الأصالة والتقليد
-
(١)
ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد
-
(٢)
التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر
***
(١) ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد١
من الواضح أننا نعيش اليوم تراثنا من جديد، لا من حيث إننا نحاول نشره أو تجديده، وهو ما نعانيه باسم مشكلة «التراث والتجديد» أو «القديم والجديد»، بل من حيث إننا في لقاءٍ مع حضارة معاصرة، هي الحضارة الغربية، كما كنا من قبل في لقاء مع حضارةٍ مغايرة، هي الحضارة اليونانية. نعيش تراثنا الماضي، بمعنى أننا نعيش إحدى مشكلاته الأولى الناشئة عن الالتقاء بين حضارتين؛ الأولى ناشئة، وهي الحضارة الإسلامية، والثانية غازية، وهي الحضارة اليونانية. وقد تم هذا الالتقاء الأول بعد عصر الترجمة في القرن الثاني الهجري، وتم هذا اللقاء الثاني أيضًا بعد عصر الترجمة الثاني ابتداء من القرن الثامن عشر بعد الحملة الفرنسية على مصر حتى الآن؛ أي على مدى قرن ونصف من الزمان؛ أي إننا أمام ظاهرة وحدة تتكرر مرتين. لذلك يمكننا الحديث عن الفترة الأولى ولا نرى فيها إلا مشاكل العصر، ويمكننا الحديث عن مشاكل العصر ونراها من مخلفات تراثنا القديم.
ولكن في اللقاء الثاني مع الحضارة الغربية لم يحدث هذا التشكل الكاذب بعد؛ فما زالت لغتنا القديمة تعبر عن مضمونها الأول دون أن تستكشف عوالم جديدة يمكن من خلالها إسقاط ألفاظنا القديمة والتعبير عن مضمونها في لغةٍ أكثر قدرة على التعبير عنه. فما زلنا نستعمل ألفاظ الحلال والحرام، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والملاك والشيطان، مع أن مفكرينا القدماء قد أسقطوها واستعملوا بدلها ألفاظًا أكثر عقلانية وعمومية مثل السعادة والشقاء؛ وبالتالي لم نستطع أن نستكشف العوالم المعاصرة، مثل الشعور، والذات، والفعل، والحركة، باستثناء محمد إقبال. ما زلنا نواجه الحضارة المعاصرة بمقولاتنا القديمة، ولا ضير أن يكون الإنسان وضعيًّا منطقيًّا ومؤمنًا بالحسين وآل البيت، ولا ضير أن يكون عالمًا طبيعيًّا ومؤمنًا بكرامات الأولياء.
نحن نرزح تحت عبء التراث القديم وفي مواجهة التراث الغربي المعاصر، فينا من كل تراث جزء دون أن تتحقق وحدة الشخصية بين القديم والجديد. نحن لا نعيش ثقافة واحدة بل ثقافتين كما يظهر ذلك في ازدواجية التعليم، وازدواجية الثقافة، وازدواجية السلوك، وازدواجية الشخصية بالرغم من مرور أكثر من قرنٍ ونصف على التقائنا بالثقافة الغربية.
كذلك لم نشأ ذكر أسماء. فمفكرونا المعاصرون قومٌ أجلَّاء بذلوا جهدهم بقدر استطاعتهم، ولن يكون موقف الشبان منهم موقف اللوم أو النعي، بل موقف المطور لأفكارهم طبقًا لتغيرات الظروف. إذا كانوا ينتسبون إلى البرجوازية الوطنية أكثر منهم انتسابًا للطبقة العاملة. فالشبان أكثر انتسابًا إلى الطبقة العاملة منهم إلى البرجوازية الوطنية. وإذا كانوا قد عاشوا في فترةٍ ازدهرت فيها الحياة الأدبية والفكرية، وكان الاطلاع فيها على الأصول الغربية أكثر سهولة، فإن الشبان اليوم يعيشون في عصرٍ أقل ازدهارًا وأقل اطلاعًا على الأصول، وإن كانوا قد عاشوا في فترةٍ كانت فيها مصر مستقلة اسمًا ومحتلة واقعًا، فإن الشبان اليوم يعيشون في فترةٍ الأرض فيها محتلة اسمًا وواقعًا، وهذا ما يجعل الشبان أكثر وعيًا وأشد حسًّا.
الغرض إذن من هذه الدراسة دراسة الفكر وتحليل موقفنا من الأفكار، وهي في الوقت نفسه دراسة للسلوك وتحليل لواقعنا المعاصر. فالفكر يبدو في المواقف، والمواقف نفسها تقوم على أساس فكري.
أولًا: ثلاثة مواقف بالنسبة للتراث الغربي
إذا حللنا ثقافتنا المعاصرة وجدنا أننا نأخذ من التراث الغربي مواقف ثلاثة: موقف الانبهار التام من كل ما يأتي من الغرب، أو موقف المعارضة التامة، أو موقف المحايدة الذي يقوم على الترويج للثقافة الغربية بدعوى التعريف بها دون أخذ أي موقف منها.
وقد يكون الرفض السطحي للتراث الغربي أقرب إلى القبول المقنَّع عند البعض الذين رفضوا الثقافة الغربية؛ لأنها صادرة عن الغرب الاستعماري، يرفضونها لرفضهم إياه ويعادونها لمعاداتهم الاستعمار، والحقيقة أن ثقافة الغرب وأنماطه الفكرية والعملية تتسرب إليهم كما نرى في سلوك البورجوازية الوطنية التي تعادي الغرب من حيث هو قوة استعمارية وتقلده في سلوكه ومُثله وأسلوب معيشته. لقد كان باشاوات مصر وطنيين يهاجمون الغرب ولكنهم كانوا يبنون قصورهم بأسلوب عصر النهضة الإيطالي، ويؤثثونها بأسلوب لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر. فالرفض الحماسي للاستعمار العسكري قائم على قبول ضمني لأنماط الغرب ومُثله: معارضة سطحية وقبول مقنَّع!
أما موقف المعارضة التامة فإنه ناشئٌ من استحسان التراث ومن الاعتقاد بأن القديم قد حوى كل الجديد الممكن، وأنه بالبحث في الماضي يمكن العثور على أسسٍ للحاضر ولما نتطلع إليه في المستقبل. إن كل التيارات الفكرية المعاصرة إن هي إلا نبذات من هذا الخضم الهائل الذي ورثناه في تراثنا القديم. كل فكر غربي يأخذ جانبًا من هذا التراث القديم ويعقله ويعرضه كمذهبٍ خاص به، ثم نقوم نحن بعد ذلك باستيراده وهو في الحقيقة موجود لدينا من قبل؛ أي إننا نطبق على الفكر ما نطبقه على المواد الأولية التي تزخر بها تربتنا، والتي يأخذها الغرب ثم يعيدها إلينا صناعة. فالاتجاه العقلي موجودٌ في التراث القديم، والاتجاه التجريبي موجودٌ في التراث القديم، بل إن آخر مكتشفات العلم الطبيعي موجودة في القرآن الكريم؛ أي إننا نقضي على جدية الحاضر ونلجأ إلى أصالة الماضي، ونرى فيه خلاصًا لكل ما يعرض لنا، ويسير إقبال إلى حدٍّ ما في مثل هذا الاتجاه.
فالمثقف هو أول المطلعين على أحدث المذاهب الفكرية والتيارات الفنية، وأول العارضين لها على صفحات المجلات الثقافية أو بالتأليف والنشر، وأصبح المفكر مرادفًا للقراءة ثم الكتابة. يقرأ الكتاب بالعين ويخرج عدة كتب باليد؛ ومن ثم لا يملي الذهن أو يفكر بل ينقل ويعرض. ولرب قراءة لعشرات الكتب لا ينتج عنها فكرة واحدة. لقد كتب برجسون «المادة والذاكرة» في مائتين وخمسين صفحة بعد أن قرأ أكثر من ألف مقال ومقال. فبالترويج تكون الكتابة أسرع من القراءة حتى كثر النشر وقل التفكير، حتى إنه ليمكن أن نعد كثرة النشر ظاهرة مرضية أكثر منها صحية؛ فنحن نعرف بعضنا بعضًا بالأفكار التي نكرسها فوق الواقع، والواقع نفسه يحتاج إلى من يغوص فيه بالتحليل. لقد أصبح الفكر هو الترديد أي التعامل مع المذاهب لا مع الواقع نفسه. لقد كان من السهل على المروجين للفكر الغربي أن يؤلفوا مئات من الكتب، كل منها يقوم على مصدرٍ أوروبي. فإذا تحدث المروج عن الحرية كان ترويجًا للمذاهب الأوروبية وليس تأصيلًا للمعتزلة. وإذا تحدث عن التعقيل كان ترويجًا للفلسفة العقلية الأوروبية وليس تأصيلًا لتراثنا العقلي في علم الكلام أو في الفلسفة أو في أصول الفقه. واستعمال العقل في دراسة الأدب الجاهلي تطبيق لمنهج الشك الديكارتي وليس تطبيقًا لمناهج البحث عند الأصوليين أو عند علماء الحديث. وكثيرًا ما يحدث ترويج لمذاهب دون تعميق لهذه المذاهب نفسها إلا مؤخرًا عندما يود الباحثون العودة إلى التراث القديم حينما تتقدم بهم السن ويحنون إلى القديم ويرجون لقاء الله. فالمروجون للوضعية المنطقية والتحليل العلمي للمفاهيم قد لا يكون لديهم وعي كافٍ لمثل هذا الموقف في تحليل الأصوليين للمفاهيم؛ لأن التراث القديم في رأيهم لم يتعدَّ مسائل التوفيق بين الفلسفة والدين، ولم يذهب نحو التحليلات العقلية الخاصة، أو أنه لا يتجاوز بعض التحليلات الأدبية والتطبيقات الفقهية. وهناك المروجون للمثالية الخلقية التقليدية بين ما هو كائنٌ وما ينبغي أن يكون، بين الذين يجعلون الأخلاق علمًا وصفيًّا لسلوك الناس وعاداتهم، وبين الذين يجعلونها علمًا معياريًّا يقنن سلوك الناس. هذه الثنائية التي ورثت الاتجاهات الدينية القديمة التي كانت تقوم أيضًا على الثنائية اللاهوتية بين الحلال والحرام، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة … إلخ. وهناك المروجون للاتجاهات الإشراقية في الفلسفة الحديثة، ما زالوا يؤمنون بإصلاح الفرد قبل إصلاح الجماعة، وبأولوية الباطن على الظاهر، وبأن الإنسان روحٌ لا بدن، وبأن المثالية الأوروبية هي الحقيقة نفسها، ولا ينطبق ما نقوله على العلوم الطبيعية لأن العلم لا يخص حضارة دون أخرى، ولا تقتصر الاكتشافات العلمية على قطر دون قطر. وإذا كانت أبحاثنا أقل بكثيرٍ من أبحاث الغرب فذلك لضعف إمكانيات البحث من ناحية، ولانشغال الباحثين في مطالب الحياة اليومية من ناحيةٍ أخرى.
وفي تاريخنا الحديث لم نبعث من الحضارة الغربية إلا ما اتفق مع تكويننا النفسي والذهني، وما اتفق مع أوضاعنا القائمة ونزعتنا للتحرر النسبي داخل المحافظة المطلقة؛ فقد أحيا لطفي السيد أرسطو على طريقة عصر النهضة الأوروبي، عندما رأى فيه بعثًا للعقلانية ودعوة للفكر الحر، دون أن يرى فيه نموذجًا للفكر العلمي، واتخذ طه حسين الشك الديكارتي وطالب بالفحص والتدقيق ووضع أسسًا نقدية للتراث القديم؛ وذلك لأن مهمة ديكارت كانت مهمة إصلاحية محضة في إحياء التراث القديم على نحوٍ أفضل، ولإثبات وجود الله بطريقةٍ أكثر إقناعًا دون أن يبعث سبينوزا؛ لأنه أشد جرأةً على التراث وأشد حماسًا في رفض ما فيه من أساطير وأوهام، دون أن يبعث فولتير وجرأته على رفض التشبيه والتجسيم والقضاء والقدر والمعجزات، وكل التصورات التقليدية للدين، ودون أن يبعث فيورباخ أو من يتميزون بروح العنف وبالرفض المطلق.
ثانيًا: بعض مظاهر التقليد في فكرنا المعاصر
ويحدث في بعض الأحيان أننا نتجرأ أو نأخذ موقفًا من الثقافة الغربية، ولكننا نكون في ذلك مقلدين وتابعين، مما أضر بقضايانا الفكرية والسياسية، فهناك بعض الاتجاهات التي يعارضها الغرب لأسبابٍ خاصة به. ونحن، تقليدًا منا له، نعارضها أيضًا مع أننا أحوج الناس إليها، وعلينا الدفاع عنها والدعوة لها، والعمل على نشرها وتطويرها. وهناك اتجاهات أخرى يدافع عنها الغرب ويروج لها، ونحن، تبعيةً منا له، ندافع عنها أيضًا ونروج لها مع أن الأجدى بنا أن نهاجمها، وأن نعمل على توضيحها وعلى بيان خطورتها.
-
(١)
فمن المسائل التي يعارضها الغرب الآن، ونحن نعارضها مثله مع أنه الأجدى بنا الدعوة لها، ما نجده في الغرب حاليًّا من هجومٍ عنيف على روح التخصص الذي أضاع النظرة الشاملة للكون، ومن تأييدٍ لهذه النظرة الشاملة، كما هو الحال عند برجسون في نقده لتخصص العلوم، وعند ليفي شتراوس في دعوته لاستقلال البناء العقلي عن عناصره المادية، وعند هوسرل في تأكيده لاستقلال الكل عن الأجزاء المكونة له. لقد نشأت روح التخصص أولًا كمطلب للحياة العملية خاصةً في القرن التاسع عشر عندما اقتضت الثورة الصناعية التخصص الدقيق. وقد أدت روح التخصص الغاية منها وقضت على روح الشمول والعمومية التي تميز بهما القرنان السابع عشر والثامن عشر، عندما كان الفيلسوف يعرف كل شيء في علوم الطبيعة وعلوم الرياضة وعلوم الإنسان، وهي الروح التي كانت سائدة في العصر الوسيط بعد أن أخذ الطابع العقلي الإنساني. ولكن روح التخصص الآن قد انتهت إلى غير ما هدفت إليه؛ فقد أضر التخصص بالنظرة العلمية نفسها التي تحتاج إلى نظرةٍ شاملة، فكثيرًا ما كان حل إحدى المشاكل العلمية موجودًا في مفهومٍ من ميدانٍ آخر. ولقد نشأت محاولات عديدة للربط بين العلوم الجزئية، حتى يمكن الرجوع إلى النظرة الشمولية من جديد، فهناك المنطق النفسي، والمنطق الرياضي، والكيمياء العضوية، والميكانيكا التموجية، وعلم النفس الاجتماعي … إلخ.
ولكن في مثل بيئتنا تصبح الدعوة إلى الشمول والقضاء على روح التخصص دعوة ضارة بعقليتنا التي ما زالت تنحو نحو العلمية، فنحن ما زلنا على مشارف عصر النهضة ونحاول القضاء على النظرة الشاملة في عصرنا الوسيط، ونقدم لنظرةٍ شاملة عقلية إنسانية أخرى نرجو أن تتحول بعد ذلك إلى عقليةٍ متخصصة بل وإلى عقلية التخصص الدقيق، وسيأتي ذلك حتمًا مواكبًا لحركة التصنيع، يؤدي إليها وتؤدي هي إليه. وفي حياتنا العملية نمارس روح الشمول، حتى لو استطعنا الحصول على عقليةٍ متخصصة، ولا تنفع شعارتنا عن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. نرسل البعثات من أجل التخصص الدقيق ثم يرجع المبعوثون للعمل في أي ميدان، ونادرًا ما يدرس أستاذ الجامعة تخصصه. إن النظرة الشاملة جزءٌ من التثقيف السياسي ومن أجل تكوين المواطن، ولكنها مهمة أجهزة الإعلام والنشاط الثقافي، خاصةً بعد أصبحت كبار الأعمال الفكرية والأدبية في متناول الجميع، لا فرق في ذلك بين مثقفٍ أوروبي وغير أوروبي.
