الفصل العاشر

الدين والثورة في أمريكا اللاتينية

كاميلو توريز، القديس الثائر

***

كاميلو توريز القديس الثائر

حياة المواطن ثورته، وثورته تطويره للواقع الذي يعيش فيه تحقيقًا لرسالته. فالمواطن الذي يعيش على وطنه فإنه يتعيش عليه، يفنى ولا يبقى له ذكر، وكأنه لم يوجد. أما الذي يطوره ويغيره ويحقق رسالته، فإنه يعيش له، ويعطيه حياته، ويخلد فيه، ولا يرضى إلا بأن يسقط فيه شهيدًا كما فعل كاميلو توريز، عندما سقط شهيدًا في ١٥ فبراير سنة ١٩٦٦م.

أولًا: حياته وأعماله

ولد كاميلو توريز Camilo Torres في بوغوتا، عاصمة كولومبيا في ٣ فبراير سنة ١٩٢٩م، وتنتمي أسرته إلى طبقةٍ راقية في العاصمة. وكان أبوه طبيبًا مشهورًا للأطفال، ثم أصبح عميدًا لكلية الطب، وتنحدر أمه من أسرةٍ عريقة، أما أخوه، فإنه الآن من أفضل أخصائيي الأعصاب في كولومبيا، ويشغل حاليًّا كرسي الأعصاب بجامعة مينسوتا Minnesota بالولايات المتحدة الأمريكية.

اصطحبه والده، وعمره سنتان إلى أوروبا، فعاش في إسبانيا وبلجيكا حتى الخامسة. وبعد عودته إلى كولومبيا، أنهى دراساته الأولية والثانوية بالمدارس الوطنية، والتحق بكلية الحقوق بجامعة كولومبيا الوطنية، ولكنه لم يشعر بميلٍ نحو القانون، بل شعر بميلٍ نحو الصحافة، فاشترك في نشر إحدى الجرائد اليومية.

وقضى توريز سنوات شبابه الأولى في خضم الحياة الاجتماعية الراقية، وتعرَّف على إحدى بنات مونتالفو، أحد زعماء الحزب المحافظ، والذي أصبح وزيرًا عدة مرات، والذي أصبح فيما بعد سفيرًا لكولومبيا لدى الفاتيكان، ثم نائب رئيس الجمهورية. وكانت أسرته متدينة فقدمته إلى الدومينكان الفرنسيين، وهنا شعر توريز في نفسه لأول مرة برسالته الدينية، فقرر الرحيل إلى دير الدومينكان في شرق بوغوتا. ولكن أمه عارضته في ذلك ومنعته من الرحيل في آخر لحظة، ففضل الدخول في المعهد الديني Seminaire وأصبح راهبًا سنة ١٩٥٤م.

ثم أرسله كادرينال بوغوتا إلى جامعة لوفان الكاثوليكية للتخصيص في علم الاجتماع، حتى يمكن الاستفادة به بعد ذلك في إدارة الأعمال الاجتماعية للأسقفية، فقضى أربع سنوات في بلجيكا، اهتم أثناءها بالعديد من المشاكل الاجتماعية، خاصة بؤس المدن الكبيرة، وزار عددًا من البلاد الأوروبية، وشارك في باريس مع الأب بطرس في نشاط إحدى الجمعيات الدينية، مما يدل على أن النشاط الديني كنشاطٍ اجتماعي كان موجودًا لديه وهو ما زال في مرحلة التكوين. وفي نهاية دراسته في لوفان عُين نائب المدرسة الأمريكية اللاتينية التي أسستها الأسقفية البلجيكية من أجل تكوين الرهبان في أمريكا اللاتينية. ولكنه لم ينسَ وطنه، وكان دائم التفكير فيه، فكون عدة منظمات، وعلى رأسها «الجماعة الكولومبية للبحوث الاقتصادية والاجتماعية» من أجل تجميع الطلبة الكولومبيين في أوروبا. وعقد الاجتماع الأول في بروكسل سنة ١٩٥٨م. وبعد أن قدم دبلومًا عن «مستوى المعيشة في بوغوتا»، حصل على ليسانس علم الاجتماع سنة ١٩٥٨م.

رجع توريز إلى كولومبيا بعد زيارةٍ سريعة للولايات المتحدة الأمريكية، وعيَّنه أسقف بوغوتا الجديد مرشدًا Aumônier للجامعة الوطنية، ثم أستاذًا لعلم الاجتماعي في كلية الاجتماع. وقد لاءم العمل الجديد روح الراهب الشاب وطبيعته؛ فقد كان شخصية محبوبة، واسع الأفق، ذا نشاطٍ جم بين أوساط الطلاب والزملاء، مما زاد من شعبيته. وفي ذلك الوقت، قام بعدة دراسات عن المشاكل الاجتماعية في كولومبيا، خاصةً فيما يتعلق بظاهرة العنف، وبالإصلاح الزراعي، وبؤس النجوع Bidonvilles حول المدن الكبيرة، والبناء الاجتماعي للبلاد … إلخ. وقد ذاعت آراؤه في أبحاثه، ومحاضراته العامة، ودروسه في الجامعة، وندواته، ومقالاته، ودراساته التي قدمها إلى عديدٍ من المؤتمرات العلمية، وأحاديثه الصحفية. كما دخل في عديدٍ من التنظيمات واللجان الشعبية، جعلته دائم الاتصال بالشعب، وموضعًا لثقته، وكوَّن مع بعض زملائه «حركة الجامعيين وأعضاء هيئة التدريس الأحرار للتنمية القومية». وشارك سنة ١٩٥٩م، في إعداد مشروع قانون سيصبح فيما بعد نقطة بداية للحركة الوطنية في كولومبيا.

وينتهي نشاط الجماعة في آخر سنة ١٩٦٢م بعد الصراع الذي نشأ بين طلبة الجامعة ومديرها؛ فقد حدث أن قام الطلاب بمظاهراتٍ عامة، أدت إلى بعض الاصطدامات الخطيرة في الطريق العام، كشأن كل المظاهرات الطلابية، مما دعا مدير الجامعة إلى فصل طالبين ينتميان إلى الحزب الشيوعي من الجامعة، دون تحقيق سابق. وقد رد الطلبة على ذلك بإضرابٍ عام، وبسلسلةٍ من أعمال العنف في حرم المدينة الجامعية. أيد كاميلو توريز موقف الطلبة، بالرغم من إدانته لأعمال العنف التي لا سبب لها، وطالب مع زملائه وعميد كلية الاجتماع مدير الجامعة بالرجوع عن قراره بفصل الطالبين، ولكن مدير الجامعة أصر على رفض الطلب، ومنذ ذلك الوقت ظهر كاميلو توريز أمام الرأي العام كمدافعٍ عن حقوق الطلبة، كما ظهر الصراع على أنه صراعٌ بين مدير الجامعة والمشرف الاجتماعي. ولما كان أسقف بوغوتا يريد إبعاد الرهبان عن النشاط السياسي، فالكنيسة جزءٌ من السلطة الحاكمة، أمر توريز بترك منصبه كمرشدٍ اجتماعي، وكأستاذ كرسي علم الاجتماع؛ فقدم توريز استقالته طاعة منه لرؤسائه في الكنيسة. ومنذ ذلك الحين وصفته الصحافة والأسقفية والهيئات الحكومية بأنه وقع أسيرًا للشيوعيين أو عميلًا لهم!

كانت هذه هي البداية. بعدها شارك توريز في الحياة السياسية فساءت علاقته برؤسائه داخل الكنيسة. بعد أن غادر الجامعة، عينه الكاردينال في معهد الإدارة الاجتماعية الملحق بالمدرسة العليا للإدارة العامة، وأصبح النائب الأول في أحد الأديرة في بوغوتا، ولكنه استمر في ممارسة دعوته الدينية، داخل أبحاثه في العلوم الاجتماعية، وانضم كعضوٍ في عديد من التنظيمات، يعبر فيها عن آرائه في تجديد الأبنية الاقتصادية والاجتماعية في كولومبيا، ثم أصبح عضوًا في مجلس إدارة المعهد الكولومبي للإصلاح الزراعي، المكلف بتطبيق قانون سنة ١٩٦٢م للإصلاح الزراعي، وأسس مزرعةً نموذجية، وعديدًا من الجمعيات التعاونية في الحي العمالي ببوغوتا. وزادت اتصالاته الاجتماعية بعددٍ من المواطنين رجالًا ونساء، بصرف النظر عن ثقافاتهم وأيديولوجياتهم التي ينتمون إليها، تجمعهم جميعًا الرغبة في الإصلاح، وعبر لهم عن آرائه التي اعتبره أعداؤه لأجلها «ثوريًّا»، قبل أن يعرف هو نفسه أنه كذلك. وقد انتهى بمواقفه هذه إلى الاصطدام بالهيئات الحكومية، ومراكز التخطيط الاقتصادي بها التي تقوم عليها الأقلية الحاكمة، وكذلك برؤسائه في الكنيسة الذين كانوا ينظرون إليه بعين الحذر، ولكن مواقفه الجذرية حولته إلى زعيمٍ شعبي في الأوساط التي تنشد التغيير: المثقفون، والتقدميون، والنقابيون، والطلبة والجماهير المعدمة في المدن الكبيرة. وهنا علم توريز أن قلب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم إلا بتوحيد جهود كل من يريدون تحقيقه، بصرف النظر عن أيديولوجية كل منهم، فاتصل بكل الاتجاهات السياسية والهيئات النقابية، والجماعات الطلابية والثقافية، وقرر البدء في العمل. لم تكن مهمته سهلة لأنه بالرغم من تعاطف الجميع معه، إلا أن البعض منهم لم يولوه ثقتهم لأنه راهب، خاصةً أمام الشيوعيين الذين رأوه ما زال خاضعًا لرؤسائه في الكنيسة، التي ترفض اشتراك الرهبان في العمل السياسي.

بعد ذلك أخذ الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في كولومبيا في الانهيار يومًا بعد يوم، وأصبحت بعض الأوساط الحكومية التي تود التغيير عاجزة عن أن تفعل أي شيء، وأصبح رئيس الجمهورية أكثر عجزًا. واشتد الغليان قبل الفترة الانتخابية فقرر توريز البدء بالعمل، ففي أواخر سنة ١٩٦٤م اقترح تكوين حركة سياسية تجمع كل العناصر التقدمية، واجتمع أنصار هذه الحركة لأول مرة لدى رئيس تحرير إحدى الجرائد، ثم في اليوم نفسه مساء لدى توريز، وقرروا بدء العمل الثوري بطريقٍ شرعي مع التأكيد على ضرورة وحدة القوى الثورية، واستبعاد كل عوامل الفرقة بينها. وحدث الاجتماع الثاني في أوائل سنة ١٩٦٥م، وضم كل ممثلي الاتجاهات التقليدية، وكونت لجنة برئاسة توريز من أجل كتابة بيان يلتزم به الجميع. وبعد قراءة جزء من البيان في ١٢ مارس ١٩٦٥م، قوبل بحماسٍ شديد، ثم أذيع على الناس جميعًا في ١٧ مارس بعنوان «بيان لحركة الوحدة الشعبية». وكان النجاح الذي لاقاه البيان عند الشعب منقطع النظير، وانتشر في أرجاء البلاد، وانضمت إليه كل الأوساط التقدمية والتفت حوله الجماهير. أما الأوساط الحكومية ورؤساء الكنيسة فقد عادوه، ووقفوا ضده، وبدأ الصراع بينهم وبين توريز. والبيان هو بداية تجمع «الجبهة المتحدة للشعب الكولومبي» التي أيدها الحزب الاشتراكي الديمقراطي المسيحي، والحركة الثورية الليبرالية، والطليعة الوطنية الثورية، والحزب الماركسي اللينيني «من أنصار النموذج الصيني»، والحركة العمالية، والطلبة والفلاحون أنصار ٧ يناير، والرابطة الوطنية الشعبية، والحزب الشيوعي الذي انضم أخيرًا بعد طول تردد من أجل تقوية الجبهة المتحدة، والسيطرة على جريدتها. ولكن سرعان ما تخلت الجماعات المختلفة عنها واحدةً تلو الأخرى، إما بدافعٍ من الحسد والغيرة من مؤسس الجبهة بعد أن نجحت مظاهراتها في عديدٍ من المدن، وإما لصعوبة تكوين لجان محلية في غياب القادة القادرين على تجنيد القواعد، هذا بالإضافة إلى نقصٍ في التنظيم، وردود فعل أنصار المحافظة على الوضع القائم، وكان أهم سبب من أسباب تفكك الجبهة المتحدة، وانفصال توريز عن الجماعات السياسية الأخرى هي انتخابات مارس سنة ١٩٦٦م، والموقف الذي كان على الجبهة اتخاذه منها. كان توريز من أنصار الامتناع الكامل عن التصويت، كموقفٍ إيجابي ثوري، وأيدته في ذلك الحركة الثورية الليبرالية والرابطة الوطنية الشعبية. خرج الحزب الشيوعي من الجبهة، مع بقائه في علاقةٍ طيبة مع توريز، ولم يستمر معه حتى النهاية إلا الحزب الاشتراكي الديمقراطي المسيحي، حتى بعد انفصال توريز عن الكنيسة الكاثوليكية. وقد حدث هذا الانفصال بعد نشره للبيان؛ إذ أمره الكاردينال بترك منصبه في معهد الإدارة الاجتماعية، وعيَّنه في مكاتب العمل من أجل نشر الدعوة المسيحية التابعة للأسقفية. وفي ٢٠ مارس سنة ١٩٦٥م، وجه توريز خطابًا للكاردينال، يرجوه فيه القيام بالإجراءات القانونية اللازمة من أجل خروجه من سلك الرهبان إلى الحياة المدنية العلمانية، ولكن الكاردينال لم يرد عليه. وفي ٢٥ مارس أعلن الكاردينال رسميًّا أن بيان العمل السياسي والاجتماعي الذي كتبه الأب توريز وقدمه للشعب، يحتوي على نقاطٍ تعارض عقيدة الكنيسة، فكتب توريز للكاردينال من جديد، يطالبه بتحديد هذه النقاط، فيجيبه الكاردينال بأنه ابتعد عن تعاليم الكنيسة مع سبق الإصرار، فيما يتعلق بالشئون السياسية والاجتماعية، ويعلن أمام الرأي العام أن أعمال الأب كاميلو توريز تعارض لباسه الكهنوتي الذي يرتديه. وفي ٢٤ يونيو، يذيع توريز طلبه للخروج من سلك الرهبنة إلى الحياة المدنية العلمانية، فيصدق عليه الكاردينال في ٢٦ يونيو، ولكن توريز يظل يعتبر نفسه حتى اللحظة الأخيرة راهبًا مسيحيًّا ثوريًّا.

وبعد فشل الجبهة المتحدة، رأى توريز أنه لا سبيل إلى نجاح الثورة إلا بالطرق غير الشرعية، فقرر اللحاق برجال العصابات، فبالكفاح المسلح وحده يمكن الاستيلاء على السلطة، وتحقيق النصر للثورة. فاتصل أولًا ببعض القيادات الشيوعية التي كان يعرفها منذ وقتٍ طويل، حتى ينضم إلى رجال العصابات التابعة للحزب، ولكن هذه القيادات ترددت في أخذه بين صفوفها؛ لأنها لم تعد تؤمن بفاعلية حرب العصابات، ولم تشأ ضم راهب له شهرة توريز بين جماعاتها المسلحة. فاتجه توريز إلى جيش التحرير الوطني الذي يسير على طريقة كاسترو. وفي ١٨ أكتوبر، سنة ١٩٦٥م، ترك توريز بوغوتا إلى الأبد، وانضم إلى رجال العصابات في شمال شرق العاصمة. وقد قويت شعبية قادة جيش التحرير الوطني بانضمام توريز له. وقد كانت مهمة توريز فيه الاتصال بالفلاحين، وظل يؤدي مهمته أربعة أشهر؛ وذلك لأنه في ١٥ فبراير سنة ١٩٦٦م، وقع صدام بين الجيش الحكومي، وعناصر من جيش التحرير الوطني، وكان توريز هناك صدفة لأنه كان عليه الذهاب في مهمةٍ مع بعض قادة رجال العصابات. وأثناء محاولته أخذ سلاح جندي وطني شهيد، كما تقضي بذلك نظم حرب العصابات، سقط شهيدًا بدوره … وفور إذاعة النبأ خرجت المظاهرات في كل أرجاء البلاد، وأقيم قداس على روحه في كنيسة بوغوتا، تلته مظاهرة ضخمة، وبعد ذلك بسنتين ظهرت جماعة من رجال العصابات باسم «جبهة كاميلو توريز» واستأنفت النضال.

