الأصالة والمعاصرة
-
(١)
الأصالة والمعاصرة
-
(٢)
موقفنا الحضاري
***
(١) الأصالة والمعاصرة١
في اللحظة الحضارية التي نمر بها اليوم تبرز مشكلة «الأصالة والمعاصرة»، وكأنها المنطق الذي لا غنى عنه في كل مرحلة انتقال من عصرٍ إلى عصر. وعلى هذا المنطق قامت معظم حركات الإصلاح الديني التي هي في الغالب أقرب إلى الأصالة منها إلى المعاصرة، وكذلك معظم الاتجاهات الفكرية في عصر النهضة التي كانت أقرب إلى المعاصرة منها إلى الأصالة، وهي نفس المشكلة التي تبرز في حياتنا الأدبية والثقافية والاجتماعية بوجهٍ عام باسم «القديم والجديد»، وهو نفس الموضوع الذي قد يتعرض له بعض الباحثين لتراثنا القديم باسم «التراث والتجديد».
وقد ارتبط المفهومان معًا دائمًا بحيث لا يمكن الحديث عن الأصالة دون المعاصرة أو عن المعاصرة دون الأصالة؛ فالأصالة دون المعاصرة وقوع في التقليد، والاعتزاز بالقديم على هذا النحو مظهر من مظاهر الانعزال ونسيان الواقع، وكأن القديم شيء في ذاته يعيش على نفسه، ويحتوي على قيمة متخفية في ذاته. ويبدو هذا الاتجاه في كثيرٍ من صحافتنا ومعاهدنا الدينية من فخر بالتاريخ القديم، وإعادة طبع لأمهات المأثورات تبركًا وتيمنًا، ونشر للعلوم التقليدية أي لعلوم الحفظ كما يسميها الأقدمون. ويدل هذا الاتجاه في الواقع على غياب مفهوم الالتزام بقضايا العصر وعلى نقصٍ في الوعي بها، كما يدل في كثيرٍ من الأحيان على تملق للعامة وكسب للجمهور العريض كبعض الأعمال الفنية الرخيصة. وينتهي هذا الموقف بالدوران حول نفسه في «نرجسية الماضي»، كما حدث في كثيرٍ من الأحيان في مراحل الانتقال الحضاري، من تعاون السلطات الدينية مع السلطات السياسية.
فإذا استطاعت بعض الحركات الداعية للأصالة ضم الواقع إليها تصلبت وتحجرت، واعتبرته كله خارجًا عنها يحتاج إلى إعادة تشكيل من الألف إلى الياء؛ فالواقع كله إما لها أو عليها. وتنتهي هذه الحركات دائمًا بالصراع مع السلطة التي ترى الواقع من حقها ثم بقضاء السلطة عليها. وقد نشأ هذا النمط من السلوك نتيجة لنمط الفكر الذي يغلب عليه أيضًا هذا الطابع الحاد وقسمة الأمور بين الحق والباطل. وقد حدث ذلك بالفعل عند بعض الاتجاهات الدينية المعاصرة التي انتهت بالتمرد، دون أن تستطيع المشاركة في تطور أو إقامة أسس ثورة.
والمعاصرة دون الأصالة وقوع في الجذرية المبكرة التي لا يتحملها وجدان العصر الذي ما زال محملًا بتراث الماضي وبثقل العصور، وتسرُّع الندرة من المثقفين ورغبتها في سبق الزمن وغرس المعاصرة بين يومٍ وليلة، وهي الكفيلة بتأصيل نفسها، وهي في الواقع وعلى هذا النحو تحكم على نفسها بالانعزال والوقوع في نرجسية المستقبل، وكثيرًا ما يسهل استئصالها والقضاء عليها باسم أصالة القديم وتبعية الجديد، ولا تعمل إلا في أوساطٍ محدودة ويغلب عليها الطابع النظري؛ وبالتالي فهي تشارك الخطأ الأول أي الأصالة دون المعاصرة في انعزاليتها وغلبة القول على العمل، ولكنها تفترق عنها في أنها لا تدور في فلك السلطة بل تكون مناهضة لها. فإذا قامت الثورات الوطنية الممثلة في الدولة القائمة انتهت بالذوبان وأصبحت ملكية أكثر من الملك، ووضعت العربة أمام الحصان بدل أن يوضع الحصان أمام العربة، وقد حدث بالفعل لكثيرٍ من الأحزاب اليسارية التي ناهضت الاستعمار والإقطاع قبل التحرر، ثم ذابت في الحركات الوطنية الممثلة في الحكام الجدد بعد التحرر.