-
(٢)
كذلك نجد في العصر الحاضر في الغرب دعوة للهجوم على الآلية وعلى سيادة الآلة للإنسان، كما عبر عن ذلك شارلي شابلن في فيلم «العصر الحديث». لقد كان هدف الآلة أولًا خدمة الإنسان فأصبح الإنسان اليوم خادمًا للآلة. كان الغرض من الآلة تخفيف العبء عن الإنسان وتوفير جهده والعمل على راحته، فأصبحت الآلة عبئًا على الإنسان وزاد جهده واشتد تعبه، حتى لقد امتد التعب إلى بنائه النفسي فأصيب بالملل والسأم، نتيجة للحركة المتكررة المستمرة ليده أو لقدمه ولتآزرهما مع الآلة، حتى إنه من الصعب التفرقة بين الآلة الحديدية والآلة الإنسانية. لقد فقد الإنسان حياته ووقته ومتعته، وأصبحت قيمته تعادل قيمة ما ينتج، وأصبحت حياة الإنسان اليومية تساوي عددًا من الصناديق أو المعلبات أو غيرها من الوحدات الإنتاجية، ويحذر برجسون في آخِر «منبعا الأخلاق والدين» من أن الإنسانية لتئن نصف منهكة تحت ثقل التقدم الذي حققته وهي لا تعلم، بما فيه الكفاية، أن مستقبلها مرهونٌ بها، وأن الأمر متروك لها أولًا إذا أرادت أن تستمر في الحياة. ولها أن تتساءل بعد ذلك: هل تريد أن تعيش فقط أو أن تقدم، زيادة على ذلك، الجهد اللازم حتى تتحقق، في عالمنا العنيد هذا، وظيفة الكون الأساسية، وهي أنه آلة لصنع الآلة. ولقد اعتبر روسو من قبل أن تقدم الفنون والعلوم والصناعات كان وبالًا على الإنسانية؛ وبذلك يعتبر رائدًا لهذا التيار الفكري الذي نجده على أشده في كل التيارات الروحية عند برجسون، والوجودية عند جابريل مارسل والشخصية عند مونييه وشيلر.
ونحن في بيئتنا البدوية نردد مثل ذلك ونحذر من طغيان الآلة على الإنسان في العصر الحديث، ونحن ما زلنا إلى حدٍّ كبير نزرع الأرض وننسج الثوب بالنول. إننا لا نعاني من طغيان الآلة على الإنسان بل من غياب الآلة، ومن استمرار العقلية اليدوية ومن تأخر عقلية التصنيع في الظهور، فالهجوم على الآلة ليس له أي مبرر بل إن واقعنا يتطلب تأليه الآلة. إن الإنسان لدينا لا يعاني من الضياع وسط الآلة بل يعاني من الضياع لغياب الآلة، فيجتمع مئات من العمال اليدويين أو البنائين أسابيع طويلة للقيام بما تقوم به الآلة في أيامٍ معدودة، لا يعاني الإنسان لدينا من ضياع حياته وسط الآلة طيلة النهار، بل من ضياع حياته على المقاهي وعلى قتل الوقت نظرًا للفراغ الدائم الذي لديه؛ أي إن عيوب المجتمع الصناعي قد تكون إحدى احتياجات المجتمع اليدوي.
-
(٣)
ونجد أيضًا في الفكر الغربي المعاصر تيارًا معاديًا للعقل وللتحليل العقلي للظواهر، ويؤثر الحياة (برجسون)، أو الوجود (الوجوديون)، أو الشخص (مونييه)، أو الفعل (بلوندل)، وهو تيارٌ أصيل يعبر عن روح العصر الذي اتضحت فيه أوجه النقص في الاتجاه العقلي التقليدي الذي بدأه ديكارت وساد الفكر الأوروبي حوالي ثلاثة قرون، حتى انتهى إلى التجريد والصورية ونسيان الجانب الحي في التجربة الإنسانية. وفي هذا النسيان تتلخص أزمة العلوم الإنسانية على حد قول هوسرل بل ومحنة الشعور الأوروبي نفسه. لقد افترض العقل وجود الماهيات المسبقة التي ثار الوجوديون عليها، وتصور العالم في نسقٍ هندسي حتى قال لوتز: «إن فهم العالم لا يعني إحصاءه.» لقد أدت العقلانية دورها، حتى قبل ديكارت، في النقد العقلي لفلسفة القدماء على مشارف عصر النهضة في القرن الخامس عشر، وفي إثبات حرية فهم العقيدة في حركة الإصلاح الديني، وفي نشأة الاتجاه الإنساني. ثم جاء ديكارت فأعلن صراحةً أنه لا يمكن أن يقبل شيئًا على أنه حق ما لم يكن كذلك؛ وذلك بعد إعمال المنهج العقلي وتطبيق قواعده. لقد استطاعت العقلانية الأولى تحرير الوجدان الإنساني وإعطاء أساس نظري للعلم بعد رفضه كل تصورات سابقة للكون. ولقد ظهرت هذه العقلانية على أشد ما تكون في حركة التصنيع وفي التنظيم العقلي للعمل. بل إن الرأسمالية الغربية لتعد إحدى مظاهرها على ما لاحظ فيبر وياسبرز، واستطاعت العقلانية القضاء على كل صور التشبيه والتجسيم، واقتربت من التنزيه العقلي الخالص كما هو الحال عند سبينوزا وليبنتز.
ونحن اليوم ننحو نحو العقلانية، ونحاول الخروج من عالم الأسطورة إلى عالم العقل، ومن نطاق الاشتباه والالتباس والغموض إلى نطاق الوضوح والتمييز. إن ما نعانيه من سيادة الجانب الانفعالي في حياتنا المعاصرة، يجد تخفيفًا له في زيادة الجانب العقلي في وجداننا، حتى يمكننا إقامة التوازن في حياتنا الثقافية. لقد حاول نيتشه هدم العقل، وجعل آخرون التناقض واللامعقول هدفهم، كما وضح ذلك في مسرح العبث أو مسرح اللامعقول تعبيرًا عن هذه الرغبة فيما يند عن العقل وعما يضاده ويناقضه، ولكن واقعنا في أشد الحاجة إلى التخلي عن العبث والعفوية ونقص التخطيط والارتجالية، وإلى تمثل العقل واستعمال مناهجه لتحليل الظواهر تحليلًا موضوعيًّا. لقد خرج نقد العقل من مجتمعٍ تشبع بالعقلانية ووصل فيها حدًّا جعلته يطغى على الحياة بتقنيتها وتنظيمها، ولكننا في مجتمعٍ يجعل الأمور تسير بعيدًا عن العقل، ويكون السلوك فيه تعبيرًا عن الهوى أو المصلحة وليس قائمًا على أساسٍ عقلي واحد. ونحن نعاني من نقص القانون لا من طغيانه، ومن غياب العقلانية لا من سيطرتها على حياتنا الخاصة والعامة. إذن لا نجد في واقعنا مبررًا لهدم العقل كما هو الحال في الفكر الغربي المعاصر، بل لإقامة العقل ولتوجيه حياتنا على أساسٍ من العقل.
-
(٤)
نجد أيضًا في الفكر الغربي المعاصر تيارًا معاديًا للعلم وللموضوعية وللتجريب باسم الذات التي تند عن أن تكون موضوعًا. فالوجود ليس هو الموضوعية على ما يقول جابريل مارسل، ويعود في هذا التيار التعارض التقليدي بين علوم الطبيعة وعلوم الروح على ما يقول الفلاسفة الألمان، فهناك موضوعان مستقلان أحدهما عن الآخر، المادة والروح، ولكل منهما منهجه الخاص المتميز كما أن لكل منهما كيانه الخاص المختلف تمامًا عن الآخر. لقد نشأ هذا التيار لقصور في النظرة العلمية نفسها، لا في نقصٍ في كيان العلم، عندما حاول علماء الإنسان تبني مناهج العلوم الطبيعية وتطبيقها على الظاهرة الإنسانية، كما نجد أيضًا في الفكر الغربي المعاصر تياراتٍ جديدة لتطوير مناهج العلوم الإنسانية، ونقلها من التجريب الفج والموضوعية الفاقعة، وهي سمات القرن التاسع عشر، إلى مرحلة البحث الصوري والتحليل الرياضي للظواهر الإنسانية.
والحقيقة أن العلم قد أدى الخدمات للغرب، وما زلنا نحن نخطو نحوه، ولا نحتاج في بيئتنا إلى القضاء على آثاره في تحويل الظاهرة الإنسانية إلى موضوع؛ لأننا في حاجةٍ إلى القضاء على بقايا الذاتية ووجهات النظر التي تقضي على الموضوع. فالدعوة إلى الفكر العلمي في بيئتنا الحاضرة أكثر جدوى من الهجوم على العقل العلمي، كما يفعل برجسون في الفكر الغربي المعاصر. فالفكر الأسطوري الغيبي يجد توازنه في الفكر العلمي لا في نقد العلم. وقد نكون أحوج إلى مزيدٍ من التجريب في دراسة الظواهر الإنسانية وكأنها ظواهر طبيعية، فهذا من شأنه تخفيف حدة اعتبار الظواهر الإنسانية ظواهر إلهية أو روحية لها قوانينها العليا التي تسيرها. ولا يقال إنه لا داعي هناك للمرور بكل المراحل التي مر بها تطور العلوم الإنسانية في الغرب، وإنه من الأفضل الذهاب إلى آخر مراحل تطورها مباشرة أعني البنائية؛ لأننا في حاجةٍ إلى تربية علمية وإلى تكوين العقلية العلمية وإلى تأصيل جذورها، والتجربة مهما قيل في حدودها ونقدها — كما يفعل برجسون وميرلوبونتي، وغيرهما مثلًا — ما زالت هي المدخل الأول للمعرفة العلمية.
-
(٥)
وفي بعض الميادين التي نحن في أشد الحاجة إلى الاستفادة منها نقف موقف المعارضة والرفض، كما تفعل بعض الدوائر في الفكر الغربي، ونعتبر ذلك خروجًا على التقاليد وقلبًا للأوضاع وتركًا للتراث، وإنكارًا للفضائل الثابتة على ممر السنين، تبعيةً منا لأشد الدوائر رجعية في الفكر الغربي أعني الدوائر الدينية الرسمية، فبعد تقدم العلوم الإنسانية في الآونة الأخيرة أصبح كثير من المشاكل الإنسانية التي اصطلح من قبل على أنها من خلق الروح أو من صنع الله موضوعًا للدراسة والتحليل، وأمكن تحويل الدين إلى علمٍ إنساني كسائر العلوم الإنسانية الأخرى، من علم نفس ولغة واجتماع واقتصاد وتاريخ وقانون، وأصبحت العقائد موضوعًا لعلم تاريخ الأديان المقارن، وأمكن التعرف على نشأة التثليث عند الجماعة المسيحية الأولى، بالرجوع إلى الديانات الإقليمية التي كانت موجودة في المناطق المجاورة، في فارس والعراق وأرمينيا وآسيا الصغرى، وأمكن تتبع نشأة النص الديني وتكونه في خطٍّ موازٍ لنشأة العقيدة، فكلما تكونت العقيدة عبر الشعور الجمعي عنها وحفظها في نصٍّ مكتوب. وهكذا نشأ علم تاريخ الكتاب المقدس يفسر نشأته وتدوينه وتقنينه، كما قام علم النفس الديني لتفسير العواطف والانفعالات التي يعبر عنها باسم التقوى والإيمان والخوف والرجاء إلى آخر ما يقوله الصوفية، وقد قام علم الاجتماع الديني ليدرس صلة التصور الديني للعالم، وكيفية ممارسة الطقوس بالمستوى الحضاري للمجتمع، وكذلك ليدرس الدور الإيجابي أو السلبي الذي يقوم به الدين في المجتمع، كما نشأ علم الاقتصاد الديني ليربط بين النظام الاقتصادي لمجتمعٍ ما وبين تصوره للعالم، مثلًا بين الرأسمالية وبين التصور التدرجي للعالم كما هو معروف في اللاهوت التقليدي.٤
ونحن ما زلنا نخاف أن نمس الدين، وما زلنا نعتبره موضوعًا مثاليًّا، معطى من عند الله، يحوطه التقديس، ولا يمكن دراسة عقائده وكتبه وتاريخه كعلمٍ إنساني. لا يعني ذلك إنكار الوحي أو الرسالات السماوية بل يعني تتبع مسارها التاريخي، ومحاولة التعرف على العوامل الموضوعية التي تحكمت بسيرها. وإننا لنجد في ثقافتنا المعاصرة صراخًا مستمرًّا من أن الدين نظام للحياة، ولم نحاول أن نتعرف حتى الآن عليه كنظامٍ اقتصادي أو كنظامٍ اجتماعي أو كنظامٍ دولي. فإذا تحدث أحد عن التصوير الفني في القرآن اتُّهم بالخروج على الدين، وإذا حاول أحد تحويل الوحي إلى علمٍ إنساني مضبوط اتهم أيضًا بالكفر والإلحاد.
وفي الوقت نفسه نردد دعوات أخرى نشأت في بيئةٍ أوروبية صرفة، مثل فصل الدين عن الدولة بسبب الكوارث التي حلت بالمجتمع المسيحي، نتيجة للخلط بينهما من استغلال رجال الدولة لرجال الدين في حالة ضعف رجال الدين، أو استغلال رجال الدين لرجال الدولة في حالة ضعف رجال الدولة، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الكنيسة وفي تاريخ أوروبا السياسي، وتردد مثل هذه الدعوات كما فعل علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» مع أن النظرية الشرعية هي الحكم بالشريعة الإسلامية؛ إذ ليس هناك مجال للدين ومجال آخر للدولة. فالدين نظام للدولة. وتكون الدعوة جديدة بالفعل لو أمكن لعلي عبد الرازق تحويل الدين إلى نظامٍ اقتصادي سياسي؛ أي إلى أيديولوجية يمكن أن تكون نظامًا للدولة، بذلك يكون قد قدم شيئًا جديدًا أصيلًا لا أن يكون مجرد مقلد في تاريخنا الحديث. فالإسلام ليس دينًا بالمعنى التقليدي بل هو أيديولوجية بالمعنى الحديث.
ومثل هذه الدعوات التي تردد بلا حساب القول بأن «الدين أفيون الشعوب»، وهي دعوة خاصة نشأت في ظروفٍ معينة، كان الدين يستخدم فيها لتخدير الناس، وكانت عقائده التقليدية مثل الإيمان بالقضاء والقدر والتواكلية والإيمان باليوم الآخر، واستغلاله لتثبت جذور الإقطاع وتعويض الفقراء عن ذلك بالرخاء الموعود. ولكن الدين أيضًا «صرخة المضطهدين». وقد لوحظ في العصر الحاضر تحول الدين إلى ثورةٍ اجتماعية، وانضمام رجال الدين إلى الثوار وخروجهم من الأديرة إلى قمم الجبال كما فعل كاميليو توريز، بل يتحول الدين نفسه إلى ثورةٍ اجتماعية كما حدث في الجزائر، أو إلى ثورةٍ عامة كما يحدث الآن في فيتنام. لقد كان الدين في نشأته «صرخة المضطهدين»، وهذا يفسر لنا انضمام المضطهدين إلى الدين منذ نشأته، ولكن إذا توقفت الثورة الأولى أصبح الدين عزاء ولما كان الاضطهاد لا ينقطع فالثورة مستمرة. فالثورة هي دين العصر خاصةً في عالمنا الثالث، ثورة ضد الاحتلال وثورة ضد التخلف، وثورة ضد الاستعمار، وثورة ضد الإقطاع.