ومعظم مؤلفات توريز هي مجموعة من المقالات والدراسات والمحاضرات والأبحاث التي قدمها وهو طالب في لوفان أو في المؤتمرات الدولية أو في الهيئات الوطنية أو للصحافة، وتدور كلها حول عدة موضوعات أهمها: الجامعة ودورها في قيادة العمل الوطني، علم الاجتماع القومي في مقابل علم الاجتماع الأوروبي أو الأمريكي، الانفصال الأبدي بين الريف والمدينة باعتباره تعبيرًا عن التركيب الطبقي للمجتمع، التخطيط والتنمية الاقتصادية في البلاد النامية، ظاهرة العنف، وأثره في التغيرات الاجتماعية، الثقافة وارتباطها بالوعي الطبقي، الدين والثورة وكيف أن الثورة هي جوهر الوحي، وأخيرًا وحدة القوى الثورية باعتبارها هي الحل الوحيد للقضاء على الاستغلال الداخلي والخارجي.١ وسنعرض في هذه الدراسة إلى هذه النقاط الثمان، الواحدة تلو الأخرى، وهي تبين تطور توريز من أستاذ الجامعة حتى التحاقه بحرب العصابات. وقد اقتصرنا على عرض آرائه باعتبارها هي الواقع ذاته، وليست وجهة نظر تقابلها وجهات نظر أخرى.

ثانيًا: الجامعة والعمل الوطني

الجامعة في البلاد النامية لها دورٌ مخالف تمامًا عن دور الجامعة في البلاد المتقدمة، ولو أن الجامعة اليوم في البلاد المتقدمة أخذت تمارس نفس الدور الذي على الجامعة في البلاد النامية أن تمارسه. وينحصر هذا الدور أساسًا في قيادة العمل الوطني، وليس في التخصص العلمي الدقيق المنعزل عن الواقع الاجتماعي للبلاد. الجامعة في البلاد النامية جزء منها؛ وبالتالي فهي تعبير عن مشاكلها، وليست حكرًا على طبقةٍ أو تعبيرًا عن مصالح الطبقة الحاكمة، أو ميزة يحصل عليها كل من أراد خدمة الأقلية، أو التمتع بمزاياها. الجامعة جزء من المجتمع؛ وبالتالي فهي صدى له. إن شئنا فالجامعة جامعة للشعب وتعبيرًا عنه.

وأحوج ما تحتاج إليه البلاد النامية هو خلق المواطن؛ فقد ورثت تركة ضخمة من عزلة الشعب عن الحياة السياسية، أو تكوين طبقة من الموظفين لخدمة الاستعمار، أو خلق طبقة أقلية متميزة تحاكي الاستعمار وتقلده، وتتمتع بما يتمتع به. وتكون هي الأقلية الحاكمة التي يحكم الاستعمار من ورائها. دور الجامعة هو خلق المواطن الذي يعلم رسالته والذي يعي واقعه، والذي يكون صورة صادقة لمجتمعه. فإن ما تقاسي البلاد النامية منه اليوم، هو عدم وجود العنصر البشري القادر على التنمية، خاصةً وأن الأحزاب فيها لا تؤدي دورها في خلق الكوادر الوطنية اللازمة لذلك. لقد اهتمت البلاد النامية حتى الآن بالعنصر المادي: استثمارات تصنيع، زيادة الإنتاج … إلخ. ولكن مشكلتها الأساسية هي العنصر البشري الذي يقوم بتحقيق كل ذلك. فالاستثمار يضيع في خطة التصنيع؛ لأن الأولويات تعطى للصناعات الاستهلاكية التي لا تقدر على شرائها إلا الطبقات التي تدور في فلك السلطة. وزيادة الإنتاج لا تعود إلا على سكان المدن الذين ترتفع قدرتهم الشرائية، فيرتفع مستوى المعيشة فتعجز الطبقات الشعبية أكثر فأكثر.

مهمة الجامعة أيضًا هي تكوين قيادات شعبية تكوينًا علميًّا وتكوينًا وطنيًّا، والتكوين العلمي لا يعني إعطاء القيادات أكبر عدد ممكن من النظريات من شرقٍ وغرب، بل إعطاء أكبر قدر ممكن من التحليلات الاجتماعية لواقع المجتمع، وطرح الحلول للمشاكل التي تواجهه، وذلك عن طريق التحليل المباشر للواقع، لا عن طريق نقل نظريات العلوم الاجتماعية لواقع المجتمع، وطرح الحلول للمشاكل التي تواجهه، وذلك عن طريق التحليل المباشر للواقع، لا عن طريق نقل نظريات علم الاجتماع كنقل للتراث الغربي.٢ وعلى هذا النحو لا ينفصل التكوين العلمي؛ أي التكوين الاجتماعي، عن التكوين الوطني؛ لأن الوعي القومي لا يتم إلا بالتحليل المباشر للواقع، وتوجيه الأبحاث العلمية توجيهًا سياسيًّا، من أجل مصلحة الجامعة. فكثيرٌ من علماء البلاد النامية ليست لهم ثقافة سياسية؛ وبالتالي فهم يضرون أكثر مما ينفعون، خاصةً وأنهم في مراكز حساسة ومؤثرة، وفي مواقع سلطة أخذ القرارات. وكثيرٌ من سياسيي البلاد النامية ليست لهم ثقافة علمية؛ أي اجتماعية، ويضرون أكثر مما ينفعون، وذلك عن طريق رفع أجور العمال مثلًا دون أن يصاحب ذلك وعيٌ طبقي، بل بدافعٍ من تنافس الطبقات، وتطلُّع كل منها إلى الطبقة التي فوقها. وإن ما يسميه بعض المثاليين والمتدينين والفرديين، وفي كثيرٍ من الأحيان بعض الرجعيين الذين يودون طمس معالم الواقع، وتبخيره من خلال الأفراد والذاتيات والأمزجة الفردية؛ إن ما يسميه بعض هؤلاء المشكلة الخلقية في البلاد النامية هي في الحقيقة الجانب البشري في التنمية، فالأخلاق هي علم الاجتماع، وعلم الاجتماع هو النظرية، ونظرية العلم ونظرية العمل الوطني. التعليم الجامعي تعليم علمي، بمعنى أنه تعليمٌ اجتماعي، يفي بحاجات العصر، مهمته خلق القيادات الوطنية، وتحقيق الرسالات التاريخية للمواطنين. وتتطلب المشاكل الاجتماعية حلولًا سريعة؛ ومن ثم تتوجه الجامعة نحو العمل ونحو التطبيق المباشر، بل إن العلوم الأخرى كالطب، والتكنولوجيا، والهندسة، وعلم النفس، والاقتصاد … إلخ. هي علوم اجتماعية عند التطبيق، تواجه مشاكل الواقع، الجامعة إذن جزءٌ من السياسة الوطنية العامة، وليست مرفقًا خاصًّا، وتخون الجامعة رسالتها لو كونت موظفين أو حرفيين، أو مهنيين، لا يهمهم الإنسان أو المجتمع في شيء.

ولا يقال إن العلوم الاجتماعية منها ما هو تأملي معياري، ومنها ما هو وضعي علمي قائم على الملاحظة؛ لأنه لا خلاف بين المنهجين، فصدق النظرية العلمية في النهاية هو مطابقتها للواقع، وذلك لا يتأتى إلا بالنظرة العلمية له التي قد تكون تحليلًا مباشرًا إحصائيًّا للواقع الاجتماعي، أو تكون إدراكًا حسيًّا مباشرًا، أو قد تكون دراسة للروح الشعبية من خلال الأمثال العامية، أو قد تكون فكر قائد وطني يعاني من بؤس الجماهير. ولكن المهم أن تقوم الدراسات في الجامعة على أبحاث علم الاجتماع، أي على رؤية الواقع ذاته؛ لأن العلوم الاجتماعية يحددها نمط حضارتها، والاختيار السياسي لها؛ ولأن النظريات تتحدد بالواقع القومي.

والجامعة هي طلبتها وأساتذتها، ولكليهما مطلق الحرية في التعبير عن آرائهم، فلا يجب فصل أي طالب لآرائه السياسية أو لاشتراكه في التنظيمات الجماهيرية، كما يجب أن يظل حرم الجامعة آمنًا من تدخل أجهزة الأمن التابعة للدولة. ولمجلس الطلبة ولاتحاداته أن تشارك في أخذ القرارات مع سلطات الجامعة. ولا يجوز إغلاق الجامعة، فالجامعة هي الأمة، بل إن المشاكل المعروضة، وهي مشاكل فعلية، تعبر عن مشاكل الأمة، لا تحل بفرض العقوبات على من يتصدى لها، والطلبة هم الذين يعبرون عنها؛ لذلك تميز الطلبة عن غيرهم بأخذ زمام المبادرة باستمرار أكثر من الأساتذة، أو السلطات الجامعية، وهذا شيءٌ طبيعي؛ لأن مهمة الطلبة في البلاد النامية ليست الدراسة فقط، ولكن التعبير عن القضايا الوطنية. فالطلبة هم الشباب الذي يتمتع بمستوًى ثقافي عالٍ، ومن هنا جاء الدور السياسي الذي تلعبه الجامعات في البلاد النامية، فهي التي تحمل لواء التقدم، وهي الحارسة على مكاسب الشعب، كما أنها هي القادرة على نقد التقاليد.

ولكن حركة الطلاب التلقائية تحتاج إلى من يعطيها أساسها الواعي الرشيد، وهنا يظهر دور الأساتذة في تأييد الطلبة، ومشاركتهم إياهم في التعبير عن قضايا الأمة.

وأخيرًا، لا بد أن تتمتع الجامعات في البلاد النامية باستقلالٍ تام عن كل سلطة خارجية عنها، سواء ممثلة في جماعاتٍ ضاغطة، أو في سلطة الدولة. فالجامعة لا يمكنها أن تؤدي دورها القيادي إلا إذا كانت مستقلة، ولا يعني استقلالها انعزالها؛ لأن ظهور الجامعات في البلاد النامية كان مصاحبًا لبداية حركاتها الوطنية، وتعبيرًا عن استقلالها. إن ضياع استقلال الجامعات في البلاد النامية كان أحد معوقات تقدمها، إذ أصبحت الجامعات فيها أبواقًا للسلطة وليست قائدة للنضال القومي.

ثالثًا: علم الاجتماع القومي

ليس هناك علم للعلم، بل هناك علمٌ قومي، وليس هناك فكر للفكر، بل هناك فكرٌ قومي، وقد أراد توريز تحقيق ذلك في ميدان تخصصه، وحاول وضع علم اجتماع قومي كرد فعل على حال علم الاجتماع الراهن في البلاد النامية بوجهٍ عام، فعلم الاجتماع المعروف في البلاد النامية هو علم الاجتماع الأوروبي الذي استطاع صياغة عدة نظريات نقلها علماء الاجتماع في البلاد النامية، وبشروا بها، وأرادوا تطبيقها على واقعهم الخاص. والحقيقة أن هذا النقل شكل من أشكال الاستعمار الثقافي في البلاد النامية. فالعلوم الإنسانية تُصاغ من الواقع المباشر، ولا تنقل من بيئةٍ إلى أخرى، يحاول توريز وضع أسس لعلم الاجتماع القومي، وذلك عن طريق تأصيل علم الاجتماع اللاتيني الأمريكي، الموجود في حضارتها القديمة، وإعطاء الصياغات العلمية له؛ لأن المدارس الحديثة في علم الاجتماع في البلاد النامية هي تكرار لما حدث في تاريخ علم الاجتماع الأوروبي. ففي أمريكا اللاتينية نشأت مدارس علم الاجتماع في القرن الماضي عن طريق نقل مدارس علم الاجتماع الأمريكية والأوروبية، فسادت الدراسات الاجتماعية المناهج الوضعية والتجريبية بعد الحرب العالمية الثانية، كمناهج منقولة وليست كتطوير طبيعي لدراسات الباحثين الوطنيين، وتنتهي هذه الدراسات إلى إسقاط نظريات الباحثين الأوروبيين على الواقع الاجتماعي في أمريكا اللاتينية، كما تفعل جميع حركات الاستشراق التي تدرس البيئات غير الأوروبية بمناهج أوروبية صرفة، وكما حدث بوجهٍ أخص في الاستشراق الإسلامي؛ وذلك بدراسة الباحثين الأوروبيين الحضارة الإسلامية بمناهج تاريخية أو تحليلية أو إسقاطية أو تعتمد كلية على الأثر والتأثر.٣ نشأة العلوم الإنسانية القومية هي جزءٌ من رفض الاستعمار الثقافي في البلاد النامية حديثة الاستقلال، يحملها الباحثون الوطنيون من أجل إقامة علوم إنسانية أصيلة Authentique، فلا تنقل النظريات بل تقوم بربط القديم بالجديد، كجزءٍ من عملية التطوير الحضاري، كما تقوم بالتحليل المباشر للواقع، دون تعميته بالنظريات أو التستر عليه بالمعلومات المجردة.
وعند بعض الباحثين يسود علم الاجتماع الاتجاه الاسمي Nominalisme أي التلاعب بالألفاظ، والتشدق بالمصطلحات، وكأن العلم هو كثرة المفاهيم الحديثة، ووفرة الألفاظ المستعصية، بدعوى تقدم العلم، وتشابك الموضوعات، وصعوبة اللغة العلمية الحديثة، وصورية المناهج، وضرورة عرض المسائل أولًا عرضًا نظريًّا خالصًا. فالنظرية هي مفتاح الواقع وحقيقته، والحقيقة أن كل هذه الجعبة من الألفاظ لا تمت بصلةٍ للتجربة الشخصية للباحث، ولا تقوم على التحليل المباشر للواقع، وهو المصدر الأول لكل المفاهيم والمصطلحات. تعطي مظهر العلم دون جوهره، حتى أصبح عالم الاجتماع هو كل من يتلفظ بعددٍ من المفاهيم الصعبة، ويدعي أنه يعبر بها عن واقعٍ يدركه الناس بحسهم السليم.

وعند فريقٍ ثانٍ من الباحثين نجد التشدق بالموضوعية العلمية، وعدم الإفصاح عن الرأي، بدعوى الحاجة إلى مزيدٍ من الأسانيد العلمية، والبراهين القائمة على الملاحظة والتحليل الإحصائي، ويسمي توريز ذلك «الجبن المقنَّع تحت ستار الموضوعية»، عندما تؤدي الموضوعية بالباحث إلى نسيان المشاكل الحية التي يتأزم منها المجتمع، وعندما يحاول الباحث أن يصف المشاكل وصفًا محايدًا، وكأن هناك حلًّا نظريًّا لها، دون التزام حقيقي بها. فالمشاكل الاجتماعية الحية لا يعبر عنها فقط بأسلوب البحث العلمي الموضوعي، بل يمكن للباحث أن يلجأ إلى الحدس والخيال والثقافة الشعبية العامة، حتى تتنوع أساليب تعبيره، ويخاطب أكبر عدد ممكن من المواطنين. وتكون مهمة الباحث أيضًا اختيار الموضوعات القومية مثل: الثورة الاجتماعية، التغير الاجتماعي، الآثار الاجتماعية للإصلاح الزراعي، الاستعمار، العنف، التركيب الطبقي للمجتمع … إلخ؛ ومن ثم فإن علم الاجتماع جزءٌ من الخطة الوطنية للأبحاث العلمية، أو هو الطريق لخلق الثقافة الوطنية، والفكر القومي.

وهناك فريقٌ ثالث من الباحثين يقع في الديماغوجية، تحت ستار البحث العلمي، وكرد فعل على الفريق الثاني، فيجعل العلم في سوق السياسة، والانفعالات الجماهيرية الخالصة أثرها محدود، ونتائجها مؤقتة. وقد تكون هذه الانفعالات صحيحة، ولكنها تحتاج إلى صياغاتٍ علمية، فهناك علم اجتماع بورجوازي، وعلم اجتماع بروليتاري. ومع ذلك لا يجب الوقوع في القطعية Dogmatisme؛ لأنها مضادة للنقد الذاتي الذي يجب على الباحث أن يقوم به باستمرار. فالعلم الإنساني مرتبط أشد الارتباط بتكوين العالم نفسه.

خلاصة الأمر أن علم الاجتماع الأوروبي مفيد، ولكنه غير واقعي؛ لأنه يعطي نظريات ولكنها لا تنطبق على واقع البلاد النامية، وعلم الاجتماع الأمريكي واقعي، ولكنه غير مفيد؛ لأنه تحليلٌ مباشر للواقع، ولكنه لواقع المجتمع الأمريكي، ولا يفيد في دراسة المجتمعات النامية. مهمة علم الاجتماع القومي هي إقامة علم اجتماع شامل، يقوم على المعياري والوضعي معًا، وكلاهما مأخوذ من الواقع الاجتماعي. فالنظرية تحكمها مبادئ التطور والثورة والتغير الاجتماعي، والملاحظات تقوم على أساس البحوث الميدانية، وبالتالي يكون علم الاجتماع القومي أقرب إلى فلسفةٍ للمجتمع منه إلى العلم بالمعنى الدقيق.