فإذا استطاعت المعاصرة دون الأصالة احتواء الواقع، كما يحدث في كثيرٍ من الثورات (الثورة الكمالية في تركيا مثلًا)، فإنها تستأصله من جذوره أو تحاول ذلك، وتنتهي بإلقائه في أحضان الغير أو بتغيير الشكل دون المضمون، أو في خلق انفصام بين وجدان الشعب وسلوكه، وكثيرًا ما يكون العنف هو الطريق إلى ذلك، وينتهي هذا الاتجاه إلى خلق الانفصام في الشخصية التاريخية للشعوب.
الأصالة والمعاصرة إذن مرتبطتان لأنهما تعبران عن الصلة بين الفكر والواقع. فالأصالة هي الفكر على مستوى التاريخ والمعاصرة هي الواقع على مستوى السلوك. الأصالة أساس الفكر والمعاصرة إحساس بالواقع، والمشكلة وجهتان لمنطقٍ واحد وهو منطق التجديد الذي تعرضه الأصالة والمعاصرة على المستوى الأفقي، والذي يعرضه الفكر والواقع على المستوى الرأسي، ومن ثم تصبح الأصالة والمعاصرة منطق الالتزام بقضايا العصر مع أكبر ضمان ممكن من حيث إمكانيات الحل والتطبيق.
والآن، ماذا تعني الأصالة وماذا تعني المعاصرة؟ لا تعني الأصالة الإبقاء على القديم بأي ثمنٍ حتى ولو كان على حساب المعاصرة، بمعنى الاعتزاز بالأصالة بدافعٍ من التشبث بالماضي والتعصب له (كما يحدث لدى بعض المثقفين المتعصبين للإيمان). فالأصالة لديهم لا تتغير في صورتها أو في مضمونها، وقد لا يمنعهم هذا من الإحساس بالمعاصرة، ولكن تمثلهم لقضايا العصر يكون أقرب إلى التحزب والاندفاع والانفعال؛ لأنهم يؤمنون بالأصالة على هذا النحو العصبي، دون أي محاولة لعرضها على المستوى النظري. فالمثقف على هذا النحو يؤمن بالأصالة ويؤمن بالمعاصرة، ولكنه لا يفعل كليهما معًا؛ فهو متدين قبل أن يكون مثقفًا، يؤمن بالدين ولا يعقل الأيديولوجية.
ولا تعني الأصالة الحد من المعاصرة أو من تبني الواقع كله، كما يحدث في كثيرٍ من الأحيان عندما تغلف المعاصرة ويغلف الواقع الجديد تحت أقنعةٍ من الأصالة؛ لأنه لا جديد تحت الشمس، وغالبًا ما يكون الدافع لذلك هو الحد من تطور الواقع وابتلاعه داخل القديم، ويعقلون المعاصرة، ويرون الحاضر في مرآة الماضي، ولكن في هذه الحالة تكون المعاصرة هي البادئة، وتصبح الأصالة هي التابعة؛ ومن ثم تفقد الأصالة دورها في إرساخ قواعد المعاصرة، وتفقد المعاصرة إمكانيات تنظيرها؛ لأنها لن تفهم إلا بقدر رؤيتها في مرآة الماضي، والماضي في معظمه لا يحتوي فكرًا بل تصورًا دينيًّا للعالم. وقد يتم ذلك عن سوء نيةٍ ظاهرة أو باطنة، شعورية أو لا شعورية للحد من درجات التطور، والوقوف به إلى حد المكاسب الشخصية كما هو الحال في الأحزاب المسيحية الاشتراكية في البلاد الغربية. فإذا استمرت المعاصرة بدافع من التطور انقلبت الأصالة وانضمت إلى فئة المتعصبين للماضي، كما يحدث غالبًا من انضمام الوسط إلى اليمين عندما يشعر بتقدم اليسار، وكما يحدث كثيرًا في الأوساط المثقفة التي تناصر الاتجاهات التقدمية بقدر ما تحصل منها على مزايا وتنقلب عليها إذا توقفت هذه المزايا أو قلَّت.
ولا تعني الأصالة الوصاية على المعاصرة وكأن الأولوية للفكر على حساب الواقع، فالأصالة ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لإدراك الواقع في كل أبعاده. فكثيرًا ما تنشأ اتجاهات تدعو للأصالة ولكنها تقوم بتغليف الواقع بشرائع وأحكام أضعف من أن تسيطر عليه أو تغير فيه شيئًا، ويظل الواقع بارزًا عن التشريع، ويظل التشريع طائرًا فوق الواقع، وسرعان ما يعتري الأصالة الميوعة والعجز، ويظل الواقع مدفوعًا بتطوره الطبيعي لا فكر له، ثم يفرض فكره بنفسه، ويحدث ذلك في كثيرٍ من المجتمعات التي تتمسك بأحكام الماضي من حيث المظهر، والواقع يسير في تطوره الطبيعي.