-
(٦)
ويهاجم الغرب كثيرًا من مذاهبه الفلسفية بدعوى الإلحاد، وتقوم الدوائر الرجعية خاصةً بذلك؛ فقد هاجمت هذه الدوائر ما سمته إلحاد سارتر وميرلوبونتي وهيدجر؛ لأنهم يرفضون التعالي ويجعلون الإنسان في العالم دون أن يكون مع الله؛ أي يضعون الإنسان على الأرض دون السماء، وقد تبعنا نحن وقلدنا هذه الدوائر في مقاييسها عن الإيمان والإلحاد، وهي مقاييس نظرية محضة وضعت لتبرير العقائد الكنسية. فكل من أنكر المفارقة أو التعالي فهو ملحد، وكل من رفض وضع الإنسان مع الله، وفضل وضعه في التاريخ فهو ملحد، وكل من رفض التصور الرأسمالي للعالم يضع فيه الكون بين الأعلى والأسفل، ويضع الله في قمة الكون ثم تبنى تصورًا أفقيًّا، يضع فيه الإنسان بين الوراء والإمام ويكون الله هو التقدم فهو ملحد.٥ مع أن الإيمان والإلحاد بمقاييس تراثنا القديم وحياتنا المعاصرة مقياس عملي لا نظري. ففي تراثنا القديم لا يهم الإيمان بقدر ما يهم العمل، وفي حياتنا المعاصرة من يلتزم بقضايا العصر ومن يساهم في ثورات الشعوب، ومن يعمل على تحرير الأرض وعلى إطعام الجوعى فهو المؤمن حقًّا، وهو إيمان المثقفين الثوريين منا، الإيمان بالتقدم ومصلحة الشعوب. لذلك إن الإلحاد الأوروبي هو الإيمان الحق، كما أدى الإلحاد في أوروبا إلى خيرٍ أكثر مما أداه الإيمان، فعن طريق الإلحاد تم رفض الجوانب الأسطورية والغيبية في الفكر الأوروبي، كما تم الالتصاق بالأرض وبحياة الناس، وقوى الإيمان بالإنسان وبقدرته وبفعله، فأصبحت الحياة أفضل من الموت، والدنيا أفضل من الآخرة، وتمت رعاية الإنسان أولًا قبل إقامة المراسيم لله. وفي حياتنا المعاصرة نرى من نتهمهم بالكفر والإلحاد يساعدوننا على تحرير الأرض، وعلى التصنيع وعلى الاطمئنان على لقمة العيش.
-
(٧)
وكثيرًا ما نردد بعض ما تقوله الدوائر الغربية المتطهرة، وما تلقيه على الحياة الأوروبية من تهم الإباحية واللاأخلاقية والانحلال، إلى آخر هذه التهم التي تدل على عقلية المتهم وبيئته أكثر مما تحتوي على اتهامٍ فعلي. لقد استطاع الأوروبي بعد عصر النهضة وبعد الإصلاح الديني، وبعد التحرر العقلي ونشأة الاتجاه الإنساني، استطاع رفض كل قناع مسبق وعشق الحياة التي طالما أُبعد عنها؛ مرةً باسم الدين، ومرة باسم الفضيلة، وعرف الواقع بعد الاتصال المباشر به دون أن يكون في حاجةٍ إلى استنباط ذلك ومن أية نظرية مسبقة، قدَّس العمل والمرح في الوقت نفسه، يعمل بجد ويمرح بجد، وفي ساعة العمل لا يفكر في المرح، وفي ساعة المرح لا يفكر في العمل، عرف كل شيء: التجربة، الحياة، الجنس، الفضيلة، الرذيلة، المحافظة، التحرر، وأصبح له القدرة على الحكم وعلى السلوك السوي، يعلم عن بينةٍ ولا يؤمن إلا بالتجربة الشخصية.
والحقيقة أن هذا الاتهام، اتهام الغرب بالإباحية، هو إسقاطٌ من عقليةٍ تشعر بالنقص والضعف أمام هذا النموذج الفريد، تود أن تتمتع بالحياة فتفعل في السر دون العلن وفي صورةٍ ضامرة لا على أوسع نطاق، وتفعله وهي متلصصة متخفية لا كحق أو كشعورٍ طبيعي، تسرق الحياة التي سلبت منها وهي حقها ونصيبها. لقد اعتبرنا حياة الأوربيين إباحة والحقيقة أننا نحسدهم على حياتهم ونتمنى أن نحيا مثلهم، واعتبرنا سلوكهم رذيلة ونحن نشمئز من فضائلنا ونتستر بها على الرذائل، وأصبحت الإباحة لدينا إلى الداخل لا إلى الخارج؛ وبذلك كنا أقرب إلى الفساد الباطن منا إلى الفضيلة الظاهرة، أصبحت لدينا شخصيتان: الأولى هي الباطن تشدنا إليها ولا نقوى على التصريح بها، والثانية هي الظاهر نتمسح بها ونعلن عنها، وهي مجرد ستار لا أثر لها ولا قوام.٦ فإذا تمتع الفرد بالحياة لحظةً أصيب بتأنيب الضمير، فبعد الضحك يبكي، وإذا مرح توقع حدوث نكبة، وقال: «اللهم اجعله خيرًا». ولقد خرج فنُّنا كرد فعل على الكبت والحرمان، ورأى في الحديث عن الجنس الفاقع والحب الساذج الأبله والعري المقصود إشباعًا للجماهير لما هي محرومة منه. ويكفي لرواج الأفلام ذكر اسم الأنثى أو الذكر مع صورةٍ لكل منهما في وضعٍ مثير، تلصق الرقابة بعد ذلك عليها ورقة صفراء لتكون أشد غواية وأكثر جذبًا، وكثيرًا ما يرجع نجاح الفيلم إلى درجة شفافية رداء الأنثى أو إلى عدد قبلات الذكر.ولا يكفي أن يدعى إلى تحرير المرأة أو للمرأة الجديدة كما فعل قاسم أمين، حتى تخرج من التفتح الحبيس إلى التحرر العقلي؛ وذلك لأن تحقيق وحدة الشخصية الباطنية وإقامة سلوك اجتماعي سوي، لا يتم عن طريق الإبقاء على الحجاب أو رفعه بل عبر تكوين الشخصية نفسها.
-
(٨)
ونجد حاليًّا في الغرب اتجاهًا لتعقد النظم الديمقراطية ولإعلان إفلاس النظم البرلمانية، ونجد دعوات لإعطاء رؤساء الدول حقوقًا استثنائية بنص الدستور، فهناك المادة ١٦ في الدستور الفرنسي الذي اقترع عليه ديغول، وهناك الموضوعات الخاصة التي هي من اختصاص رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك نقد أورتيجا للجماهير ولثورة العامة ولحركات الدهماء.
- (١) نجد في الفكر الأوروبي المعاصر بعض التيارات المقنَّعة التي تُظهر غير ما تبطن، فنجد مثلًا بعض المذاهب تدعو للروحية وللإيمان بالمفارقة، وتدعو إلى الفضائل كما كانت تفعل المذاهب المثالية القديمة؛ مع أن هذه التيارات المعاصرة لا تخرج عن كونها تعبيرًا مزدحمًا عن المادية التي عرف بها الشعور الأوروبي، ثم تغطية ذلك ببقايا من تصوراتٍ دينية تقليدية رفضها التفكير العلمي، وحاولت المثالية العقلية في القرن السابع عشر التعبير عنها في صورةٍ أكثر أمانةً وشرفًا، فقالت بالكمال المطلق وبالمطلق الكامل، واستطاعت أن تتصور العالم على أنه حركة وامتداد (ديكارت) أو على أنه فكر (سبينوزا) أو على أنه مجرد إمكانيات محضة (ليبنتز). ظهر هذا الفكر المقنَّع في العصر الحديث في المذاهب الروحية، كما هو الحال عند كارل ياسبرز وجابريل مارسل وأونامونو. هذه المذاهب التي تدعو إلى الإيمان بالمفارقة لا بالحلول وتدعو إلى الروح لا إلى البدن، يزاد على ذلك النعرة العنصرية والإحساس بالريادة الفكرية الأوروبية.٨ والأساس في هذه المذاهب المادية الجذرية المغلفة بستارٍ من الإيمان، والإيمان بكل ما تذهب إليه الكنيسة.
ولو دققنا النظر فيما يعنيه لفظا «روح» و«مادة» لوجدنا أن كل ما يصفه الغرب بأنه مادي هو أقرب إلى الروح وإلى الفكر الصريح؛ روح الأرض والصدق في القول؛ ففيورباخ لديه ميتافيزيقا الأرض، وشعر الرعاة يعبر عن روح الأرض، ولوكريس يغني جمال الأشياء. لقد كشف الشعور الأوروبي زيف مقولة «الروح» ومضمونها في العصر الوسيط؛ فآثر الاتحاد بالطبيعة التي تتجلى فيها الروح؛ وبذلك يكون قد عرف المعنى الحقيقي للتجسد، الروح من خلال الطبيعة، ويكون الفلاسفة والشعراء الألمان من فلاسفة الروح، ومن فلاسفة الطبيعة؛ لأن الروح هي الطبيعة ولأن الطبيعة هي الروح.
وفي فكرنا المعاصر نتبع الغرب في هذه الثنائية التقليدية بين المادة والروح، فما رآه الغرب ماديًّا نعتبره كذلك وما يراه الغرب روحيًّا نعتبره كذلك. لقد نقد الأفغاني دارون لأنه مادي ملحد ورفض روسو وفولتير لأنهما دهريان.٩ أما محمد عبده فإنه يمدح سبنسر لآرائه في التربية وهو صاحب النظرة الآلية للكون، والذي يؤمن بالتطور الميكانيكي الخالي من كل روح. كذلك يتحدث البعض منا عن «الحياة الروحية في الإسلام»، ويلخصها في التصوف وإن الحياة الروحية هي الحديث عن النفس والروح والكشف والإلهام، أو في الدين بمعناه التقليدي، مع أن الروح قد تكون في ثورة الزنج أو في ثورة القرامطة، وهي الروح الفعالة الموجهة للطبيعة أو المتحدة مع الواقع كما تتجلى في الثورة. أما بوادر الفكر المادي كما ظهرت في فكرنا المعاصر عند شبلي شميل ويعقوب صروف وولي الدين يكن ونقولا حداد وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وغيرهم، فإننا نعتبره فكرًا بلا روح ونعتبر أصحابهم ملحدين لأنهم يدعون للسببية ويؤمنون بحتمية قوانين الطبيعة ويروجون لنظرية النشوء والارتقاء عند دارون ولأفكار فشنر وغيرهما. - (٢)
كذلك كثيرًا ما ندعو إلى المذاهب الفردية المعاصرة، ونعرض كيركجارد وسارتر وجابريل مارسل وياسبرز وأونامونو وأورتيجا وبرجسون مع أن معظم المذاهب الفردية نشأت في ظروفٍ خاصة؛ فقد نشأت فردية كيركجارد ضد سيطرة الكنيسة على المؤمنين وضد محو الجدل له، وضد تحويل العلم الإلهي إلى موضوعٍ عام، ونشأت فردية سارتر إحساسًا منه بالحرية، وإيمانًا بالفرد الذي يحقق حياته كمشروع. ونشأت عند جابريل مارسل وكارل ياسبرز من نقدهما للنظم الاجتماعية ويعنيان بها النظم الاشتراكية، متملقين بذلك شعور الأوروبي الطبيعي بفرديته وحريته، ونشأت الفردية عند أونامونو وأورتيجا إحساسًا منهما بالحياة ضد المذهب الذي ينخرط فيه الأفراد، وإيمانًا بالصفوة المختارة خاصةً عند أورتيجا أو بمن اصطفاهم الله على العالمين.
والترويج لمثل هذه الدعوات في حياتنا المعاصرة يمثل خطورةً كبرى على حياتنا العامة والخاصة، وعلى حياتنا الفكرية والسياسية. فالترويج للفرد يصبح مفيدًا إذا ما وجهنا دعوتنا للمعدمين أو للملايين المجهولة من الفلاحين أو العمال، حتى يشعر كل منهم بحقه، وحتى لا يتكل على الأسرة أو على السلطة أو على الله، من أجل الحصول على ما يريد. بل إن فائدة هذه الدعوة نسبية أيضًا؛ لأن مشكلة الفرد هي جزء من المشكلة العامة. استقلال الفلاح أو العامل هو جزء من وضعٍ اقتصادي عام لا يمكن للحلول الفردية أن تغيره، سواء الحلول الداخلية عن طريق الحصول على دخلٍ أعظم بشتى الوسائل أو الحلول الخارجية عن طريق الهجرة. لكن تصبح هذه الدعوة أشد خطرًا إذا ما وجهت لتأكيد حق الفرد المطلق، وإذا ما تحولت إلى عبادة فرد واحد، وهو ما نعانيه في حياتنا السياسية كما نعاني منه في تراثنا القديم خاصةً في تصورنا السياسي، كما وضح ذلك في «آراء أهل المدينة الفاضلة» عند الفارابي وتركيزه على سلطات الرئيس، خصاله ومآثره ومحامده وحقوقه وما يفضل به الآخرين.
- (٣)
وفي الفن نجد ترويجًا شديدًا لبعض المذاهب الفنية الغربية، وذلك كالدليل على العصرية، وعلى تتبع آخر أخبار الفن واتجاهاته ومذاهبه. ولما كانت روح الفن المعاصرة أقرب إلى التجريد منها إلى الواقع، كما هو واضح في الرسم والموسيقى، نقلنا ذلك في بيئتنا وخرجت بعض اللوحات التجريدية حتى تلحق بالاتجاهات الفنية العالمية، مع أن هذه الاتجاهات وليدة بيئة معينة ولها تاريخها الفني الطويل، يحكمها قانون الفعل ورد الفعل. فالفن التجريدي رد فعل على الفن الحسي المباشر، والفن الانطباعي رد فعل على الفن التقريري الصريح، والسريالية رد فعل على الواقعية المرئية، والفن لا ينقل من بيئةٍ إلى أخرى لأنه تعبيرٌ عن البيئة الأولى التي نشأ فيها. ولا يعني الفن الواقعي الخطابة الصريحة بل إمكانية الاتصال المباشر بالواقع من خلال العمل الفني، دون شرح نظري أو استدلال عقلي على مواطن الجمال فيه، وواقعنا مليء بالأحداث التي تسمح للفنان بتصويرها والتعبير عنها تعبيرًا مباشرًا. وقد يكون الإدراك المباشر للواقع أكبر عمل فني ممكن في بيئتنا المعاصرة.
- (٤)
ونجد أيضًا في الميدان الفني ترويجًا لأفلام الجريمة والجنس، كما نجد في أجهزة الإعلام آخر ما أنتجته بيوت الأزياء، وكأن الإنسان لا يكون معاصرًا إلا إذا شاهد آخر هذه الأفلام، وإلا إذا ارتدى آخر صيحات الأزياء، فالغرب مرادف للموضة، والعصرية مرادفة لمتابعة الغرب في آخر صيحاته، ولا يند الفكر عن ذلك. فالبنائية آخر صيحة فكرية في الغرب لذلك لا بد من معرفتها ونقلها.
