متعارضة أو متناقضة، كلها جائزة الوقوع مع اختلاف في الدرجة والأثر.
وخصصنا بالمفكر حتى لا نتحدث عن دور المثقف بوجهٍ عام، ولو أن الفصل بينهما صعبٌ للغاية. المفكر هو المنظم للواقع العريض الذي يشمل القديم والجديد معًا، وهو أكثر المثقفين وعيًا وقدرة على التنظير. المفكر هو بؤرة المثقفين الذين يتجمعون حوله، والمثقفون هم جمهور المفكر الذي هو رائدهم. فكل مفكر مثقف وليس كل مثقف هو بالضرورة مفكر. الثقافة هي التي تعطي الفرد الشرط اللازم للوعي، والفكر هو وعي الثقافة، أو الثقافة عندما تعي ذاتها، أو إن شئنا، الفكر هو وعي الوعي.
فإذا كان المفكر غير المثقف، وإن كان مثقفًا؛ فهو بالأولى غير المتعلم، وإن كان بالضرورة متعلمًا؛ فالمتعلم هو المواطن الذي يعرف القراءة والكتابة، والذي حصل على كميةٍ من المعلومات تؤهله إلى كسب الحد الأدنى للقوت. ويمكنه أن يصير مثقفًا لو استعمل إمكانياته هذه في الوعي بذاته والوعي بواقعه، والمتعلم هو المواطن الذي لم يحركه العلم ولم ينفعل به.
ولا يعني ذلك أن يكون شرط العلم أو الوعي هو القراءة والكتابة؛ فهناك كثيرٌ من المواطنين آميون ولكنهم عالمون ولديهم الوعي الكافي بأنفسهم وبواقعهم، وهم المتصلون بالواقع مصدر كل فكر بل والمنغمسون فيه لأنهم جزءٌ منه، وهؤلاء باستطاعتهم أن يكونوا مفكرين ومنظرين لواقعهم الخاص أو حتى للواقع العريض إذا ما أتيحت لهم الفرصة للتعرف عليه. وكثيرًا ما نسمع في هذه الأيام عن اللبان والكهربائي وعن الزجالين وشعراء العامية الذين لم تفسدهم السلطة بعد، ولم تسلط عليهم الإغراءات التي يتعرض لها المفكر.
ولم نقل الباحث، سواء كان باحثًا في العلوم الإنسانية أو في العلوم الطبيعية، هو العالم؛ لأن البحث مهمة أكاديمية صرفة يخضع لاحتياجات المجتمع النامي ولإرشاد المنظر له، كما تتصف الأبحاث بصفة العموم، ولا يظهر فيها الطابع الحضاري بقدر ما يظهر في الفكر. وقد لا يكون بين العالم الطبيعي في البلاد النامية والعالم في البلاد المتقدمة فرق شاسع في حين أن المفكر في كل منهما له وظيفة مختلفة أو متعارضة. ولا يعني ذلك أن المفكر لا يكون باحثًا أو عالمًا بل إن البحث هو شرط الفكر الموضوعي؛ لأنه لا يمكن الاكتفاء بنفاذ البصيرة أو صواب الرؤية أو الالتصاق بالواقع والاتحاد به.
ولم نقل المفكر في صيغة الجمع لأن المفكر أندر من الندرة. وقد يكون في المجتمع كله مفكر واحد إن وجد؛ فالعصر لا يتحمل أكثر من مفكرٍ، ويكون هو المفكر بألف ولام التعريف. فعصر ديكارت كان به مفكرون، وكل منهم يحاول أن يقوم بنفس المهمة التي قام بها ديكارت، ولكن لم يكن هناك إلا ديكارت واحد. تظهر في كل عصر إرهاصات للفكر ولكن المفكر هو الذي يعبر عنه ويعطيه الصياغة العلمية.
والبلاد النامية التي ننتسب إليها بالرغم من اختلافها فيما بينها وبالرغم من نوعية حضاراتها إلا أنها تشترك في سماتٍ حضارية عامة. قد تكون مختلفة في اقتصادياتها وفي ظروفها التاريخية والجغرافية (اليمن والصين مثلًا). ولكنها تشترك في صفاتٍ عامة هي الصفات الحضارية التي فيها تبرز المشاكل مثل التطور أو التقدم أو التغير أو التحرر. ولا يعني ذلك الحديث عن البلاد النامية ككل بل الحديث عن أقربها إلينا وتلك التي نعيش فيها.
فمن هو المفكر إذن؟ المفكر هو ذلك المواطن الشاب الذي استطاع أن يعي تراث مجتمعه القديم، وأن يرى واقعه المعاصر وأن يدفع بمجتمعه خطوةً نحو التقدم تكون هي مهمة جيله.
فهو المواطن الذي ارتبط بأرضه وتربته؛ لأنه إفرازٌ منها وصورة لمأساتها، والذي ارتبط بشعبه ويشعر نحوه بمسئولية اليقظة ثم التنوير؛ أي إنه هو الذي لا يعرف لنفسه أرضًا غير أرضه أو شعبًا غير شعبه، وكأن التاريخ قد حمَّله مسئولية العصر، هو النبي بين قومه ينقلهم من مرحلةٍ إلى مرحلة، أو الذي يغيرهم من حالٍ إلى حال.
وهو الشاب أيضًا الذي تتوافر فيه كل مقومات الريادة من حماسٍ وإقدام وشجاعة وبراءة وحسم؛ ذلك لأن المفكر الشيخ قد انتهى عصره بعد أن تراكمت عليه الأحداث، وكثرت منه المساومات حتى أصبح من وجهاء القوم يبغي السلام وحسن الختام. فقد زمام المبادرة بطول العمر وأصبح البعض منهم مثال التعايش الرخيص الذي يحرص على لقمة العيش المترفة حرصه على حياته. فإذا تذمر البعض منهم فلا يتجاوز هذا التذمر خارج جنبيه، ولا يتعدى حديث العاجز الذي لا حول له ولا قوة، أو يذكِّر المستمعين له بتاريخ نضاله الطويل في أوائل القرن، عندما كان في سن الشباب في سن هؤلاء الذين اجتمعوا معه اليوم، ليقدم إليهم كشف الحساب أو ليتعلموا من جيلٍ شارف على الزوال، عندما كانوا بضعة أفراد كالنجوم المضيئة في السماء يذكرون في حلهم وترحالهم، في حركاتهم وسكناتهم. إلا أن كوبا كنموذجٍ فريد للبلاد النامية استطاعت تجاوز ذلك حين جعلت لجنة حزبها المركزية من شبانٍ تحت سن الثلاثين!
وهو الذي يعي تراثه القديم لأنه ما زال حيًّا في وجدان العصر، منه ما يعوق تقدمه، ومنه ما قد يساهم فيه لو تم كشفه وإبرازه وتأهيله ثم الاعتماد عليه. هو الذي يخرج من الماضي السحيق كما خرج الإصلاح الديني عند لوثر، من داخل الكنيسة والإصلاح الديني في مجتمعنا الحديث من بين مشايخ الأزهر؛ وذلك لأن من بين أزمات البلاد النامية التي تعوق تقدمها هي صلتها بماضيها وعدم تحديد هذه الصلة التحديد الواضح وعدم الجرأة على صياغتها مرة واحدة وإلى الأبد، وهو ما يبدو في بعض الشعارات مثل: الاشتراكية الإسلامية، الاشتراكية العربية، الاشتراكية الأفريقية، يحتوي الماضي على الغث والثمين، ويتضمن ما يعوق التقدم وما يدفعه إلى الأمام. وإن تذبذب الحاضر وميوعته وتوقفه قد يكون لارتباطه بما يعوقه في القديم. مهمة المفكر في أن يفصل هذه المشكلة في وضوحٍ وجرأة، حتى ينتهي من هذه المشكلة التي يتحدث عنها الجميع، ولا ينتهون منها إلا إلى التوفيق أو إعلان الشعارات دون تمحيص أو بيان للكيفية.
وهو الذي يرى أحداث العصر ويشعر بمتطلباته ويعمل بمقتضاه دون تنظيم سابق أو نظرية معطاة سلفًا. صحيح أن التسليح النظري ضروري ولكن هذا التسليح مفروض من الواقع نفسه؛ فهو الذي يحددها بل هو الذي يختارها. إن كان المفكر عليمًا بعديدٍ من التنظيمات التي صدرت عن تجارب سابقة مشابهة. فإذا ما أيد الواقع إحداها، تكون صادرة عنه وتنتمي إليه أكثر من صدورها عن قياس أو انتمائها إلى تجربةٍ عامة شائعة. وقد يكون ما يفرضه الواقع أكثر تقدمًا بكثيرٍ مما تتطلبه النظرية، وبل ونظرية التقدم بالذات. فالواقع هو مصدر الفكر سواء الفكر المصاغ سلفًا أو الفكر الجديد الذي ما زال يبحث عن صياغة. الواقع هو مصداق النظرية ومحك علميتها؛ ومن ثم كان النقاش حول أي النظريات نأخذ نقاشًا زائفًا لأن الواقع يفرض نظريته.