والأصالة ليست، كما يقال، ارتباطًا للماضي الذي حوى كل شيء، وكما يدعي بعض الأصدقاء؛ بل هي، أساسًا وقبل كل شيء، وعي بالواقع واتحادٌ به، والتاريخ جزءٌ من الواقع لأنه ما زال يعمل كرواسب في أعماق الأفراد. ليست الأصالة هي البحث عن النوعية بأي ثمن، بل رؤية صائبة للواقع باعتباره مرحلةً من مراحل التاريخ. الأصالة هي اتحاد بالواقع نفسه وإعادة تفسير للقديم كله لخدمة هذا الواقع؛ ومن ثم تصبح الأصالة مرادفة للمعاصرة، ولكنها معاصرة أعمق جذورًا في التاريخ، وأكثر تحقيقًا لوحدة الشخصية الوطنية.
أما المعاصرة فإنها لا تعني المحادثة؛ فالمحادثة هي مجرد نقل الحديث دون تمثُّل أو فهم، والغرض منها نقل آخر الصيحات في الفكر والفن. المحادثة أقرب إلى التخلي عن الفكر والواقع على السواء من الكتَّاب أولًا والقراء ثانيًا، فنقل المذاهب الفكرية وعرضها شهرة للكاتب وحرصًا من القارئ على تتبع آخر الأفكار، إنكار لصدق الفكر ومقدرته على التحليل والفهم والنقد وأخذ المواقف.
وقد يكون السبب في ركود كثير من مجلاتنا الثقافية أنها أقرب إلى المحادثة ونقل المعلومات منها إلى المعاصرة وتحليل الفكر، وكذلك يكون نقل الاتجاهات الفنية نسيانًا للواقع الذي يصدر عنه كل شيء؛ فقد ارتبطت المذاهب الفكرية والاتجاهات الفنية المنقولة بواقعها الخاص الذي صدرت عنه. وقد يكون في واقعنا المعاصر منبع لمذاهب واتجاهات مخالفة، فإن ارتبط الكثير من هذه المذاهب والاتجاهات بالمجتمع الصناعي بكل ما فيه من استهلاك وفائض الإنتاج، فإن واقعنا المعاصر الذي يغلب عليه طابع النمو، والذي ما زال يسعى نحو التحرر الاجتماعي والاقتصادي، يفرض فكره وفنَّه. فإن شئنا الدولة العصرية فإنها تقوم أولًا على النظرة العلمية، قبل أن تقوم على العلم والتكنولوجيا؛ أي إنها تقوم على المعاصرة لا على المحادثة.
ولا تعني المعاصرة ما يحدث لكثيرٍ من مثقفينا من رغبتهم في التمتع بمزايا العصر الحديث كطبقةٍ مستقلة متميزة عن غيرها؛ ومن ثم تنشأ دائرة صغيرة داخل الدائرة الكبيرة، ثم تصبح الدائرة الصغيرة في مركز السلطة أو أخذ القرارات، فيتم التخطيط حتى تخدم الأغلبية الأقلية كما يحدث في كثيرٍ من البلاد النامية من إنشاء لصناعات التجميل ومحاولات التلفزيون الملون. بل تعني المعاصرة تفتت هذه الدوائر ونزولها إلى الواقع العريض وتعلُّمها منه، ورؤيتها لما يدور تحت أقدامها لا لما يحدث فوقها. لا تعني المعاصرة التأنق والتهندم بل معاناة الحياة اليومية التي تعانيها كافة الطبقات ذات الأيادي القذرة!
تعني المعاصرة إذن إعطاء لأولوية للواقع على الفكر، حتى يصبح الفكر هو رؤية هذا الواقع نفسه، ويتم ذلك في قراءتنا للنصوص الدينية أو للتراث القديم. فإذا كانت الأصالة هي تحويل الفكر إلى واقع، تكون المعاصرة هي تحويل الواقع إلى فكر. ففي مجتمع تتكون ثلاثة أرباعه من الفلاحين والعمال يكون نظامه شعبيًّا بالضرورة ويتم التخطيط لهم أولًا، وفي مجتمعٍ محدود بجغرافيته وطبيعته تكون الفوارق فيه بين الطبقات طفيفة أو معدومة. تعني المعاصرة الاتحاد بالواقع والعيش على مستواه، ورفض جميع صور الانعزالية والضمور في الثقافة والفن التي تبغي تملق الواقع والتكسب منه والشهرة على حسابه، ثم التعالي عنه والترفع عليه. تنشأ المعاصرة من الإحساس بقضايا العصر والالتزام بها، والتي تتركز كلها حول قضية النمو أو التقدم، وهو حق الواقع الذي يفرض صور فكره ويرفض ما عداها.