رابعًا: الريف والمدينة والتركيب الطبقي للمجتمع

ويعطي توريز عدة نماذج من الدراسات الاجتماعية التي يظهر فيها الطابع القومي لعلم الاجتماع القائم على التحليل المباشر للواقع، فأعطى وصفًا لمدينة بوغوتا، عاصمة كولومبيا، في المرحلة السابقة على التصنيع أي في مرحلتها الحالية، باعتبار أن البلاد النامية الآن في طريقها إلى التصنيع، وعدد مصانعها، وبين حدود نشاطها السياسي والثقافي والديني. ويغلب على الدراسة تجميع الوقائع، وخلوها من نظرةٍ شاملة. وقد كان توريز في ذلك الوقت باحثًا اجتماعيًّا خالصًا يحلل الواقع المباشر، الذي أعطاه بعد ذلك الفرصة للحصول على نظرةٍ صائبة له، تحولت فيما بعد إلى ثورة، فالثورة لا تنشأ إلا بعد التعرف على الواقع، واكتشاف معوقات تقدمه، ويحاول توريز تحديد معالم المدينة في البلاد النامية، فيرى أنها تحتوي على نسبةٍ ضئيلة من مجموع السكان، بالنسبة لسكان الريف الذين يكونون الغالبية العظمى من المواطنين؛ وبالتالي فإن الغالبية العظمى في البلاد النامية هي أغلبية من الفلاحين؛ أي من سكان الريف، وليس من سكان المدن. كما تتميز المدينة بمعدل بطيء في الزيادة السكانية، بخلاف سكان الريف الذين يشيرون إلى معدلٍ أكبر. وفرقٌ ثالث وهو أن المدينة تتميز بفروقٍ حادة بين الطبقات الاجتماعية، فمنذ بداية الاستعمار كان هناك فرقٌ بين الهنود «السكان الأصليين» والإسبان، وبعد جيلٍ واحد نشأت طبقة جديدة من سلالة الإسبان الذين ولدوا بأمريكا اللاتينية «الكريول Creoles» الذين حُرموا من مميزات الإسبان الذين ولدوا في إسبانيا، ولم يكن لهم الحق في الوظائف العليا أو في القضاء إلا بعد إثبات نقاء دمائهم. وكانت هناك أيضًا فوارق طبقية بين أبناء المستوطنين والشعب الأصلي والمخلطين، وتحدث التفرقة حتى في القبول في المعاهد الدينية، حيث يجب إلغاء الفوارق الطبقية والتفرقة العنصرية. وكان السبب في ذلك سياسيًّا أكثر منه اجتماعيًّا؛ فقد كان العرش الإسباني يخشى من الرهبان الوطنيين، ومن انضمامهم للحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال. رابعًا: تمتاز المدينة بغياب تقسيم العمل، وبنقصٍ في التخصصات، فأي فرد يعمل أي شيء؛ وذلك لأن مهمة المدينة هي استيعاب هجرة الريف، أو توظيف الخريجين؛ بصرف النظر عن الإنتاج أو عن العمل المتخصص، فنشأت ظاهرة التضخم في حجم الوظائف العامة، وقلَّ الإنتاج وانخفض مستواه، وظهرت حاجة البلاد النامية إلى العمال المؤهلين، وإلى الفنيين. خامسًا: تقوم التجارة في المدينة بجهود الأفراد أكثر منها بجهود الجماعات، ولم يؤسس أول بنك في بوغوتا إلا في وقتٍ متأخر، وهذه طبيعة التجارة في المدن النامية التي ما زالت خاضعة لأسلوب التعامل التجاري الفردي. سادسًا إذا وجدت جماعات للتجارة أو للصناعة فإنها تحتكر سوق العمل، ويلعب أصحاب رءوس الأموال دور المستعمرين أو المستوطنين. سابعًا انحصار السلطة في يد الصفوة المتعلمة، وغياب الحركة الاجتماعية، وسيطرة صلات القرابة والعلاقات الأسرية، وزواج الأبناء بقرارٍ من الآباء، وتحويل النشاط الإنساني كسلعة، والتخلف الاجتماعي للنساء، وتسلط المؤسسات الدينية وتواطؤها مع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كل ذلك مظاهر تخلف في المدن في البلاد النامية، يكشف عن البناء الاجتماعي والتركيب الطبقي.
ويعطي توريز نموذجًا آخر لعلم الاجتماع القومي، في دراسته عن «مستوى المعيشة في بوغوتا» كمدينةٍ في أحد البلاد النامية. ففي مثل هذه المدن توجد أحياء بائسة، وهي في الغالب الأحياء العمالية، وتشير إلى نشأة البروليتاريا Proletarization. ولا يعني أخذ هذه الأحياء موضوعًا للدراسة وقوعًا في الديماغوجية، أو الاستنفار على الثورة بقدر ما يعني إعطاء بيانات صحيحة، تصور واقع هذه الأحياء.
وترتبط ظاهرة نشأة البروليتاريا بظاهرةٍ أخرى، وهي الهجرة من الريف إلى المدينة Urbanization. فالظاهرة الأولى معلول، والثانية علة تنشأ البروليتاريا في المدينة عند هجرة أهل الريف إليها، عندما يفقد عددٌ كبير من أهل الريف كل وسائل المعيشة في الريف، فيهاجرون إلى المدينة، ويعتمدون على أجورهم من العمل وحده، ويقتضي ذلك وجود بناء اقتصادي اجتماعي يقوم على تقسيم العمل، وعلى تجميع رأس المال وعلى التصنيع، وكل ذلك ظواهر تصاحب الانتقال إلى المدينة الكبيرة. وبتراكم العنصر البشري، وتزداد الخدمات. فإذا كان التصنيع ظاهرة اقتصادية أكثر منها اجتماعية، فإن الهجرة إلى المدينة ظاهرة اجتماعية أكثر منها اقتصادية.

وفي البلاد المتقدمة، وقفت حركة تكوين طبقة البروليتاريا؛ وذلك لأسبابٍ اقتصادية مثل تناقص رأس المال، أو اجتماعية مثل تحقيق بعض مطالب البروليتاريا، أو قانونية مثل تشريع بعض القوانين العمالية من أجل حماية مصالح البروليتاريا، أو تنظيمية مثل إنشاء النقابات واللجان المشتركة، ولجان التحكيم والوساطة، أو سياسية مثل ظهور الديمقراطية الاقتصادية ومشاركة العمال في مجالس الإدارة وفي التسيير الذاتي، هذا بالإضافة إلى زيادة أجور العمال نظرًا لزيادة الإنتاج، وتحولت الملكية الخاصة إلى ملكية للمؤسسات وللجمعيات، ففقدت الملكية الفردية قيمتها في الزهو والافتخار.

وفي البلاد النامية، تزداد حركة البروليتاريا بازدياد التصنيع، فالإنتاج ما زال ضئيلًا، والأجور منخفضة «الأجور الفعلية بالنسبة لارتفاع مستوى المعيشة»، والادخار قليل، وتمثل الملكية الفردية عنصر الأمان؛ لأن قيم المجتمع الإقطاعي ما زالت سائدة، فالملكية الصغيرة رد فعل على الملكية الكبيرة، والنظم والمؤسسات العمالية ناقصة أو ضعيفة.

وزيادة سكان أهل المدينة ظاهرة عالمية بالرغم من انخفاض معدل النمو السكاني في المدينة عنه في الريف. ويرجع السبب الحقيقي في ذلك إلى الانتقال المستمر إلى المدينة، رغبةً في رفع مستوى المعيشة؛ فالفرق بين المدينة والريف كالفرق بين عهدين من عهود التاريخ، وأكبر من الفرق بين البلاد المتقدمة والبلاد النامية، هذا بالإضافة إلى وسائل الجذب في المدينة مثل توفر الخدمات ووسائل الترفيه والراحة، وكذلك رغبة أهل الريف في البحث عن الأمان نظرًا لوجود العنف في الريف.

وقد كانت الهجرة من الريف إلى المدينة سببًا في ظهور البطالة الصريحة أو المقنَّعة، خاصةً في المدن الإدارية والتجارية والثقافية؛ أي في مدن الخدمات «القطاع الثالث»؛ وذلك لأن التصنيع قد نشأ في البلاد المتقدمة بعد مرحلة الصناعة اليدوية Artisanat مما ساعد على وجود أيادٍ عاملة مؤهلة، في حين أن التصنيع في البلاد النامية يتم وبسرعة أكبر، ويحتاج إلى أيدٍ عاملة مؤهلة، لا تتوافر في أهل الريف.

ويدل التركيب الاجتماعي للمدينة على وجود طبقتين اجتماعيتين: طبقة عمالية تشمل عمال المدن الذين يعملون في الصناعة لا الذين يعملون خارجها، وطبقة متوسطة تقوم بالعمل العقلي هي طبقة الموظفين، أجور الطبقة الثانية أعلى من أجور الطبقة الأولى. ويقارن توريز بين حياة الطبقتين، وينتهي إلى أن حجم مصاريف الطبقة العمالية أقل بكثيرٍ من حجم مصاريف الطبقة المتوسطة، خاصةً فيما يتعلق بالإسكان والملبس والتغذية والخدمات، وهنا تبرز المشكلة الأساسية في البلاد النامية، وهي التركيب الطبقي للمجتمع، فبؤس الأحياء العمالية لا يرجع إلى نقص في العائد المالي للصناعة، وتغطية ذلك بخفض مستوى الأجور، ولا يرجع أيضًا إلى هجرة العمال غير المؤهلين من الريف إلى المدينة، كما لا يرجع ثالثًا إلى زيادة السكان مما يضر بمستوى الأجور، بل يرجع أساسًا إلى عيوب في البناء الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

وعملية الانتقال من الريف إلى المدينة عند بعض علماء الاجتماع ظاهرة سكانية فحسب، أي مجرد تجمع سكاني، وعند البعض الآخر ظاهرة صناعية فحسب، وعند فريقٍ ثالث ظاهرة تضخم وكثافة ومقدار وتنوع. ويرى توريز أنها ظاهرة اجتماعية أو ظاهرة نمو تدل على الانتقال من نوعٍ من التجمع البشري إلى نوعٍ آخر، من المجتمع الريفي إلى المجتمع المدني، أو من الجماعة Gemeinschaft إلى المجتمع Geselschaft حسب تفرقة تونيس Tonnies المشهورة. فالمجتمع الريقي وظائفه محدودة ومعزولة، مجتمع أمي، ليس له أهداف ثقافية، الترابط الاجتماعي فيه تقليدي تلقائي دون أي نقد ذاتي، الأسرة فيه هي وحدة العمل الأولية، القرابة لها أهميتها في تحديد العلاقات الاجتماعية، المقدس له الأولوية على الدنيوي ويسود عليه، الاقتصاد فيه يقوم على الاستهلاك الذاتي وليس على السوق. أما المجتمع المدني فعلى العكس مفتوح ومتنوع، الترابط فيه أقل، تلقائيته أضعف، يقوم على النقد الذاتي، له أهدافٌ ثقافية وحضارية، تفقد فيه القرابة وظيفتها الاجتماعية. ليست الأسرة وحدة العمل الأولى، يفقد الدين أولويته على الدنيوي، يقوم الاقتصاد فيه على السوق، والانتقال من شكل الحياة الاجتماعية الأول إلى الشكل الثاني سمة من سمات التقدم.

ويتضخم في المجتمع المدني القطاع الثالث، قطاع الخدمات؛ إذ يحتاج التجمع السكاني الكبير إلى خدماتٍ كما يحتاج إلى القطاع الثاني، وهو الصناعة، أكثر من احتياجه إلى القطاع الأول، وهو الزراعة التي يقوم بها أهل الريف خارج المدينة، تكثر في المدينة خدمات النقل والإدارة والتجارة، والصناعات الصغيرة، ويظهر الاقتصاد الكبير وتقل التكاليف.

وفي المدينة، تبدأ عمليات التنمية، فيتجمع رأس المال وتتغير القيم التقليدية، ويقوم المجتمع الجديد على الترشيد اللازم للتصنيع. يبدأ «تصوف التنمية» أي اعتبار التنمية وسيلة لإظهار النشاط الإنساني، وقدرات العقل على التخطيط، وتتم التنمية باستمرار لصالح المدينة لتلبية حاجاتها للرفاهية، ويظل أهل الريف دون تغيير. وتحاول طبقة المدينة خلق اقتصاد سوق، والدخول في المنافسة في الأسواق العالمية، وإدخال التقدم التكنولوجي، وإنشاء شبكة محكمة للمواصلات. وقد كانت الخطة المسماة «عملية كولومبيا» من وضع أهل المدينة الذين تعلموا في الخارج، والذين يكونون جماعات ضاغطة على السلطة، من أجل إصدار قرارات في صالح الطبقات الجديدة التي يعاد توزيع الدخل القومي لأجلها، باسم التنمية، وهي الطبقات التي نشأت بتضخم القطاع الثالث، ولا يكفي إدخال الإصلاح الزراعي في خطة التنمية، ما لم يكن مصاحبًا بتوسيع الأراضي المزروعة، واستصلاح أراضٍ جديدة، وإدخال أساليب الزراعة الحديثة، وتكوين الجمعيات التعاونية للمساعدة الآلية، والتسليف والتسويق، والتثقيف الزراعي، ولكن أهم ما يؤدي إليه الإصلاح الزراعي هو هدم الكيان الطبقي في الريف؛ أي إنه ظاهرةٌ اجتماعية أكثر منها اقتصادية.

خامسًا: التخطيط والتنمية الاقتصادية

لكي تكون هناك تنمية اقتصادية، لا بد من وضع برنامج اقتصادي يضع المستقبل في حسابه وهو ما يعادل التخطيط. فالتخطيط هو مجموع الوسائل والغايات التي تستخدم من أجل تنمية الثروات والخدمات في مجالٍ معين، ويختلف التخطيط من جماعةٍ لأخرى ومن بلدٍ لآخر، ومن نظامٍ لآخر ومن سلطةٍ لأخرى.

فالتخطيط في البلاد الاشتراكية حتمية أكثر من كونه نتيجة لنظرية مسبقة من منظري الماركسية، فنظرًا لنقص المواد الأولية، ركز الاتحاد السوفيتي على ضرورة توزيعها، وكانت مهمة «المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني» الذي كونه لينين سنة ١٩١٨م، معرفة متطلبات الزراعة ثم استطاعت «هيئة التقدير Service de conjoncture» وضع تقديرات للمستقبل على المستوى الوطني، تحولت إلى توجيهاتٍ عامة، ثم وضعت «لجنة الخطة» سنة ١٩٢٣م خططًا خمسية للصناعات الثقيلة والنقل. وبعد خمسة عشر عامًا ظهرت نظرية التخطيط الوطني، وبدأت باحترام الملكيات الصغيرة، ووسائل الإنتاج الخاصة، ولم تكن مختلفة عن التخطيط حاليًّا في البلاد الرأسمالية. ولم يطبق التخطيط الكامل بالفعل إلا بعد أن استولت الدولة على وسائل الإنتاج، فأصبح الاتحاد السوفيتي ثاني قوة في العالم بعد أن كان بلدًا متخلفًا سنة ١٩١٧م. وبصرف النظر عن النظرة الماركسية، استطاع الاتحاد السوفيتي استخدام كل مصادر الثروة الوطنية.
وفي البلاد الرأسمالية، نجد أن التخطيط قد بدأ في ألمانيا، قبل الحرب العالمية الثانية. فبصرف النظر عن الخطط الجزئية، وضعت خطة للتنمية القومية. وقد تأخر التخطيط في ألمانيا لعدة أسبابٍ منها: وفرة المواد الأولية، غياب التكامل الاقتصادي في المنطقة (مثل السوق الأوروبية فيما بعد)، غياب التخطيط العام على مستوى المؤسسة أو على المستوى المحلي، غياب الإحصائيات الكاملة أو المضبوطة، غياب تصور لتدخل كافٍ من الدولة. نشأ التخطيط في البلاد الرأسمالية، بدافعٍ من المنافسة ومن أجل المحافظة على المصالح الخاصة، لا تحقيقًا للاحتياجات العامة. وصحيح أن الاقتصاد كان موجهًا من الأقلية الضاغطة، ولكن زاد دخل الأغلبية وبدأت التنظيمات للعمل، وبعد زيادة التعليم والتعاونيات بدأت تمارس سلطاتها كجماعةٍ ضاغطة على الحكومة، فأصبحت القوى إلى حدٍّ ما متعادلة، فتحولت مصالح الخاصة إلى مصالح عامة، ولكن انتقل الاستغلال والاحتكار إلى نطاق العلاقات الدولية، فضُحي بالبلاد الفقيرة من أجل البلاد الغنية، وتحول رأس المال الوطني إلى استعمارٍ عالمي على ما يقول لينين.٤ الفرق في التخطيط في البلاد الرأسمالية عنه في البلاد النامية، هو درجة توجيه الدولة للاستثمارات، وسرعة تطبيق هذه التوجيهات. ففي البلاد الرأسمالية، يتم التوجيه بطريقٍ غير مباشر كالضرائب، والقروض، والمعونات، ولكنها لا تصل إلى مستوى التخطيط في البلاد الاشتراكية، تظل المصالح الخاصة قوية، ويكون لها دورٌ فعال في أخذ القرارات السياسية.
أما التخطيط في البلاد النامية فإنه يستمد تجاربه من البلاد الرأسمالية والبلاد الاشتراكية على حدٍّ سواء. ولكن أجهزة التخطيط فيها غير فعالة، فضلًا عن عيوب في البناء الاجتماعي نفسه الذي هو العقبة الكبرى أمام التخطيط السليم، وكذلك ما يمكن تسميته «عتبة البداية» seuil de démarrage أي مَن القائم على شئون التخطيط ولمصلحة من يتم التخطيط؟ بالإضافة أيضًا إلى عقلية الوصاية Paternalisme التي ما زالت تسود كثيرًا من البلاد النامية. ولكن يمكن إجمال العقبات في نوعين: عقبات اقتصادية وعقبات اجتماعية.

