الإصلاح والنهضة
-
(١)
جمال الدين الأفغاني
-
(٢)
التفكير الديني وازدواجية الشخصية
***
(١) جمال الدين الأفغاني١
أخذ الاحتفال بعيد القاهرة الألفي مظاهر عديدة، أهمها الندوة العالمية التي أقيمت في القاهرة في الشهر الماضي بفندق عمر الخيام بالزمالك. وبالرغم مما ساد الندوة من روحٍ علمية يغلب عليها طابع التخصص والتركيز على تاريخ القاهرة، كما يبدو من قطع الزجاج والفخار والأواني والحلي في المتاحف أو من سجلات الرحالة، مع وضع الحياة الفكرية في المحل الثاني، مما جعل كثيرًا من أساتذة الجامعات ممن يعملون في هذا الميدان يشعرون بعجزهم عن المساهمة في هذا الاحتفال الجليل، حتى تكون الندوة لقاء بين المفكرين بقدر ما كانت لقاء بين المؤرخين، بالرغم من هذا كله بذلت وزارة الثقافة جهدًا مشكورًا في تيسير وسائل الراحة للمدعوين؛ فقد نزلوا في القصر الذي بناه إسماعيل إرضاءً لمدعويه وكسبًا لصداقاتهم؛ ولهذا سأحاول في هذا العدد الخاص عن القاهرة في عيدها الألفي وعن ندوتها الحديث عن موضوعٍ فكري، وهو ذكرى مرور مائة عام على زيارة السيد جمال الدين الأفغاني لها سنة ١٨٦٩م وأثر هذه الزيارة الفكرية فيها؛ فقد كانت لمصر مكانة خاصة عنده «كاد ألَّا يخلو سطر من العروة الوثقى إلا وفيه ذكر لمصر، ولا براهين وأدلة على ظلم الإنكليز إلا ويتمثل في مصر؛ وذلك لأن جرح مصر كان ولم يزل له في جسم الأمة الإسلامية والعرب عمومًا نغولًا وبعروقها اتصالًا» (الأعمال الكاملة، نشر محمد عمارة، المسألة الشرقية، ٤١). ويتأثر الأفغاني بما يحدث لدرة الشرق ودرع المسلمين، قائلًا: «إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عمومًا. إن مصر تعتبر عندهم من الأراضي المقدسة، ولها في قلوبهم منزلة لا يحلها سواها؛ نظرًا لموقعها من الممالك الإسلامية؛ ولأنها باب الحرمين الشريفين» (احتلال مصر ينبه الأذهان، ٨٦). ويهيب الأفغاني بالمصريين أن يحرروا أرضهم وينادي: «فيا أيها المصريون، هذه دياركم وأموالكم وأعراضكم وعقائد دينكم وأخلاق شريعتكم، قبض العدو على زمام التصرف فيها غيلةً واختلاسًا» (زلزلة الإنكليز في السودان، ص٥٠٣)، وهو أول من رفع شعار «مصر للمصريين» الذي أصبح شعارًا للحزب الوطني بعد ذلك (رفض التتويج سلطانًا على السودان، ص٥٠٥) … وفي نفس الوقت الذي يدعو فيه المصريين للكفاح يطمئن إلى أن أم الدنيا لن تصاب بمكروه «ما دام القرآن يتلى بينهم ويعمل بأحكامه وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئيه!» (احتلال مصر ينبه الأذهان، ٨٦)؛ فهو في نفس الوقت يؤمن بحراسة القرآن وبالكفاح المسلح! وتلك هي مشكلة «التراث والتجديد» أو «الأصالة والمعاصرة» أو كما يقول هو «الأصالة والتجديد»، فمع إيمانه بالتراث القديم إلا أنه يريد تصفيته مستبقيًا منه ما يفيد، فيقول: «أما مسألة تفضيل الإمام علي والانتصار له يوم قتال معاوية وخروجه عليه، فلو سلَّمنا أنه كان في ذلك الزمن مفيدًا أو ينتظر من ورائه نفعًا لإحقاق حق أو إزهاق باطل. فاليوم نرى أن بقاء هذه النعرة والتمسك بهذه القضية التي مضى أمرها وانقضى مع أمةٍ قد خلت، ليس فيها إلا محض الضرر وتفكيك عرى الوحدة الإسلامية» (أمة واحدة، سُنة وشيعة، ص٣٢٥)، ومع إيمانه بالدين يريد فهمه فهمًا جديدًا، فيقول: «نحتاج إلى عملٍ جديد، نربي جيلًا جديدًا بعلمٍ صحيح، وفهم جديد لحقيقة معنى السلطان الأول على الأجساد والأرواح، وهو الدين …» (الغرب والشرق، ص٤٥٦). لقد كثر الحديث عن الأفغاني في هذه الآونة الأخيرة بين مهاجم له ومدافع عنه؛ فهو عند البعض محارب الاستعمار الأول وعند البعض الآخر أقل من ذلك بكثيرٍ لعلاقاته مع روسيا القيصرية أو الدولة العثمانية، وهو عند البعض مصلح ديني يبغي نهضة المسلمين، وعند البعض الآخر أقل من ذلك بكثيرٍ لدعوته للخلافة الإسلامية ومدافعته عنها. وكلتا النظرتين تنظر إلى الأفغاني من الناحية السياسية فقط، وتفصله عن مشكلته الأصلية وهي «التراث والتجديد». لا يكفي أن نمدح مصلحينا الدينيين، وأن نعرض لهم وكأننا نعرض لمشاهير النجوم، حتى لقد أصبح الحديث عن الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي والظواهري فرصة لشهرة الكاتب أو رغبةً منه في إثبات معاصرته وحداثته بعلمه آخر صيحات «الموضة الفكرية»، والواقع أن الدراسة العلمية الواعية لهم هي التي تسير على نهجهم؛ لتبرز أهم سمات تفكيرهم ولإعطاء دفعة جديدة للتفكير الديني، بنفس الروح (التجديد) ولنفس الدافع (الاستعمار) مع وضع مائة عام في الحساب.
أولًا: الإصلاح والنهضة
يتفق الجميع على إطلاق لفظ «الإصلاح الديني» على هذه الحركة التي بدأها الأفغاني ومدرسته. وقد كان الأفغاني نفسه على وعيٍ بذلك يطالب بإصلاحٍ ديني شامل مشابه لما قام به «لوثر»؛ فإن هذا الرجل الكبير لما رأى شعوب أوروبا زلَّت وخمدت شهامتها من طول ما خضعت لرؤساء الدين، ولتقاليد لا تمت بصلةٍ إلى عقلٍ أو يقين، قام بتلك الحركة الدينية … (الإصلاح الديني، ص٢٢٨). ولكن الإصلاح الديني له مهمة سلبية في نقد صور التفكير الديني التقليدي (القضاء والقدر مثلًا)، وفي نقد أنماط السلوك الديني عند المؤمنين (التقليد مثلًا)؛ أي إن الإصلاح الديني يقوم بمهمة تصفية الماضي وتجديد التراث القديم، ولكنه لا يضع أسس نهضة فكرية شاملة لإعادة بناء التفكير الديني نفسه، وتحويله إلى نظريةٍ علمية. الإصلاح الديني يوقظ ولكن النهضة العلمية تؤسس؛ لذلك قام الإصلاح الديني على أسسٍ انفعالية، بينما قامت النهضة العلمية على أسسٍ عقلية. لقد أثار الأفغاني النفوس وأيقظها، ولكن هذه اليقظة لم تتحول إلى نظريةٍ عقلية. لذلك كان تأثيرها وقتيًّا لم يستمر ولم تتعد مرحلة الإثارة عند تلاميذه. أراد الأفغاني بالإصلاح الديني إرجاع الوحي إلى حيويته الأولى وفاعليته، بعد أن تحول إلى مراسيم وطقوس: «كان مقر الفقه في الرأس والصدر ثم انحدر إلى الجبة والسطر» (كلمات، ص٢٤٨)، كما تحول إلى كهنوات «عمامة كالبرج وجبَّة كالخرج»، ولكن مهمة النهضة تحويل هذا العلم الحي إلى علمٍ مضبوط؛ إذ لا يكفي أن يكون الوحي دافعًا للسلوك ما دامت تنقصه نظرية في السلوك. لا يكفي أن يكون العلم الحي في الصدر (الرد، ص٢٥٣)، إن لم يكن علمًا نظريًّا في العقل النظري.