ولا يعني الربط بين الأصالة والمعاصرة المساومة على أحدهما أو كليهما، أو مسك العصا من الوسط بين دعاة القديم وأنصار التجديد، أو التوفيق بين التراث ومقتضيات العصر الذي في الغالب يكون أقرب إلى التلفيق منه إلى التوفيق؛ لأن كل هذه المحاولات تنتهي إلى ضياع الأصالة والمعاصرة معًا؛ لأنها لا تتم عن وعيٍ بل عن خوفٍ أو عجز أو نفاق، وهو ما يحدث حاليًّا في كثيرٍ من مناهج ربطنا.
ولا يعني اعتماد منطق العصر على الأصالة والمعاصرة نقصًا في الجذرية، وبقايا إيمان بالماضي وتخوفًا أو تطهرًا بالنسبة للمعطيات الجديدة التي وصلت إلى حدٍّ من الموضوعية والتحول بحيث لا يمكن لأي بيئة أن ترفضها؛ لأن الجذرية لن تنشأ إلا على أساسٍ من إدراك الواقع العريض لكل ما فيه. يريد أنصار الحلول الجذرية هدم القديم وبدء الجديد. ولكن منطق الأصالة والمعاصرة يكتفي بفحص القديم وإخضاعه لمناهج التحليل العلمية؛ فهو يعلم حدوده التي لا تتعدى النقد والتقييم، وهذه هي مهمة جيلنا المخضرم. وقد تأخذ الأجيال القادمة على عاتقها مهمة البدء الجذري، بعد أن يكون هذا الجيل قد مهد لها بمناهج النقد والتحليل، وإرساء أسس النظرة العلمية.
لا يعني منطق الأصالة والمعاصرة إذن أي قصور في النظرة العلمية؛ وذلك بإعطاء الأولوية — على ما يبدو — في بعض الأحيان للعوامل الفكرية، وتفسير الظواهر الحاضرة بالرواسب الماضية؛ لأننا ما زلنا في مرحلة اكتشاف الذات، وبيان أسباب قصورها وعوامل تخلفها؛ أي إننا ما زلنا جيل الإصلاح. وقد تكون الأجيال القادمة أقدر منا على إرساء قواعد النهضة العلمية، بعد أن نكون نحن قد مهدنا لها بالفحص والتمحيص.
وقد يُتهم منطق الأصالة والمعاصرة، كما يحدث غالبًا، بالرجعية؛ وذلك لأنه يرد الظواهر إلى أصول أولى من نتاج الفكر، كما قد يتهم أيضًا بأنه عمل برجوازي وطني يريد كل شيء: تركة الماضي وغنى الحاضر، كما يريد الزعامة والصدارة، ويخفف من حدة هذا الاتهام أن المثقفين الثوريين هم القادرون على القيام بهذه المهمة، وهم طليعة طبقات الأغلبية؛ ولأنها ما زالت إلى حدٍّ كبير العامل المحرك للمجتمعات النامية. وقد يقال أيضًا إن هذا المنطق ترفٌ فكري. فالواقع سيفرض نفسه والمجتمع الصناعي سيفرض عقليته، دون حاجةٍ إلى منطق الأصالة والمعاصرة. ولكن يخفف من حدة هذا القول أن الوعي النظري بتطور العصر أدعى إلى الاطمئنان وأقرب إليه من التطور التلقائي المعرض للتوقف أو النكوص.
لمنطق الأصالة والمعاصرة مناهجه وطرقه وأساليبه وميادينه، وهذا ما تعرض له هذه الصفحة، وسيكون لقاء الفكر ولقاء الأجيال.
(٢) موقفنا الحضاري٢
قد يوحي منطق الأصالة والمعاصرة بأن هناك موقفين حضاريين متباينين؛ الأول: عاشه القدماء الأوائل من القرن الأول حتى القرن السابع، وهي الفترة التي أرَّخ ابن خلدون في القرن الثامن لنشأتها وتطورها وانتهائها، والثاني عاشه المتأخرون من القرن الثامن حتى القرن الحالي، وهي الفترة التي بدأت بحركة الإصلاح السلفية عند ابن تيمية وابن القيم، واستمرت عند محمد بن عبد الوهاب، ثم ظهرت في حركات الإصلاح في القرن الماضي عند الأفغاني ومحمد عبده. وفي هذا القرن عند إقبال والكواكبي وقاسم أمين وغيرهم ممن يكثر عنهم الحديث في هذه الأيام، وهي الفترة التي يقع فيها عصر الشروح والملخصات. عاشت فيه الحضارة على نفسها، وحاولت المحافظة على نتاج الفترة الأولى بالتسجيل والتدوين ما دامت لم تعد تقوى على الخلق والابتكار. وفي هذه الفترة الثانية بدأ عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، وأخذت الحضارة الأوروبية في العصور الحديثة مأخذ الصدارة واستطاعت الخلق والابتكار؛ وبالتالي يمكن اعتبارها في التاريخ الإنساني لاحقة لفترة الحضارة الإسلامية الأولى ومكملة لها إن لم تكن محققة لمُثلها وغاياتها، والحقيقة أن موقفنا الحضاري واحد سواء كنا نقبع في القرون السبعة الأولى أو القرون السبعة الثانية التي تداخل فيها تدهور الحضارة الإسلامية مع نهضة الحضارة الأوروبية. وفي هذا الوضع يصعب الحديث عن القديم والجديد نظرًا لوجود التباس في كل منهما.
قد يعني القديم الإلهيات التي دامت في القرون السبعة الأولى، والتي غطت جميع جوانب التفكير القديم. وفي هذه الحالة يمكن إعادة بناء القديم، وتصفية ما علق بالعلوم من شوائب تقلل من موضوعيتها وتحد من استقلالها. وقد يعني القديم مواطن الأصالة والابتكار كما هو واضح في مناهج التفكير عند الأصوليين وفي وضعهم لمنطق الجزء ولمناهج النقد التاريخي. وفي هذه الحالة يوضع القديم موضع الصدارة، ويؤخذ نموذجًا لقيام العلم ويطور من جديد حسب معطيات العصر.
قد يعني الجديد ما يتعلق بالقرون السبعة التالية سواء ما يخص البيئة أو ما يتعلق بالإصلاح الديني، ولكنه يعني في الغالب ما اكتشفته الحضارة الغربية. وما يتسم بالعقلانية والموضوعية وما يهدف لخدمة الإنسان. وفي هذه الحالة يوضع هذا الجديد موضع الصدارة، وتكون له الأولوية على القديم بمعنيَيه، بل يصفى القديم كله لحساب الجديد، أو يظن التعارض بين هذا الجديد وبين الجديد الذي اكتشفته البيئة وعبرت عنه حركات الإصلاح الحديثة، وينشأ موقف حضاري منفصم عن الأول، والواقع أنه موقفٌ حضاري واحد يتسم بالانفصال، وبدخول عوامل جديدة في الفترة الحالية التي قد تتشابه ظروفها أو تختلف أو تتفق نتائجها أو تفترق مع الفترة الأولى، والوعي الحضاري كفيل بأن يرى من خلال هذا الاتفاق أو الاختلاف موقفًا واحدًا ينبه فيه القديم على أوجه النقص في الجديد، ويثير فيه الجديد مواطن الأصالة والابتكار في القديم. وقد يكون السبب فيما يعانيه من قصورٍ في الإدراك أو السلوك تصورًا قديمًا للكون وللإنسان. وقد يكون السبب في رفضنا للماضي وانفصامنا عنه جهلنا بمواطن الأصالة فيه التي تصلح لأن تكون جذورًا لمقتضيات العصر. إن الوعي بموقفنا الحضاري هو الكفيل إذن بتحقيق وحدة الشخصية عبر التاريخ والتعرف على مكوناتها التي قد يرجع معظمها إلى رواسب الماضي.
نلاحظ أولًا أن موقفنا الحضاري الأول قد قام إثر حركاتٍ من الغزو والفتح لسيادة الأرض، وبعد تكوين جماعة مؤتلفة نظمت نفسها وأصبح لها كيان الدولة، وكانت الانتصارات المتتالية في حقبةٍ قصيرة من الزمان (لا تتعدى الأربعين عامًا)، وهزيمة إمبراطوريتين معاصرتين كفيلة بنشأة وعي حضاري، استطاع أن يغطي بالفكر جميع الأراضي التي أصبحت له السيادة عليها؛ أي إن السيادة على الأرض ونشأة الفكر ارتبطتا معًا. وفي وضعنا الحضاري الحالي، بعد أن فقدنا السيادة على الأرض في فترة الاستعمار الأخيرة وبدأنا حركات التحرر كانت حركات الفكر منفصلة إلى حدٍّ ما عن تحرير الأرض، فكانت أقرب إلى تثقيف الأفراد وإلى التندر بالمذاهب الجديدة، وهو ما يعبَّر عنه غالبًا بانعزالية الثقافة أو انعزالية المثقفين. ثم نشأت كثير من المحاولات للربط بين الفكر والأرض. وتخرج كثيرٌ من النداءات مثل: ربط الجامعة بالمجتمع، الجامعات الإقليمية النوعية، الفن للحياة، الثقافة الجماهيرية، أدب المقاومة، الشرطة في خدمة الشعب، لا صوت أعلى من صوت المعركة … إلخ. وإذا كان الفرد قديمًا — بعد تكوين جماعة مؤتلفة هو الذي أقام الدولة، فإن الفرد اليوم قد يكون هو العائق عن قيام الدولة، وهو ما نسميه ببيروقراطية الدولة أو بعدم أهلية أجهزة الدولة للنظام الجديد.