وقد يكون أجدى لنا وأكثر ملاءمة للمرحلة الحضارية التي نمر بها، قد يكون أجدى لو أننا أخذنا من الغرب ما استطاع أن يعطي عندما كان يمر بمثل المرحلة التي نمر بها نحن الآن؛ أعني الإصلاح الديني، أو النهضة، أو نشأة الفكر العلمي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ فقد يكون لوثر أجدى لنا من شتراوس، وأراسم أكثر التصاقًا بنا من سوسير.
ويمكن أن يقال إن الشعور الإنساني اليوم موجه نحو الحضارة الأوروبية؛ أي إن شعور غير الأوروبي منحاز بطبيعته نحو الشعور الأوروبي، ولم يستطع أحدٌ أن يتجنب هذه الغربة إلا بعد تحقيق النظم الاشتراكية، خاصة بعد ثورة الصين التي استطاعت أن تستقطب الشعور الإنساني والشعور غير الأوروبي خاصة.
ثالثًا: الشعور الأوروبي وشعور العالم الثالث
إن موقفنا من الثقافة الغربية وملاحظتنا على بعض مظاهر التقليد في فكرنا المعاصر جزءٌ من موقفٍ أعم، وهو أننا في الحقيقة بين شعورين: الشعور الأوربي، وهو الشعور الذي استطاع استقطاب كل شعور غير أوروبي، وشعورنا الخاص؛ أي شعور العالم الثالث الذي بدأ يعي نفسه بعد أن تخلص من السيادة الأجنبية على أرضه، ولم يبقَ أمامه إلا التخلص من السيادة الثقافية على فكره.
نلاحظ أن الشعور الأوروبي استطاع أن يجعل نفسه محور الثقافة العالمية، وأصبح يدرس كل شيء بوجهة نظره الخاصة بدعوى الحياد والموضوعية. ولما كان كل شعور غير أوروبي مستقطبًا نحوه ردد وجهة النظر الغربية في وقائع من شأننا، ولنا فيها نظر ونستطيع أن نحكم عليه من خلالها.
فمثلًا قيل عن عصر الانتشار الأوروبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إنه عصر الاستكشافات الجغرافية. هذا صحيحٌ من وجهة نظر التاريخ الأوروبي. فالغربيون يستكشفون ما سواهم، ولكن هذه الاستكشافات من وجهة نظر أخرى تعد عصر الاستعمار الأوروبي؛ فقد حاول الغرب الدوران حول العالم الثالث عن طريق البحر، بعد أن فشل في النفاذ نحوه عن طريق البر أيام الحروب الصليبية كما يقول أحد الجغرافيين المعاصرين. وما عناه الأوروبيون بتحضير ما سواهم هو في الحقيقة محو للطابع القومي للشعوب واستغلال لثرواتها، كما حدث في أستراليا وكما يحاول الأوروبيون ذلك في مرةٍ أخرى في روديسيا وجنوب أفريقيا، ويبدو ذلك أيضًا في معاهدات الأمن الأوروبي والأحلاف والمنظمات الدولية.
ونتيجة لهذا الاستقطاب أصبح التاريخ البشري مرتكزًا على الشعور الأوروبي، وأصبح التاريخ العالمي محوره التاريخ الأوروبي، أصله عند اليونان، يتلوه عصر ظلام، ثم يتلوه عصر نهضة وتنوير وعلم وصناعة. ويتضح هذا الاستقطاب أيضًا في استعمال التاريخ الميلادي عند الشعوب التي تتبع السنة القمرية أو السنة الفصلية أو السنة الهجرية.
وفضلًا عن ذلك، استطاع الفكر الأوروبي أن يطبع كل فكر غير أوروبي بطابعه، مع أن الفكر الأوروبي وليد ظروف خاصة وبيئة معينة؛ فقد بدأ الفكر الأوروبي يرفض كل معطًى سابق بعد أن اكتشف زيف مثل هذه المعطيات، وآثر جعل طريق معرفته الوحيد، التجربة …
رفض كل منهج قبلي وآثر المنهج البعدي القابل للتحقيق، رفض كل معرفة إلهية وآمن بالمعرفة الإنسانية وحدها، ولم يشفع في ذلك محاولات المثاليين لرد الاعتبار إلى المنهج القبلي أو إلى التسليم بالمعطيات السابقة، أو بالدفاع عن المعرفة الإلهية عن طريق الحدس أو العقل البديهي أو مسلَّمات العقل. لقد وثق الإنسان الحديث بنفسه بعقله وإرادته، وجعل الطبيعة مصدر معرفته وميدان سلوكه، والمعرفة الإنسانية بطبيعتها صاحبة وجهة نظر، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك وجهًا واحدًا، فهذه طبيعة الرؤية ولكن ما إن يتغير الواقع ويتطور، حتى يتم تغيير المعرفة بغيرها واستبدال وجهة النظر القديمة بأخرى أكثر اتساعًا وملاءمة مع الواقع الجديد. لذلك ظلت المذاهب الأوروبية مذبذبة مرةً مع الفكر ومرةً مع الواقع، ويظهر هذا التذبذب في هذه الثنائية التي عرف بها العصر الحديث الثنائية بين الاتجاه العقلي والاتجاه التجريبي؛ بين الاتجاه المثالي والاتجاه الواقعي، أو بين الفكر والوجود. هذا التذبذب الذي جعل الفكر الأوروبي مصدرًا للخصوبة وموطنًا للإغراء. وقد ساعد على هذه الثنائية مصادر الفكر الأوروبي في الفكر اليوناني الذي أعطى القسمة العقلية بين الجوهر والعرض، المادة والصورة، العلة والمعلول، الواحد والكثير، الحس والعقل … إلخ. لذلك خرجت العقلية الأوروبية بطابعٍ ثنائي حاد، تنتقل باستمرار من الفعل إلى رد الفعل أو من طرفٍ إلى آخر دون العثور على الشيء نفسه، وكأنها غير قادرة على العثور على نقطة التوازن بين تياراتها المتعارضة، مهما كانت هناك من محاولات للربط ومهما نشأت مذاهب الاعتدال، ومهما كانت هناك من اتجاهاتٍ ترفض الحلول التقليدية المتعارضة وتدعو إلى الرجوع إلى الأشياء ذاتها مثل هوسرل، أو الوقائع العينية المباشرة مثل برجسون.
نستنتج من ذلك أن الفكر الأوروبي فكر حضاري؛ أي إنه نشأ وتطور وفقًا لظروفٍ خاصة وبيئة معينة، وليس كل ما يصدر فيه ينقل بلا حساب أو بلا وعي، وكأن أوروبا هي ممثلة الإنسانية كلها على ما يقول بعض فلاسفتها ومفكريها وساستها. ويتضح ذلك من مؤلفات مفكريها عندما يقولون: «حضارتنا»، «تاريخنا»، «تراثنا»، «موسيقانا»، «فننا»، «عصرنا»، وأمثال هذه الألفاظ التي تُلحق نتاج الفكر ببيئةٍ حضارية معينة. وهذا لا يعني الوقوع في التصور القومي للعلم أو للحضارة، أو على وضع عقلية الاستيراد والتصدير في الفكر، بل هو اتباع للنظرة العلمية نفسها.
تحتاج الحضارة الأوروبية إذن لمن يراها من خارجها بشعورٍ محايد، لم يتسم بطابعها ولم يتكون في بنائها النفسي الداخلي. يستطيع هذا الشعور المحايد أن يرى الحضارة الأوروبية في رؤيا علمية صائبة؛ فهو قادرٌ على أن ينظر إليها من الخارج وعن بعدٍ حتى يتمكن من صدق النظرة، وهذا ما لا يستطيع الباحث الأوروبي القيام به لأنه مطبوعٌ بطابع الحضارة نفسها، بناؤه بناؤها، على ما لاحظ هوسرل.
لذلك نحن أمام إمكانية قيام علم جديد، وهو دراسة الحضارة الأوروبية بشعور غير أوروبي. وما دمنا ننتسب إلى العالم الثالث يمكن أن نقول دراسة الشعور الأوروبي بشعور العالم الثالث. فكما نشأ الاستشراق؛ أي دراسة العالم الثالث بشعورٍ أوروبي، يمكن أن ينشأ «الاستغراب» أي دراسة الشعور الأوروبي بشعورٍ من العالم الثالث. وقد حاول ذلك من قبل فرانز فانون وكثيرون غيره من مفكري العالم الثالث، ولكن ما زالت كلها محاولات سياسية خطابية أكثر منها فكرية علمية.
ونحن في عالمنا الثالث، بعد أن بدأ عصر التحرير وأوشك عصر الاستعمار على الانتهاء، في عالمنا هذا ونحن نجد كل يوم الروابط بين البلاد الأفريقية أو بين البلاد الأفريقية والآسيوية أو بين بلدان العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تزداد قوة، ونحن نظهر كقوةٍ معنوية في المنظمات الدولية أو كقوةٍ مادية من حيث عدد السكان أو من حيث وفرة الموارد الطبيعية، في عالمنا هذا، لم نحاول حتى الآن إيجاد فلسفة له في التاريخ وربطها بانتهاء عصر الريادة للحضارة الأوروبية. فإذا كانت الحضارة الأوروبية على وشك الانتهاء على ما يقول فلاسفتها. فإن بلاد العالم الثالث تحاول أخذ الريادة منها. وإذا كانت الصين القديمة ومصر القديمة قد قادتا الإنسانية وهي في مهدها، فإنهما تستطيعان قيادتها بعد أن قامت الحضارة الأوروبية بهذه المهمة، خاصةً في عصرها الذهبي طيلة خمسة قرون حتى أصبحت أوروبا مركز العالم ومحور التاريخ.
وعلى هذا النحو تتحول ثقافتنا المعاصرة من التقليد إلى الأصالة، ويتم تصحيح وضع متميز وهو اتجاه كل شعور إنساني بالضرورة نحو النمط الغربي، ونكون قد بدأنا عصر التحرر الفكري الذي نرجو أن يبدأه جيلنا.
(٢) التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر١١
بدأ بعض الباحثين في الآونة الأخيرة الحديث عن مشكلة العصر وهي «الأصالة والمعاصرة»، أو كما يسميها الباحثون في التراث والمجددون له «التراث والتجديد»، أو كما يقول البعض بصورةٍ عامة مشكلة «القديم والجديد». وهي مشكلة قائمة بالفعل تظهر بصورةٍ حادة في لحظات تحول المجتمعات وانتقالها من مرحلةٍ إلى أخرى، لا ينطبق ذلك على مجتمعٍ معين، عربي أم إسلامي، بل على كل مجتمع بشري ينمو نحو التقدم، وتظهر عادة في الخلق الحضاري، في الفن مثلًا باسم «الكلاسيكية والحداثة» أو في السياسة باسم «اليمين واليسار»، أو في الروح العامة باسم «المحافظة والتقدم». فالنمو بطبيعته هو خروج الجديد من براعم القديم، مشكلة خطيرة إذن لو استطاع المجتمع النامي دراستها دراسة علمية لحافظ على تجانسه في الزمان، ولتأكد من إرساء قواعد ثورته واطمأن إلى مسارها العلمي.
صحيح أنه لا توجد روح واحدة عبر العصور أو عقلية واحدة عبر التاريخ أو شخصية واحدة ثابتة عبر القرون، ولكن صحيح أيضًا أن هناك أوضاعًا اقتصادية وظروفًا تاريخية وجغرافية تحدد أنماطًا معينة من الفكر والسلوك، تؤدي بدورها إلى تأييد هذه الأوضاع وتحويلها إلى أبنيةٍ نفسية عند الشعوب. هناك إذن نمطٌ فكري سائد كما أن هناك وضعًا طبيعيًّا سائدًا، وكلاهما يكون روح الحضارة. لقد كان الفكر اليوناني فكرًا مثاليًّا، ولا يستثنى من ذلك أرسطو؛ لأنه كان لا يبحث عن الفردي فقط (الطبيعة)، بل كان يبحث أيضًا عن الفردي (المنطق) والعام (الميتافيزيقا)، وكان الفكر السائد في تراثنا القديم هو الإلهيات وما الطبيعيات إلا مقدمة للإلهيات.
وما دمنا بصدد الفكر الديني فلا يمكن الحديث عن الفكر العربي. فالفكر لا جنس له؛ لأن أوضاعًا معينة قد تنتج فكرًا واحدًا عند شعبين مختلفين. وما دمنا بصدد وصف نمط معين من أنماط التفكير، يكون التفكير دينيًّا إذا لم يقم العقل بوظيفته الأساسية في تحليل الظواهر ثم تغييرها. وقد أثيرت هذه المسألة من قبل عند الباحثين للتراث القديم، وعن تسمية الفلسفة إسلامية أم عربية أو تسميتها فلسفة المسلمين أو الفلسفة في الإسلام. وقد اختار المفكرون اللبنانيون لظروفٍ خاصة بهم ولأوضاعٍ طائفية معروفة مصطلح الفكر العربي.
أولًا: ماذا يعني «نقد الفكر الديني»؟
كذلك لم تكن التحولات الفكرية الكبرى في الحضارة الأوروبية تحولات من أجل إنكار وجود الله. ولم يكن عصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أو الثورة الكوبرنيقية التي كانت مثالًا للثورة العلمية أو الانقلاب الصناعي، أو التفكير العلمي البيولوجي في القرن التاسع عشر؛ أعني نظرية التطور عند دارون، أو التفكير العلمي الاقتصادي كما مثلته نظرية رأس المال عند ماركس، لم يكن ذلك كله، وسيلة لإنكار وجود الله بل كان ثورة على الأنماط التقليدية للفكر المثالي والديني. كان عصر النهضة وليد الإيمان بالعقل وبالموقف النقدي من التراث القديم، وكانت الثورة الكوبرنيقية حصيلة التجارب الجديدة والملاحظات العلمية واعتبار التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة بعد رفض كل معرفة مسبقة، وكان الانقلاب الصناعي نتيجة لتطبيق النظرة العلمية في الطبيعة والرغبة في الاستفادة المباشرة من قواها، وكانت نظرية دارون من أهم تطبيقات المنهج العلمي في علوم الحياة.
أما حركات التحرر في عالمنا المعاصر فلم تكن وليدة هذه التحولات الفكرية الغربية، بقدر ما كانت صادرة عن مقتضيات العصر الحاضر نفسه، مثل الاتجاه نحو العقلانية والعلمية والدعوة إلى الحرية والديمقراطية، لم يكن الاتجاه نحو العقلانية بالضرورة ترديدًا للمذهب العقلي الغربي بقدر ما كان نتيجة لمقتضيات العصر، ولم تكن الدعوة إلى العلمية بالضرورة نتيجة لترديد نظريات كوبرنيق أو جاليليو أو نيوتن بقدر ما كانت اقترابًا من الواقع ورفضًا للجوانب الغيبية في تراثنا القديم، ولم تكن الدعوة إلى الحرية والديمقراطية وليدة اتصال مفكرينا الأوائل من أمثال الطهطاوي وغيرهم بمفكري الغرب خاصة بمفكري القرن الثامن عشر، بل كانت وليدة رغبة دفينة في التحرر وبحث عن أنظمةٍ سياسية جديدة بعد يقظة الحس الوطني ورغبته في الانفصال عن السلطة المركزية.
إن التذبذب بين التراث القديم والفكر الغربي، بين نقد الفكر الديني في تراثنا القديم ورفض العقائد المسيحية في التراث الغربي، يجعل البعض يتناولون على سبيل القياس نقد الفكر المسيحي المعاصر، كما ينقدون الفكر الإسلامي المعاصر مع أن كلا الفكرين مختلفان تمامًا.