وهو الذي يرى مهمته في نقل واقعه من مرحلةٍ إلى أخرى. وتكون مهمة جيله دون أن يتمنى أن يتحول مجتمعه النامي بين يومٍ وليلة إلى مجتمعٍ متقدم؛ أي إنه هو الذي على وعيٍ تام بتقدم التاريخ وبما يمكن له في جيله أن ينجزه دون خلط بين مهام الأجيال. قد تكون مهمة جيله تحويل الدين إلى أيديولوجية وليس تحويل الأيديولوجية إلى أيديولوجيةٍ علمية، أو قد تكون مهمة جيله التنوير لا التغيير؛ فالتنوير هو شرط التغيير، أو قد تكون مهمة جيله الإصلاح لا الثورة؛ لأن الإصلاح هو الثورة الدائمة، أو قد تكون مهمة جيله في مزيدٍ من العقلانية للقديم وليس في رفض القديم كله. لا يعني ذلك الوقوع في نظرةٍ آلية لمراحل التقدم، بل يعني أن الفكر على وعيٍ تام بما يمكن عمله في عصره، وبما يمكن عمله في العصور التالية وهذا هو لب الواقعية.
لقد أعطى الفلاسفة قديمًا للمفكر هذا الدور، فتحدث أفلاطون عن الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك، وذلك لا يعني التوحيد بينهما بقدر ما يدل على الدور القيادي للمفكر من حيث هو منظر للأحداث، كما فعل فشته في «نظرية العلم» لمقاومة المحتل بالكفاح المسلح، وفي «الدولة التجارية المغلقة» كنموذج للاستقلال الاقتصادي.
أولًا: بعض المخاطر التي تهدد المفكر في البلاد النامية
يتعرض المفكر في البلاد النامية لبعض المخاطر، عليه أولًا أن يتجنبها حتى يمكنه القيام بدوره، وإلا جرفه التيار وأصبح مكانه شاغرًا ينتظر من هو أكثر منه حسمًا وصلابة. وقد تكون هذه المخاطر خارجية من واقعه، وقد تكون داخلية من نفسه، حين لا تستطيع التغلب على المخاطر الخارجية.
المخاطر الخارجية
وتبدو المخاطر الخارجية في صورة إغراءات يعرضها الواقع مرةً على استحياء ومرةً في فضاحة، حتى لا يقوم المفكر بدوره بل ليقوم بالدور المضاد. وأهم هذه الإغراءات هي:
(١) إغراء السلطة
وهو أول إغراء يتعرض له المفكر؛ فعندما يبدأ مهمته، وهو ناشئ من صفوف الشعب، وعندما يبدأ أثره في الظهور، وتتجمع حوله جماهير المثقفين، تلوح له السلطة بأن يكون جزءًا منها وترمي بذلك لغرضين؛ الأول: ظهور السلطة بمظهر الباحث عن القيادات الشريفة؛ وبالتالي التستر وراءها وفعل ما تريد وراء هذه الواجهة الشريفة. والثاني شراء المفكر عن طريق إثارة حب السلطة فيه، وإذاقته لذة الأمر والنهي، حتى يصبح جزءًا من السلطة ويصبح مبررًا لها ولأفعالها، بل إنه يصل في بعض الأحيان إلى أن ينقلب على مصدره الأول الذي خرج منه، وهو الشعب، ويصبح أداةً في يد السلطة تسخره كيف تشاء. قد يلبي المفكر أولًا نداء السلطة له عن طيب خاطر، وعن نيةٍ في إفادة مجتمعه بخبرته؛ وذلك لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولكنه ينتهي في النهاية إلى الذوبان في السلطة، وإلى تبرير ما تفعله ويتحول من مناضلٍ إلى مبرر، وبعد أن تشعر السلطة أنه أصبح آلة في يدها تستخدمه كيف تشاء، وتنقله من مكانٍ إلى آخر، وهو لا يستطيع لها رفضًا، حتى إذا استهلكته عن آخره أو حين يفقد القدرة على التبرير الذكي، ويكرر تبريره القديم الذي لا يلاحق الأحداث، والذي لا تكشفه الجماهير، لفظته خارجها إما بفضيحةٍ أو في صمت؛ بفضيحةٍ حتى تكشفه للجماهير التي وثقت به أولًا، وحتى تحمِّله أخطاء السلطة باعتباره هو المسئول عنها؛ وبذلك يكون هو كبش الفداء وتخرج السلطة نظيفة بريئة، أو في صمتٍ عندما يعصاها المفكر، أو ينذرها بالعصيان فتشتري صمته بأي ثمنٍ يرضاه. وتتعامل السلطة مع كل المفكرين تباعًا، مفكرًا إثر مفكر حتى تقضي عليهم جميعًا. وتكون النهاية كشف المفكر أمام مواطنيه والقضاء على أثره، بعد أن يفقد المواطنون ثقتهم فيه.
مهمة المفكر الشريف إذن هي مقاومة إغراء السلطة، وبقاؤه معبرًا عن الجماهير والمضحي في سبيلها، لا يتأخر عن قول كلمة حق بل ولا يندمج في السلطة بتاتًا، ويظل شوكةً في جسدها كما يصف كيركجارد الفيلسوف، ويظل عينًا مفتوحة على تصرفاتها والرقيب على أفعالها، ومنفذًا يعبر منه الرأي العام عن نفسه، ولا ينال عن فكره أجرًا أيًّا كان. فقد عُرضت على ابن تيمية الوزارة نتيجة بلائه في الحروب الصليبية وإفتائه للمسلمين، ولكنه أصر على بيع الحاكم وإقصائه لأنه لم يكن حرًّا.
(٢) إغراء المنصب
وإذا كان المفكر لا يخشى منه كثيرًا، فإنه كثيرًا ما يتعرض لإغراء المنصب ويوضع في مكان الصدارة، ويكون الهدف من ذلك شيئين؛ الأول: تحميله أخطاء السلطة إن ثارت الجماهير عليها، وتشويه سمعته حتى تضيع الثقة بينه وبينهم، والثاني تحويله إلى عبدٍ للمنصب، بعد أن يذوق طعمه سواء في المكتب الوثير أو في عدد السعاة الذين يقومون ويقعدون، أو في اللجان المستمرة وجلوسه مع مشاهير القوم ووجهائهم.
ويحدث ذلك دائمًا للمفكرين المناضلين الذين لهم تاريخٌ طويل من النضال السياسي؛ فقد تم إغراؤهم بالمناصب فذابوا فيها، وعاشوا على تاريخهم القديم، فكان نضالهم طريقًا إلى المنصب، ويكونون عنوانًا على كل مناضلٍ زائف، يستغل نضاله من أجل الوصول، أو علامة زائفة لقيادةٍ مزعومة للأجيال الجديدة التي تغتر بهم وتعتبرهم زعماء للنضال. ولكن الأجيال الواعية تلفظهم باعتبارهم مراجعين أو أكثر من ذلك، وتستمر في النضال بدونهم، وتخلق من أنفسها قيادات جديدة أكثر حزمًا وأشد أصالة. فإذا كانوا في موقعٍ فكري أصبحوا ملكيين أكثر من الملك، بعد أن أصبحوا جزءًا من جهاز الدولة لا من الثورة، وبكثرة التكرار يعتقدون تبريرهم ويدافعون عنه كعقيدةٍ ويجدون لها المبررات الجديدة ويزيدون عليها من ذكائهم وثقافتهم حتى يختلط الحق بالباطل ويخرج للناس ممزوجًا تعمى أمامه الأبصار، وغالبًا ما تُعطى لهم قيادة الرأي العام في الصحافة والمؤسسات الثقافية والفنية ودور النشر وأجهزة الإعلام حتى تضمن السلطة توجيه الرأي العام كما تشاء. وهكذا يعيش المفكر بواجهته الرسمية أولًا وهو غير راضٍ بينه وبين نفسه على ما يقول ويفعل، ولكن هذه الواجهة تتحول بعد ذلك إلى اعتقادٍ باطني بطول الألفة لها؛ مساومة وراء أخرى حتى يصبح المفكر مجموعة من المساومات وهو يظن أنه مفكر مناضل.