لقد نشأ الوعي الحضاري الأول بعد تلقي الوحي؛ أي بعد الحصول على فكرٍ جاهز أو على ما نقول بلغة العصر على أيديولوجية واضحة المعالم، تنبت من الوقائع التي عرضت للناس (أسباب النزول). وفي نفس الوقت مبادئ عامة تصلح أساسًا للتشريع. كان هناك نوعٌ من الاطمئنان النظري واليقين المبدئي السابق على تجارب المحاولة والخطأ التي قد تدوم إلى ما لا نهاية، وكان مصدر التشريع يسمح بدخول الوقائع الجديدة، كما ظهر ذلك في مدارس الفقه خاصة في الفقه المالكي. وفي موقفنا الحضاري اليوم نبحث عن أيديولوجية ونحاول توضيح معالمها، ونعتمد على محاولات التجارب والخطأ، ولا نسمح كثيرًا بما يفرضه الواقع الجديد (الأرض لمن يفلحها، إعادة توزيع الدخول، وضع سياسة للأجور تتناسب مع طبيعة العمل وحده)، ولن يتم تشريع أو تخطيط إلا بوضوحٍ نظري كافٍ. لقد كان التشريع القديم أكثر جرأة وأكثر طوعًا لمقتضيات الواقع عندما منعت ملكية الأرض زمن الفتوح، حتى أصبح الواقع أو المصالح المرسلة عند مالك مصدرًا من مصادر التشريع «فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن».
لقد نشأت بعض العلوم التقليدية حول الوحي للمحافظة عليه، ولضبط قراءته ولضمان صحته ومعناه. نشأت علوم القرآن والحديث من قراءاتٍ وتفسير، وهي العلوم التي ندرسها في معاهدنا الدينية وننشر تراثها، مع أن كثيرًا من موضوعاتها قد تم الوصول فيها إلى نتائج يقينية، ولم يعد في إمكاننا إعادة التحقيق والتمحيص (مثلًا هل البسملة جزء من السورة أم لا؟ هل الفاتحة سورة مستقلة أم لا؟ … إلخ). كان القدماء أقرب عهدًا وألصق بهذه المادة منا، ولكننا أقدر منهم بوعينا بعلوم الإنسان. إنشاء علوم جديدة حول الوحي أقرب إلى المشاكل المعاصرة التي تزخر بها حياتنا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد. ولا يعني هذا الوقوع فيما يفعله كثيرٌ من المعاصرين من تقريظ للوحي الذي احتوى آخر صيحات الفكر واختراعات العلم؛ ولكنه يعني أخذ الوحي في الاعتبار باعتباره حاويًا لكثيرٍ من النظريات في العلوم الإنسانية، وهو ما حاوله القدماء على مستوى اللغة والتشريع لأن العصر كان عصر اللغة، وهو ما نستطيع أن نحاوله اليوم على مستوى العلم لأن العصر عصر العلم. فإذا كان القدماء قد خلفوا لنا تراثًا لغويًّا فإننا نستطيع اليوم أن نخلف تراثًا علميًّا؛ وبذلك يضيع من برامجنا الدينية في أجهزة الإعلام وفي معاهدنا ودور التعليم أحكام الضراط وحلق عانة الميت!