فالفكر المسيحي المعاصر به تيارات عديدة أهمها، كما هو الحال في كل عصر، تياران: تيار تقدمي حر وهو استمرار للفلسفة الحديثة، مهمته القضاء على البقية الباقية من الأساطير بمناهج العلوم الإنسانية الجديدة، والأساطير المقارنة وتحليل لوجود الإنسان وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الاقتصاد والسياسة، وتيار محافظ مهمته إنقاذ ما يمكن إنقاذه عن طريق اللف والدوران كما يفعل ياسبرز في تفسيره الحاد نيتشه على أنه إيمانٌ مقنَّع، أو كما يفعل البعض في تفسير الحاد رسل على أنه إيمان فيلسوف بلا إيمان، ويكون التركيز في هذا الفكر على الإيمان الجديد لا على رفض الاتجاه القديم بصوره وأشكاله الأسطورية. فإذا ثبت تعارض العلم والدين قيل إن غرض الدين ليس إعطاء نظريات علمية، وإذا ثبت التواطؤ بين الدين والاستعمار قيل هناك فرق بين الدين ورجال الدين، وإذا ثبت أن معظم العقائد لها أصلٌ تاريخي، ويمكن تفسير نشأتها تفسيرًا تاريخيًّا محضًا، قيل هناك فرق بين الصيغ المختلفة للعقيدة وبين العقيدة ذاتها، الأولى من التاريخ البشري والثانية من الله، وإذا ثبت أن الكتاب المقدس من تدوين البشر قيل إن الدين دوَّنه ملهمون من الله، وإذا ثبت عدم وجود العقائد التاريخية في نصوص الكتاب، قيل إن الشجرة توجد في البذرة وإن البذرة قد تحولت إلى شجرةٍ … وهكذا.
وإذا استجابت الكنيسة إلى أحد متطلبات العصر من تأييدٍ لحرية الفكر، أو الموافقة على زواج الرهبان أو المساعدة النسبية للبلاد الفقيرة، أو ذكر تحرير البلاد المستعمرة بكلمة خير أو إدانة الاستعمار ولو بنصف كلمة كان دليلًا عند البعض على أن الكنيسة على حق، وهي في الحقيقة تلحق بالركب حتى تحافظ على نفسها. إن تاريخ اللاهوت هو تاريخ اللحاق المستمر بآخر منجزات الفكر البشري، كلما قدم هذا الفكر شيئًا تسلق عليه اللاهوت وأثبت جدارته وأعلن إيمانه به واحتواءه له منذ القدم.
إن هذا التذبذب عند بعض الباحثين بين الفكر الإسلامي المعاصر وبين الفكر المسيحي المعاصر يغفل من المشكلة الخاصة لكل فكر. فإذا كانت مشكلة الفكر الإسلامي المعاصر ما زالت هي سيادة الإلهيات، فإن مشكلة الفكر المسيحي المعاصر هي سيادة الإنسان، كما هو واضح في مدرسة الصور الأدبية ومناهج التفسير الوجودي عند بولتمان وديبليوس وأنصارهما. وإذا كانت المشكلة في الفكر الإسلامي المعاصر هي تبعيته للسلطة السياسية، فإن المشكلة في الفكر المسيحي هي خروجه على السلطة الدينية وتأسيسه حركات مستمرة للتجديد، وينشأ هذا التذبذب من الانتقال المستمر بين تراثنا القديم والتراث الغربي، مع أن هذه الصلة يمكن أن تكون موضوعًا لعلمٍ مستقل يضع أسسه علماء البلاد النامية ومفكروها. فقصة إبليس موجودة عند ابن الجوزي والمقدسي والحلاج كما هي موجودة عند كيركجارد. وفي بعض الأحيان يسود التراث الغربي في موضوعات لها مادتها في التراث الإسلامي. فالتجربة الصوفية ليست موجودة فقط عند وليم جيمس أو برجسون، بل هي أيضًا عند الغزالي وابن الفارض وابن عربي.
وليس هناك فكر ديني واحد، بل هناك فكر ديني نوعي. هناك فكر يهودي، وفكر مسيحي، وفكر إسلامي، على ما يقرر علماء تاريخ الأديان. فالفكر اليهودي كما هو واضح في العهد القديم مرتبط بالأرض وبالجزاء الحسي وبتاريخ شعب معين، والفكر المسيحي يقوم على التجسد وربط الفكر بالواقع في واقعةٍ فريدة لا تتكرر، يقوم على التنزيه والتشبيه، على التعالي والحلول، والفكر الإسلامي يقوم على الفعل وعلى التسليم بكل ما هو واقع على أنه مضمون الوحي، وعلى الثقة المطلقة بالعقل وعلى رفض الأسرار. ويتبع كل فكر ديني المعطى الديني الذي يقوم عليه. فليس هناك معطى ديني واحد، فجوهر اليهودية مخالف لجوهر المسيحية، وكلاهما مخالف لجوهر الإسلام، وهذه حقيقة يقررها علماء تاريخ الأديان خالية من أي دافع للتقريظ أو للجدل.
وفضلًا عن ذلك يمكن التفرقة بين «التفكير الديني» وبين «الفكر الديني». فالأول لحظة تاريخية معينة يظهر فيها الفكر الديني متشبثًا بما سواه من الإنتاج الفكري للعصر، فلسفةً كان أم علمًا، فنظرية الفيض تفكير ديني لأنها تصور الفكر الديني في لحظةٍ تاريخية معينة متسلقًا على نظرية أفلوطين، وإيمان الكنيسة بثبات الأرض ودوران الشمس حولها تفكير ديني في لحظةٍ تاريخية معينة متسلق على نظرية بطليموس، ومن السهل نقد التفكير الديني بأنه تفكيرٌ تابع لا يخرج من النص الديني ولا يخرج من النظرة العلمية، بل خليطٌ بين الاثنين لإقامة مذهب لاهوتي معين. أما الفكر الديني فقد يكون تفكيرًا دينيًّا وقد يكون تفكيرًا علميًّا. فالفكر الأصولي فكر ديني ولكنه فكر علمي، ولا يرتبط بلحظةٍ تاريخية معينة ولا يتسلق على النظريات المنطقية للعصر، أو إن شئنا الفكر لا يمكن نقده لأن الفكر هو بالضرورة الفكر العلمي، وما سواه هو التفكير الديني الغيبي أو الأسطوري.
وإذا تناولنا إذن مشكلة الفكر الديني من الداخل لوجدناها أعمق وأخطر من مجرد ترديد لبعض النظريات المعادية للدين المسيحي في لحظةٍ تاريخية معينة، ولوجدناها جزءًا من مشكلة تجديد تراثنا القديم تبعًا لمقتضيات العصر وإحدى مشكلاته الرئيسية، أعني: الدين والأيديولوجية، الغيبيات والعلم، الإلهيات والإنسانيات، الله والأرض، الله والفقر. ولا يكون تناول هذه المشاكل ممكنًا إلا بالرجوع إلى أعماق التراث في التاريخ القديم، وليس مجرد الوصف السطحي لعقليتنا المعاصرة، بما فيها من ترديدٍ لبعض مظاهر التقليد للحضارة الغربية.
ليس المهم هو رفض العقائد وهدمها؛ فما أسهل ذلك خاصةً وقد تحقق ذلك في الحضارة الغربية، ولكن المهم هو إعادة بنائها حتى تتفق مع روح العصر وتلبي نداءاته. ولا يدل ذلك على رغبة في الإصلاح أو في التوفيق، بل على رغبة في استغلال كل إمكانيات العصر وطاقاته طبقًا للنظرة العلمية، فشعوبنا الحاضرة ما زالت مؤمنة، والمشكلة ليست في تحويلها من الإيمان إلى عدم الإيمان، بل في تحويل الإيمان الميت إلى إيمانٍ حي، أو تحويله من إيمانٍ ثابت إلى إيمانٍ متحرك يفعل في توجيه أحداث العصر. فإذا سألنا معاصرينا: عند سماع أية كلمة تهتز مشاعركم؟ لقالوا: تحرير الأرض، قلنا: إذن الله هو الأرض الضائعة والإيمان بالله هو تحرير الأرض، حتى يتحرر الله السجين وتصبح العبادة الوحيدة المعقولة هي مقاومة المحتل. وإذا سألنا معاصرينا: عند سماع أية كلمة تهتز مشاعركم؟ لقالوا: الرغيف. قلنا: إذن الله هو المطالبة بالخبز والثورة على الإقطاع والاستغلال. لا نقول للفلاح إذن الله فوق أعالي النخيل بل يهز الأرض تحت قدميه، أي بجوار الأرض المسلوبة منه التي يعمل عليها كأجير السوء، ويصب عليها عرقه ويواري فيها جسده، والتي يعطي ريعها لصاحبها الذي لا يراها إلا آخر العام. لا يقال للصانع إن الله يوجد وقت الراحة الأسبوعية عندما يتزين قبل الذهاب إلى أماكن العبادة، بل وسط الأسبوع عندما تكون يداه في الزيت ويكون جلبابه أسود، ثم يعطي حصيلة عمله في نهاية اليوم إلى صاحب رأس المال الذي لا يرى في نهاية اليوم إلا رسومًا بيانية لمعدل الربح وللسهم الصاعد.
المهم إذن هو إعادة بناء العقائد حتى تتحول إلى ثورة على الواقع؛ أي تحويل الدين كله إلى أيديولوجية ثورية. المسألة إذن أخطر من مجرد تعارض خارجي بين نوعين من المعرفة: المعرفة الدينية والمعرفة العلمية، بل هي في جدوى العقائد الدينية ذاتها، إما أن تكون أو لا تكون. حينئذٍ لا يكون معنى «النقد» الترديد بل المعنى الذي قصده كانط، وهو بيان إمكانيات الفكر الديني وحدوده، وهي إمكانيات موجودة بالفعل يمكن أن تتحول إلى ثورة، ومهمة الأيديولوجية تحويلها إلى ثورةٍ علمية، بذلك لا تتعارض طاقتان؛ الدين والثورة، وتبدد إحداهما الأخرى. فالثورة لا تعارض الثورة.
إن مشكلة التراث والتجديد إذن لهي مشكلة العصر، وهي أخطر من أن تُتناول في مقالٍ صحفي أو في مناقشةٍ عابرة، أو في ندوة ثقافية أو في محاضرةٍ في إحدى الأمسيات، الأجدى هو الغوص في التراث القديم وفي أصوله الأولى، لا في دفاع بعض المعاصرين الذين لا يمثلون نقل التراث. فالغوص في التراث هو في نفس الوقت غوص في أعماق العصر. وهي ليست مشكلة شخصية يدافع فيها الباحث عن نفسه ويتحدث بضمير المتكلم، ويهاجم الآخرين مستعملًا أسلوب السخرية ومقلدًا فولتير، بل مشكلة علمية تطرق إليها كثيرٌ من المؤرخين للحضارات في اتساقٍ فكري، دون استشهاد بنصوصٍ دينية تقضي على تجانس الفكر وتنقص من يقينه الداخلي، خاصةً وأن الإنسان يمكن أن يحمِّل النصوص ما يريد، لا سيما وأن هذه النصوص ليست وقائع بل معطيات.
ثانيًا: هل الفكر الديني فكر علمي؟
قلنا إن هناك فرقًا بين الفكر الديني، وهو نمطٌ معين من أنماط الفكر والتفكير الديني؛ أي التفسيرات المختلفة للدين عبر التاريخ. فالفكر الديني كما لاحظ كثيرٌ من الفلاسفة يعتمد على الخيال والرمز ويخاطب العامة، ولا يبغي إعطاء حقائق فلسفية أو علمية، غرضه الأول التأثير في النفوس والحث على الطاعة. وقد أجمع الفلاسفة مسلمين ومسيحيين ويهود على ثنائية الحقيقة الدينية، الأولى للعام، وهو الفكر الديني، والثانية للخاص، وهو الفكر الفلسفي أو العلمي. التعارض إذن بين هذين الفكرين هو تعارض في أسلوب التعبير وفي مدى اتساع نطاق المخاطبين. وعلى هذا النحو يمكن تحويل الفكر الديني إلى علمي عن طريق التأويل، كما فعل سبينوزا وابن سينا وابن رشد وكثيرون غيرهم.
إنما التعارض الحقيقي هو بين التفكير الديني وبين النظريات العلمية. فالتفكير الديني يعطي تفسيرًا معينًا للدين، يتبناه رجال الدين في عصرٍ من العصور طبقًا لنظريات علمية خاطئة، تمثل هي الأخرى مرحلةً معينة من تاريخ العلم تتغير فيما بعد. فالتعارض في هذه الحالة بين الفكر الديني والفكر العلمي تعارض تاريخي محض سببه الاعتقاد بتفسيرٍ ديني معين وبنظريةٍ علمية معينة، ولا يكون التعارض بين الدين على الإطلاق والعلم على الإطلاق، فكلاهما افتراضٌ محض، ولا يكون مقياس الحقيقة بالنسبة إلى كليهما إلا تطابق ما يصدر عنهما من أحكامٍ على الواقع طبقًا للتعريف التقليدي للحقيقة.
وغالبًا ما يكون هذا التعارض في فترات تاريخية معينة عندما يتمثل الدين في سلطةٍ معينة توقف تطور فهمه وتجعل الفكر التاريخي هو الفكر الديني. ينشأ التعارض لأن العلم يتطور ويصور الواقع في آخر صورة زمنية له. ينشأ التعارض بين تصورٍ قديم وهو التفسير الزمني للدين، وتصور جديد وهو التفسير المعاصر للواقع. فالتعارض ليس بين الدين والعلم بقدر ما هو تعارض بين القديم والجديد أو بين الجمود والتحرر، وهو التعارض المعروف داخل كل علم إنساني سواء كان في العلم أو في الفلسفة أو في الدين، فتاريخ العلم مملوء بالتعارض بين النظريات القديمة والجديدة، وتاريخ الفلسفة إن هو إلا تاريخ صراع مستمر بين القديم والجديد وهكذا.
والتعارض بين الدين والعلم كالتعارض بين الفلسفة والعلم، ولا يكون الحل بإلغاء الدين لصالح العلم، أو بإلغاء الفلسفة لصالح العلم، بل بحسم الخلاف بين وجهتَي نظر تاريخيتين، ويكون الفصل فيهما للنظرة الصحيحة التي يتبناها العقل ويصدقها الواقع.
وكما أن هناك تعارضًا بين النظريات الدينية وبين الواقع، كان هناك تعارض بين النظريات العلمية والواقع، والأمثلة على ذلك كثيرة في الفلك القديم، بل إن خطأ النظريات الدينية يرجع إلى خطأ سابق في النظريات العلمية التي تسلقت النظريات الدينية عليها. فاعتبار الأرض هي المركز ودوران الشمس حولها كان خطأ في فلك بطليموس، قبل أن يكون خطأ في تفسير الكتاب المقدس. ينشأ التعارض إذن بين الدين والعلم، عندما يكون هناك تفسير معين للدين ونظرية معينة العلم وكلاهما يدَّعي تصوير الواقع، ولا يكون أحدهما حقًّا والآخر باطلًا، بل يكون مقياس الصدق فيهما هو التطابق مع الواقع، سواء صدق ذلك على التفسير المعين للدين أو على النظرية المعينة للعلم.