وقد يرفض المفكرون الأكثر صلابة كل إغراءات المنصب، بل ويؤثرون البقاء حيث هم مقيدي الحركة في أقل نطاق ممكن، علامة لمجتمعهم على شرف الكلمة وأمانة الفكر.
(٣) إغراء المال
فإذا لم يبلغ المفكر من الصلابة القدر الذي يجعله يتعرض لإغراء السلطة أو المنصب، فإنه يتعرض لإغراء المال خاصة في مجتمع نامٍ أصبح فيه البحث عن لقمة العيش هدفًا وغاية. فيعطى المفكر الناشئ أكثر مما يستحق حتى يتذوق طعم المال وحتى يصبح عبدًا له. وسرعان ما يعيش كوجهاء القوم. فإذا كان ممن لهم صولة في الفكر والأدب عُرض عليه ما هو جدير لمثله جزاء صمته سواء كتب أم لم يكتب. ولا يعصى أحد عن ذلك تقريبًا، ويكون مصيره إما التواطؤ بالصمت أو التبرير بالحديث المأفون. لقد أصبح المفكر في كثيرٍ من البلاد النامية عملًا إضافيًّا يؤجر المفكر عليه. وقد بلغت نسبة الأجر الإضافي للمفكر في بعض الأحيان مثل أجره من عمله اليومي أو يزيد أضعافًا. وقد كان سقراط يعلم الناس بلا أجر، وكذلك الأنبياء والمرسلون الذين دعوا الناس بلا أجر. بل إن المفكر الأصيل هو الذي يكتب ويساهم بالمال من أجل إنشاء جريدة أو مجلة؛ فقد نشأت معظم المجلات الملتزمة بقضية على هذا النحو، وعاش معظم المفكرين الذين يدعون لفكرة على هذا المنوال. العمل الفكري كالعمل السياسي تحقيق لرسالةٍ لا يؤجر المفكر أو السياسي عليها، ويكون أجره الوحيد في هذه الحالة هو رؤية أثره في مجتمعه ورؤية التقدم الذي يبغيه وقد تحققت بشائره بالفعل.
وإذا كان من الشبان الذين ما زالوا في أول الطريق فإنه سرعان ما يقع فريسة للإغراء، ويبعد عن طريق الكفاح المحفوف بالمخاطر، ما دام سبيل الوصول إليه ميسورًا ويضع فكره في خدمة الأمير، كما كان يفعل الشعراء القدامى في مدح الخليفة من أجل كيس الذهب، إلا أن المدح القديم كان سافرًا مفضوحًا، في حين أن المدح المعاصر مقنَّع في صيغة البحث العلمي أو التحليل السياسي أو التوجيه الفني أو الوعظ الديني.
ولكن قد يرفض البعض أكياس الخليفة، ويظل على ما يقيم به أوده مؤثِرًا حياة الكفاف، كما يظل علامة لعصره على صلابة الالتزام وعلى رفض تفاهة العصر، ويظل شاهدًا على شرف الكلمة وأمانة الفكر. قد تحاول السلطة من جانبها عدم تركه في هدوءٍ، فتضع أمامه العراقيل وتحيك حوله المؤامرات، وتحاربه في لقمة العيش حتى ينتهي إلى الرضوخ، أو الجنون، أو الموت جوعًا.
(٤) إغراء الشهرة
فإذا رضي المفكر بأقل القليل لم تُعرض عليه السلطة أو المنصب أو المال، بل تعرض عليه الشهرة عن طريق الإعلان المباشر، فيصبح صحفيًّا أو فنانًا، أو يوضع في مكان الصدارة كواجهة أمام عدسات التصوير. وقد تأتي الشهرة من خلال القيادات الحزبية التي يظهر فيها الأفراد أمام الشعب ويلعبون دور الأمير الصغير على مستوى الأحياء أو في الهيئات والجامعات، وأصبح أمام كل من يريد الشهرة بأي ثمن طريق واحد، وهو الانضمام إلى التنظيمات السياسية أو الاتصال بالسلطة في أحد مستوياتها للإعلان عن وجوده بأية وسيلة كما يفعل اليسار الزائف الذي يعلن عن يساريته من أجل امتصاص السلطة له.
وتُكثر أجهزة الإعلام من الحديث عن المفكرين وتنشر صورهم وآراءهم، وتُعقد الندوات والجلسات معهم، ويعاد بناء المجتمع في جلسة وتتحقق المشروعات في ندوة، ويرسَلون إلى الخارج في زياراتٍ مستمرة ولرئاسة المؤتمرات حتى تتحقق ذواتهم الجديدة، ويتحدثوا باسم الشعب، ويتصوروا أنهم المعبرون عنه.
فإذا أصبح المفكر عبدًا للسلطة والمنصب والمال والشهرة، واستيقظ ضميره يومًا ما أو زاح عن عينيه نقاب النفاق والازدواجية لفظته السلطة باعتباره ناكرًا للجميل وجاحدًا للنعمة، والتقى برفيقه القديم في النضال الذي لم تستطع السلطة شراءه، ويتحقق من أنه لقي نفس المصير بعد أن خسر شرفه.
قد يظل البعض مطويًّا وراء الجدران في ظل النسيان، ويكون صمته في هذه الحالة علامة على صوت الشرفاء في العصر.
المخاطر الداخلية
أما المخاطر الداخلية فهي تلك التي يتعرض لها المفكر من داخل نفسه بعد طول وجوده في مثل هذا المجتمع الذي يلقي له بالسلطة حتى تتصيده؛ أي إنها هي المخاطر الخارجية عندما تتحول إلى أبنيةٍ نفسية وتصبح إغراءات داخلية يقدمها المفكر إلى نفسه، ويجد لها تبريرًا خاصةً إذا لم تلتفت السلطة لمفكرٍ بعينه والتفتت إلى غيره؛ ومن ثم تظهر الإغراءات لديه كشوقٍ غير مشبع يتحول إلى دوافع نفسية أو إلى أقانيم تقرب إلى حد التقديس. وأهم هذه المخاطر هي:
(١) التطلع
يجد المفكر نفسه وقد وقع فريسةً لعدم وجود سياسة ثابتة للأجور تتناسب مع طبيعة العمل وحده؛ إذ تتحدد الأجور طبقًا لمكانة الفرد أو نوعية المؤسسة أو لقيمة العمل المسدى للسلطة، أو للغاية الأخيرة التي يهدف إليها العمل، أو للمزاج الشخصي لرئيس المؤسسة الذي تحدده الصداقة أو القرابة أو الواسطة. تتغير سياسة الأجور يوميًّا؛ فمرة ترفع البدلات ومرةً تخفض، وترفع القضايا أمام المحاكم يوميًّا من أجل الفصل في المنازعات المالية بين الجمهور والسلطة.
وهكذا أصبح همُّ الفئات جميعًا المحافظة على دخلٍ مناسب أو المطالبة بزيادةٍ في الأجور. يشتكي الدبلوماسيون من شظف العيش في الخارج، وأنهم لا بد أن يعيشوا في مستوى رفيع يليق ببلدهم النامي الفقير، ولا بد أن يتمتعوا بإعفاءات جمركية وبتسهيلات ضريبية؛ لأنهم يؤدون إلى الوطن أروع الخدمات. ويتطلع المبعوثون في الخارج لما يرونه أمامهم من مساكن تدفعها الدولة ومن العيش المترف للدبلوماسيين، فينادون بالمساواة معهم وبرفع مستواهم مثلهم ويشكون أيضًا من شظف العيش. وفي الداخل يتطلع الصحفيون ومن يعملون بأجهزة الإعلام إلى أجور الفنانين، كما يتطلع المثقفون إلى أجور المشتغلين بالإعلام، ويتمنون الوصول إلى دخول الراقصات والمغنين والمنشدين والمقرئين. وتستمر التطلعات من طبقةٍ إلى طبقة، كل طبقة تتطلع إلى الطبقة الأعلى منها دخلًا، وبين هذه الطبقات المتنافسة جميعًا وبين الطبقات المعدمة — وهي طبقة الأغلبية — فرقٌ شاسع، وهو الفرق بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئًا؛ بين من يعتبرون الدخل القومي ملكًا لهم وبين من هم الأصل في الدخل القومي ومصدره الذين يعتبرونه غريبًا عنهم، خرج منهم ولن يعود إليهم. وتستمر التطلعات وتمتد وتحاول كل طبقة المطالبة بتأييد السلطة لها. وإن فشلت في ذلك صراحةً تحاول التأثير عليها من الخارج، أو التسلل إليها وسيادتها من الداخل عن طريق التعيين المباشر، أو عن طريق تنفيذ القرارات وصياغة التوجيهات وإعطاء النصائح واقتراح الحلول. فإن فشلت في ذلك حاولت التغلب على السلطة وسيادتها وتسخيرها لها، مع إبقائها كصورةٍ وواجهة خارجية أو مع القضاء عليها نهائيًّا كما يحدث في الانقلابات الداخلية، عندما يتحول الحكم من صالح طبقة إلى صالح طبقةٍ أخرى.