وأهم العقبات الاقتصادية هي نقص الاستثمارات الإنتاجية. فالاستثمارات إما وطنية أو أجنبية، والأولى نادرة لأن الادخار نادر، بسبب ضعف الدخول، أو لوجود المدخرات في بلادٍ أكثر أمانًا (مدخرات البترول العربي في بنوك سويسرا مثلًا)؛ ولأن معظم المواد المنتجة مواد استهلاك، لا مواد إنتاج، والاستثمارات الأجنبية تعطى بشروط، وغالبًا ما تمس السيادة الوطنية. يجب إذن أن تخضع الاستثمارات لخطةٍ قومية حتى تقل تكاليف الإنتاج، ويكون قوامها التصنيع، والتصنيع الثقيل. وبفضل التكامل الاقتصادي للمنظمة، يمكن التخصص في الزراعة، أو في الصناعة، ويكون التسويق أيضًا قوميًّا (السوق العربية المشتركة). وثانية العقبات الاقتصادية هي نقص الخبرة البشرية المتخصصة، وبالتالي فيجب تخصيص جزء من استثمارات البلاد النامية في الاستثمار البشري وتكوين الكوادر المتخصصة. وتفضل البلاد النامية حاليًّا الاستثمار في التسلح، أو في تضخيم جهاز الدولة، لمواجهة خطط الاستعمار الخارجية التي وضعت من أجل استنزاف الموارد (كالصهيونية مثلًا في قلب العالم العربي) وكذلك لتعيين الخريجين، والقضاء على البطالة، أو لتوجيه الاستثمارات لسد حاجات الأقلية الحاكمة. يجب إذن القضاء على الأمية العامة، والأمية الخاصة (خلق الكوادر المؤهلة)، كما يجب إعادة التخطيط الإداري، والحد من هجرة الكفاءات، بدلًا من تعويضها بخبراتٍ أجنبية. وثالثة العقبات الاقتصادية هي عيوب خطة التنمية ذاتها ووجود التخطيط في يد الأقلية الحاكمة، أو الجماعات الضاغطة المرتبطة بها، والمتفقة معها في المصالح والأهداف التي يقوم على تنفيذها طبقة أخرى من الموظفين الإداريين. وكثيرًا ما تقوم في البلاد النامية تحت ضغطٍ عسكري إرهابي من الجيش. وما يقال عنه إنه ثورة في البلاد النامية، ليس ثورة حقيقية بل هي مجرد تغيير نسبي داخل الأوضاع القائمة، واستعمال السلطة لوسائل غير شرعية، إذا عجزت عن استعمال الوسائل الشرعية. فالأقلية الحاكمة لها السلطة العسكرية والاقتصادية والثقافية والدينية. ومع ذلك يمكن للبلاد النامية رفع مستوى المعيشة برفع القدرة الشرائية، وذلك لا يتم إلا بوجود اقتصاد وطني للسوق، وإعطاء الأرض للعمال الزراعيين لا للملاك الغائبين، واستثمار الأموال والمدخرات الوطنية داخل البلاد، والقضاء على الاحتكار، ووضع الحمايات الجمركية للصناعات الوطنية. ومع ذلك فالنتيجة النهائية هي أنه من الصعب على الطبقات الحاكمة في البلاد النامية أخذ قرارات لصالح الجماهير وليس لصالحها الخاص، وهي تبلغ من القوة حدًّا تستطيع معه احتواء كل جماعة ضاغطة، فلا يمكن أن تأتي منها المبادرة لطبيعة التركيب الطبقي للمجتمع.

أما العقبات الاجتماعية، فهي تأتي من تكوين الجماهير التي لا تستطيع بسهولة ممارسة الضغط الكافي لتوجيه سياسة الأقلية الحاكمة. وأهم هذه العقبات هي أولًا نقص الاهتمام، وفقدان الحماس، وعدم الثقة بالنفس، واللامبالاة بكل ما يدور حولها؛ نظرًا لأنها لم تنظم تنظيمًا حزبيًّا أو سياسيًّا. ثانيًا نقص في التعليم؛ وذلك لأميتها، ولغياب الحركة الاجتماعية بداخلها، وإطلاق الشعارات دون تحقيق لها. ثالثًا: سلبية الإعلام، وعدم قيادته للجماهير، ونقص عمليات التوعية الجماعية. رابعًا: نقص حرية العمل السياسي النقابي أو الحزبي، وشراء القيادات وإغرائها بالمناصب، وبزيادة المرتبات، أو تهديدها، وتطبيق المكارثية ضد الزعماء.

لم يبقَ أمام الجماهير في البلاد النامية إلا تكوين جماعات للضغط السياسي، إما عن طريق الإعلام، أو عن طريق نشاط الجماعات، أو بالضغط السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي. وقد يكون الضغط السياسي شرعيًّا أو غير شرعي، سلميًّا أو قائمًا على العنف، كما يمكن أن يؤدي إلى تغيير نسبي أو إلى تغييرٍ جذري في الهيكل الاجتماعي نفسه؛ النسبي من أجل الحصول على بعض الحقوق، والجذري من أجل الحصول على كافة الحقوق، الأول إصلاحي والثاني ثوري، الأول في حدود الوضع القائم والثاني من أجل تغيير البناء الاجتماعي: الملكية، العائد، الاستثمارات، الاستهلاك، نظم التعليم، التنظيم السياسي والإداري، العلاقات الدولية. وتتغير إرادة التقدم ورؤية المستقبل للطبقات الحاكمة طبقًا لنوع الضغط الممارس عليها من الطبقات الشعبية، طبقًا للجدول الآتي:

الوضع قبل تغير الأبنية الاجتماعية الوضع بعد تغير الأبنية الاجتماعية
الطبقة الشعبية الطبقة الحاكمة المثل النتيجة
الضغط القدرة على التنبؤ إرادة التغيير
حد أقصى حد أقصى متوسط شيلي ثورة سلمية
حد أقصى حد أدنى حد أدنى كوبا ثورة مسلحة
متوسط متوسط حد أدنى كولومبيا إصلاح
متوسط حد أقصى حد أدنى البرازيل انقلاب يميني
حد أدنى حد أقصى حد أدنى فنزويلا قهر
متوسط متوسط متوسط أورجواي الوضع القائم
حد أقصى حد أقصى حد أقصى ؟ ثورة سلمية مثالية
ومن الجدول السابق يمكن استخلاص النتائج الآتية:
  • (١)

    لا تحدث التغيرات في الأبنية الاجتماعية في البلاد النامية إلا بضغط الطبقات الشعبية.

  • (٢)

    ترتبط فرصة الثورة السلمية بدرجة التنبؤ لدى الطبقة الحاكمة لأنه من الصعب أن تكون لديها إرادة تغيير.

  • (٣)

    الثورة المسلحة هي البديل عن صعوبة التنبؤ للطبقة الحاكمة وعدم وجود ثورة سلمية مثالية إذا بلغ الضغط الشعبي إلى الحد الأقصى.

سادسًا: العنف والتغيرات الاجتماعية

انتهى توريز من دراساته الاجتماعية إلى أنه لا يمكن إحداث أي تقدم في البلاد النامية إلا بتغير البناء الاجتماعي فيها، وأنه لا يمكن تغيير هذا البناء الاجتماعي إلا بالعنف، كما حدث في كوبا. فالعنف هو الوسيلة الوحيدة لإحداث التغيرات الاجتماعية والثقافية في البلاد النامية.٥
وقد غيَّر العنف طبيعة المجتمعات الريفية بوجهٍ عام على النحو الآتي: أولًا إذا كانت هذه المجتمعات ينقصها التخصص وتقسيم العمل، وينحصر دورها الاجتماعي في أضيق الحدود (السوق، النشاط الديني، النشاط العائلي). فإن العنف فرض احتياجاتٍ اجتماعية جديدة على الفلاح، وجعله يشعر بضرورة التخصص وتقسيم العمل، فهناك جماعات مختصة بالحرب، وأخرى بجمع المعلومات، وثالثة بالاتصال بالفلاحين، ورابعة للإمدادات، وخامسة للمساعدات الاجتماعية، وسادسة للعلاقات العامة والإعلام … إلخ. كما اتسع الدور الاجتماعي للفلاح، فأصبحت مهمته المراقبة، ومعاونة رجال العصابات؛ أي إن المجتمع الريفي، بدأ يتحول من الجماعة إلى المجتمع، ومن الترابط الآلي بين الأفراد إلى الترابط العضوي، على ما يقول دور كايم، ومن السلوك التقليدي الانفعالي إلى سلوكٍ قائم على العقل وعلى النقد الذاتي. ثانيًا: تقوم المجتمعات الريفية على «العزلة الاجتماعية» نظرًا لغياب وسائل الاتصال الاجتماعية، ولكن بفضل العنف تمت شبكة للاتصالات لخدمة جيش التحرير، خاصة المواصلات الإنسانية، والحركة الاجتماعية داخل الريف. فنشأ نوعٌ جديد من الترابط الاجتماعي، يقوم على الترشيد، وعلى تحقيق أهدافٍ معينة، كما نشأ نوعٌ جديد من التضامن الاجتماعي الذي يقوم على وحدة المصلحة لا على الأسرة أو القرابة، كما نشأ أيضًا ما يمكن تسميته بالوعي الطبقي لدى الفلاحين، وإحساسهم بالانتماء إلى طبقةٍ واحدة، لها الحق في العمل الموحد. ثالثًا: تلعب جماعة الجوار في المجتمع الريفي دورًا هامًّا؛ فالأسرة هي نظام الرقابة الأكثر فاعلية، وتوجيه المدح وإلقاء اللوم هو الذي يحدد السلوك الاجتماعي. ولكن العنف استطاع كسر حدة جماعات الحوار، وأصبحت جماعات رجال العصابات هي جماعات الجوار الجديدة التي استطاعت توسيع رقعة النشاط الاجتماعي، وربط العائلات في مجموعاتٍ أوسع. بل لقد انتقلت بعض العائلات بمحض إرادتها من منطقةٍ لأخرى طبقًا لضرورات الحرب في مواجهة جيش الأقلية الحاكمة. رابعًا: يصاحب ظاهرة العزلة في العلاقات الاجتماعية، ووجود جماعات مغلقة ظاهرة أخرى، وهي الفردية التي تظهر في الملكيات الصغيرة minifundia التي تحتاج إلى الجهد البشري الفردي أثناء المواسم الزراعية؛ فالمصالح هنا فردية، ولا تظهر روح التعاون إلا من خلال روح الفرد. ولكن العنف قضى على هذا الطابع الفردي للجهد البشري؛ إذ يتطلب تنظيم جيش التحرير روح الجماعة والعمل الجماعي، وهناك «قواعد تنظيم جيش العصابات» التي تقضي على العزلة الفردية، كما أن هناك العمل الزراعي الجماعي لرجال العصابات، الذين هم في نفس الوقت فلاحون. تنشأ الحاجات إلى العمل الجماعي، والدفاع الجماعي، والمطالبة الجماعية بالحقوق والوقوف الجماعي في وجه السلطة، كما تنشأ ثقافة جماعية صادرة عن نمو الوعي الطبقي. خامسًا: هناك بعض التنظيمات في الريف، مثل التنظيمات الحكومية والكنسية والتنظيمات الخاصة التي تكوِّن مع الفلاحين جماعات مغلقة، ويشعر الفلاحون معها بالانتماء فيقولون «كنيستنا»، «بلديتنا». ولكن بعد العنف، حدث الشقاق بين الفلاحين وهذه المؤسسات التي اعتبرها الفلاحون منذ ذلك الحين مؤسسات معادية، يجب مناهضتها؛ لأنها خارج الجماعة، وتعمل ضدها. بعد العنف انقسم الفلاحون قسمين: قسم مع الثورة، وهم الفلاحون الأحرار، وقسم ضد الثورة، وهم الفلاحون المحافظون، وظهر قسمٌ ثالث وهم الفلاحون الشيوعيون المعارضون للسلطة القائمة. بعد العنف أصبح قادة الفلاحين موجهين حقيقيين لحياتهم، بدلًا من القادة القدامى الموظفين الذين لا يخرجون من مكاتبهم، وظهرت قيادة فلاحية جديدة، تنبئ عن وجود طلائع ثورية، يمكن الوثوق بها. سادسًا: كان المجتمع الريفي يشعر دائمًا بعقدة نقص أمام مجتمع المدينة، ولكن بعد العنف حلت هذه العقدة، وأصبح الفلاحون هم القادة الحقيقيون للمجتمع المدني بل أصبح لديهم إحساسٌ بالتفوق على مجتمع المدينة؛ فقد هزم رجال العصابات الجيش الرسمي للحكومة، وانتصر مجتمع الريف على مجتمع المدينة.
وفي المجتمعات الريفية في البلاد النامية بوجهٍ خاص، نجد أن العنف قد غير طبيعة العلاقات الاجتماعية في الريف. يتميز الريف بغياب الحركة الاجتماعية الرأسية، فهناك نوعان من الحركة الاجتماعية الصاعدة: الحركة الاجتماعية المادية التي ينتقل فيها الأفراد من مستوى مادي إلى مستوى مادي أعلى، والحركة الاجتماعية الثقافية أي تغيير نظام القيم في المجتمع الريفي. فمن ناحية الكم إذا كانت هناك حركة اجتماعية ضخمة، فإن الطابع المحافظ للمجتمع يتغير، أما إذا كانت الحركة الاجتماعية، في مجموعات محدودة فإن الطابع المحافظ قد يظل كما هو دون تغير. ومن ناحية الكيف إذا كانت الحركة الاجتماعية شاملة للقادة فإنها تعم جماهير الفلاحين أكثر مما لو ظل القادة في سكونهم الاجتماعي دون حركة. أما الحركة الاجتماعية الهابطة فإنها تحدث أيضًا نتيجة للزيادة السكانية، وخفض الأجور، وخفض مستوى المعيشة بوجهٍ عام. ولكن العنف استطاع تغيير الحركة الاجتماعية في الميادين الاقتصادية والثقافية والسياسية والإدارية والعسكرية والكنيسة.٦ ففي الميدان الاقتصادي يمثل الحرمان الاقتصادي في المجتمعات النامية سببًا جوهريًّا في وجود الحرمان الاجتماعي، ويظهر هذا الحرمان بين قطبين: العقلية الرأسمالية المسيطرة على وسائل الإنتاج من القمة، والضغط الشعبي الاجتماعي من القاعدة، وتوتر القطبين بشير بالتقدم. ولكن بعد العنف، استطاع الفلاحون تكوين جماعة ضاغطة؛ فقد جعلهم العنف يشعرون بحاجاتهم، وبقوتهم البشرية، وأخرجهم من السلبية التقليدية. خلق العنف الاتصال اللازم ليقظة الفلاحين ووعيهم ببؤسهم، كما حقق لهم غايات اقتصادية محددة؛ وذلك بشراء الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين وبمصادرة المحاصيل والماشية وبعدم سداد الديون. فشعر الفلاحون أنه بالعنف يمكنهم الحصول على حقوقهم الاجتماعية، وأصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحركة الاجتماعية المادية الصاعدة. وفي الميدان الاقتصادي، يتميز المجتمع الريفي بالأمية لدى الغالبية، أو بالتهرب من التعليم الأولي، لأسبابٍ اقتصادية؛ ولأن معظم المدارس الأولية بالمدينة. أما التعليم الثانوي فغالبيته مدارس خاصة، لا يقدر عليها إلا الطبقة المسيطرة، والتعليم العالي محدودٌ للغاية مهمته تخريج موظفين للدولة، تغلب عليهم روح المحافظة والولاء للصفوة، ولا يصل أبناء الفلاحين إلى درجة التعليم العالي على الإطلاق. ولكن بفضل العنف، استطاع الفلاحون المطالبة بإنشاء المدارس داخل الريف، ولكنهم لم يستطيعوا بعد تغيير حياتهم الثقافية إلى حدٍّ كبير. وفي الميدان السياسي فإن الفلاحين لا يحصلون على أي منصبٍ حساس إلا إذا كان منتسبًا إلى حزب الفلاحين المحافظ. أما كبار الموظفين فإن السلطة الحاكمة هي التي تعينهم من أتباعها، وهي أقلية محافظة، لا تشعر بالأمان، وعدوانية على كل من يخرج عليها، تمثل مجموعة من المصالح للأقلية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتأتي بطريق الانتخاب الذي يتم بالضغط الاقتصادي والإرهاب العسكري أو بالتزييف العلني. ولكن العنف أنشأ نوعًا آخر من الحكم في الظل Informed، فظهرت جمهوريات مستقلة داخل البلاد في المناطق التي حررتها الحرب الشعبية، بل لقد حاولت السلطة الرسمية استمالة قادة حرب العصابات، والتعاون معهم. واشترك الفلاحون في السلطة السياسية في المناطق المتحررة، وتحققت لأول مرة ديمقراطية الحكم، أو حكم الشعب. وفي الميدان الإداري فإن الفلاحين كانوا مستبعدين باستمرار من الوظائف العامة الحكومية أو الخاصة، وكانت الوظائف وقفًا وعلى السياسيين أو من لهم دخول سنوية عالية، وكان يشترط في الوظائف الخاصة المحافظة على التقاليد، والولاء لأصحاب رءوس الأموال والسلطة والأوضاع القائمة. ولكن بفضل العنف، أنشئ نظام إداري عسكري موازٍ للإدارة الرسمية، لتنظيم حرب العصابات، ولتجنيد الفلاحين، كما أنشئت وظائف أخرى مثل المبعوث السياسي، المسئول المحلي، السكرتير العام … إلخ؛ أي إن براعم جديدة نشأت داخل الدولة القديمة، فنشأت المحاكم الخاصة برجال العصابات، ووضعت القوانين الضريبية. ومن ناحيةٍ أخرى تم القضاء على نظام الحكم المركزي، ونشأت اللامركزية، ونظم الحكم المحلية بقيادة جماعات جيش التحرير. ومن ناحيةٍ ثالثة، ظهرت جماعات ضاغطة لتوجيه المهام الإدارية لصالح الفلاحين؛ وذلك بالإضرابات العامة أو بالمطالبة بحقوقهم المشروعة. وأخيرًا في الميدان العسكري، نجد الجيش الرسمي والبوليس في أيدي الأقلية الحاكمة التي تستخدمهما معًا في المحافظة على الوضع القائم، ويتمتع أفرادها بدخولٍ عالية من أجل ضمان ولائهم. فأصبح الجيش غير شعبي على الإطلاق، ولم يعرف الشعب من البوليس إلا ضربات العصي، وكثيرًا ما يتدخل الجيش لصالحه الخاص، أو لنصرة فريق من الأغلبية على فريقٍ آخر. ولكن بعد العنف، نشأ جيش آخر يأخذ فيه الأفراد حقوقهم الاجتماعية، وتكون الترقية فيه بمقدار الخدمة الوطنية، وتكون مهمته الأساسية في التغيير الاجتماعي، ويقوم على تجنيد الفلاحين طبقًا لصفاتهم الذاتية.