وقد حدث في موقفنا الحضاري الأول بعد السيادة على الأرض، وانتشار الفكر وحصور الأيديولوجية ونشأة العلوم؛ حدث لقاء مع الحضارات الأخرى بحكم الجوار خاصةً مع الحضارة اليونانية، فنشأت حركة الترجمة للتعرف على فكرٍ كان سائدًا من قبل على الأراضي المفتوحة، دون لهفة على الجديد والتخلي عن القديم؛ فقد كان هذا الجديد قديمًا لأنه سابق في الزمان، ولم يكن هناك قديم بعد لأن الحضارة كانت وما زالت في دور النشأة والانتشار. وبدأت الترجمة بعلوم الطبيعة وعلوم الحياة (الكيمياء والطب) قبل العلوم النظرية (المنطق والفلسفة)، وأُسِّس بيت الحكمة ترعاه الدولة للقيام بهذه المهمة، ووُضعت المصطلحات العربية للمفاهيم الجديدة. وبالرغم من أن الترجمة تمت بطريقٍ غير مباشر (عن طريق السريانية أولًا)، إلا أنها لم تدم أكثر من قرن، وهو القرن الثاني، وبدأت في أواخره وأوائل الثالث حركات التأليف عند الكندي، بل لقد بدأ الكلام والتشريع مبكرًا للغاية في القرنين الأول والثاني. ويواجه موقفنا الحضاري اليوم نفس الظروف؛ فمع الرغبة في التحرر من السيطرة الأجنبية بدأ التعرف على الثقافات المجاورة بعد طول عزلة إبان الحكم العثماني، وبدأ الاتصال بالحضارة الغربية ابتداء من الحملة الفرنسية على مصر وخاصة في عهد محمد علي، وبدأ عصر الترجمة الثاني بالعلوم الطبيعية والتطبيقية لحاجة الدولة إليها. ولكن طالت الفترة؛ فقد بدأت الترجمة الثانية منذ أكثر من قرن ونصف ولم تنته بعدُ إن لم تكن في ذروتها، ولم نتعدَّها إلى مرحلة التأليف الذي إن حدث أحيانًا فإنه يكون أقرب إلى الترجمة المقنَّعة ويغلب عليه طابع التجميع والترديد. ومع أن الترجمة الثانية أسعد حظًّا من الأولى لأنها تتم في أغلب الأحيان عن طريق مباشر من اللغات الأصلية مباشرةً، إلا أنها تعثرت أمام المصطلحات الجديدة واستكثر من التعريب لنقل المصطلحات الأجنبية، وأصبح ما أدخلناه من الكلمات المعربة أكثر بكثيرٍ مما أدخل القدماء، وكما تورع القدماء عن ترجمة الأساطير والأدب اليوناني بحكم ثقافتهم وتصورهم للعالم، يتورع المحدثون عن ترجمة ما يمس المقدسات ومناطق التحريم الثلاث: الله والسلطة والجنس.
وإذا استطاع القدماء بجوار العلوم الدينية الخالصة مثل علوم القرآن والحديث إقامة بعض العلوم الدينية العقلية مثل علم أصول الدين وعلم أصول الفقه أو العلوم العقلية الخالصة كالفلسفة أو العلوم الدينية العملية كالتصوف، فإننا في وضعنا الحضاري الحالي نقوم بترديد هذه العلوم بموضوعاتها ومناهجها ونتائجها، بالرغم من تغير الظروف القديمة ووجود ظروف جديدة تحتم إعادة بنائها. فعلم أصول الدين (الكلام) الذي أخذ التوحيد موضوعًا له وضعه كمشكلةٍ لاهوتية صرفة خاصة بوحدة الذات الإلهية وتعدد صفاتها كما هو الحال في اللاهوت المسيحي في وضعه للأقانيم الثلاثة، مع أن التوحيد وعلى ما فهمه المحدثون (إقبال مثلًا) قد يكون أقرب إلى جعل الوحي نظامًا للعالم، أو كما يقول المعاصرون تحويل الأيديولوجية إلى تاريخ. كان التوحيد القديم علمًا لله مع أنه في الحقيقة علم للإنسان من دون الله قد خاطب الإنسان وجعله مقصدًا له وموضوعًا؛ وبالتالي يكون موضوع العلم الإلهي هو الإنسان. وكذلك تدور الفلسفة القديمة حول الإلهيات والطبيعيات؛ أي حول الله والعالم دون أن يكون هناك بعد ثالث للإنسانيات التي كانت تلحق في الغالب بالإلهيات في نظرية اتصال الإنسان من حيث هو عقل نوراني بالعقل الفعال أو بالطبيعيات من حيث اتصال النفس بالبدن وتحول البدن إلى العناصر الأربعة التي تكون العالم الطبيعي. وإن ما نعانيه اليوم من غياب البعد الإنساني قد يرجع أساسًا إلى غياب الإنسان في اللاهوت القديم وفي الفلسفة القديمة. فإذا وجد الإنسان كما هو الحال في التصوف كان إنسانًا إشراقيًّا يعتمد على وجدانه دون عقله، وينتظر الكشف الرباني ولا يبحث عن العلم، ونحن ندعو اليوم إلى العقل وإلى العلم. أما الأصول، وهو العلم الذي ظهرت فيه قدراتنا العقلية التحليلية القديمة، واكتشاف منطق الجزء فإنه ما زال أسير الفقه ولم يتعدَّ بعدُ حدود التشريع ولا يدرس في كلياتنا الإنسانية، ولم يتحول بعد إلى مناهج فكرية عامة قد تساهم حاليًّا في دراستنا الإنسانية خاصةً فيما يتعلق بالعلوم اللغوية والتاريخية والفلسفية. مع أنه العلم الذي قد يعطي لنظراتنا المعاصرة دفعةً جديدة ويجعلنا أكثر جرأة في التشريع وقبولنا لمتطلبات الواقع دون تحرج أو تخوف. أما العلوم الرياضية والطبيعية ومساهمة القدماء في وضع أسسها فإننا نضعها في الدرجة الثانية بالنسبة للعلوم الدينية أو العلوم العقلية، فلا تدرس العلوم الرياضية في جامعاتنا ولا حتى كجزء من تاريخ الرياضة العام، أما العلوم الطبيعية فإنها تذكر في باب الاعتزاز بالقديم والفخر بالأجداد، وتدرس كمادةٍ قومية لا كمادة علمية. وقد تكون أحوج في موقعنا الحضاري الحالي إلى تحليل عقليتنا الرياضية والعلمية القديمة، كي نتعرف على مواطن الابتكار فيها، خاصة وأننا في هذين العلمين في الفترة الحالية مجرد نقلة، ولا يقال إن عصرنا ليس عصر الابتكار لأننا نتلقى أكثر مما نفكر، ونجمع أكثر مما نخلق.