(٢) التكسب
فإذا لم يستطع المفكر الوصول إلى مكاسب طبقية، فإنه يرضى بالتكسب وهو باقٍ في طبقته الخاصة، وجعل جل همه جمع المال وتكديس الثروة على حساب شرف الكلمة، أو على حساب البحث المستفيض والعمق المطلوب منه. وتبدو مظاهر التكسب في تجارة المؤلفات، وفي السعي وراء الربح بأي ثمن، خاصةً في مجتمع أصبح كل همه كيف يبحث عن لقمة العيش، ولم تعد فيه مُثل يمكن للإنسان أن يعمل من أجلها. بل إن السلطة تحارب هذه المُثل وتجعل الجماهير تجري وراء لقمة العيش، حتى يعكف كل فرد على شأنه ويجد في المحافظة أولًا على وجوده الفيزيقي ما يشغله. فإذا لم يكفه الطريق الطبيعي سلك كل السبل الشاذة من أجل الحصول على المال، من تزييفٍ ورشوة صريحة أو مقنَّعة أو تجارة أو شراء للأراضي واستغلالها. وتنشأ أنماط للسلوك تحددها علاقات التكسب، كما تنشأ مُثل جديدة ومقاييس للنجاح، أبعد ما تكون عن مُثل الفكر، ويتحول المجتمع الذي يعلن عن روحانياته ومعاداته للماديات إلى مجتمعٍ يوجهه المال ويقوم على عبادة القرش. ولا يكون هناك فرق في هذه الحالة بين المفكر وبائع الخيش أو النحاس أو الحديد الخردة. وتُتهم كل الدعوات التي تدعو إلى تغيير مُثل المجتمع، إلى مُثل جديدة؛ تُتهم بالإلحاد والكفر والمادية واليسارية المتطرفة!
(٣) الانعزال
فإذا لم يستطع المفكر أن يتطلع أو يتكسب، فإنه يعكف على شأنه ويشغل نفسه بأمور معاشه، بأسرته ومجتمعه الضيق، ولا يخرج عن هذه الدائرة، يعيش في عالمه الصغير ولا يطالب إلا باستحياء وفي غفلةٍ من الآخرين ولا يطلب منه شيء. وإن تحدث في الأمور العامة فإن حديثه يكون أقرب إلى السمر وإلى ضياع الوقت. ويعيش المفكر على هذا النحو يومًا بعد يوم حتى تضيع عنه صفة المفكر ويصبح واحدًا كالآخرين همُّه قوته ومعاشه، حياته ومماته؛ يساري إذا ظهر اليسار فعسى أن يجد عنده رزقًا، ويميني إذا ظهر اليمين ووجد فيه تحقيقًا لمصلحة، ليس له مبدأ أو غاية ولكنه ينتهز الفرصة حتى يخرج من انعزاله ويركب الموجة الجديدة، بعد أن لفظه العصر ونسيته السلطة مهما لوَّح لها من بعيد.
يود الحياة والاستقرار، وكل حركة في الواقع بالنسبة له مشاغبة وإقلاق للراحة.
(٤) الهجرة
فإذا لم يتطلع المفكر أو يتكسب ثم انعزل، فإنه يبدأ التفكير في حال المفكرين في البلاد المتقدمة، وما يتمتعون به من مزايا يجد نفسه محرومًا منها. ثم يشعر بنفسه وقد انتشر وتحقق هناك، فيعيش ببدنه في الداخل وبوجدانه في الخارج حتى يشد الرحال ويهاجر. وهجرة المفكرين من البلاد النامية إلى البلاد المتقدمة خيانة وطنية، بالرغم مما يقال عنها يوميًّا لتبريرها ممن يودون أن يكونوا هم وحدهم المستفيدون، والذين لا يودون المنافسة من أقرانهم، حتى لا ينازعوهم مكاسبهم أو يكشفوا عوراتهم الفكرية.
ولا يقال إن المفكر المهاجر لا يستطيع العمل في بلده النامي، بل ولا يستطيع الرجوع إليه أبدًا؛ لأنه لا يشعر بالأمان ولأنه مهددٌ في وجوده الفيزيقي، ومهددٌ في حرية قوله وفعله وفي قوت يومه. وإن الأولى به أن يفكر وهو حرٌّ طليق؛ وذلك لأن المفكر الشريف لا يتوانى لحظةً في أن يعلن عن نفسه؛ ولأن الحرية في القول والعمل مكفولة لكل مفكرٍ حر أمين على واقعه، صائب النظر، لا يتعجل الأمور، وينتظر أثر قوله وفعله كما انتظر الأنبياء من قبل ثمرة دعواتهم. لقد أعلن عمر بن الخطاب يوم دخوله في الإسلام عن إيمانه الجديد داخل الكعبة شاهرًا سيفه ولم يتعرض له أحد. فالفكر الشريف هو بالضرورة فكر علني، فلا خوف إذن على وجود المفكر الفيزيقي أن تقيد حركته ما دام يبغي الكلمة الشريفة، وكلمة الحق لا ترد خاوية، والعمل السياسي لا يكون بالضرورة عملًا فاضحًا، بل قد يكون أيضًا عملًا بطيئًا ناميًا، يهدف إلى ما هو أبعد من اللحظة الحاضرة؛ فالمفكر لا يخطط لجيلٍ واحد بل لأجيالٍ عدة، ولا يفكر للحظة الحاضرة بل للمستقبل؛ فالتاريخ لا يقاس باللحظات. ولا يقال إن المفكرين قد تركوا ألمانيا إبان الحكم النازي لأنه لم يكن بالإمكان عمل شيء، فلم يصل الحال في البلاد النامية إلى هذا الحد، وما زال يمكن عمل الكثير. لقد هاجر بعض المفكرين الروس بعد الثورة الروسية، ولكنهم انتهوا إلى الانضمام إلى الرجعية الغربية، وقدسوا مُثل مجتمعهم الجديد، كما يحدث لبعض مهاجري البلاد النامية، والذين ينتهي بهم المطاف إلى تمثلهم لقيم المجتمع الجديد، فيتخلوا عن الجنسية واللغة، ولكن لون البشرة والشارب الأسود واللكنة الأجنبية، كل ذلك يظل عنوانًا عليهم تلفظهم المجتمعات العنصرية الجديدة لأجله، مهما تأقلموا وأصبحوا آباء لأبناء مخلطين.
ولا يقال إن المفكر مهما علم وناضل فإن حصيلة جهده ضئيلة. هل يستطيع أن يغير من الفقر الذي دام خمسة آلاف سنة؟ هل يستطيع أن يغير من الجهل الذي يطبق على مجتمع أربعة أخماسه من الأميين والخمس الباقي أمية مقنَّعة؟ هل يستطيع أن يثقف الشباب في الجامعة وأن يعطيهم منهجًا ومعظمهم يود شهادة تكفل لهم الحد الأدنى من العيش؟ هل يستطيع أن يقول كلمة شريفة في الصحافة أو في أجهزة الإعلام وقد طغى عليها الفكر التبريري وغصت بالتعايشيين والمرتزقة؟ هل يستطيع أن يبحث في مجتمعٍ لا يقدِّر الباحثين، أو أن يفكر في مجتمعٍ لا يحترم المفكرين، أو أن يرشد أو ينصح في بلدٍ النصائح فيه في وادٍ والتطبيق في وادٍ آخر؟ كل ذلك نكوص وتراجع وتخلٍّ عن المسئولية وقول بلا عمل. يكفي للمفكر أن يضع حجرًا ثم يضع الآخر وراءه مثله حتى يتم البناء، فتقدُّم المجتمعات النامية ليست مهمة جيل واحد بل مهمة أجيال عدة. ومن الذي سيغير الفقر والذي شعر به مهاجر هارب؟ ومن الذي سيجند الجماهير إذا كان السياسي القائد مهاجر هارب؟ ومن الذي سيرفع مستوى التعليم بالجامعات النامية لو هاجر معظم أساتذتها؟ ومن الذي سيلقي بالكلمة الشريفة على الملأ إن هاجر الشرفاء واكتفوا بالنعي والعواء؟ إن الذي يعمل خارجًا في البلاد النامية ويده في الطين، غير الذي يتشدق بالحديث وهو خارجها ويكتفي بإلقاء التهم أو توجيه النصائح من بعيد. إن الذي يعمل في البلاد النامية ليس في حاجةٍ إلى تقدير أو ثناء أو مدح، يكفيه ما يراه من تغييرٍ حثيث في الواقع. يكفي أستاذ الجامعة عدد محدد من طلبته تأثروا به، ويكفي المفكر الشاب تجمُّع المثقفين حوله وممارسة أحد ألون الفكر الجماعي.