وقد نشأ هذا التعارض في بيئةٍ معينة هي البيئة الأوروبية ابتداءً من معطياتٍ معينة وهي الديانة المسيحية والعلم الغربي. فالتعارض بين الدين والعلم تعارض نشأ في بيئةٍ حضارية معينة كان الدين فيها أقرب إلى الأسطورة والغيبيات والأسرار التي تند عن العقل، وكان العلم فيها هو الذي يحمل لواء التقدم والذي يضع أسس العقلانية والتجريب، والذي لا يثبت شيئًا على أنه حق إلا إذا أثبت العقل والتجربة أنه كذلك. ولما كان العصر هو عصر الحضارة الغربية، وكان تاريخها هو تاريخ الإنسانية المعاصرة، تصور الباحثون غير الأوروبيين أن كل ما حدث فيها لا بد أن يحدث بالضرورة في غيرها من الحضارات القديمة أو المعاصرة. ففي الحضارات الشرقية القديمة الهندية أو الصينية أو المصرية لم يكن هناك تعارض بين الدين والعلم، بل كان الدين هو أساس العلم، وكان الدين باعثًا على البحث العلمي، وكان العلم هو المحقق لغايات الدين كما يدل على ذلك فن التحنيط عند قدماء المصريين.
بل إن الصراع بين الدين والعلم في الغرب مردودٌ عليه؛ فقد أخطأت الكنيسة عندما أحرقت جيوردانو برنو، وحاكمت جاليليو، واضطهدت أحرار الفكر. واضطهاد العلماء واقعٌ عليهم سواء من السلطة الدينية أو من السلطة السياسية (محاكمة أوبنهيمر)، وهو خطأ في فهم الدين والكل يعترف بذلك، خطأ ناتج عن التوفيق بين الدين والعلم، ثم التوقف عند نتيجة علمية معينة ووضع حقيقة أزلية عليها؛ فهو خطأ في فهم الدين ينشأ من ربط حقيقة عامة بنظريةٍ تاريخية؛ أي ربط حقيقية عامة بما هو أقل منها عمومية، وهو العلم الطبيعي، ولو تم ربطها بما يساويها عمومية لانمحى التناقض؛ فما زالت «اعرف نفسك بنفسك» حقيقة إنسانية عامة، ارتكز عليها كل دين وفسر نفسه من خلالها، ولم تتغير ولم يتعارض الدين معها. لذلك قد يكون الدين أقرب إلى علوم الإنسان منه إلى علوم الطبيعة. وتكون مهمة التجديد تحويل الدين إلى علمٍ إنساني، كما فعل ذلك جويو في «لادينية المستقبل».
وفي تراثنا القديم لا يوجد تعارض بين الدين والعلم؛ لسببٍ بسيط، وهو أنه ليس لدينا تراث علمي معارض للدين؛ فقد كان علماء المسلمين فقهاء وعلماء مثل ابن حزم، أو فلاسفة وعلماء مثل الكندي وابن سينا وابن رشد، أو متكلمين وعلماء مثل النظام، أو صوفية وعلماء مثل عمر الخيام، أو مؤرخين علماء مثل البيروني أو مؤمنين وعلماء مثل ابن الهيثم، ولم نسمع في تراثنا القديم عن تعارضٍ بين العلم والدين، بل كان هناك تعارض من نوعٍ آخر بين الفقهاء والصوفية، وبين الفقهاء والمتكلمين، بين المتكلمين والفلاسفة، بين الفلاسفة والفقهاء، وبين الصوفية والفلاسفة، حول تفسير القرآن والمنهج المتبع في ذلك؛ أي حول علمية التفكير الديني؛ فقد ادعى كل فريق تمثيله للمنهج الإسلامي الصحيح، المنهج العقلي عند الفلاسفة والمتكلمين، أو المنهج الذوقي عند الصوفية، أو المنهج الاستقرائي عند الأصوليين.
وليس كل فكر ديني لاعلميًّا بالضرورة؛ فقد يكون الفكر الديني علميًّا وقد يكون غير علمي. فالفكر الأصولي فكر ديني ولكنه فكر علمي؛ فقد لجأ الفقهاء إلى التجربة وفصلوا في أنواع العلل، كما يفعل المناطقة المعاصرون اليوم وفلاسفة العلم، ووضعوا أسس المنطق التجريبي ونقدوا المنطق الأرسطي. ليس الدين إذن بديلًا خياليًّا عن العلم. فالدين لا يبحث بالضرورة عن العلل الأولى، في حين أن العلم يبحث عن العلل الثانية؛ إذ إن الأصوليين لا يبحثون إلا عن العلل الثانية. لا غرابة إذن في أن يقال إن المنهج الإسلامي منهج علمي، على ما يقول أحد المجددين المعاصرين الذين لم يتموا عملهم إلى النهاية، والذين انتهى فكرهم الديني إلى فكرٍ علمي وإلى مقاومة المحتل، فذلك استمرار لتيارٍ أصيل في تراثنا القديم كما وضح في الفكر الأصولي الذي وضعت فيه أسس المنهج التجريبي ومناهج البحث عن العلة. أما إذا رفضت في الفكر الديني المعاصر بعض النظريات العلمية مثل نظرية التطور العضوي أو نظرية فرويد أو المادية التاريخية، فلأنه ما زال أسير النظرة الإلهية الكونية السائدة في تراثنا القديم، فقد رفض ابن طفيل أيضًا نظرية التولد الذاتي لحي بن يقظان؛ لأنه كان حريصًا على الخلق كحرص المجددين المحدثين. وإذا رفض الفكر الديني المعاصر نظرية فرويد، فإنه رفضها لأسبابٍ في علم النفس كما يرفضها بعض علماء النفس والفلاسفة، وكما فعل ريكير في دراسته عن «التفسير»، وكما يفعل كثيرٌ من علماء النفس لإدخال بعض التعديلات على الصياغة الأولى للنظرية. وإذا رفض الفكر الديني المعاصر المادية التاريخية؛ فلأن العصر كان يعتبر المادية مرادفة للإلحاد. وقد انتهى الفكر الديني المعاصر الذي رفض المادية التاريخية من قبل إلى المادية الجدلية أو في سبيله إلى ذلك، بل إنه تبناها من أجل تحرير الأرض ومقاومة المحتل.
والفلسفة الإسلامية، وهي فكر ديني أيضًا، لم ترَ غضاضةً في القول بقدم العالم، فليس كل فكر ديني من أنصار الخلق بالضرورة. فالعالم عند ابن رشد حقيقة ضرورية أزلية دون أن يكون مخلوقًا في الزمان، وليس كل فكر ديني بالضرورة مؤمنًا بتدخل قوى مجهولة في الطبيعة لتأكيد المعجزات، فهناك فكر ديني يقوم على حتمية قوانين الطبيعة وعلى إنكار المعجزات، بمعنى أنها كسر لقوانين الطبيعة.
وقد حاول بعض المعاصرين إثبات عدم تعارض الدين والعلم، وحاولوا التوفيق بينهما بطريقةٍ خطابية؛ وذلك لأن التعارض ظاهري لأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، وهم في الحقيقة ليسوا في حاجةٍ إلى ذلك؛ لأن التعارض بين الدين والعلم ليس تعارضًا بين الإسلام والعلم الغربي الذي أصبح الآن العلم الشامل، بل تعارض تاريخي محض بين بعض التفسيرات العلمية الخاطئة للدين وبين بعض النظريات العلمية الصحيحة. وقد نشأت هذه التفسيرات العلمية الخاطئة للدين من خطأ في النظرية العلمية أولًا، وكان خطأ الفكر الديني أنه تعلق على نظريةٍ زمنية وحسبها حقيقة أزلية لا تتغير، في حين أنها تغيرت إلى نظريةٍ جديدة أصبح الفكر الديني القديم معارضًا لها. فالدين من حيث هو حقائق إنسانية عامة حاول الصوفية وصف أبنيتها الشعورية، لا يحتوي على نظرياتٍ علمية، وليس غرض العلم إعطاء تصور ديني للكون هذا من حيث المبدأ الذي تقتضي الأمانة الفكرية والشجاعة الأدبية إعلانه، في حين أن الفكر المسيحي المحافظ في الغرب يلجأ إلى هذا الأسلوب، بعد أن يكشف العلم زيف القضايا الدينية، ولم يلجأ إلى ذلك إلا بعد سيادة العلم، وكان يود الانقضاض عليه ولكنه لا يستطيع. كلتا المعرفتين تقدم من حيث المبدأ فروضًا لتفسير الظواهر، فروض العلم لتفسير الطبيعة وفروض الدين لتفسير الحياة العامة. فالدين أيديولوجية مصاغة في ثوبٍ بسيط، حتى يمكن لجميع الناس على تفاوت مراتبهم في الفهم والثقافة فهمها. أما المفكرون فيمكنهم تحويل الدين إلى أيديولوجية بل وإلى أيديولوجية علمية، إذا قدم الدين فروضًا صادقة عن الواقع ومطابقة له، وهذا هو معنى ما يقوله البسطاء والمدافعون عن الإسلام عن عدم تعارض الإسلام والعلم. ومع ذلك فإن قول البسطاء مع سطحيته وخطابيته أعمق وأصدق من قول المثقفين عن تعارض الدين والعلم، كترديد للدعوة المشهورة في تاريخ الحضارة الغربية في التعارض بين بعض العقائد المسيحية وبين بعض النظريات العلمية، حتى إن الفكر المسيحي نفسه استطاع أن يتجاوز هذا التعارض ويفسر عقائد الدين على أنها رموز أو أسرار تند عن العقل، أو جعل المسيحية من حيث الجوهر مجرد دعوة للإطلاق، في حين أن العقائد هي مجرد أعراض زمنية لها، ويكون قول المدافعين البسطاء عن عدم تعارض الإسلام مع التقدم أو التطور أصدق وأعمق من الدعوة المشهورة بتعارض الدين مع التقدم إن لم يكن إعاقة له، ولا يضير الخطابة عدم تطبيقها لمناهج العقل الديكارتية، بل يضيرنا فيها عدم ترديد الدعوات الغربية دون تأصيل لتراثنا القديم.
كل محاولات التوفيق بين العلم والدين واستخدام أحدث النظريات العلمية في الضوء والذرة لتبرير عقائد الدين، كل هذه المحاولات مدانة بطبعها وجهل بالغاية من العقائد ومن العلم على السواء. وهو منهجٌ متبع لبيان مهارة المفسر وثقافته التي يزهو بها وعبقريته في الفهم، ولإثبات شخصيته كمجددٍ وهو لا يتعدى كونه نصف مثقف؛ فهو يمدح عقائد الدين ويطريها مع إيمانٍ عميق بها، وادعاء ثقافة عصرية لا يعلمها ثم إظهار براعة في التوفيق، حتى يأخذ مركز الصدارة في مجتمعٍ من أنصاف المتعلمين بغية الشهرة والتجديد المصطنع، ويقوم بذلك عادة نصف عالم يود التعريف بعلمه وتملق العواطف الدينية للجمهور. ويتم هذا التوفيق أيضًا في اللاهوت الغربي في كتابات بعض اللاهوتيين المقنَّعين تحت ستار العلم، مثل برجسون وتيار دي شاردان وترسمونتان وشوشار وغيرهم.
إن هذا التوفيق ينتهي بالفعل إلى الخلط بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، فالدين أقرب إلى العلوم الإنسانية منه إلى العلوم الطبيعية. لذلك عندما يؤخذ من الدين علم الطبيعة تصبح الطبيعة مشخصة غائية، تعرف الأخلاق وتؤمن بالقيم. فكل شيء يسبح بحمده ولكننا لا نفقه تسبيحه. ولا داعي للإكثار من الأمثلة إذا كان المنهج مرفوضًا أساسًا. فما أكثر التفسيرات العلمية للقرآن في الكتب الشعبية والمجلات الأسبوعية، ولا ضير أن توضع التفسيرات العلمية للبعث بجانب صور عارية للنجوم، كل ذلك طبقًا لمقتضيات تملق الأذواق، وإعجابًا بالدين الحديث وبالجمال المعاصر.
إن حث الدين على العلم هو حث على استعمال العقل وعلى المعرفة، وليس إقامة للعلم الطبيعي، وليس الغرض من وصف الدين للظواهر الطبيعية من إنسانٍ وحيوان ونبات إعطاء حقائق علمية عنها، بل إعطاء بعض المعاني الإنسانية العامة وتحديد موقف الإنسان بالنسبة لها. ولكن استخدام العقل استخدامًا سليمًا يمكن أن يؤدي إلى العلوم الطبيعية ومعرفة الله بالعقل على ما ذكر ابن سينا وابن طفيل في حي بن يقظان ليس الغرض منها معرفة الله، بل إثبات استقلال العقل عن الوحي. فليس المهم هو النتيجة بل هو المنهج.
والتوفيق التعسفي لا يفترق كثيرًا عن التوفيق الخطابي. فالأول يحاول إعطاء أمثلة تطبيقية لاتفاق الدين والعلم، في حين أن التوفيق الخطابي يقرر ذلك من حيث المبدأ. يحاول التوفيق التعسفي إرضاء غرور الموفق، وهو يرجع إلى التقريظ للدين بآخر مكتشفات العصر.
أما الانغلاق على الدين ورفض كل علم، فإنه رد فعل التوفيق الخطابي والتعسفي، ويفضل الإبقاء على القديم ورفض كل جديد مهما كان إغراؤه، في حين أن المعطى الديني مفتوح على كل عصر، والنص الديني والواقعة العصرية وجهان لشيءٍ واحد.
والدعوة إلى العلم وإلى ترك الدين عند أحد المفكرين المعاصرين هو إحلال إيمان محل إيمان آخر، واستبدال الإيمان العلمي بالإيمان الديني وكلاهما وقوعٌ في الإيمان. فإذا كان العيب في الإيمان الديني هو الاستسلام للقوى الغيبية والأسطورية، فإن الاستسلام للعلم قد لا يختلف كثيرًا عن ذلك. فالكهرباء والمغناطيسية والطاقة الذرية كلها تفعل المعجزات، ولها القدرة على إنتاج الظواهر وإحداث الحركة في العالم. فلا يهم الانتقال من عقليةٍ غيبية إلى ثقافةٍ علمية، بقدر ما يهم تحليل العقل وإرجاعه إلى وظيفته الأساسية في تحليل الظواهر. فالفلاح قد ينتقل بإيمانه بالولي إلى إيمانه بالآلة الزراعية، فيستبدل إيمانًا بإيمان، وتحل الآلة محل الولي، وفي كلتا الحالتين لم يتعد مرحلة التأليه؛ أي إن العقل لم يقم بوظيفته.
إن نظريات العلم ليست حقائق أزلية، وحديث رسل عن نشأة الكون ليس هو الحقيقة وتصور نيوتن للطبيعة ليس حقيقة مطلقة، والتصور المادي للكون ليس بديلًا عن التصور الديني له، فكلاهما على هذا النحو الذي يتصوره أحد المفكرين المعاصرين إيمان، بل قد يكون التصور الديني أقرب إلى الثبات من حيث هو حقيقة إنسانية عامة، في حين أن التصور العلمي ليس له أي ضمان لثباته من حيث المبدأ؛ لأنه يغير دائمًا من أبنيته النظرية كلما اكتشف الواقع على نحوٍ أقرب أو أبعد، وهذا يعني تقدم العلم. وإن ترك عقيدة خلود النفس التي يقررها الدين. ونفي هذه العقيدة كما يقول رسل ليس انتقالًا من باطلٍ إلى حق أو من دينٍ إلى علم، بل هو انتقال من قضيةٍ إلى أخرى أو من دينٍ إلى دين. لذلك قد يكون الصوفية على حق في تفرقتهم بين البعد الزمني (العلم) والبعد الأزلي (الدين).