وإذا كان العنف في بعض المناطق لم يستطع تحقيق الحركة الاجتماعية في الميادين السابقة، فإنه استطاع في مناطق أخرى خلق «عداء كامن» فردي واجتماعي بالنسبة للسلطة القائمة. وهذا العداء الكامن شعورٌ طبيعي، يعبر عن الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، ويتحول إلى تدمير. استطاع العنف إذن توليد الشعور بالحرمان، ثم تقوية هذا الشعور، ثم إعطاء الوسائل العملية للقضاء على هذا الحرمان.

وفي المجتمع الكولومبي بوجهٍ خاص نجد الطائفية الحزبية سائدة، ولا بد للفرد فيه من الانتماء إلى حزبٍ معين حتى يترقى اجتماعيًّا؛ ومن ثم يلعب الحزب دورًا خطيرًا في المجتمع الكولومبي؛ فهو أداة في يد السلطة للمحافظة على الوضع القائم، وامتصاص غضب الجماهير بإعطائها ما تطلب بشرط ضمان الولاء منها للسلطة، ويتسلق عليه كل من يريد الوصول إلى السلطة. ثم نشأ العنف، كتعبيرٍ عن طائفة المحرومين المقسمين بين الأحزاب التقليدية، والتي ترفض الدخول في الألاعيب الحزبية بعد أن استعملت السلطة العنف للقضاء على هذه الجماعات الثورية المنشقة على الأحزاب السياسية أو العاملة من خلالها. ونجد أيضًا في المجتمع الكولومبي غياب الوعي الطبقي، نظرًا لسيادة الأبنية التقليدية فيه، وغياب التنظيمات الشعبية، ووقوع الجماهير في الفردية والعزلة نظرًا لقلة الاتصال بينها، ونقص وسائل الإعلام، وغياب الحركة الاجتماعية وسيادة القيم التقليدية، والعواطف التواكلية والقدرية. ثم نشأ العنف، ونشأ معه الوعي الطبقي، ووحد بين الفلاحين، وحقق التضامن بينهم. وأخيرًا نجد في الشعب الكولومبي غياب الملكية الفردية كجزءٍ من تقاليده القديمة؛ وذلك لأنه لم يعرف في تاريخه القديم إلا الملكية الجماعية، ولكن الملكية الفردية لم تأتِ إلا مع المستعمرين الإسبان، وبالأفكار الليبرالية التي تؤله الملكية الفردية، ثم عادت الملكية الجماعية للظهور من جديدٍ بفضل العنف، ودفاع جميع الفلاحين عن الأرض.

ولكن ماذا عن الطبقات العمالية؟ لقد نشأ العنف في الريف كظاهرةٍ ريفية محضة وليس في المدينة. فالفلاحون هم الطبقات المحرومة في حين أن طبقة العمال تشارك إلى حدٍّ ما في خيرات المدينة. ومع أن العنف في المدن قد نشأ حاليًّا إلا أن توريز حاول بذر بذوره في المدينة، في الطبقة العاملة. فثورة العمال ضرورية مع ثورة الفلاحين؛ لأن كليهما له عدو مشترك، وهو الأقلية الحاكمة التي لا تعمل إلا لمصالحها الخاصة. ومع أن من العمال من ينتسبون إلى الطبقة البورجوازية في المدينة، إلا أنهم يمكنهم الانضمام إلى الثورة؛ لأنهم أقرب إلى الطبقات الشعبية منهم إلى الأقلية الحاكمة، ويستطيعون المشاركة في الثورة بالفعل، وليست بمجرد إعلان النوايا. والمشكلة العمالية ليست كما يصورها البعض مشكلة تكنولوجية: تصدير، نقد، مدفوعات … إلخ، بل المشكلة في جوهرها مشكلة اجتماعية في تسلط الأقلية الحاكمة، وهو ما يعلمه رجل الشارع دون حاجةٍ إلى علمٍ غزير وإحصائيات للتعمية أو للتعالم. فطريق العمال هو طريق الإضراب، والمطالبة بالمشاركة في الأرباح، وفي إدارة المصانع، بل وحقهم في التسيير الذاتي لها. طريقهم رفض الدخول في ألاعيب الأحزاب، ورفض الاشتراك في الانتخابات المزيفة التي تجريها الأقلية الحاكمة. طريقهم تغيير البناء الاجتماعي كله من القاعدة إلى القمة، وإعطاء من يعملون حصيلة عملهم، فهم أصحاب الإنتاج الوطني. العمال كلهم ينتمون إلى طبقةٍ واحدة، والوعي بمصالحهم المشتركة يزيد من حدة شعورهم الطبقي. وتلك مهمة النقابات العمالية. لقد استخدمت السلطة العنف، ولا يقابل العنف إلا بالعنف، لا بالانتخابات المزيفة، أو بالعمل الحزبي المتواطئ، مع السلطة، فالطبقات الشعبية، الفلاحون والعمال، هي التي لها حق الحكم، وهي التي يجب أن تكون لها السلطة، وقادة الشعب ينبعون من الشعب ولا يُفرضون عليه، ويعبرون عن مصالحه ولا يتواطئون مع الأقلية الحاكمة.

سابعًا: الثقافة والوعي الطبقي

إذا كانت مهمة العنف الأساسية هي خلق الوعي الطبقي لدى طبقات الشعب، فإن ظهور الوعي الطبقي يؤدي إلى تغيير المفاهيم السياسية التي تستعملها الطبقة الحاكمة، وتأخذ معاني ومدلولات جديدة عند الطبقات الشعبية. هناك إذن ثقافتان: ثقافة الأقلية الحاكمة التي تمثل ١٥٪ من الشعب الكولومبي والتي يبدأ دخلها بأكثر من ثلاثة آلاف دولار في السنة، وثقافة الأغلبية المحكومة التي تمثل ٨٥٪ من الشعب الكولومبي. ولكل طبقةٍ قيمها ومفاهيمها، ويستحيل الحوار بينهما، ولا يكون هناك حوارٌ ممكن إلا العنف. مهمة المثقف الثوري هي تحليل لغة الثورة، وتحليل المفاهيم الدائرة وإرجاعها إلى نشأتها الطبقية، كما هو واضح في الجدول الآتي الذي يقدمه لنا توريز:

التعبير معناه عند الطبقة العليا معناه عند الطبقة الدنيا
الأقلية إهانة الامتياز
العنف قطع الطريق الخروج على المحافظة
الجماعة الضاغطة الصفوة المستغلون
الثورة قلب للأوضاع منافٍ للأخلاق التغير البناء
تغير الأبنية ثورة التغيرات الأساسية
الإصلاح الزراعي نزع غير شرعي للملكية استيلاء الفقراء على الأرض
الأحزاب السياسية تجمعات سياسية ديمقراطية الأقلية
الحساسية الاجتماعية اتجاه شعبي الوصاية
الصحافة السلطة الرابعة الصحافة الكبيرة
مانو نجرا «اليد السوداء» مركز الدراسات والعمل الاجتماعي الجمعية السرية المكارثية
الحركة النقابية صراع الطبقات مطالبة
العمل الحل السلمي تنظيم محلي
اليسار قلب الأوضاع الخروج على المحافظة
الشيوعية هذيان الثورة
الرأسمالية نظام اقتصادي الاستغلال
الاستعمار شعار ماركس أثر اليانكي «الأمريكيين»
فيدل كاسترو زعيم شيوعي زعيمٌ ثوري
انخفاض القيمة إجراء اقتصادي بؤس
الجبهة الوطنية سياسة التعايش السلمي اتحاد الأقليات
«الرابطة من أجل التقدم» مساعدة من أمريكا الشمالية استعمار
الكنيسة مؤسسة في صالح النظام قوة رجعية
الجيش قوة تستعمل في الردع العنف
البيروقراطية الإدارة طفيليات الدولة
البرلمان الديمقراطية طفيليات الشعب
العودة إلى السلام القضاء على قطاع الطرق موت رجال العصابات
«جيش السلام» متطوعون نزهاء السياح أو الجواسيس

ثامنًا: الدين والثورة

كان توريز راهبًا وعالم اجتماع. ولما كان قد انتهى من قبل إلى أنه لا يمكن إحداث أي تغيير في المجتمعات النامية، وخاصةً في أمريكا اللاتينية، إلا بعد تغيير البناء الطبقي للمجتمع؛ أي إن الكنيسة أيضًا، باعتبارها مؤسسة اجتماعية، ينطبق عليها هذا التحليل؛ فالكنيسة والدولة في أمريكا اللاتينية شيء واحد، وهناك اتفاق بينهما وتواطؤ؛ فرؤساء الكنيسة في نفس الطبقة الاجتماعية التي توجد فيها الأقلية الحاكمة، فهناك درجاتٌ متفاوتة داخل الكنيسة وهي: طالب المعهد الديني، نائب الخوري أو المرشد، خوري الريف، خوري الحي العمالي في المدينة، خوري الحي الصناعي، سيدنا أو الكاهن، معاون الأسقف، رئيس الأساقفة، الكاردينال.٧ ويمكن توضيح الطبقة الاجتماعية لكل درجةٍ كنسية على النحو الآتي:
  • (١)

    طالب المعهد الديني: طبقة متوسطة دنيا.

  • (٢)

    نائب الخوري أو المرشد: طبقة متوسطة متوسطة.

  • (٣)

    خوري الريف: طبقة متوسطة متوسطة.

  • (٤)

    خوري المدينة في الحي العمالي: طبقة متوسطة متوسطة.

  • (٥)

    خوري المدينة في الحي الراقي: طبقة متوسطة عليا.

  • (٦)

    سيدنا أو الكاهن: طبقة عليا دنيا.

  • (٧)

    معاون الأسقف: طبقة عليا متوسطة.

  • (٨)

    الأسقف: طبقة عليا متوسطة.

  • (٩)

    رئيس الأساقفة: طبقة عليا متوسطة.

  • (١٠)

    الكاردينال: طبقة عليا متوسطة أو عليا حسب النسب.

ومعظم الكهنة من الريف، ولا يترقى الكاهن من درجةٍ إلى درجة إلا حسب درجة طاعته للنظام ومحافظته Conformisme، وهو ما يسمى بالسيطرة على الذات. والمحافظة تعني عدم الخروج على قيم الطبقة العليا وسيطرة الأقلية الحاكمة. ومع ذلك فلا يدخل كثيرٌ من الناس سلك الرهبنة، كوسيلةٍ للانتقال الاجتماعي من طبقةٍ إلى طبقة، للبطء الشديد في هذا الانتقال؛ ولأن نصف طلبة المعاهد الدينية يتركون سلك الرهبنة في أول الطريق، وبعد حدوث العنف، ترك الفلاحون الكنيسة، واعتبروها جزءًا من الأقلية الحاكمة والبناء الاجتماعي القائم؛ كالحكومة والجيش، بل كثيرًا ما هاجموا الكهنة في هجومهم على السلطة الممثلة في الجيش والبوليس.
لذلك يرى توريز أنه لا بد من نزع ممتلكات الكنيسة من أرضٍ وعقار وأموال سائلة في البنوك. لقد عارضت الكنيسة قوانين الإصلاح الزراعي مع أن هذه القوانين في الحقيقة هي مساومة بين الطبقة الحاكمة وبين الطبقات المتوسطة في الريف التي تدعي التقدمية والإصلاح، وإن شئنا الطبقة البورجوازية التي تشتري أراضي كبار الملاك بأثمانٍ عالية، يستثمر هؤلاء أموالهم خارج البلاد، فضلًا عن أن الحد الأعلى للملكية ما زال ألف هكتار٨ من الأراضي المزروعة! في حين أن الإصلاح الزراعي الحقيقي له هدفان: الأول: إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين للقضاء على الطبقية في الريف، وزيادة إنتاج الأراضي الموزعة بخلق التعاونيات. لذلك كانت التربية الاجتماعية في الريف جزءًا لا يتجزأ من الإصلاح الزراعي. والثاني إعادة توزيع الدخل القومي على المواطنين دون إخراج جزء منه خارج البلاد، أو نقله من طبقةٍ إلى طبقة دون الوصول إلى الطبقات الدنيا. بالرغم من كل هذه العيوب في الإصلاح الزراعي؛ فقد عارضته الكنيسة لأنه سينزع ممتلكاتها من الأرض. فالكنيسة جزءٌ من الطبقة الحاكمة اقتصاديًّا وسياسيًّا، تخشى من ثورة الفلاحين عليها وهم الذين يكونون دولتها الثيوقراطية. ويرى توريز أن نزع أملاك الكنيسة بالقوة جزءٌ من تغيير البناء الاجتماعي في أمريكا اللاتينية. كما نزعت أملاكها من قبل في أوروبا في العصور التاريخية، في عصر التنوير وفي القرن الماضي.
ولكنَّ هناك الرهبان الثوريين الذين يشعرون بأنهم ينتسبون إلى الطبقات الشعبية أكثر من انتسابهم إلى الطبقات الحاكمة التي تتمثل فيها الكنيسة والجيش والبوليس والقوى الاقتصادية والأحزاب السياسية، وهؤلاء الرهبان هم الذين لأجلهم اتهمت السلطة الكنيسة بالشيوعية! ويرى توريز أن هذا الاتهام إن هو إلا مقدمة لإعلان محاكم التفتيش من جديد ضد الحركات التقدمية والثورية في أمريكا اللاتينية، فمن الناحية الصورية المحضة التي تودها الكنيسة، المسيحيون معمدون والشيوعيون لا يعمدون. وتتهم الكنيسة هؤلاء الرهبان بالخروج على السلطة الكنسية أو بالخروج عن العقيدة الرسمية. والحقيقة أن هذه التهم جزءٌ من المكارثية.٩ ودفاع الطبقة المسيطرة عن نفسها. فكل طبقة لها نظامٌ في الدفاع، ونظام الطبقة الحاكمة الممثلة في الكنيسة والدولة هي الاتهام بالشيوعية لكل الحركات الشعبية الثورية التي تود القضاء على هذه الأقلية المسيطرة على ثرواتها. والتاريخ مملوءٌ بأنظمة الدفاع الطبقية. فالمسيحي في الإمبراطورية الرومانية كان خارجًا على القانون، والثائر في المستعمرات الرومانية كان بربريًّا، والمفكر الحر في العصر الحديث وصف بالإلحاد. إن عقلية رجل الكنيسة خاصةً إذا كان ذا سلطة، عقلية إقطاعية؛ لأنه يريد أن يملك دون نظر إلى مصلحة الجماعة، وهو ذو عقلية رأسمالية لأنه لا يبحث إلا عن فائدته الخاصة.
لا بد إذن أن تعيد الكنيسة في أمريكا اللاتينية النظر في موقفها، فمن الصعب رؤية قباب عالية مطلية بالذهب من الداخل، وبالخارج أطفال يتساقطون جوعًا. هناك الصراع الحاد بين من يملكون كل شيء وبين من لا يملكون شيئًا، ولا وسط بينهما أو حلًّا مؤقتًا. أصبحت الكنيسة في نظر الشعب جزءًا من الاستغلال الواقع عليه، وأصبح من الصعب على الرهبان، وهم ينتمون إلى الطبقة الشعبية، مواجهة طبقتهم؛ فقد نظر إليهم الشعب على أنهم متواطئون، يرضون بفتات موائد الأسياد. وفضلًا عن ذلك ترتزق الكنيسة من الشعب، ويقوم الرهبان بأخذ مصاريف المراسيم والشعائر، حتى أصبح الدين في نظر الشعب، كالسلطة، كلاهما يريد أن ينزع عنه ما تبقى لديه، في حين أن الإيمان لا يتطلب شعائر أو طقوسًا. لقد نظم الاتفاق Concordat سنة ١٨٨٧م علاقة الكنيسة بالدولة، وجعل الدين الوحيد هو الدين الكاثوليكي. والعلمانيون يطالبون الآن بالحرية الدينية. لقد تحددت هذه العلاقة بناءً على المصالح المشتركة بين الكنيسة والدولة، فانحسم النزاع بينهما كقوتين كبيرتين، وحل الوئام والاتفاق، كما يحدث في المجتمعات الرأسمالية، عندما تبحث شركتان لا تقوى كل منهما على منافسة الأخرى واحتكار السوق. ولكن تم هذا الاتفاق على حساب الشعوب، خاصةً على إنكار مصالح الطبقات المعدمة. لقد أصبح هذا الاتفاق عند البعض «تابو» Taboa، لا يمكن المساس به. مع أنه يجب أن يتغير، فحاليًّا هناك كنيسة المعدمين والفقراء التي تعارض كنيسة الأغنياء والمحتكرين. ولكن كيف ستتغير؟ بتغيير البناء الفوقي السياسي أم البناء التحتي الاقتصادي؟ لا تتغير الكنيسة إلا إذا أصبحت أداةً في يد الطبقات الشعبية، وأحد وسائل نضالها. لقد كانت الكنيسة دائمًا مبررة للدولة التي هي موجودة بها، فكانت رومانية في عصر الإمبراطورية الرومانية، وكان ذلك نهايتها، عندما استقلت المستعمرات الرومانية، فكان ذلك استقلالًا ضمنيًّا عن الكنيسة الرومانية. وكانت ملكية قبل الثورة الفرنسية، وبعد الثورة استقل الناس عنها باستقلالهم عن الملكية. والآن هي جزءٌ من النظام الرأسمالي في أمريكا اللاتينية، وهو النظام الآيل للانهيار. فإلى أين تمضي الكنيسة بعد ذلك؟ وفي الخطاب الذي يوجهه توريز إلى رئيسه في الكنيسة، يعلن أن الكنيسة إن هي إلا سلطة اقتصادية وسياسية معادية للفقراء، ومعادية للثورة. إن الراهب بأمريكا اللاتينية في نظر الشعوب أقرب إلى الساحر بتمتماته وملابسه وكهنوته؛ لذلك فإن مهمته التخلي عن كل هذه المظاهر الخارجية، وأن يكون كسائر أفراد الشعب في مظهرهم ومخبرهم. الراهب الحقيقي هو المسيح عندما يُصلب ثانية؛ أي إنه هو الذي يجعل من حياته تحقيقًا لرسالة. فالراهب في العالم وليس منه، يعيش مع الآخرين، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.