ولا يقال إن المهاجر في الخارج تتاح له فرصة أعظم كي يخدم وطنه أكثر مما تتاح له في الداخل؛ وذلك لأنه سيبحث ويؤلف ويعرِّف البيئة الغربية بفكر قومه وتراثهم، والحقيقة أن المستفيد أولًا وأخيرًا هي البيئات الثقافية في الخرج، وأن كثيرًا من الرسائل الجامعية التي تقام على البلاد النامية باللغات الأجنبية لتجعل صورتها في البيئات الثقافية في الخارج أكثر وضوحًا من صورتها عندها؛ وبذلك تحرم البلاد النامية من دراساتٍ عليها كان الأجدى أن تكتب بلغاتها الوطنية. صحيح أن التعريف بالمجتمعات النامية واجب ولكن الترجمة أمرٌ ميسور، ولأبحاثنا الجادة أن تفرض نفسها على البيئة الغربية فتترجمها وتتعرف عليها، حتى تنشأ حركة ترجمة من المجتمعات النامية إلى المجتمعات المتقدمة، بدل أن تكون كما هو الحال الآن من طرف واحد؛ أعني من المجتمعات المتقدمة إلى المجتمعات النامية. وإن كثيرًا من الدراسات عن مشاكلنا وفكرنا المعاصر مكتوبة باللغات الأجنبية في الجامعات الأوروبية يقوم بها باحثونا، حتى لقد أصبح التعرف على بيئتنا مرهون بالخروج منها إلى المجتمعات المتقدمة. مهمة المفكر المهاجر هي في داخل مجتمعه، فمثله يوجد العشرات في المجتمعات المتقدمة تسرق الخبرات من المجتمعات النامية أكثر مما تعطيها، خدمةً لنفسها وليس خدمة للباحثين. ونحن بديلًا عن ذلك نقوم باستيراد المفكرين من المجتمعات المتقدمة ونستشيرهم في أخص أمورنا الفكرية والحضارية، والخبير العلمي ليس كالمفكر. فإذا أمكن الاستفادة من الأول في نهضتنا الصناعية فإنه لا يمكن الاستفادة من الثاني؛ لأنه لا يشعر بنمونا الحضاري كما يشعر به المفكر المواطن. الفكر كالسياسة؛ فكما لا يحكمنا قائدٌ من الخارج كذلك لا يفكر لنا مفكرٌ من الخارج، وغالبًا ما يأتي المفكر من الخارج، بعد أن تأثر بحسن ضيافتنا له، ويلقي بالورود، ونحن نلقي بالثناء والشكر، وتتحول المقابلات عادةً إلى مجاملات. بل يدعى المفكر المهاجر كما يدعى المفكرون الأجانب، وتُعقد لهم الندوات، وتُصرف عليهم المئات، وتُجهز لهم دور المحاضرات، وتؤجر لهم السماعات. وما أغنانا عن هذا كله لو رجع مفكرونا المهاجرون، أو لو قام مفكرونا بالداخل بهذه المهمة وهم عليها قادرون.
ولا يقال إن المفكر المهاجر يثبت، بوجوده في الخارج، أن هناك على الأقل واحدًا أو اثنين من بني وطنه على المستوى العالمي من الفكر والبحث، وأن الناس في المجتمعات النامية ليسوا كلهم أغنامًا، وأن بهم من تشهد لهم المجتمعات المتقدمة بالتفوق والمكانة، والحقيقة أن هذا الأمر أشد ثلبًا للمجتمعات النامية؛ لأن المفكر المهاجر يصور نفسه على أنه منفصلٌ عن القطيع، يطلب الثناء لنفسه ويقبل ثلب قومه. ويسر المجتمعات المتقدمة تملقه من أجل شرائه وإدماجه نهائيًّا فيها، وإرضاء ذاته من الغرباء عنه ونكران جميل مع قومه.
وما يقال على المفكر يقال على جماهير المثقفين؛ لأنهم جمهوره ولأنهم ببقائهم في الداخل يصبحون وسيلة ضغط اجتماعي لإصلاح التعليم ولتغيير البناء الاجتماعي كله ولإحداث التطور المرموق.
ثانيًا: أشكال التعبير المزدوجة وحيرة المفكر أمامها
قلنا إن دور المفكر في البلاد النامية يعبر عن أزمته، وأزمته تعبيرٌ عن حيرته؛ إذ يجد نفسه بين طريقين في أسلوبه ومنهجه وغايته وأثره وسلوكه، وعلاقاته مع الآخرين يجب اختيار أحدهما أو كليهما معًا؛ فهذان الطريقان ليسا بالضرورة متعارضَين بل هما شكلان من التعبير، يجد المفكر نفسه مضطرًّا للتعبير عن نفسه من خلالهما؛ خاصةً لأنه محصورٌ بين السلطة من ناحية وبين الجمهور من ناحيةٍ أخرى. ويمكن الإفاضة في هذه الأشكال إلى ما لا نهاية، ولكننا اقتصرنا على ما يتعلق بأوضح الأشكال؛ لأنه من الصعب التفرقة بين أشكال التعبير ومضمونه، وأوجزناها في ثمانية:
(١) الأسلوب المباشر أم الأسلوب غير المباشر؟
يجد المفكر أمامه شكلين من أشكال التعبير: الأسلوب المباشر والأسلوب غير المباشر. الأول هو أن يعبر المفكر عن مضمون فكره صراحةً، وأن يكون مقياس التعبير هو المضمون نفسه بصرف النظر عمن يوجه إليهم المفكر هذا الفكر سواء كانوا من السلطة أم من جماهير القراء. الأسلوب المباشر هو أن يكون هدف المفكر هو التعبير عما يراه، وعما وصل إليه في دراسته للواقع بصرف النظر عن مدى الصدمة التي تتلقاها الجماهير، أو مدى الخطورة التي قد يتعرض لها المفكر من جانب السلطة، وأقلها تقييد حريته في التعبير. فهناك مثلًا بعض الموضوعات التي تعتبرها الجماهير من باب المقدسات، ولا يمكن دراستها دراسة علمية أو الانتهاء فيها إلى نتائج، تعارض ما تؤمن به وما هو موجود في تاريخها الطويل. فإن خاطبها المفكر بالأسلوب المباشر اهتز وجدانها وحدثت البلبلة فيه، وربما ثارت عليه ورفضته أو تحجرت كرد فعل على من يحاول سلبها أعز مقدساتها، ويكون المفكر هنا هو الضحية، فلا هو اكتسبها إلى جانبه ولا هو حافظ على نفسه وعلى صورته في أذهانهم كمفكرٍ طليعي لهم.
والأمر أخطر أمامه بالنسبة للسلطة، فمهمة المفكر تغيير واقعه، والسلطة كعادتها تبغي البقاء على الأوضاع كما هي عليه؛ لأنها تود إحداث التغيير بفعلها وبأمرٍ منها وبقراراتٍ تصدرها وبقدر ما تسمح به. فإذا أراد المفكر تغييرًا أكثر جذرية وعبر عن ذلك صراحةً بالأسلوب المباشر، فإنه يصطدم مع السلطة لا محالة، خاصة إذا كان يكتب علانية في المجلات الثقافية التي تملكها الدولة، وينشر في دور نشرها التي تخضع لرقابة الدولة، أو يكتب في صحافتها التي تملكها أجهزتها.