ثالثًا: هل الفكر الديني فكر توفيقي؟
إن المشكلة الأولى في الفكر الديني هي مشكلة الفكر التوفيقي، وهو الفكر المعروف في تراثنا القديم خاصةً عند إخوان الصفاء، والذي طبع عقليتنا المعاصرة بطابعه، وخطورة التوفيق هو أنه يوحي بأن الفكر الديني في جوهره، لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا من خلال فكرٍ آخر تكون له من القوة والسيطرة، بألفاظه ومعانيه وتصوراته، ما يستطيع بها أن يكون هو الأساس ويكون المعطى الديني هو التابع، فينشأ تفسيرٌ إسلامي يقوم على الفلسفة اليونانية وتفسير مسيحي يقوم على الفلسفة اليونانية وتفسيرٌ يهودي يقوم على الفلسفة اليونانية، ويقاس مقدار التقدم في الفكر الديني بمقدار التقدم في الفكر الحضاري الذي تسلق المعطى الديني عليه. المشكلة إذن هي أن الفكر الديني على هذا النحو لا يستطيع أن يعبر عن نفسه، إلا إذا تسلق على فكرٍ آخر مغاير له، وهو فكر إنساني من حضارةٍ أخرى سابقة له أو معاصرة، وكأن المعطى الديني شكل بلا مضمون، شكل فارغ يعطيه الفكر الإنساني مضمونه أو مضمون بلا شكل، تصورات للكون دون صياغة لفظية خاصة، وكأن المعطى الديني ليس له مقومات بداخله، وكأنه معطى هلامي يتشكل حسب الظروف. كان الفكر الإسلامي يونانيًّا من قبل ثم كان الإسلام رأسماليًّا مرة واشتراكيًّا مرة، ملكيًّا مرة وجمهوريًّا مرة، حكمًا مطلقًا مرة وديمقراطيًّا مرة.
يكون التجديد بهذا المعنى تجديدًا نسبيًّا لأنه يأخذ آخر ما وصلت إليه المعرفة البشرية، ثم يستعمله الفكر الديني للتعبير عن نفسه، ولكنه تجديد يكون أقرب إلى الجمود؛ لأن المعرفة الإنسانية متطورة ولا يأخذ الفكر الديني منها إلا آخر مرحلة؛ لذلك كان توما الأكويني مجددًا نسبيًّا لأنه تصور فلسفة أرسطو آخر فلسفة استطاعت الإنسانية أن تصل إليها.
إن مشكلة التوفيق هي في الحقيقة مشكلة التفسير، وهي مشكلة منهجية لم يلتفت إليها الفقهاء والمتكلمون، بقدر ما التفت إليها الصوفية والفلاسفة. التوفيق هو أخذ فكر إنساني ثم تسلق المعطى الديني عليه، فإما أن تكون الغلبة للفكر الإنساني عندما يحتوي المعطى الديني بداخله، وإما أن تكون الغلبة للمعطى الديني عندما يحتوي الفكر الإنساني بداخله. ولكن الغالب هو الحالة الأولى أي احتواء الفكر الإنساني للمعطى الديني، فأصبح التصور الإسلامي للعالم هو التصور الهرمي التدرجي لا التصور الأفقي، وأصبحت أهم فضيلة فيه هي النظر لا العمل، وانقسم الإنسان جزأين جزءًا خالدًا يرجع إلى عالمه الأول، وجزءًا فانيًا يتحول إلى تراب، مع أن مشكلة العصر في المحافظة على هذا الجزء الفاني.
أما الفقهاء فإنهم استطاعوا أن يضعوا مشكلة التفسير وضعًا مغايرًا، فسلطوا المعطى الديني على الواقع نفسه، ورأوا هذا الواقع نفسه، وهو الواقع الفعلي الحاضر داخل المعطى الديني، فاستطاع الفقهاء إخراج الواقعية السلوكية من النص وهو ما يسمونه بتنقيح المناط، كما استطاعوا إيجاد هذه الواقعة السلوكية في الفعل الخارجي، وهو ما يسمونه بتحقيق المناط؛ أي إن التفسير أساسًا هو صلة بين النص والواقعة الفعلية الحاضرة، وهذه الواقعة هي المشكلة ذاتها التي تتطلب حلًّا. فالتفسير يبدأ من الواقع إلى النص ومن النص إلى الواقع؛ من الواقع إلى النص حتى يمكن إيجاد أساس نظري للمشكلة الواقعة، ومن النص إلى الواقع حتى يمكن توجيه الواقع على أساسٍ نظري فعال.
لا تعارض إذن بين الدين والعلم من حيث منهج التفسير. فمنهج التفسير عند الأصوليين يبدأ من الواقعة، ولا يعتبر النص قد حوى كل الحقائق مسبقة. وإن مهمة المفسر هي استخراج الكنوز من النصوص. فالواقع هو نقطة البدء في العلم وفي الفكر الأصولي على السواء. ليس المنهج العلمي إذن منهجًا لكشف حقائق جديدة والمنهج الديني منهجًا لشرح حقائق قديمة؛ لأن كليهما يبدأ من الوقائع الخارجية.
لقد احتوى النص الديني على حقائق يمكن اعتبارها مجرد توجيهات عامة، كتلك التي عند العالم قبل أن يبدأ علمه، أو كفروضٍ عامة قابلة للتحقيق. وتكون مهمة المعرفة الإنسانية هي التحقيق، أو تكون مهمة هذه الفروض توجيه الفكر الإنساني نحو العثور على كيفيات التطبيق؛ إذ قد كفاه الوحي عناء البحث النظري، أو قد يكون الوحي قد أعطى الإنسان نقطة يقينية يبدأ بها المفكر الديني، كما يبدأ العالم ببعض المسلَّمات مثل وجود العالم، أو قد يكون الوحي قد أعطى وجهة نظر كلية شاملة؛ نظرًا لأن المعرفة الإنسانية حمالة أوجه وتعبيرًا عن وجهات النظر. فالعالم أيضًا لديه بعض الإيمان المبدئي السابق قبل أن يبدأ بحثه العلمي كعالم الدين تمامًا، وكلاهما لن يقبل شيئًا على أنه حق، إن لم يثبت العقل والتجربة أنه كذلك.
ليس الدين إذن مذهبًا أي مجموعة من العقائد المتماسكة، يقبل ككل أو يرفض ككل، إنما الدين مجموعة من الفروض التي يمكن تحقيقها في الحياة العملية، وهي فروض يستطيع الإنسان عن طريق العقل والتجربة الوصول إليها. ليس الدين مجموعة من العقائد حول آدم وحواء والجنة والنار والملاك والشيطان، معارضة لنظرياتٍ علمية عن المادة والطاقة والحرارة، فلا العقائد الأولى على هذا النحو من الدين ولا العقائد الثانية جزء من العلم.
رابعًا: هل الفكر الديني فكر غيبي؟
الفكر الغيبي أقرب إلى الأساطير منه إلى الفكر الديني، والاحتفالات بالموالد هي جزء من الفنون الشعبية وليست جزءًا من الممارسة الدينية، والدين مرتبط على هذا النحو بأذواق العامة، وتعبر ممارستها لها عن مقدار تغلغل الخرافة والفهم فيها. لذلك ارتبط الدين بالسحر والشعوذة والطلسمات، وأصبح إيحاء بقوى غيبية لها تأثيرها على مصائر الناس، ولها القدرة على جلب النعيم ودفع الكوارث تُذكر في ساعة الشدة وتُنسى في ساعة الرخاء، ويتذبذب فيها شعور المؤمن بين الخوف والرجاء على ما لاحظ سبينوزا.
ويتم اللجوء إلى الله في حالة العجز وعدم القدرة. ففي وقت الهزيمة يلجأ فيها إلى الله ويكثر بناء المساجد والاحتفالات بالموالد وطبع أمهات الكتب الدينية، وكثيرًا ما يلجأ إلى الله من أجل التسويف. فإذا طلب من أحدٍ قرض نقود وهو لا يملك أو لا يريد الإقراض، فإنه يقول: «ربنا يسهل» أو «على الله» أو «ربنا يرزق» أو «ربنا معاك»، ففي ساعة العجز تكثر الدعوات على ما يذكر الجبرتي ساعة هجوم نابليون على القاهرة «يا نجي الألطاف، نجنا مما نخاف».
أما ما يذكر في الكتب المقدسة من قصص حول آدم وحواء والملاك والشيطان وإبليس والجنة والنار إلى آخر ما ينأى عنه البعض باعتباره تفكيرًا غير علمي؛ فقد اعتبره الفلاسفة من قبل مجرد رموز تدل على معانٍ عقلية أو روحية، وأنكروا مادية الوقائع أو أحداثها التاريخية، ولم يستبقوا إلا المعاني التي يمكن لجميع العقلاء الاتفاق عليها والتحقق من صدقها، وتطابقها مع الواقع على المستوى العام دون أن تتعلق الحادثة بدينٍ معين أو بلحظةٍ تاريخية معينة. إن كل هذه القصص أقرب إلى التصوير الفني منها إلى الوقائع على ما يقول بعض المجددين المعاصرين، الغرض منها التأثير على النفوس وليس تقرير وقائع تاريخية. وقد قال بذلك كثيرٌ من الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد وفيلون وابن ميمون وسبينوزا وأوريجين. فالغرض ليس الرمز في ذاته بل هو المنفعة الحاصلة منه في الحياة العملية، وإعلان ذلك بأسلوب التخييل. فإذا نتج عنها ضرر فالخطأ من المفسر الذي ينسب لها وقائع مادية ترتكز عليها؛ فقد يكون إبليس رمزًا للشر، وكما أن الشعور الإنساني يخلق إلهًا فإنه يخلق شيطانًا، وكما أنه يجسد الخير فإنه يجسد الشر، ويتضح ذلك في الأعمال الروائية الكبرى؛ ياجو في عطيل والملكة الأم في هاملت. قد يكون إبليس رمزًا للأخطاء البشرية، أو قد يكون رمزًا في عصرنا الحاضر للتحدي ولإعمال العقل والعزة. ولا داعي لاعتبار القصة جزءًا من الأدب الدرامي؛ فقد قال الفلاسفة بالرمز وقال علماء البلاغة قبلهم بالتخييل، أو كما قال المعاصرون بالتصوير الفني. ولسنا إذن في حاجةٍ إلى شرح التناقضات الداخلية أو في بيان النواحي الأسطورية في قصة إبليس، وحواره مع الله وطرده من الجنة وتحديه الله بإغوائه للإنسان، لسنا في حاجةٍ إلى الإطالة في ذلك فالأدب الشعبي لا يعرف التناقضات لأنه لا يقوم على العقل، والرمز أيضًا لا يعرف المتناقضات لأن الغرض منه ليس إعطاء نظرية عقلية أو عقيدة لاهوتية في الفرق بين إرادة التكوين وإرادة التشريع.
وليس الدين كله يقوم على حب الله وكره إبليس، بل تلك رموز لها ما يقابلها في الانفعالات الإنسانية كما وضح ذلك في أحوال الصوفية، بل إن هذه القصة في تراثنا أشمل من احتوائها في تلبيس إبليس لابن الجوزي، أو في كتاب الطواسين للحلاج، أو تفليس إبليس للمقدسي، بل نجد تفسيرات أخرى لها في كتب الفقه وفي الكلام وفي الفلسفة، والأفضل دراسة الشيطان في التراث بمناهج التراث قبل دراسته بمناهج الأدب الغربي في تصوير إبليس كجزء من الدراما البشرية.
ولماذا يقوم الدين كله على قصة إبليس والدين مملوء بالقصص الأخرى خاصة في العهد القديم؟ والقصص في القرآن، على ما هو معروف، أتى بصدد الحديث عن العهد القديم دون أن يقرر وقائع أو حوادث، والغرض من القصص الترويح على النفس والتخفيف على الفؤاد.
أما المعجزات فقد أدت دورها في دعوة الناس إلى الإيمان عندما كان الله يتدخل تدخلًا مباشرًا في الطبيعة في التوراة والإنجيل، ولكن بعد أن استقل الشعور الإنساني ولم يعد الإنسان في حاجةٍ إلى برهانٍ آخر يفوق الطبيعة، لم يعد للمعجزة أي معنى وأصبح خرق قوانين الطبيعة تهديدًا للمعرفة الإنسانية أكثر منها تأييدًا، إغفالًا لعناية الله أكثر منها إعلاءً لقدرته. فالمعجزات كانت ثم انتهت بظهور الإسلام الذي استبدل بالمعجزة الإعجاز، وجعل أحد البراهين على صدق الوحي هو التحدي الإنساني، تحدي قدرة الإنسان على الخلق والإبداع. المعجزة ليست مشكلة عصرنا بل مشكلة عصور مضت وانتهت منذ أربعة عشر قرنًا، بل منذ عشرين قرنًا، منذ كانت آخر المعجزات هو ظهور المسيح ووفاته وبعثه، بعدها انتهت المعجزات. فالدين الإسلامي على ما يقرر علماء تاريخ الأديان أقل الأديان ذكرًا للقصص وللمعجزات؛ أي إن الجانب الغيبي فيه يكاد يكون معدومًا. فالإسلام يمثل آخر مرحلة من مراحل تطور الوحي، وفيه إعلان لاستقلال الوعي الإنساني ولاستقلال الطبيعة عن كل تدخل خارجي. لقد بلغ العقل كماله ويستطيع الإنسان بعقله الإدراك المباشر، كما يستطيع بفعله تغيير واقعه، لم يعد الإنسان بحاجةٍ إلى عقل وإرادة خارجية لنصرته أو هزيمة أعدائه. كل شيء فيه طبيعي ومحمد كان بشرًا يمشي في الأسواق، وابن امرأة كانت تأكل القديد، ولم يكن إلا وسيلة لإعلان الوحي. بل إن الله عند الأصوليين لا يكاد يذكر اسمه ولا يذكرون إلا «الشارع» أي واضع الشريعة، ولا يكاد يذكر في الفلسفة، ولا يذكر الفلاسفة إلا «واجب الوجود»، واستطاع المتكلمون التوصل إلى التنزيه المطلق وتحرير الفكر الإنساني من كل تشبيهٍ مادي، واستطاع المتصوفة جعل الله عملية توحيد، عملية فردية أو كونية.
والإسلام ليس وحيًا أُعطي مرة واحدة كما أُعطيت غيره من الرسالات، بل أُعطي خلال ثلاثة وعشرين عامًا، ونزل الوحي حسب متطلبات الواقع، أو كما يقول علماء الأصول طبقًا لأسباب النزول وتبعًا لإمكانيات تقبله، وكثيرًا ما كان الوحي يُعدل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ. ومن ناحيةٍ أخرى جاء الإسلام كآخر حلقات تطور الوحي في التاريخ ابتداءً من إبراهيم أبي الأنبياء. فالوحي يسير طبقًا لمتطلبات كل عصر، إذا انتهت فترة جاء وحي آخر مُلبيًا لمقتضيات الفترة التالية، وطبقًا لما حدث من تقدم، فهناك تقدم معين من نبوةٍ إلى نبوة، ومن رسالةٍ إلى رسالة؛ أي إن الوحي يسير في خط من الوراء إلى الأمام، ويتبع فلسفةً ارتقائية للتاريخ كما يقول هردر وكانط، حتى صاغ لسنج فلسفةً للتاريخ طبقًا لمسار الوحي فيه على مراحل ثلاث؛ الأولى: القانون الخارجي واعتبار الله مصدر خوف وطمع وهي مرحلة اليهودية. ثانيًا: الحب الداخلي واعتبار الله موضوع حب وهي مرحلة المسيحية. ثالثًا: استقلال العقل الإنساني وثقته بنفسه وعدم احتياجه إلى وحيٍ وهي فترة عصر التنوير وإن شئنا الإسلام، إذا كان الإسلام على ما يقول المعتزلة يقوم على العقل وأن الشرع تابع للعقل، يثبت تطور الوحي إذن أن الحقيقة موجودة إلى الأمام لا إلى الوراء. لذلك يكون غريبًا حقًّا أن يقف الناس عند النموذج الأول في تطبيق الوحي عندما تحقق لأول مرة في صدر الإسلام أو في عصر المسيح، أو تتكرر النداءات بالعودة دائمًا إلى الأصول الأولى وإلى النقاء الأصلي في النبع الأول.