وهنا يحاول توريز تفسير الدين تفسيرًا ثوريًّا، ويعيد بناء عقائده كما أعاد بناء نظمه ومؤسساته، فيرى أن المسيحية أساسًا تقوم على حب الجار وعلى الإحسان. ولا يعني ذلك تأسيس ثورة على أساسٍ خلقي؛ فالثورة لا تقوم إلا على تحليلٍ اجتماعي للواقع، والتعرف على البناء الاجتماعي الطبقي. ولكن توريز يحاول هنا إقناع رجال الكنيسة من الرهبان الصغار الذين هم أقرب إلى الشعب منهم إلى الرؤساء الذين يمثلون مصالح الأقلية الحاكمة والطبقة المسيطرة. وحب الجار معناه التضحية من أجله، وإيثاره على نفسه، والإحسان يعني نزع ملكية الفرد، وإعطاء الحق لأصحابه. يحاول توريز إعطاء هاتين الفضيلتين في المسيحية مضمونًا ثوريًّا كأحد الوسائل لنشر الدعوة الثورية في مجتمعٍ ما زال الطابع الغالب عليه هو الطابع التقليدي. بل ويستعمل توريز منهج النص المباشر، فيذكر للشعب النصوص الدينية التي تحث على الثورة مثل: «لو قال أحدٌ إنه يحب الله الذي لا يراه ولا يحب جاره فهو كاذب»، أو مثل قول المسيح: «لقد كنت جائعًا ولم تعطني ما أطعم به، وكنت ظمآن ولم تعطني ما أروي به ظمئي» … لقد جعل الوحي الإحسان هو الوصية الأولى؛ الإحسان إلى الله والإحسان إلى الجار. وليس الإحسان هو الصدقة، بل هو حالة من العطاء والتضحية من أجل الآخر، سواء كان هذا الآخر هو الله أم الإنسان، وفي خدمة الله عن طريق خدمته للإنسان، الله هو المجتمع، وتحليل الواقع الاجتماعي هو اللاهوت الوحيد الممكن. مهمة علم الاجتماع توجيه الأبحاث نحو خدمة الله؛ أي من أجل المحافظة على مصلحة الجماعة. فالإيمان بالله محافظة على مصلحة الجماعة؛ لأن حق الله هو حق الآخر. ولقد وُضع القانون من أجل الإنسان ولم يوضع الإنسان من أجل القانون. إن القلق الديني ليسير جنبًا لجنب مع القلق الاجتماعي وتوجيه الأبحاث نحو خدمة الله؛ أي من أجل المحافظة على التحليل المباشر للواقع بعين الحذر. والحقيقة أن اللاهوت التقليدي وعلم الاجتماع شيء واحد؛ لأن اللاهوت هو تحليل للواقع الاجتماعي؛ وبالتالي يمكن لكثيرٍ من المتدينين تغيير أحكامهم على العقائد وعلى المجتمع على السواء.

ومع أن توريز يركز في بعض الأحيان على الفضل الإلهي، وعلى أن هذه الحياة خارج العالم (Surnaturel ما يأتي من فوق الطبيعة) هي في حقيقتها فعل العالم. فإذا كان للإنسان بعدان، فإن هذين البعدين هما وجود الإنسان في التاريخ بين الماضي والحاضر. وإذا كان للشعائر في المسيحية أهمية فإن السلوك الثوري هو الفعل الاجتماعي العريض الذي لا يقتصر على أداء حركة معينة، في وقتٍ وزمان معينين. وإذا كان الوحي هو حديث الله للإنسان، فإنه يشمل إذن جانبين، الجانب الدائم، وهو ما يتناوله علم الاجتماع باسم البحث عن نظرية، والجانب الزمني المتغير وهو ما يتناوله أيضًا علم الاجتماع عندما يقوم بتحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية. وإذا كان الإنسان روحًا ودينًا، وكان اللاهوت التقليدي يتحدث عن انفصال الروح عن البدن، وتميزها عنه، فإننا اليوم نفقد عمرنا في البحث عن قهر الروح للموت Immortel، في حين أن البدن قاتل Mortel يدفع للموت. وإذا كانت الدول فيما بينها تبحث بالعلم عن كيفية تعاونها معًا، فإن الحوار الحقيقي لا يتم إلا على مستوى الاتفاق على المبادئ العامة التي يمكنها الجمع بين المتفرقات؛ وبذلك يمكننا أن نقول: «أيها العلماء من جميع الأيديولوجيات، اتحدوا كما قال ماركس ولينين من قبل: «أيها العمال من جميع البلاد اتحدوا».» وإذا كانت غاية الوحي هي العيش في ملكوت الله أو في ملكوت السماوات. فإن هذا الملكوت لا يتحقق إلا على الأرض، ولا يتحقق إلا بالثورة، وإلا أصبح مجرد أمل ورجاء عند المعدمين يقوم بعملية تعويض نفسي، حينئذٍ يكون الدين «أفيون الشعب». وإذا كان للتجسد معنى، فإنه يعني تحقيق ملكوت السماوات في الأرض، وتحويل الوحي إلى واقع، والعمل في التاريخ. ولقد أخطأ اللاهوتيون عندما ظنوا أن التجسد واقعةٌ فريدة لا تتكرر، وحادثةٌ تاريخية ثابتة، حدثت في زمانٍ معين ومكان معين. التجسد هو حلول الثورة في المجتمع وتطبيق الوحي في التاريخ.
ومن ثم، فلا خلاف بين الماركسية والمسيحية، فكلاهما ثورة، بصرف النظر عن الأساس الفكري لكل منهما. فالثورة هي برنامج عمل لتغيير البناء الاجتماعي، والمسيحية والماركسية كلاهما برنامج عمل ثوري، وكلاهما تغييرٌ للبناء الاجتماعي الطبقي، لا يهم بعد ذلك إن كانت المسيحية تقوم بهذه الثورة بناء على أمرٍ إلهي، أو أن الماركسية تقوم بها بناء على أيديولوجيةٍ سابقة، لا يهم الأساس النظري بقدر ما يهم التحقيق العملي، ولا يهم مصدر الثورة بقدر ما يهم تحقيقها بالفعل. فهناك ماركسيات نظرية عديدة، كما أن هناك إلهيات مسيحية عديدة. ولكن المهم هو الالتقاء على نفس الهدف، وهو القضاء على المجتمع الطبقي، واستعمال أسلوب عمل موحد، وهو الثورة المسلحة. فالله في المسيحية هو الحياة الخالدة، والحياة الخالدة هي حياة العدل: «عندما يبلغ إيماني درجة نقل الجبال وليس لدي الإحسان فلست شيئًا». وقد قال المسيح «لو كان أخ أو أخت عرايا ينقصهما طعام كل يوم، وقال لهما أحد منكم: اذهبا في سلام، ابحثا عن الدفء وعن الطعام، ولا تعطيانهما ما هو ضروري للبدن فما الفائدة؟» فالإيمان بلا عمل هباء. الماركسية والمسيحية شيءٌ واحد. فإذا حقق المسيحيون الثورة، فإنهم يقومون بها باعتبارهم مواطنين، وليس باعتبارهم متدينين بدينٍ خاص وبعقائد محددة؛ ثورة يبغون بها الدفاع عن المبادئ الإنسانية العامة، ولكن قد ينقصهم الأساليب «التكنيكية» لتحقيق ذلك، أما إذا قام الماركسيون بالثورة، فإنهم يقومون بها لأن ذلك قدرهم التاريخي، خاصةً وأن لديهم نظرية في العمل الثوري، وفي التغيرات الاجتماعية، فهم «تكنيكيون» في الاقتصاد والسياسة. لذلك كانت تحليلاتهم للواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد النامية مطابقة للواقع، ولمتطلبات الجماهير. لذلك كانت الماركسية عقيدة شعبية يمكنها تجنيد الجماهير، ويكون حينئذٍ ما يهددها هو الوقوع في القطعية (الدغماطيقية) أو تنفير الجماهير من الأمور النظرية التي قد تثير معتقداتها التقليدية، والتي يصعب عليها فهمها. فإذا حاول فريقٌ ثالث القيام بثورة، فإنه من الصعب عليه تحقيقها؛ لأن الثورة لا تتم إلا بأيديولوجية، أو تصور واضح للعالم، وهو التصور الديني باعتباره ثورة (المسيحية أو الإسلام) أو التصور الاجتماعي باعتباره ثورة (الماركسية) أو سينتهي لا محالة إما إلى الميوعة أو إلى خدمة السلطة القائمة دون أن يدري، ليس أمام المسيحي خيار؛ فهو واقعٌ في الثورة وغارقٌ فيها حتى أذنيه. فالثورة أمرٌ إلهي، وضرورة اجتماعية. لا يمكنه أن يعارض الثورة، أو أن يقف منها موقف المتفرج، بل لا بد أن يشارك فيها، فهي طريقه إلى الحياة الخالدة، ولا داعي في أن يتشكك في الوسائل المتبعة، أو في الغابات الفرعية، فالثورة أمرٌ معقد، تفرض مسارها، والواقع قد يند في بعض الأحيان عن أحكام الخير والشر، بل إن المادية الجدلية قد تكون هي الأساس النظري الوحيد، من أجل تحقيق العمل الثوري، دون أن يكون الدين بالضرورة أفيون الشعب، كما لاحظ ذلك أيضًا تولياتي Togliatti في وصيته. الماركسية والمسيحية كلاهما تنظيمٌ شعبي للأغلبية لتحقيق الثورة.

تاسعًا: وحدة القوى الثورية

وينتهي توريز من كل ذلك إلى تحقيق حلمه الأخير، وهو وحدة القوى الثورية التي أراد أن يحققها بالفعل في «الجبهة المتحدة للشعب الكولومبي». وتعني وحدة القوى الثورية شيئين؛ الأول: اتفاق جميع هذه القوى على حدٍّ أدنى من العمل الثوري، في برنامجٍ موحد. ثانيًا ضرورة تحقيق ذلك بالثورة المسلحة، وبالاستيلاء على السلطة. وقد صاغ توريز هذا البرنامج الموحد في «بيان حركة الوحدة الشعبية»، ثم عاد صياغته من جديدٍ في «بيان الجبهة المتحدة للشعب الكولومبي» الموجه لجميع طوائف الشعب، وإلى التنظيمات المحلية، والنقابات والتعاونيات، وإلى كل الغاضبين من الرجال والنساء والأطفال، وإلى كل المجاهدين الذين لم ينضموا حتى الآن للأحزاب السياسية، وإلى جميع الأحزاب السياسية نفسها التقدمية الليبرالية والمحافظة.

ويبدأ البرنامج بتحديد البواعث التي دفعت إلى وضعه وهي:١٠
  • (١)

    القرارات اللازمة الآن من أجل توجيه سياسة الدولة لصالح الجماهير، وليس لصالح الأقلية الحاكمة تأتي ممن بيدهم السلطة.

  • (٢)

    إن من بيدهم السلطة اليوم هي الأقلية الحاكمة، وهي المسيطرة على الاقتصاد الوطني، والتي تصدر القرارات السياسية.

  • (٣)

    إن هذه السلطة لا تأخذ أي قرارات تمس مصالحها الخاصة أو المصالح الأجنبية التي تمثلها أو المرتبطة بها.

  • (٤)

    إن القرارات المطلوبة من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماهير تمس بالضرورة مصالح الأقلية الحاكمة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.

  • (٥)

    إن هذه الظروف تحتم تغيير بناء السلطة السياسية حتى يمكن للجماهير أن تكون مصدر القرارات.

  • (٦)

    إنه لا توجد في البلاد الآن قوة اجتماعية يمكنها أن تكون أساسًا لقوةٍ سياسية جديدة. لذلك لا بد من تكوين هذه القوة في أسرع وقت.

  • (٧)

    إن الجماهير الآن ترفض الأحزاب السياسية التقليدية وترفض نظمها القائمة ولكنها لا تملك جهازًا سياسيًّا يمكنها من الاستيلاء على السلطة.

  • (٨)
    إن الجهاز السياسي الجديد لا بد أن يقوم على تعدد الاتجاهات Pluralisme، كما يجب أن يقوم على الجماهير، وليس على فردٍ بعينه حتى لا يقع في معارك الشلل، أو في الديماغوجية، أو في عبادة الأشخاص.
أما أهداف «الجبهة المتحدة» فهي الآتية:
  • (١)

    الإصلاح الزراعي: الأرض لمن يفلحها، ويجب تعيين مفتشين لاستلام الأرض من كبار الملاك، وتوزيعها على المزارعين الذين لا يملكون، وأن تقوم جمعيات تعاونية من أجل عمليات التسليف والتسويق والمساعدات الفنية، ولا يجوز دفع تعويضات للأرض، أو شراؤها من الملاك، بل يجب انتزاعها منهم دون تعويض، ثم تتحول الزراعة من نمط الاستهلاك إلى نمط الإنتاج.

  • (٢)

    الإصلاح العمراني: يقوم الإصلاح العمراني على آثار الإصلاح الزراعي، وعلى الربط بين التغيرات في الريف وفي المدينة، كما يوجب أيضًا أن يتحول كل ساكن في منزلٍ بالإيجار إلى مالكٍ له، حتى يمكن القضاء على إقطاع العقار، إلا من يعيشون من التأجير (وللدولة الحق في تغريم كل مالك لا يستفيد من عقاره، أو لا يحسن استخدامه، كما أن لها الحق في نزع ملكية الأراضي الخالية، وأن تقوم الدولة ببنائها من أجل حل أزمة المساكن).

  • (٣)

    إصلاح المؤسسات: يجب إلغاء المؤسسات الحرة وتحويلها إلى مؤسساتٍ تعاونية أو جماعية؛ وذلك بإنشاء شركات مساهمة يكون حق إدارتها لكل العاملين بها، وليس فقط لكل المساهمين فيها، مع احترام النقابات العمالية الحرة وحقها في توجيه العمل.

  • (٤)

    التعاونيات: يجب خلق جمعيات تعاونية على جميع المستويات في الادخار، والإنتاج، والتجارة، والبناء، والاستهلاك.

  • (٥)

    التخطيط: وضع خطة كاملة للاقتصاد الوطني من أجل التصنيع والتصدير ومنع الاستيراد ودخول القطاع الخاص ضمن الخطة الوطنية للاستثمار، وتحويل العملات الأجنبية من حق الدولة وحدها، وتسويق المنتجات في سوقٍ مشترك لدول أمريكا اللاتينية.