لذلك يجد المفكر نفسه أمام الشكل الثاني، وهو الأسلوب غير المباشر. فكما أن الأديب لديه الرمز كوسيلةٍ مباشرة للتعبير كذلك لدى المفكر وسائله غير المباشرة وعلى رأسها الحديث من خلال الآخرين متسترًا وراء آرائهم؛ أي إن المفكر يقوم في مثل هذه الحالة باختيار مواقف من تاريخ الفكر البشري تشبه الوضع الحالي ثم يتحدث عن الموقف التاريخي القديم. يختار المفكر، كي يعبر عن فكره، أقرب المفكرين السابقين إليه الذين تحدثوا عن أشياء متشابهة وكانت لهم نفس المواقف. فالمواقف الفلسفية أنماط من الفكر وحدوس ثابتة مهما تغيرت العصور، ثم يعرض لهم بالتعريف والعرض والشرح سواء بروحٍ موضوعية تامة، حتى يتعرف القراء على أنماط فكرية أخرى أكثر تقدمًا مما لديهم في نفس الموضوعات؛ وبذلك ينال غرضين في نفس الوقت: التعريف بالحضارات الأخرى وإعطاء التقدم في حضارته دفعة جديدة، أو يزيد عليه ما لم يقله في معرض النقد أو التصحيح، أو يجعله يقول ما يريد عن طريق تأويل آرائه. وذلك لا يخرج عن العلمية في شيءٍ؛ لأنه يرى في القديم احتياجات العصر كما هو الحال مع تفسير النصوص الدينية أو في تأويل الأفكار الفلسفية القديمة. وعلى هذا النحو يحتاط المفكر ويجد لنفسه ستارًا للأمان، ومن ثم يمكنه مواصلة عمله في أمنٍ وسلام.
ولكن إذا نجح هذا الأسلوب غير المباشر مع السلطة التي لا تعرف جيدًا تاريخ الفكر البشري، ولا تدري عن مناهج التأويل شيئًا وقراءة القديم بنظرة جديدة — وهذا هو الفرق بين المؤرخ والفيلسوف — ولا تستطيع في الغالب أن تذهب إلى ما وراء الدراسة العلمية الموضوعية، وأن تستشف ما بين السطور لشغلها بالقضايا المباشرة وبالوقائع الحسية التي هي أبعد ما تكون عن الفكر، كما عرفنا من هيجل، فإنه لا يؤدي أثره المطلوب على الجماهير؛ لأنها أيضًا تمارس القراءة السريعة ولا تستطيع النفاذ إلى ما بين السطور إلا القليل منها، لكثرة التحليلات التي يوردها المفكر كستارٍ للفكرة ولتحليله للواقع؛ ومن ثم كان أثره المباشر محدودًا. وهكذا يقع المفكر في حيرة: إذا استعمل الأسلوب المباشر في التعبير فإنه قد ينتج أثرًا مباشرًا، ويكون أكثر أمانة من حيث تطابق التعبير ومضمونه، ولكنه قد يصطدم بالسلطة وبالجماهير. وإذا تحدث بالأسلوب غير المباشر فإنه قد لا ينتج أثرًا مباشرًا، ولكنه يكسب الجماهير شيئًا فشيئًا ولا يصطدم مع السلطة، ويمكنه أن يستمر في أداء رسالته. قد يكون هذا الاختيار الثاني أجدى على المدى الطويل، بالرغم مما يعطيه هذا الأسلوب غير المباشر من إحساسٍ بعدم الأمانة الفكرية لتستُّره وراء أفكار الآخرين، أو بنقص في شجاعته، أو بوهنٍ في ثوريته أو بنسبية سلوكه في عصرٍ يحتاج إلى حسم وحلول جذرية تفرض أشكال تعبير صريحة. يوحي المفكر بالموضوعية في حين أنه يسلط أفكار الآخرين على واقعه، ولكن عزاءه في ذلك أن الموضوعية في الإنسانيات غير الموضوعية في الطبيعيات، وأن القراءة الجديدة التي يقوم بها الفيلسوف للقديم قد تكون أكثر موضوعية من قراءة المؤرخ له؛ إذ لا تعني الموضوعية التصوير المائت الذي لا حركة فيه ولا غاية منه. عزاؤه أيضًا أن الواقع يتقبل فكره؛ لأن الواقع هو في الحقيقة مصدر الفكر المعلن، وإن كان ملحقًا بأسماء الآخرين. عزاؤه أيضًا أنه يبغي أكبر أثر ممكن على واقعه؛ ولذلك يعطي الأولوية للأثر العملي على البحث النظري. وعزاؤه أخيرًا أنه ينتظر حتى إذا واتته الظروف فإنه يزيح القناع ويستعمل شكر التعبير المباشر، وكثيرٌ من المفكرين القدماء كانوا مقنَّعين.
(٢) الكلمة المسموعة أم الكلمة المقروءة؟
يجد المفكر نفسه أيضًا موزعًا بين طريقين؛ فهو مفكرٌ متصل بالجماهير ويجد نفسه مضطرًّا للحديث الشفاهي معها، واستعمال الكلمة المسموعة للتعبير عن فكره؛ فالأذن أكثر اتصالًا بالقلب من العين، أو كما يقال عادةً بالنسبة للكتاب المقدس، إن الكلمة الحية (المسموعة) خيرٌ من الكلمة الميتة (المكتوبة) … وقد تكون جلسة يعقدها المفكر مع بعض الملتفين حوله أفضل بكثيرٍ من مقالٍ يقرؤه عددٌ غفير. فالحديث الشفاهي له القدرة على إثارة الأذهان وجذب القلوب، خاصةً وأن المستمعين يرون المفكرين ويشعرون بقلبٍ ينبض وبفكرٍ يحيا. وقد اعتمد كثيرٌ من المفكرين — الأفغاني مثلًا — على الكلمة المسموعة أكثر مما اعتمد على الكلمة المكتوبة، فانتشرت آراؤه بين تلاميذه، وكانت أكثر فاعلية مما لو كان قد استعمل الكلمة المكتوبة. وقد سار في هذا الطريق من قبل كبار معلمي الإنسانية: سقراط والمسيح، فلم يترك سقراط وراءه كلامًا مكتوبًا بل آثارًا شفاهية خلدها أفلاطون في محاوراته، كما لم يترك المسيح وراءه كتابًا مكتوبًا، بل ترك كلمات شفاهية تناقلها الرواة ودوَّنها التلاميذ في أناجيلهم، وكانت كلمته الحية موجهة ضد كتبة اليهود، والأمر كذلك بالنسبة للحديث النبوي. بل إن قراءة القرآن بصوتٍ عالٍ أكثر أثرًا وفاعلية من القراءة الصامتة. ويمكن أن يقال بالمثل بالنسبة لأجهزة الإعلام المسموعة التي تعتبر أكثر فاعلية في توجيه الرأي العام من أجهزة الإعلام المقروءة؛ أعني الصحف والمجلات. وقد تكون المحاضرة الشفاهية أبقى أثرًا من تدوينها وطبعها وتوزيعها، أو كما يقول الصوفية قد تكون محادثة الحبيب أكثر أثرًا من قراءة خطاب منه. وإن الأمثلة الشعبية الشفاهية لأكثر توجيهًا لسلوك الجماهير من التعليمات المكتوبة لأجهزة الدولة.
ومع ذلك لا يستطيع المفكر أن يترك فكره دون تدوين، ويهمه دوره الحضاري وأن يدخل كجزءٍ في تاريخ حضارته، حتى يمكنه التأثير على مسارها وتغيير محورها إن أمكن. وإن كثيرًا من النقاش الفكري الذي يدور في جلسة بين المفكر وجمهوره، لهي أجدى بأن تتحول إلى نقاشٍ مفتوح بين الجمهور العريض، حتى يشارك فيها أكبر عدد ممكن من المثقفين. والفكر المكتوب بإمكانه التخلص من عيوب الفكر الشفاهي، كالانفعال الزائد والمقاطعة المستمرة، وحب الظهور وإظهار المعلومات وادعاء البطولة، والتعويض عن العجز عن المساهمة الفعلية. لقد كان التدوين مصير كل فكر شفاهي، فدونت المأثورات الشعبية كما دونت أقوال الأنبياء. وإن كثيرًا من أفكار الشباب لتضيع في الهواء؛ لأن ليس لديهم جريدة أو جرائد عديدة ملكهم تدون مناقشاتهم وتحفظ آراءهم. إن التدوين يدل على مرحلةٍ أعلى من الرقي الحضاري. فالفكر المقروء أكثر موضوعية من الفكر المسموع، وإنه لنفعٌ كبير للمفكر أن يعبر عن نفسه كتابة. ففي أثناء الكتابة تصاغ الأفكار ويتولد بعضها عن بعض. ولقد دخلت كثيرٌ من الأساطير في الكتب الدينية القديمة، بسبب التراث الشفاهي وحُفظت كثيرٌ أخرى لأنها مدونة، كما طالب البروتستانت بالتدوين حتى يخلِّصوا الكتاب مما علق به من تراثٍ خارجي شفاهي أو مدون.
تلك حيرة المفكر: أسلوبان كلاهما ممكن، وكلاهما يطابق قدرات المفكرين على التعبير، فمنهم من يتحدث ولا يكتب، ومنهم من يكتب ولا يتحدث، ومنهم من يتحدث بطريقةٍ ويكتب بطريقةٍ أخرى، ولكنه يرجو أن يتحدث ويكتب بنفس الطريقة.