يقوم الوحي إذن على العقل، وقد كانت مهمة العقل عند المعتزلة هي بيان حق الإنسان وواجبه على الله، لا حق الله وواجبه على الإنسان، والعقل أساس الشرع، وكل ما حسَّنه العقل حسَّنه الشرع، بل إن العقل ما كان في حاجةٍ إلى الشرع؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى وحي، وما الوحي إلا لطف من الله وكرم منه قد لا يحتاجه الإنسان؛ لأن العقل فيه ما يغنيه. وقد عبر الفلاسفة أيضًا عن هذه الحقيقة. فالدين والفلسفة شيءٌ واحد، متفقان في الموضوع والمنهج والغاية. وقد عبر ابن سينا وابن طفيل عن ذلك في رسالتهما حي بن يقظان، كما صاغ ابن رشد أيضًا هذه الحقيقة في نظرية التأويل، وتأويل الشرع حتى يتفق مع العقل وتلك شيمة أهل البرهان.
والعقلية السلفية ليست كلها عقلية دينية غيبية. صحيح أن ابن تيمية وابن القيم يؤمنان بوجود الشياطين والجن والعفاريت، وهذا هو أحد وجوه الضعف في هذه المدرسة، ولكن من ناحيةٍ أخرى استطاع ابن تيمية نقد المنطق الأرسطي ووضع أسس لمنطقٍ جديد، استطاع نقد المنطق الشكلي ووضع أسس منطق استقرائي جديد. لقد كان لأهل السنة بوجهٍ عام والمدرسة السلفية بوجهٍ خاص الفضل في اكتشاف عالم الحس والتجربة. ونحن نعلم أن الحركة الإصلاحية الحديثة قد خرجت من المدرسة السلفية؛ فقد حارب محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا، وكلاهما من السلفية، البدع والخرافات في التفكير الديني المعاصر وفي أساليب الممارسة الدينية، واستطاعت هذه المدرسة تحويل الدين إلى نقدٍ اجتماعي كما هو واضح في «تفسير المنار»؛ وبذلك يمكن القول بأن رشيد رضا هو واضع «علم الاجتماع الديني الموجه»؛ فقد درس الأساليب الدينية الحاضرة وقيمها، وحاول القضاء على الأسطوري منها والرجوع إلى الأساليب الدينية البسيطة الأولى.
والتفسير الأسطوري الغيبي للدين هو بالفعل تفسير العوام له وإيمان البسطاء السذج، أما المثقفون فإن تفسيرهم لهو أكثر عقلانية، ومنهم من يؤمن بأن الدين كله ليس إلا رموزًا يمكن للفيلسوف أن يدرك معناها وهذا يكفيه. إنما مشكلة المثقفين المؤمنين أو المؤمنين المثقفين هي الازدواجية التي يعيشون فيها بين العقل والإيمان، فهم مؤمنون بالعقل وبالتحليل العقلي بل وبالمنطق ومناهج البحث، ولا يرون ضيرًا في التبرك بأولياء الله أو زيارة أهل البيت؛ فهو عقلاني في ميدان العلم والتخصص ومؤمن غيبي في السلوك اليومي في حياته العامة، وهو في نفس الوقت لا يود أن يخاطر بحياته. فالعقل مهنته والحديث عن الدين لا يتعدى الحديث عن المهنة أو عن الحضارة دون أخذ موقف عملي؛ أي إن المثقف المؤمن مزدوج مرتين: مرة في حياته الفكرية بين العقل والإيمان، ومرة في حياته العملية بين النظر والعمل.
ومقياس صحة العقائد ليس صدقها أو كذبها من الناحية النظرية، بل مقدار فاعليتها من الناحية العملية، فلا يهم إثبات خلود النفس أو إنكارها، بقدر ما يهم هذا الإثبات أو هذا الإنكار في حياة الناس العملية. إن الإثبات أو النفي النظريين لا يؤديان إلا إلى ضجة مفتعلة دون أي تغيير في حياة الناس اليومية، وكذلك تحدث ضجة نظرية مفتعلة حول إثبات وجود الله أو نفيه، إن لم يكن لذلك أثرٌ عملي في حياة الناس. فالله عند بعض المفكرين ليس من جانب الوجود أو من جانب الماهية، أو حتى من جانب المطلب الخلقي أو النفسي، بل هو وظيفة جوهرها التقدم وهي وظيفة الله في العهد القديم.
لا يحتاج الإنسان إذن كي يكون مسلمًا إلى الإيمان بالجن والملائكة والشياطين والعفاريت. فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. الإيمان سلوك. لذلك قرن الإيمان دائمًا بالعمل والعمل بالإيمان، وجعل الخوارج العمل جوهر الإيمان. وقد لاحظ علماء الأصول من قبل أن الحديث قد يكون ظنيًّا من ناحية النظر ولكنه يقيني من ناحية العمل، فلا يهم الاعتقاد النظري بقدر ما يهم السلوك العملي. وقد قرر علماء الكلام أيضًا أن المعاملات شيءٌ والعبادات شيءٌ آخر، فيمكن للمسلم المعاصر أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلمًا حقًّا في سلوكه، وهي الفكرة المسيطرة على كثيرٍ من فلاسفة الأديان في اليهودية والمسيحية عند القديس يعقوب والمسيحية الأولى حتى كانط والمسيحية الليبرالية عند هارناك.
لذلك لا يدل قول لابلاس عندما سأله نابليون: وما المكان الذي يحتله الله في نظامك؟ لا يدل قوله: «الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي» على إنكار لابلاس لله، فقد آمن كثيرٌ من الفلاسفة مثل سبينوزا وابن رشد بالله على أنه نظام الطبيعة الشامل، وبأن صفات الله المطلقة هي قوانين الطبيعة الثابتة، كما أعلن كثيرٌ من الفلاسفة بأن «الله قد مات» ويعنون بذلك الإله الأسطوري المشبه المجسم كما هو الحال عند فولتير، كما قد يعني بها البعض أن الوحي قد انتهت مهمته، وأن العقل الإنساني يقوم الآن بالمهمة بدلًا عنه مثل لسنج والمعتزلة. وقد يعني بها فريقٌ ثالث أن الله لن يتدخل في نظام الطبيعة، وبأن الإنسان حرٌّ في أفعاله وله إرادة القوة لخلق نفسه كذات قادرة مثل نيتشه. وقد يعني فريقٌ رابع أن الله فرض إنساني محض، وأن الحقيقة الواقعة الأولى هي وجود الإنسان مثل سارتر. لا تدل هذه العبارة إذن بأن الله قد مات إلا على موت الإله الأسطوري. وقد تدل على الله كحياةٍ وخلق وإبداع وتقدم وحرية وهي آلهة العصر الحديث. مات الإله القديم وعاش الإله الجديد. مات الإله، يحيا الإله. مات الله من حيث إبقاؤه على الأوضاع وعاش الله من حيث هو نذير بقيام الثورة، وهذا ليس مجرد تغيير في الألفاظ بل التعبير عن وظيفة اللفظ القديم بلفظٍ جديد.
لا يهم الدين إذن وضع إجابات على أسئلةٍ نظرية محضة عن أصل الكون ونهايته، بل إنه لا يتعرض إلا لما يعرض للناس من مشاكل عملية، فليكن الكون قديمًا أم حادثًا، ولكن الذي يهم هو الخبز لكل فم، والدواء لكل مريض، والملبس لكل عارٍ، والمأوى لكل شريد، والكلمة على كل لسانٍ ثقيل.
كما أن نظريات فرويد الحرفية لتفسير الظواهر النفسية بالرجوع إلى الجنس. قد لا تكون صادقة في المجتمع الأوروبي الذي لم تعد لديه عقدة الحرمان أو الكبت، بعد أن استطاع التمتع بالحياة والتفرقة بين الوجود والفكر، أو بين الواقع والقيم، في حين أن هذه النظريات النفسية قد تساعد أكثر على فهم سلوك المجتمعات الشرقية التي ما زال الجنس فيها داخلًا في نطاق المحرمات، حيث يظهر كل ما يصفه فرويد من كبتٍ وحرمان، وكثيرٌ من سلوكنا اليومي موجه بالحرمان الجنسي والإشباع الرخيص، وهذا ما يفسر لنا رواج الأفلام الجنسية والحديث عن الجنس والتعبيرات الجنسية غير المباشرة كما تظهر في النكات الشعبية.
خامسًا: هل الفكر الديني فكر تبريري؟
كما أن الفكر الديني قد يكون أسطوريًّا وقد يكون علميًّا فإنه قد يكون تبريريًّا وقد يكون نافيًا؛ فقد يكون الفكر الديني مبررًا لعقائد الدين ومن ثم يرجع إلى الفكر التوفيقي، والتبرير هو عقلانية زائفة. فإذا نظرنا إلى ما انتهت إليه الفلسفة الإسلامية لوجدنا أنها قد انتهت إلى تأكيد نظريات ثلاث تكون جوهر العقيدة الدينية: وجود الله، خلق العالم، خلود النفس.
ولكن الأخطر من ذلك هو تبرير الأوضاع القائمة سواء النظم الإقطاعية في العصر المسيحي الوسيط أو نظم حكم الفرد المطلق كما هو الحال عند الفارابي، يفرز الفكر الديني تصورًا معينًا للعالم مثل التصور الهرمي لتبرير الأوضاع الطبقية. هذا التصور الذي يجعل العالم متفاوتًا في مراتب الكمال والنقص، من الكمال المطلق حتى نصل تدريجيًّا إلى الأقل كمالًا، وهي المادة التي تكون الطرف المقابل وعلى النقيض من قمة الهرم. هذا التصور الرأسي للعالم إن هو إلا تبرير للأوضاع الطبقية وتأييد لها عندما يتأصل في جذورٍ نفسية ويصبح أكبر دعامة للمجتمع الطبقي.
ولقد أشار سبينوزا من قبل إلى استخدام الحكام الدين للسيطرة على الشعوب، وهذا ما نشاهده في الوقت الحالي حين تزدهر حركة بناء الجوامع والاحتفالات بالموالد، والإكثار من البرامج الدينية ساعة الهزيمة، والله لا بد أن يرعى المؤمنين المهزومين، بل إن أولياء الله ليظهرون في البلاد المهزومة إعلانًا للنصر وترويجًا للسياحة وتحويلًا للأنظار وجلبًا سريعًا للنصر الرخيص. ولا تحتاج كل هذه الظواهر الخرافية مثل ظهور القديسين إلى رفضها رفضًا علميًّا بالحديث عن النور والطاقة الروحية كما يفعل المتصوفة، بل يكفي لرفضها القيام بتحليلٍ نفسي اجتماعي للعصر.
ولكن هناك حوارًا من نوعٍ آخر خاصة في لبنان يود الإبقاء على القسمة الطائفية فيه؛ فذلك أكبر غنى وأشد خصوبة من الالتقاء على الوحدة الوطنية. غرض الحوار إذن على هذا النحو تأكيد التحزب الطائفي ونصرة فريق على فريق، والحرص على مصلحة الطائفة قبل الحرص على مصلحة الوطن. تحاول كل طائفة أن تجد لها نصيرًا لدى أنصارها في البلاد الأخرى.
وفي بعض الأحيان يؤدي الحوار على هذا النحو إلى التقليل من حدة التعارض بين الغاصب والمغتصب، بين القوي والضعيف، مثل الحوار المرجو بين دول البحر الأبيض المتوسط، بين جنوب أوروبا وشمال أفريقيا لإقامة شكل من أشكال الاستعمار الجديد. إن الحوار المطلوب بين الأطراف المتعارضة بين الاستعمار والبلاد المتحررة من شأنه إرجاع السيطرة الفكرية عليها، كما أن الحوار بين صاحب رأس المال والعامل لإقامة الجسور بين الطبقات من شأنه تثبيت الأوضاع الطبقية القائمة.
ولم تتعد موضوعات الحوار بعض مشاكل اللاهوت دون الدخول في المشاكل الواقعية وإلا أصبح الحوار ماركسيًّا! الحوار الوحيد المطلوب بين الغني والفقير هو حوارٌ عملي؛ أي إعطاء ما للغني إلى الفقير، وحوار المستعمر مع المستعمر هو تحرير الأرض. لا يهم الحوار التثليث أو التوحيد فتلك موضوعات لا دخل فيها للحوار الأخوي أو اللقاء الروحي، بل هي موضوعات لتاريخ الأديان ولتاريخ الأديان المقارن. وقد استطاع المنهج التاريخي إعطاءنا نتائج حاسمة في هذه الموضوعات، وذلك من خلال الدراسات التي أُقيمت حول نشأة المسيحية.
في فكرنا الديني المعاصر هناك تياران لربط الدين بالفكر الثوري المعاصر: الأول تيار تبريري لخدمة الدين ولإثبات أن الدين ليس متخلفًا عن ثورات العصر بل يزيد عليها الله، لم يقع في أخطائها كالمادية والصراع، وأنه ما زال حارسًا للإيمان ومؤمنًا بالقيم الروحية ومؤكدًا لمعاني المحبة والإخاء ومرتبطًا بتاريخه وتراثه، وهو تيار يود في الحقيقة الحد من التيار الثوري ويلجأ إلى الحس الديني للجماهير ويبين لهم الاتفاق بين الدين والثورة وهو في الحقيقة يؤمن بتعارضها، وغالبًا ما يكون المفسر صاحب مصلحة ويهدف أساسًا للدفاع عن مصلحته ومصلحة طبقته، وغالبًا ما يكون عضوًا في تحرير جريدة أو في هيئة كبار العلماء أو صاحب أملاك أو إقطاعيات أو موظفًا كبيرًا.
والثاني فكر نافٍ، مهمته إعطاء الثورة دفعة جديدة وتفجير طاقات الدين المحبوسة، وهو التفسير النافي للأوضاع والمحقق للثورة المستمرة والذي يقضي على كل تصور ديني تقليدي يؤيد الأوضاع الطبقية مثل التصور الهرمي للعالم. ويستبدل به تصورًا أفقيًّا يضع الإنسان في التاريخ ويجعل الله هو التقدم. فليس كل فكر ديني فكرًا تبريريًّا، بل هناك فكر ديني نافٍ أدى إلى ثورة القرامطة وثورة الزنج في الماضي، وانحسر وراء الفكر التبريري في فكرنا المعاصر، والفكر النافي هو الذي يتحد بالواقع وتكون حركة الفكر فيه هي تغيير الواقع ذاته، لا يخشى من القول بالملكية العامة أو من الاستيلاء على الميراث وضمه للمال العام أو من المطالبة بإعادة توزيع الدخل حسب قيمة العمل وحده، أو الدعوة لإقامة حكم الطبقات الكادحة أو القضاء على الأوضاع الطبقية، أو قول الحق في وجه حاكمٍ ظالم.
قد يكون الفكر الديني فكرًا تبريريًّا لو كان الدين تثبيتًا للأوضاع القائمة، وقد يكون الفكر الديني فكرًا نافيًا لو كان الدين ثورة على هذه الأوضاع.