  • (٦)
    السياسة الضريبية: وضع ضرائب تصاعدية على كل دخلٍ يزيد على ألف بسوس١١ شهريًّا، وهو الحد الأدنى الذي يسمح لعائلةٍ أن تعيش، الحد الأعلى هو خمسة آلاف، وكل ما يزيد على ذلك يدخل ضمن الاستثمارات العامة للدولة، ولا يوجد أي استثناء من الإعفاء من الضرائب، أو من تحويل زيادة الدخول لصالح الخطة القومية للتنمية.
  • (٧)

    السياسة المالية: لا تصدر الدولة أوراقًا مالية إلا من أجل تنمية قطاعات الإنتاج التي تقوم على العمليات القصيرة والطويلة الأجل، وتكون العملة السائلة على قدر هذه العمليات، وتقوم الدولة بتغطية عملتها عن طريق رصيدها الذهبي، ويكون هو المقياس في العلاقات المالية الدولية.

  • (٨)

    التأميم: تؤمم البنوك والمستشفيات والعيادات الخاصة والمعامل والصيدليات. وتكون استثمارات الثروات الطبيعية من حق الدولة وحدها. وتقوم الجمعيات التعاونية والشركات الجماعية بأمور المواصلات العامة، وإلا فإن ذلك يكون من حق الدولة. تكون الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما تحت إشراف الدولة من أجل مصلحة الجماعة، ويكون التعليم مجانًا لجميع الشعب، وإلزاميًّا حتى التعليم الثانوي أو الفني، وتوقع العقوبة على الآباء الذين لا يلتزمون بتعليم أبنائهم. وتمول خطة التعليم من الاستثمارات العامة للدولة أم من زيادة الضرائب. وتستثمر الدولة البترول لصالحها ومن أجل الاقتصاد الوطني، ولا يعطى هذا الحق للشركات الأجنبية إلا إذا أقيمت معامل التكرير داخل البلاد، وأن يكون حق الدولة ٨٠٪ من الإنتاج (أو ليس أقل من ٧٠٪)، وأن ترجع الشركات إلى ملكية الدولة في ظرف عشر سنوات (أو على الأكثر عشرين سنة)، وأن تقوم الدولة بعملية التوزيع والنقل، وألا تكون أجور المواطنين أقل من أجور الأجانب.

  • (٩)

    العلاقات الدولية، يكون للدولة علاقات مع جميع بلاد العالم بلا استثناء، وعلاقات تجارية وثقافية على أساسٍ من الاحترام المتبادل لسيادة كل دولة.

  • (١٠)

    الصحة العامة (والتأمينات الاجتماعية): تقوم الدولة بتأمين اجتماعي وصحي شامل للعاملين بها، فمن حق الشعب الرعاية الصحية والاجتماعية، والتأمين ضد البطالة والمرض والعجز والشيخوخة والموت، وتعتبر الدولة العاملين بالصحة العامة موظفين، وأن يكون لكل منهم عدد معين من العائلات.

  • (١١)

    السياسة العائلية: تعاقب الدولة كل الآباء الذين يتركون أبناءهم أو زوجاتهم.

  • (١٢)

    الجرائم الاجتماعية الخاضعة للعقوبات: ترك الأسرة، الربا، المضاربة، تهريب رءوس الأموال، سحب البضائع من السوق من أجل بيعها بعد ذلك في السوق السوداء، التهريب، السب العلني، التمويه على الرأي العام بالأخبار المكذوبة أو الناقصة أو المغرضة.

  • (١٣)

    حقوق المرأة: المرأة مساوية للرجل في النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

  • (١٤)

    القوات المسلحة: الخدمة العسكرية إجبارية على الموطنين جميعًا رجالًا ونساء (ابتداء من سن ١٨)، وأن تكون تكاليف الدفاع عن السيادة الوطنية من الشعب، وأن تكون الميزانية طبقًا للمهام الموكلة للقوات المسلحة.

والهدف الثاني هو تكوين جهاز سياسي متعدد قادر على الاستيلاء على السلطة، ويمكن اتباع الآتي:
  • (١)

    تكوين الحركة من القاعدة إلى القمة لضمان تجنيد الشعب والموافقة على هذا البيان.

  • (٢)

    توزيع البيان لأخذ الموافقة عليه من الأفراد والجماعات والحركات السياسية.

  • (٣)

    تجميع كل الاتجاهات السياسية الموافقة على البيان تحت اسم «الجبهة المتحدة للحركات الشعبية».

  • (٤)

    تكوين جماعات عمل في كل حي وفي كل شارع، وانتخاب رئيس لها ونائب رئيس.

  • (٥)

    اجتماع رؤساء هذه الجماعات في مناطق من أجل انتخاب جماعة للعاصمة.

  • (٦)

    اجتماع جماعة العاصمة من أجل أخذ موقف من انتخاب الرئاسة القادمة.

  • (٧)

    انتخاب لجنة سياسية من ممثلي الاتجاهات السياسية من أجل تضافر الجهود لدعايات الجبهة المتحدة.

  • (٨)

    يكون الاعتماد في العمل على التنظيمات الشعبية في المجالس المحلية وجمعيات الفلاحين والنقابات والتنظيمات الطلابية والمهنية.

ومن أجل تحقيق هذا البرنامج يدعو توريز لتوحيد جميع القوى الثورية بصرف النظر عن اتجاهاتهم النظرية، ويطالب قوى اليسار بالاتحاد من أجل وحدة العمل الثوري، والتخلي عن الدغماطيقية والمذهبية والتمسك بالشعارات أو الأيديولوجيات المسبقة، خاصةً وأن الشعب يريد أن يعمل أكثر مما يريد أن يدخل في متاهات المنظرين للثورة، والمتشدقين بالنظريات التي لا ينتج عنها إلا الفرقة والتشتت وتضييع الجهود. ووجه نداءاته الشهيرة إلى الشعب الكولومبي في جريدة «الجبهة المتحدة»، يعلن فيها عن مواقفه. وأهم موقف له داخل الجبهة هو امتناعه عن التصويت في الانتخابات العامة للرئاسة، كنوعٍ من «التكتيك» الثوري، لتوحيد قوى الثورة، وتجنب كل ما يفرقها، وبقاء الجبهة المتحدة حارسة على مصالح الشعب الكولومبي، وشاهدة على الألاعيب الحزبية ومحافظة منها على نقائها الثوري، ورفضها للتواطؤ مع السلطة، ويلخص توريز أهم الأسباب التي دعته إلى أخذ هذا الموقف في الآتي:
  • (١)

    يؤدي الانتخاب إلى قسمة الشعب إلى محافظين وليبراليين، وكل تقسيم للشعب مضاد لمصالحه.

  • (٢)

    يوجد الجهاز القائم على الانتخابات في يد الأقلية الحاكمة، وتجري في مكاتبها؛ وبالتالي فإنها ستزيفها.

  • (٣)

    لن تستطيع الجماعات الثورية التي يقدَّر لها النجاح في الانتخابات تكوين جبهة معارضة في البرلمان، وتحقيق أي تغيرات ثورية ثورية بل إن وجودها داخل البرلمان يكون ستارًا للأقلية الحاكمة، تفعل من وراءه ما تشاء، ودليلًا لها على ديمقراطية الحكم، ووجود المعارضة.

  • (٤)

    تقتضي التربية الثورية ألا يقال للشعب أن يحذر من الأقلية الحاكمة، ثم يُطلب منه بالفعل الاختيار بين مرشحيها، وتعريض نقائه الثوري للامتحان.

  • (٥)

    يستحسن تخصيص المال والجهد اللذين سيبذلان في الانتخابات لمصلحة الشعب، وتوحيد القوى الثورية.

  • (٦)

    حتى لو افترضنا، بمعجزةٍ ما، نجاح الجماعات الثورية في الانتخابات وحصولها على الأغلبية، فإن الأقلية الحاكمة تستطيع تدبير انقلاب للإطاحة بالحكم الثوري، كما يحدث دائمًا في أمريكا اللاتينية؛ إذ إنها تملك القوة العسكرية والاقتصادية التي تمكنها من تدبر هذا الانقلاب، ولا يوجد حكم واحد في أمريكا اللاتينية لم يلطخ يده بدماء الثوار.

لذلك، على كل القوى الثورية الامتناع عن الدخول في ألاعيب الانتخابات ومظاهر الديمقراطية. وهذا الامتناع ليس موقفًا سلبيًّا بل هو موقفٌ إيجابي؛ لأنه رفضٌ لنظام ومحاربة له، وهو موقفٌ عسكري لأن الثوار يمكنهم الانقضاض على صناديق الانتخاب وعلى جهاز الدولة، وهو موقف ثوري لأنه تنظيمٌ للقوى الشعبية، من أجل الاستيلاء النهائي على السلطة.

ويوجه توريز أخيرًا نداءاته إلى طوائف الشعب، إلى المسيحيين، والشيوعيين، والعسكريين، والمحايدين، والنقابيين، والفلاحين، والنساء، والطلبة، والعاطلين، والمعتقلين السياسيين، وإلى الأقلية الحاكمة، والجبهة المتحدة للشعب، ورجال العصابات، وهو النداء الأخير الذي وجهه توريز إلى الشعب الكولومبي.١٢

فإلى المسيحيين: لا يكفي حب الجار أو الإحسان لإعطاء الطعام لكل الجوعى، ولا بد للبحث عن وسائل أكثر فاعلية من أجل إجبار الأقلية الحاكمة على التنازل عن امتيازاتها، وعلى إخراج رءوس أموالها واستثمارها داخل البلاد. ولما كان ذلك لن يحدث، فيجب نزع السلطة من الأقلية الحاكمة كي تكون للأغلبية الفقيرة، وأن يحدث ذلك بسرعةٍ فتلك هي الثورة، وقد تكون سلمية إذا لم تعارض الأقلية، وسنلجأ إلى العنف إذا ما عارضت. إنها الثورة وحدها التي تعطي الخبز لكل جائع، والملبس لكل عارٍ، والدواء لكل مريض، والعلم لكل أمي. إن الثورة ليست جائزة فقط، بل إنها واجبةٌ على كل المسيحيين من أجل القضاء على الطغيان الذي يعتمد فقط على أصوات ٢٠٪ من الناخبين. ولن نلتفت لأخطاء الكنيسة؛ فالكنيسة بشر، والبشر مخطئون، ولا يطلب الله منا أضاحي أو قرابين ولكنه يطلب علاقات إنسانية عادلة «فإذا كنت تقرب قربانك إلى المذبح، وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئًا، فدع قربانك عند المذبح هناك، واذهب قبل ذلك فصالح أخاك، ثم عد فقرب قربانك».

وإلى الشيوعيين: فإنني ثائر باعتباري مواطنًا وعالم اجتماع ومسيحيًّا وراهبًا، والحزب الشيوعي حزب ثوري أصيل؛ وبالتالي فلا يمكن أن أكون معاديًا للشيوعيين باعتباري مواطنًا وراهبًا. العداء للشيوعية معناه التواطؤ على استغلال الطبقات المحرومة. وباعتباري عالم اجتماع، تقدم التحليلات الماركسية صورة صادقة لحال الفقراء والجوعى والأميين، وباعتباري مسيحيًّا، لا أحكم على الشيوعية حكمًا ظالمًا وإلا أكون ظالمًا، وباعتباري راهبًا، أجد من الشيوعيين مسيحيين حقيقيين وهم لا يعلمون ذلك. إني أعمل مع الشيوعيين ضد الأقلية الحاكمة عميلة الولايات المتحدة، ومن أجل استيلاء الطبقة الشعبية على السلطة.

وإلى العسكريين: فإنه لا يجب عليهم التوجه للشعب بل ضد أعداء الشعب؛ فالجنود أبناء الشعب. لقد ارتضت بعض طبقات الجيش لنفسها مقاسمة الأقلية الحاكمة في الثروات، فاشتروا من الولايات المتحدة معدات وأسلحة لقهر الشعب. وقد يحتج البعض منهم بالمحافظة على النظام والدستور وسلامة الوطن، ولكن الوطن للأغلبية، والدستور من وضع الأقلية، وطالما خرقت الأقلية الدستور لأنها نهبت ثروات الشعب، ولم توفر العمل أو التعليم أو الصحة أو التأمين للطبقات المستغلة. لقد خرقت الأقلية الدستور بفرضها الأحكام العرفية، وحصار المدن، والقبض على المواطنين، والزج بهم في السجون بلا محاكمة. إن ثروات الشعب كلها في يد أربع وعشرين عائلة فقط. فليترك الجندي جيش الأقلية، فإنه سيجد عملًا مع الطبقات الشعبية، حين تنتصر الثورة، ويتم تخطيط الاقتصاد الوطني. إن شرف العسكريين منوط بالدفاع عن الشعب ضد أعدائه، فليتحد الجنود مع طبقات الشعب في الجبهة المتحدة من أجل استيلاء الشعب على السلطة.

وإلى المحاربين: لقد كانت نسبة الامتناع عن التصويت ٧٠٪؛ أي إن ثلاثة أرباع الشعب ضد الأقلية الحاكمة، وليست مع الجبهة المتحدة، وهؤلاء هم الثوار الذين لم يتم تنظيمهم بعد في جماعاتٍ سياسية أو في الجبهة المتحدة، ولكنهم ثوارٌ يرفضون العشائرية السياسية، والفُرقة الحزبية، وهم قاعدة الجبهة المتحدة التي صاغت بيانها لهم. فإليهم: ألا يخافوا من أخطاء الحركات الثورية السابقة، وعليهم إن كان من الصعب إحداث الثورة في المدن، أولًا: الاعتصام بالريف. ثانيًا: ألا يقوموا بأي عملٍ مضاد إلا بعد إقامة تنظيم ريفي يعتمدون عليه.

وإلى النقابيين: إن تاريخ النضال العمالي سابقٌ على نشأة النقابات، ولا توجد جماعات منظمة مثل جماعات العمال. إن العمال لهم قدوة على النضال، ولكن سرعان ما يتحول قادة النقابات إلى أوصياء متواطئين مع الأقلية التي تحاول وضع بذور الفتنة بين العمال لتقضي على وحدة الحركة العمالية، فتصف بعضًا منهم بالشيوعية! ومع ذلك فإن الجبهة المتحدة تعمل على وحدة النضال العمالي، وعلى استمراره بالإضرابات ومعاضة الديكتاتورية السياسية أو العسكرية، واتحاد العمال مع الطلبة هو دعامة النضال الشعبي.

وإلى الفلاحين: إن الشعوب الكولومبي أغلبيته من الفلاحين وهم الذين يعطون بعملهم ٩٠٪ من الدخل القومي، ومع ذلك فهم لا يستفيدون من نتاج عملهم، بل يرجع كله إلى الأقلية الحاكمة ولمديري البنوك. لذلك نشأ العنف في الريف كوسيلةٍ لاسترداد حقوق الفلاحين، ولمواجهة عنف السلطة التي تأتمر بأوامر الولايات المتحدة قاهرة الحركات الشعبية في سان دومينغو. فيجتمع الفلاحون في جماعاتٍ صغيرة، خمسة أو عشرة أفراد من أجل تحرير الأرض، وإيواء العمال الثوريين والطلاب.

وإلى النساء: المرأة الكولومبية متأخرة، ومتخلفة عن الرجل في المجتمع؛ فالمرأة في الطبقات الشعبية ليس لها سوى الأعمال المادية دون أي حق في وجودها الأدبي، أمية، تعمل ليل نهار، والمرأة في الطبقة العمالية لا تتمتع بأية حماية اجتماعية، كثيرًا ما تقوم بأعباء الأسرة إذا ما تعطل الزوج عن العمل، والمرأة في الطبقة المتوسطة يستغلها رئيسها في العمل، في المكتب، أو الشركة، أو المؤسسة، أما المرأة في الطبقة العالية، فإنها تنعم بالحياة الراقية، وتعيش في الفراغ والبطالة، تعتمد عليها الأقلية حين أعطتها حق الانتخاب. والحقيقة أن المرأة الكولومبية إنسانٌ وليس مجرد وسيلة، ولديها شعور بأنها مستغلة، وهي تناضل بطريقها الخاص، فترفض الدخول في ألاعيب الانتخابات، وتساعد الرجل الثوري، فهي قلب الثورة، ولا يمكن أن تُحل مشاكل الأسرة مثل تحديد النسل إلا في مجتمعٍ لا يقوم على القهر أو على التقاليد، وهو مجتمع الثورة.

وإلى الطلبة: الطلبة في البلاد النامية جماعة متميزة؛ فقد تعلموا في بلدٍ فقير، ففي كولومبيا، تسود الأمية بنسبة ٦٠٪، والحاصلون على الثانوية العامة ٨٪، والجامعيون ١٪. فالطالب متميزٌ في مجتمعه، كما يتميز الطالب بأن لديه الوسائل التي يستطيع بها تحليل الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لوطنه، ويمتاز أيضًا بأنه يمكنه الترقي الاجتماعي نظرًا لمؤهلاته، وبأنه يمكنه العصيان دون ما خوف. كل هذه الميزات جعلت الطلبة عنصرًا هامًّا للثورة في أمريكا اللاتينية، فهم عنصر في الإضرابات وفي المنظمات وفي النضال المباشر، ولكن بعضًا منهم ينقصهم الالتزام التام بالقضايا الوطنية من أجل الحصول على بعض الامتيازات الاجتماعية، أو يكون عصيانهم انفعاليًّا، أو رفضًا تعامليًّا. فعلى الطلبة أن يشعروا بدورهم التاريخي في لحظات التطور الحاسمة للبلاد النامية، لا يكفي أن تكون رسالتهم ثقافية، فلا وجود للثقافة بلا ثورة، خاصةً وأن الجماهير تتطلع إليهم باعتبارهم الأمناء على مصالحها. وقد يصيبهم الفقر والاضطهاد، ولكن هذا هو ثمن الثورة، بتضامنهم مع طبقات الشعب، العمال والفلاحين.