(٣) الكتاب أم المقال؟
ومع ذلك يمكن للمفكر أن يتبع الأسلوبين: المقال الشهري والكتاب الطويل. الأول يتابع فيه الأحداث والثاني يتابع فيه الأبحاث. ويمكنه التوفيق بينهما إذا كانت مقالاته تدور حول فكرة واحدة؛ مثل موقفه من التراث المعاصر، يتناولها بالبحث والتفصيل على فترات، كما يمكنه التوفيق بينهما إذ لا فرق بين الكتاب الملتهب وبين المقال الموضوعي. ففي هذه الحالة يؤدي الكتاب دور المقال ويؤدي المقال دور الكتاب. لا غنى للمفكر عن الأسلوبين؛ فقد يكون الكتاب أدخل في التاريخ ولا يظهر أثره إلا بعد حياة المفكر. ولكن المقال قد يكون أدخل في تيارات العصر ويحدث أثره المطلوب في اللحظة الحاضرة. فمهمة المفكر تغيير المحور الحضاري للتراث القديم، والتأثير على واقعه المعاصر، ودفعه خطوة نحو الأمام وتجنيد الجماهير. ويمكن للمقال أن يقوم بتربية جماهير القراء، وبالتمهيد للكتاب حتى إذا صدر يجد له جمهوره، والجمهور في هذه الحالة خير سند للمفكر إذا ما تعرض للخطر باصطدامه مع السلطة. المقال هو رأس الحربة بالنسبة للكتاب، ويمكن للمفكر من خلاله جس نبض القراء والسلطة باستمرار.
(٤) التخصص الدقيق أم الثقافة العامة؟
ويجد المفكر نفسه بين مطلبين؛ الأول: التخصص في ميدان معين كما تقضي بذلك الحياة العصرية، وتقسيم العمل وقصر العمل، والثاني الثقافة العامة والإلمام بكل شيء، كما تقضي بذلك مهمة القائد أو المعلم أو الرسول؛ لأنه يجد نفسه مسئولًا عن كل شيء في مجتمعه. صحيح أن التخصص مطلوب في الحياة العملية المنتجة، وأن المجتمعات النامية تقاسي من نقص في التخصصات. وإن وُجد المتخصص فإنه يعمل في مكانٍ أبعد ما يكون عن تخصصه، ولكنها تتطلب في نفس الوقت ثقافةً عامة ونظرة شاملة للأمور، يمكن أن تعطيها أساسًا نظريًّا كافيًا لمسارها في التاريخ. وقد ترسل بعض المجتمعات النامية البعثات إلى الخارج، للتخصص في أمورٍ لا تتطلبها احتياجاتها الحاضرة، أو قد تكون مطلبًا ملحًّا في الأجيال القادمة بحجة اللحاق بمعدل التطور السريع، والاختيار معروض على الجماهير والمفكر على السواء، ولكن في المحل الأول على المفكر؛ لأنه هو وسيلة الاتصال بالجماهير؛ ولأن اختيار المفكر أولًا هو الذي سيحدد اختيار الجماهير.
قد يكون للمفكر تخصصه الدقيق الذي يعطيه إحساسًا بالأمان العلمي، وبأنه أيضًا استطاع الغوص في الواقع، وأن يكون باحثًا ومكتشفًا في ميدان تخصصه الذي يعطي ثقافته العامة شيئًا من الصلابة، ويكون بمثابة نقطة ارتكاز يقينية. وفي نفس الوقت قد لا يجد المفكر لديه الوقت لممارسة تخصصه وإجراء أبحاثه فيه؛ إذ تشغله الأمور العامة وتستغرق كل جهوده، فيصاب ميدان تخصصه بالضمور؛ فقد كان المهدي بن بركة أستاذًا في الرياضيات، قبل أن يصبح مناضلًا ثوريًّا. يمكن للمفكر في البلاد النامية التخصص في العلوم الإنسانية، ولكنها قد وصلت إلى حدٍّ من التعقيد يصعب معه التخصص فيها. قد يتخصص المفكر في الثورة أو في تثقيف الجماهير وتجنيدها ويكون بذلك قد آثر الثقافة الإنسانية العامة. حيرةٌ يقع فيها المفكر قد لا يجد لها مخرجًا نظريًّا. وربما كان العمل وحده هو القادر على أن يحسم الأمور النظرية التي لا يجد لها حلًّا.
(٥) عرض النظريات أم تحليل الأشياء؟
لقد دأب المفكر في البلاد النامية حتى الآن، إلا فيما ندر، على التعريف بالنظريات وعلى عرض المذاهب التي يكون المجتمع في حاجةٍ إليها مثل المذاهب الاشتراكية، وينشرها ويدعو لها حتى يسود الواقع كله طبقة سميكة من الآراء والنظريات، يكررها كل مفكر وترددها الجماهير حتى تصل إلى درجةٍ من التشبع، تلفظ بعدها كل زيادة وترفض ما اكتسبته من قبل من علمٍ ومعرفة. ومع أن التعريف بالنظرية أمرٌ واجب حتى تتعرف الجماهير على الثقافات الأخرى، حتى تحصل على الوعي النظري الكافي بواقعها. إلا أن الاقتصار على ذلك طريقة قاصرة؛ لأن عرض النظرية شيء وتحليل الواقع نفسه شيءٌ آخر، فعرض النظرية يتم على مستوى الذهن أو الفهم، ويدخل في نطاق المعلومات المختزنة، تذهب أو تجيء، تنقص أو تزيد، في حين أن التحليل المباشر للواقع يتم بالفعل. وإذا كان الهدف من الترويج للنظرية هو الاستفادة منها في الحياة العملية؛ أي التطبيق؛ فإن التغيير لا يأتي عن طريق مسك نظرية بيد والواقع بيدٍ أخرى، ثم تطبيق هذا على ذاك، فهذه نظرية آلية خارجية للتغير. وإذا كانت معظم هذه النظريات من بيئةٍ ثقافية أخرى، فإن ذلك يكون فرصة لأنصار البقاء على الأوضاع القائمة، لرفضها باعتبارها أجنبية دخيلة وليست نابعة من تاريخهم وتربتهم وواقعهم، وللمناداة على نظريةٍ خاصة بهم ويجدونها في القديم، ويرون فيه أكبر دعامة على تثبيت الأوضاع. وإذا كان هناك خطأ في التطبيق إما لعدم فهم دقيق للنظرية أو لعدم تطبيقها والتستر وراءها كشعار، أو لتأويلها لمصلحة طبقة معينة هي القائمة على التنفيذ. فإن ذلك يكون دافعًا على رفض النظرية وتحميلها كل أخطاء الواقع. وقد يوحي هذا العرض أيضًا للناشئين بالتبعية لا بالتأصيل، وبأن كل فكر أو نظرية لا بد أن يأتي من بيئةٍ ثقافية أخرى؛ ومن ثم يتحول شعور الناشئين إلى شعورٍ استقبالي محض، ويغيب عن الأذهان تأصيل القديم أو التنظير المباشر للواقع، كما يبدو ذلك في كثيرٍ من رسائلنا الجامعية.