أما بالنسبة للسياسة والاجتماع والتاريخ أو كما يقال بلغة عصرنا بالنسبة للعلوم الإنسانية أو العلوم الاجتماعية، فنجد أن التفكير السياسي عند القدماء لم يتعد حدود التفكير الإلهي، إن لم يكن في جوهره تفكيرًا إلهيًّا مقنعًا. فنظريات المتكلمين تدور حول الإمامة والخلافة، ونظريات الفلاسفة تدور حول النبوة، ونظريات الصوفية تنظم مدينة السماء التي يجتمع فيها الأقطاب والأبدال أو مدينة الأرض السرية، ويدعو معظمها للحكم الثيوقراطي الممثل في الفرد الإلهي، ويرتكز النظام كله حول الفرد المطلق الذي حوى من صفات الكمال والقدرات المطلقة ما جعلته نظير الله. وفي ذلك يقول الفارابي في «السياسة المدنية»: سواء قلت الملك أو الحاكم أو الفيلسوف أو النبي أو الرئيس أو الله، فإنني أقول نفس الشيء. كان التفكير السياسي القديم تفكيرًا حول خصال الخليفة كما هو الحال عند الفارابي، وتبريرًا لسلطاته المطلقة ما دام خير البرية. وقد يكون السبب فيما نعانيه اليوم من تصورٍ هرمي للعالم، وتصريف الأمور من القمة إلى القاعدة هو هذا الطابع الفكري القديم. وقد يند أهل السنة عن هذا الحكم لمناداتهم بالشورى خاصة المعتزلة، نظرًا لأصلهم الخامس «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
على أي حال، كانت السياسة عند القدماء أقرب إلى الممارسة منها إلى النظر خاصةً عند المتكلمين، وإن كنا نعاني اليوم من أنها أقرب إلى النظر منها إلى الممارسة، وكان الفكر عند القدماء على مستوى الجمهور يشارك فيه وإن لم يكن يعبر عن مشاكله، وكانت المشاكل الكلامية موضع جدل ونقاش في المساجد والأسواق تتطاير من أجلها الرقاب، وإن كان الفكر اليوم قد انحسر عن عامة الناس وأصبح من عمل الخاصة والحرفيين. كان الفكر عند القدماء يولد بعضه بعضًا فتنشأ المذاهب، وتتولد عنها المذاهب المعارضة أو المخففة، فكان التنزيه رد فعل على التشبيه، والاختيار رد فعل على الجبر، واليوم لا نستطيع أن نقول إن اتجاهاتنا الفكرية والأدبية تتولد بعضها عن بعض، بل تنشأ نشأةً شيطانية بالمجهود الفردي أو تحت تأثير أجنبي بعد رحلةٍ أو بعثة ثم تنتهي ولا يتولد عنها شيء. قد يكون السبب في ذلك نقصًا في الوعي الحضاري، وقصورًا في إقامة المذاهب ومدها نحو الجذور، والحرص على بقائها ودوامها.
لقد قام كثيرٌ من المفكرين بتصفية التراث عندما تتراكم الآراء وتتزاحم النظريات، وتبلغ حدًّا من الخلط والتشويش ما يستحيل بعده التعرف على الأصول الأولى. قام الغزالي بهذه المهمة في القرن الخامس ودعا إلى التصوف، وقام ابن تيمية في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن بذلك أيضًا، ودعا إلى طريق السلف والإيمان بالنصوص كما أنزلت، وبدأت الحركات الإصلاحية بهذه المهمة تدعو إلى التجربة الصوفية (إقبال)، أو إلى الجانب العقلي في التراث القديم (الأفغاني، محمد عبده). لقد قام ابن خلدون لأول مرة بدراسة للعقل التاريخي للحضارة في فترتها الأولى، ولم يظهر بعد فيلسوف للتاريخ يحاول أن يضع العقل التاريخي للحضارة في فترتها الثانية، ويربط الفترتين معًا ويقدم لنا موقفًا حضاريًّا واحدًا.