وإلى العاطلين: إذا كان هناك عاطلون بالولايات المتحدة، فما بالنا بالعاطلين في البلاد النامية؟ إن البطالة إحدى سمات البلاد النامية؛ وذلك لأن الأقلية الحاكمة تفضل استثمار أموالها في الخارج؛ فذلك أكثر أمنًا وسلامًا لها. فلا توجد صناعات تستوعب الأيدي العاملة في المدينة أو المهاجرة من الريف، وتفضل الأقلية استيراد المنتجات من الولايات المتحدة، حتى تكون هي المستفيدة من البيع والشراء، وتعطي ما بقي من المدخرات الوطنية للولايات المتحدة، لشراء أسلحة لقمع ثورات الطبقات الشعبية، ولا تبيع المنتجات إلا للولايات المتحدة التي احتكرت معظم المنتجات الزراعية في أمريكا اللاتينية، تورد البلاد لها موادها الأولية وتستورد عربات للطبقة الحاكمة! فالعاطلون هم ضحية الأقلية الحاكمة عميلة الولايات المتحدة؛ لذلك فهم في طليعة الثوار، من أجل أن تكون السلطة للأغلبية. وتزداد المشكلة يومًا بعد يوم، عندما تفصل الأقلية الحاكمة مئات العمال عقابًا لهم على اشتراكهم في الإضرابات والمظاهرات، وكل ذلك يعني أن ساعة النضال قد حانت.

وإلى المعتقلين السياسيين: إن الأقلية تعلم أنها لن تترك السلطة إلا بالقوة؛ لذلك تعتقل زعماء الحركات الثورية، وتعذبهم في السجون، وتقتلهم، وفي نفس الوقت تعلن أنها تدين أعمال العنف. ولكن الأقلية المتسلطة لا تستطيع أن تعتقل الشعب الكولومبي كله، ويكون من واجب قادة الثوار ألا يتركوا أنفسهم يقتلون ويعذبون، وأن ينقلوا الثورة من المدن إلى الريف، فهناك يتحرك الفلاحون معهم. ومع ذلك يمكنهم المقاومة من السجون بمراجعة أفكارهم، وتحرير نداءاتهم وإعطائها لزملائهم. كما أن من واجبهم إثبات أنهم وطنيون شرفاء لسجانيهم، لكسبهم لقضية الثورة. إن الوسيلة الوحيدة لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين هي مزيدٍ من الثورة حتى يأخذ الشعب السلطة.

وإلى الأقلية الحاكمة: إن مخاطبة من لا يريدون أن يسمعوا أو أن يعقلوا لأمرٌ عصيب، ومع ذلك فهو واجبٌ لا بد من القيام به. منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا قد استولت العشيرة الاقتصادية، المكونة من بضع عائلات، على خيرات البلاد، واستولت على السلطة لصالحها الخاص، ولكن الشعب لم يعد يثق بهم، ولا ينتخبهم، بل كفر بهم ويئس منهم، وأصر على أخذ مصيره بيده.

وإلى الشعب الكولومبي يوجه توريز نداءه الأخير ثم يلحق برجال العصابات ويستشهد:١٣

«يا شعب كولومبيا!

منذ سنوات طويلة، انتظر الفقراء في وطننا إشارة لبدء المعركة لكي يقذفوا بأنفسهم في صراعٍ نهائي مع الأقلية.

ولكن في هذه اللحظات التي وصل فيها الشعب إلى آخر درجات اليأس، وجدت الطبقة الحاكمة باستمرار وسيلةً لخداع الشعب، وتلهيته وتهدئته بصيغٍ جديدة، تؤدي دائمًا إلى نفس الشيء: الألم للشعب، والنعيم للعشيرة المتميزة!

لقد اغتالت الأقلية الرئيس الذي اختاره الشعب، والذي وجده في شخص جورجه إليسر جايتان.١٤ فبينما يطالب الشعب السلام، تبذر الأقلية بذور العنف في البلاد، وعندما يلجأ الشعب بدوره إلى العنف، ويكوِّن عصابات للاستيلاء على السلطة، تقوم الأقلية بانقلابٍ عسكري، حتى يستسلم رجال العصابات؛ لأنهم قد أساءوا! وبينما يطالب الشعب بالديمقراطية، يخدع من جديدٍ باقتراعٍ عام وجبهة وطنية تفرض عليه ديكتاتورية الأقلية.

والآن، لم يعد الشعب يثق بشيء، لم يعد الشعب يؤمن بالانتخابات، يعلم الشعب أن الطرق الشرعية قد استُنفدت، ويعلم الشعب أنه لم يعد هناك إلا الكفاح المسلح. لقد يئس الشعب، وقرر المخاطرة بحياته حتى لا يكون الجيل القادم في كولومبيا جيلًا من العبيد، حتى يستطيع أبناء الذين هم على استعدادٍ الآن للتضحية بحياتهم أن يجدوا علمًا ومنزلًا وغذاء وكساء، وبوجهٍ خاص كرامة، وحتى تستطيع الأجيال القادمة من شعب كولومبيا أن يكون لها وطن خاص مستقل عن قوة أمريكا الشمالية.

يجب على كل ثوري مخلص أن يعترف بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد الباقي، ومع ذلك ينتظر الشعب أن يعطي الزعماء، بمثلهم وحضورهم، إشارة بدء المعركة.

أريد أن أقول لشعب كولومبيا إن هذه اللحظة قد حانت، وإنني لست خائفًا، فلقد طفت ميادين القرى والمدن، وسرت من أجل الدعوة إلى الوحدة، وتنظيم الطبقة الشعبية، من أجل الاستيلاء على السلطة، وطلبت أن نهب أنفسنا من أجل تحقيق هذه الأهداف حتى الموت.

والآن، كل شيء مُعَد، تريد الأقلية تنظيم ملهاة أخرى أثناء الانتخابات، بمرشحين يرفضون ثم يقبلون من جديد، بلجانٍ تضم حزبيين، وبحركة تجديد تقوم على أفكار وعلى شخصيات قديمة خانوا الشعب. يا شعب كولومبيا، ماذا تنتظر؟

لقد دخلت في الكفاح المسلح، ومن جبال كولومبيا أريد أن أستمر في النضال، والسلاح في يدي حتى يستولي الشعب على السلطة. لقد التحقت «بجيش التحرير الوطني»؛ لأنني وجدت لديه نفس المثل التي في «القاعدة المتحدة»، وجدت لديه الرغبة لتحقيق الوحدة من القاعدة قاعدة الفلاحين، دون فروق دينية، أو أحزاب تقليدية، ولم أجد لديه أي نية للصراع مع العناصر الثورية، لأي قطاعٍ أو حركة أو حزب، ولم أجد لديه أية ديكتاتورية، بل وجدت حركة تحاول تحرير الشعب من استغلال الأقليات والاستعمار، ولن تضع الأسلحة ما دامت السلطة بأكملها ليست في يد الشعب، وتقبل، بهذه الأهداف، بيان «الجبهة المتحدة».

يجب علينا جميعًا، أيها المواطنون في كولومبيا، أن نجهز للحرب، وسيبرز شيئًا فشيئًا قادة رجال العصابات، في كل ركنٍ من أركان البلاد. وانتظارًا لهذه اللحظة، يجب أن نأخذ حذرنا. يجب جمع الأسلحة والمؤن، وتطوير تدريب رجال العصابات، والحديث مع أكثر الناس تعاطفًا معهم، وجمع الملابس والأدوية والمواد التموينية، والاستعداد لصراعٍ طويل الأجل.

ولنوجه للعدو ضربات صغيرة يكون الانتصار فيها مؤكدًا، ولنمتحن كل من يدَّعون أنهم ثوار، ولا نَكُفنَّ عن العمل ولنصبرنَّ. ففي الحرب الطويلة، يجب أن يعمل الجميع في لحظةٍ محددة. المهم أن الثورة، في هذه اللحظة المعينة، تجد الجميع مستعدين جاهزين. وليس من الضروري أن يقوم الجميع بكل شيء، بل يجب أن نقسم العمل، فيكون أنصار الجبهة المتحدة في طليعة المبادرة والعمل. فلنصبر ولننتظر ولنؤمن بالنصر النهائي.

يجب أن يتحول كفاح الشعب إلى كفاحٍ وطني. ولقد بدأناه منذ وقتٍ مبكر لأن اليوم طويل.

يا شعب كولومبيا! لا تنسَ أن تستجيب لنداء الشعب والثورة!
يا أنصار الجبهة المتحدة! فلنجعل من أوامرنا واقعًا!
من أجل وحدة الطبقة الشعبية حتى الموت!
من أجل تنظيم الطبقة الشعبية حتى الموت!
من أجل استيلاء الطبقة الشعبية على السلطة حتى الموت!
حتى الموت! لأننا قررنا الاستمرار حتى الموت!
حتى النصر! لأن شعبًا يناضل حتى الموت يحصل دائمًا على النصر!
حتى النصر النهائي، فلنطع أوامر جيش التحرير الوطني!
لن نرجع خطوةً إلى الوراء!»١٥
١  آثرنا إضافة هذا الجزء عن حياته وأعماله؛ نظرًا لأن حياة توريز هي نفسها شهادة على أعماله؛ فهو من هؤلاء المفكرين الذين يعيشون فكرهم، ويكون فكرهم هو قدرهم، خاصةً وأن هذه أول دراسة كاملة تظهر عنه بالعربية. وقد أخذنا مادة حياته من مقدمة الترجمة الفرنسية لكتابات وأقوال كاميلو توريز التي نشرت في باريس سنة ١٩٦٨م، ترجمة للطبعة الإسبانية التي نشرت في سلسلة Sondeos وتحتوي على كتاباته مرتبة ترتيبًا زمنيًّا وهي:
  • (١)

    المشاكل الاجتماعية للجامعة الحالية (١٩٥٧م).

  • (٢)

    بوغوتا، مدينة في مرحلة ما قبل التصنيع (١٩٥٨م).

  • (٣)

    مستوى المعيشة في بوغوتا (١٩٥٨م).

  • (٤)

    حديث حول الإصلاح الزراعي (١٩٦٠م).

  • (٥)

    هل الراهب ساحر؟ (١٩٦١م).

  • (٦)

    مشكلة إقامة علم اجتماع أصيل أمريكي لاتيني (١٩٦١م).

  • (٧)

    أزمة الجامعة (١٩٦٢م).

  • (٨)

    الهجرة إلى المدينة والإصلاح الزراعي (١٩٦٢م).

  • (٩)

    العنف والتغيرات الاجتماعية والثقافية في المناطق الريفية في كولومبيا (١٩٦٣م).

  • (١٠)

    بُعدا الإنسان (١٩٦٣م).

  • (١١)

    كيف تمارس الجامعات الضاغطة السلطة (١٩٦٤م)؟

  • (١٢)

    العلم والحوار (١٩٦٤م).

  • (١٣)

    ثقافتان في طريقهما إلى الظهور (١٩٦٤م).

  • (١٤)

    الثورة، أمرٌ مسيحي (١٩٦٤م).

  • (١٥)

    النقد والنقد الذاتي (١٩٦٤م).

  • (١٦)

    خطاب إلى سيادة روبن إيزازا (١٩٦٤م).

  • (١٧)

    بيان الجبهة المتحدة إلى الشعب الكولومبي (١٩٦٥م).

  • (١٨)

    الشيوعية في الكنيسة (١٩٦٥م).

  • (١٩)

    إمكانيات اليسار (١٩٦٥م).

  • (٢٠)

    نزع ممتلكات الكنيسة (١٩٦٥م).

  • (٢١)

    خطاب إلى كاردينال أسقف بوغوتا (١٩٦٥م).

  • (٢٢)

    محاضرة أمام النقابات العمالية (١٩٦٥م).

  • (٢٣)

    كنيسة أمريكا اللاتينية على مفترق الطرق (١٩٦٥م).

  • (٢٤)

    الجبهة المتحدة (١٩٦٥م).

  • (٢٥)

    بيان للشعب الكولومبي (١٩٦٦م).

انظر:
Camilo Torres: Ecrits paroles: Trad. Fran. Par D. Coste I. M. Fossey et H. de la Vega. Ed. Du Seuil, Paris 1968.
٢  انظر دعوتنا لذلك في «رسالة الفكر»، في هذا الكتاب وكذلك دعوتنا إلى أخذ موقف من التراث الغربي في «موقفنا من التراث الغربي»، في كتابنا «في الفكر الغربي المعاصر».
٣  انظر نقدنا لهذه المناهج في رسالتنا Les Methodes d’Exegese, pp. CXL-CLXII.
٤  راجع لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، ص١١٢–١٢٧، طبعة موسكو، دار التقدم ١٩٦٩م (باللغة الفرنسية).
٥  العنف حالةٌ من الحرب الأهلية غير المعلنة، عاشتها كولومبيا منذ ٩ أبريل سنة ١٩٤٨م، وهو اليوم الذي قتل فيه الرئيس جايتان Gaitán، واستمرت حتى ١٩٥٧م، وبلغت ذروتها بين سنة ١٩٤٨م وسنة ١٩٥٣م، وهدأت بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بنيلا Pinilla، فبعد اغتيال الرئيس، انتشرت الاضطرابات في أنحاء كولومبيا، خاصةً في الريف؛ فقد قامت بعض الجماعات المسلحة من الفلاحين الأحرار، واصطدمت بجيش الحكومة المحافظة التي كونت جماعات مسلحة أخرى للهجوم على الفلاحين مما أدى إلى هجرة هؤلاء إلى المدن. ولكن بعد سقوط بنيلا تكونت «الجبهة المدنية» التي سميت فيما بعد «الجبهة الوطنية»، من أجل التمثيل المتكافئ في الحكومة بين المحافظين والأحرار. ولكن العنف لم يتوقف وظهر في صورة جماعات مسلحة تقطع طرق المواصلات الحكومية، ثم تحولت فيما بعد إلى حربٍ للعصابات. فالعنف بهذا المعنى، على حد وصف أحد علماء الاجتماع، هو تحرر تلقائي بعد كبتٍ طويل للدفع الثوري سنة ١٩٤٨م.
٦  أرجأنا الحديث عن الوضع الطبقي للكنيسة لأننا سنتناوله فيما بعد في النقطة الثامنة: الدين والثورة.
٧ 
(١) طالب المعهد الديني = Séminariste
(٢) نائب الخوري أو المرشد = Aumônier
(٣) خوري الريف = Curé rural
(٤) خوري الحي العمالي في المدينة = Curé de quartier urbain
(٥) خوري الحي في المدينة = Cure de quartier residential
(٦) سيدنا أو الكاهن = Monseigneur ou Chanoine
(٧) معاون الأسقف = Évêque conjoint
(٨) أسقف = Évêque
(٩) رئيس الأساقفة = Archêveque
(١٠) كاردينال = Cardinal
٨  الهكتار ما يعادل نصف فدان.
٩  المكارثية: هي التيار الذي تزعمه السناتور مكارثي للتحقيق فيما سماه النشاط المعادي لأمريكا، واتهام كل من تلوح منهم بوادر تقدمية بالشيوعية واضطهادهم. فالمكارثية هي لونٌ من محاكم التفتيش المعروفة في العصر الوسيط.
١٠  هناك فرقٌ طفيف بين الصياغتين؛ الأولى تحتوي على المشروع الذي قدمه توريز للجبهة المتحدة من أجل الاقتراع العام عليه، والثانية هي النص النهائي الذي تمت عليه الموافقة بالإجماع. وقد وضعنا هذه الفروق بين قوسين، وهي في الغالب محذوفة من الصيغة الثانية. وقد حاولنا إعطاء مضمون البرنامج دون الالتزام بحرفيته.
١١  البسوس هو ما يعادل قرشين صاغ تقريبًا.
١٢  أخذنا نداءات توريز إلى العاطلين والمسجونين السياسيين، والأقلية الحاكمة، والجبهة المتحدة للشعب من أعمال توريز الجزئية التي تحتوي على النداءات فقط، والتي طبعها طلبة جامعة لوفان.
Camilo Torres ed. Venceremos, Heverlee, Belgique.
١٣  وجه توريز هذا النداء إلى الجيش عندما تصدى أربعون جنديًّا مسلحين لأربعة آلاف متظاهر، في مدينة جيرادو.
١٤  جورجه اليسر جايتان Jorge E. Gaitán زعيم ليبرالي اغتيل في ٩ أبريل، سنة ١٩٤٨م، وهو التاريخ الذي بدأت معه حركات العنف؛ فقد قدم الحزب الليبرالي سنة ١٩٤٦م مرشحَين: تورباي Turbbay ممثلًا للأقلية وجايتان ممثلًا للأغلبية. ولكن الذي نجح في الانتخابات المرشح المحافظ هو ماريانو أوسبينا بيرير Mariano Ospina Pérez بمساعدة بعض العناصر الليبرالية، والذي قدم برنامجًا «للوحدة الوطنية».
١٥  ترجمنا هذا النداء الأخير حرفيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