ولكن أخذ المواقف يمكن أيضًا تجاوزه إلى الأشياء ذاتها وتحليلها تحليلًا مباشرًا، وأن يقوم المفكر بدلًا من عرض النظرية أو أخذ موقف منها بالتنظير المباشر للواقع، ويكون هذا التنظير جزءًا من تطويره؛ إذ إن أولى خطوات التطوير هي الرؤية الواضحة للأساس النظري الذي يقوم عليه هذا التطوير. فالواقع ينتج فكره ومن ثم يمكنه القضاء على هاتين الطبقتين السميكتين من واقعٍ غامض وفوقه مذاهب ونظريات. وإن المراجع نفسها التي يرجع إليها المفكر هي في الأصل تنظير مباشر للواقع قام به مؤلفو المراجع أنفسهم. فلِمَ لا يلجأ المفكر إلى الأصل نفسه ويحاول رؤية واقعه بكل ما أوتي من بصيرةٍ، وبكل ما تؤهله مناهجه وتدفعه غاياته؟ نلاحظ عند كثيرٍ من المفكرين أنهم يبدءون فقراتهم بعبارة: «يقول فلان إن …» وتتكرر الاقتباسات حتى يبنى الموضوع من مجموعةٍ من الأقوال، يسمح المفكر لنفسه بالتوفيق بينها أو بنقدها من حينٍ لآخر، كما يهوى وبلا مقياس ثابت، وتتحول الأشياء إلى قيل وقال أو إلى جدلٍ وحوار في أحسن الحالات. أما التحليل المباشر للواقع فإنه يمنع كل أدعياء الفكر المرتبط بالأرض والتربة، كما يتفادى تركيب نظريات علمية على واقعٍ مصمت قبل تحليله. التحليل المباشر للواقع أكثر أصالة من عرض النظريات بل وأكثر علمية. فبدلًا من تطبيق نظرية علمية يمكن صياغة نظرية علمية. التحليل المباشر للواقع يوحد بين الفكر والواقع، ويجعل الفكر هو الواقع الواضح والواقع هو الفكر المتحقق، كما يقضي على كل صور الانعزالية في الفكر لأن الفكر هو حركة الواقع نفسه، وفي الواقع لأن الواقع هو مصدر الفكر أو هو الفكر نفسه. ومن هنا جاء ارتباط الفكر بالبحوث الاجتماعية، إذ تعطي البحوث الاجتماعية ونتائجها الإحصائية المادة الخصبة التي يمكن للمفكر تنظيمها. وقد يحدث التعريف بالنظرية وعرضها من خلال التنظير المباشر للواقع، ويكون عرض النظرية في هذه الحالة الهدف منه إعطاء نموذج مشابه لنفس الواقع من حضارةٍ أخرى، حتى لا يتخوف البعض من رؤية الواقع وتطويره، وحتى يطمئن إلى أن ذلك قد حصل في بيئاتٍ ثقافية أخرى منذ عدة قرون.
(٦) الإصلاح والتنوير أم الثورة والتغيير؟
وبالمثل يمكن أن يقال إن التنوير شرط التغيير، وأن لا شيء يتغير في الواقع ما لم يتغير في الفكر أولًا، وأن العمل الثوري في هذه المرحلة هو في العمل على تغيير مفاهيمنا النظرية التي هي في الغالب حصيلة عقائدنا القديمة أو ثقافتنا المعاصرة القائمة فوقها. وإذا كانت البلاد النامية تشكو من وجود التصنيع وغياب العامل، ومن وجود الاشتراكية وغياب الاشتراكيين أو من وجود العمل السياسي وغياب الكوادر المؤهلة له، ومن وجود الاستثمار وغياب المستثمرين، يقال إن ذلك راجعٌ إلى غياب الإنسان المؤهل للعصر الحالي، وبأن بناء المصانع أسهل بكثيرٍ من بناء الإنسان. فإن مهمة الإصلاح والتنوير هي القيام ببناء الإنسان، الإصلاح للقضاء على المعوقات في التراث القديم، والتنوير في الدعوة إلى مزيدٍ من العقلانية في رؤية الواقع.
ويظهر هذا الاختيار أيضًا في سلوك المفكر الشخصي وفي علاقاته مع الآخرين. هل يكون إنسانًا قبل أن يكون ثائرًا أم إنه الثائر أولًا، بصرف النظر عن الاعتبارات الإنسانية وعن حسن علاقاته بالآخرين؟ المفكر إنسانٌ أولًا قبل أن يكون ثائرًا، وقد يؤثر سلوكه الإنساني على جماهير عصره أكثر مما يؤثر على سلوكه كثائرٍ متهم لهم بالخنوع والسكينة والجهل والغباء. وقد يكون هذا معنى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. الثورة ليست إلقاء التهم على الجماهير، بل الأخذ بيدها وإقناعها بما يقتنع به الثائر. الثائر الذي يعادي الجماهير تفقده ويفقدها إلى الإبد. ولا يعني ذلك المساومة أو التواطؤ أو التعايش أو المسالمة، بل يعني الثورة الناضجة التي تصدر عن الجماهير نفسها طوعًا واختيارًا، لا تلك التي تجبر عليها جبرًا بعد تأنيبها واتهامها بالخذلان والتخاذل.
(٧) المعركة الفكرية أم النضال المسلح؟
وقد تنتاب المفكر أزمة حادة تعتريه من حيث هو مفكر يجعل بضاعته الكلام، ويجعل معاركه في الفكر وأعداءه موتى الماضي. وتشتد أزمة المفكر عندما يرى المناضلين من حوله يتساقطون وهو قابعٌ في منزله، على مكتبه، ينظر إلى الثورة أو يهاجم أعداء الثورة، خاصةً في وقتٍ يكثر فيه الكلام ويدعو فيه المتحدثون للثورة ويتركون لغيرهم القتال. وكثيرًا ما ترك المفكرون كلامهم ونزلوا الساحة للمشاركة الفعلية في النضال. فبعد الغزو النازي الهتلري إلى فرنسا انقسم مفكروها قسمين، وكلاهما يبغي النضال والمقاومة؛ الأول: انضم إلى مقاومة المحتل ورمي بالرصاص على ناصية الطرق، والثاني: هاجر إلى الخارج يدعو بفكره إلى مقاومة المحتل ويحشد الرأي الدولي ضده، تلك أزمة المفكر الثوري.
والاختيار صعب. فإن قال إن النضال ليس في الساحة فقط، بل يكون النضال أيضًا في المعارك الفكرية بإزالة معوقات الثورة، خشي أن يكون اختياره هذا تبريرًا لبضاعة الكلام. ولكنه في نفس الوقت يرى خطورة معوقات الثورة في الرواسب النفسية القديمة؛ لذلك يرى أن مهمته هي النضال غير المباشر الذي يكون شرطًا للنضال الفعلي؛ ومن ثم يأخذ المفكر على عاتقه تخليص الوجدان المعاصر من كل معوقاته، وتجنيد الجماهير أو كما يقال بلغة العصر التعبئة المعنوية والحرب النفسية التي لا تقل خطورةً عن الحرب الفعلية خاصةً في الحروب الحديثة القائمة على الإيحاء والإيهام النفسيين. وقد قال نابليون من قبل بعد أن هُزم في ألمانيا وبعد نداءات فشته الأمة الألمانية: «لقد هزم القلم السيف!»؛ لذلك فإن معركة الفكر تبدو أيضًا معركة حقيقية يمكن للمفكر، وهو فردٌ واحد تجنيد نفسه للقيام بها وكأنه جندي فُقد أو استُشهد. وقد تكون الأفكار مسيرة للتاريخ ومغيرة للأوضاع ومحررة للأوطان.
(٨) التشاؤم أم التفاؤل؟
وقد ينتاب كثيرًا من المفكرين التشاؤم عندما يرون جهودهم ضائعة في الهواء، وعندما يرون أن الشوط أمامهم ما زال طويلًا، ولا يرون أثرًا محسوسًا تركوه وراءهم، أو إذا ما عانى في علاقاته الإنسانية من النفاق وسوء النية والمداراة والكذب والخديعة والحسد، أو عندما يرى المخاطر الخارجية أو الداخلية التي تهدد المفكرين، حتى لقد وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن بعض المجتمعات النامية تمر بفترة إفلاس تاريخي، لا يُنتظر منها شيء، ولا يرجى منها تقدم.
والحقيقة أنه لا داعي للتشاؤم؛ فالتشاؤم إغلاق لكل السبل، ومحو لكل مبادرة، وحكم على الوجود بالعدم. بل إن التشاؤم يكشف عن أنانية المفكر وعن ضنه بجهوده وحياته في سبيل مجتمعه. كل شيء ممكن ولا شيء بمستحيل ولكن على المفكر العمل والعمل الدائب والفكرة تنبت ثمرها، والبلاد النامية خصبة للغاية يمكن أن تلقى فيها الأفكار، وأن تصبح الأفكار فيها قوة مؤثرة. تؤرخ الحضارات بظهور المفكرين، فديكارت هو الذي نقل الحضارة الأوروبية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وهيجل هو الذي نقل الفلسفة الأوروبية من العصور الحديثة إلى العصر الحاضر. ويكفي المفكر تكوين بؤرة ثورية بين المثقفين، ويكفيه تغيير محور حضارته القديمة وصبها داخل الثورة المعاصرة.
Schills Political change in under-development countries.
Benda: Nationalism and Communism.
Sigmond: Idéologies of the development Nations.
Emerson: From Empire to Nation.
لا تعارض بين هذا وبين ما قلناه في مقالٍ سابق من حاجات المجتمعات النامية إلى التخصص؛ وذلك لأن حديثنا هنا على مستوى العمل السياسي والوطني، في حين أن حديثنا السابق كان على مستوى العمل المهني من أجل رفع الكفاءة الإنتاجية.
انظر ردنا على صادق العظم في «الترديد والتجديد في الفكر الديني المعاصر» في هذا الكتاب.