ويرتبط باليقظة والحماس والانفعال أسلوب الخطابة والإنشاء ولغة التشبيه والاستعارة، فيصبح الخطيب هو العالم أو السياسي. ولكن الأسلوب العلمي هو أسلوب التحليل ولغته لغة الاصطلاح أو لغة الرموز. فإذا قامت الحركات الإصلاحية على قوة الكلمة فتقوم النهضة العلمية على قوة التحليل، تحليل الألفاظ أو تحليل المفاهيم أو تحليل الظواهر، فكثيرًا ما يستعمل الأفغاني المقدمات الخطبية على حد تعبير ابن رشد، سواء مستمدة من القرآن أم لا، كمسلَّماتٍ يبني عليها دفاعه أو هجومه، فيقول مثلًا تأكيدًا لأهمية الدين «كان الإنسان ظلومًا جهولًا، خلق الإنسان هلوعًا، إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا …» (الرد على الدهريين، ص١٤٠)، مع أن هذا الحكم خاضع لتحليلات علم النفس الاجتماعي ودراسات الشخصية، كما يستعمل الأفغاني كثيرًا من هذه الأقاويل للتأثير على القراء واستهوائهم، مثل قوله في الهجوم على دارون: «على زعم دارون هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك» (الرد، ص١٣٥)، وهذا النقد لا يصدق على نظرية التطور في شيء؛ لأن التطور عند دارون يخضع لقوانين علمية ضرورية. أما الأساليب الإنشائية فهي الطابع المميز لتفكير الأفغاني، فيقول مثلًا في رفض الموقف الطبيعي: «متى ظهر النيتشريون في أمةٍ نفذت وساوسهم في صدور الأشرار … واستهوت عقول الخبثاء … ويبذرون في النفوس بذور المفاسد، فلا تلبث أن تنمو في تراث الغفلة فتكون ضريعًا (ذليلًا) وزقومًا» (الرد، ص١٥٢-١٥٣)؛ أي إنه ينظر إلى العلم نظرة خلقية فهناك علم حسن وعلم قبيح، وعلم طيب وعلم خبيث! ويقول أيضًا: «النيتشرية جرثومة الفساد، وأرومة الأواد (الدواهي) وخراب البلاد وبها هلاك العباد» (ص١٣١). فيضيف «السجع على الإنشاء» ليذكرنا بفتاوى ابن الصلاح في تحريم العلوم الفلسفية. ويقول أيضًا مهاجمًا فلاسفة التنوير «كانوا صدمةً شديدة على بناء قومهم وصاعقة مجتاحة لثمار أممهم، وصدعًا متفاقمًا في بنية جيلهم، يميتون القلوب الحية بأقوالهم، وينفثون السم في الأرواح بآرائهم، ويزعزعون راسخ النظام بمساعيهم. فما رُزئت بهم أمة ولا مُنِي بشرِّهم جيل، إلا انتكث فتله وسقط عرشه …» (الرد، ص١٤٠)، فمثل هذا السجع الفكري لا يشير إلى نظريات فلاسفة التنوير في شيء، فضلًا عن أنه لا ينطبق مطلقًا على ما قام به فلاسفة التنوير من إعمالٍ للعقل، واعتماد على الحس، ودعوة للنظم الديمقراطية، ونقد لحكم الملوك والنبلاء وإيمان بالطبيعة، ولا يفيد مثل هذا السجع العقلي في تحليل نظريات «العقد الاجتماعي» أو «روح القوانين» أو في فلسفة التاريخ، ويتحول أسلوب الإنشاء إلى خطبةٍ منبرية على هذا النحو: «أيُّ جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين من حشايا الغفلات؟ أيُّ قاصفة تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أيُّ نفخة تبعث هذه الأرواح في أجسادها وتحشرها إلى مواقف إصلاحها وفلاحها؟» (الأصالة والتقليد، ص١٩٧). يؤمن الأفغاني إذن بقوة الكلمة وسحرها، ويعتمد على أثر البلاغة والقول والإيجاز في البيان والإعجاز فيه «فكم من خطوبٍ ألمَّت وكادت تثير حروبًا، وتُحدِث شرًّا مستطيرًا، أزالته خطبة وحسن بيان بإيجازٍ، وكم من جيشٍ سمع من أمير كلمات فاستمات وذلت عنده الحياة» (سنن الله في الأمم، ٣٣٢). ويستشهد الأفغاني بخطب عمر وأبي بكر. ويستعمل الأفغاني كل أساليب الخطابة خاصةً إثارة اشمئزاز القراء ممن يريد مهاجمتهم، والالتجاء إلى عواطفهم وأخلاقياتهم؛ فهو ينقد أصحاب الموقف الطبيعي لقولهم: «إن الإنسان في المنزلة كسائر الحيوانات، وليس له من المزايا ما يرتفع به عن البهائم، بل هو أخس منها خلقة وأدنى فطرة، فسهلوا على الناس إتيان القبائح وهونوا عليهم اقتراف المنكرات، ومهدوا لهم طرق البهيمية ورفعوا عنهم معايب العدوان» (الرد، ١٤٩)؛ وبذلك يحاول الأفغاني إحراج القارئ اجتماعيًّا؛ لأنه لو كان من أنصار الموقف الطبيعي لانطبق عليه هذا الحكم:
«يؤثر المنفعة الخاصة على المنفعة العامة، ويبيع جنسه وأمته بأبخس الأثمان» (الرد، ص١٥٣)، أو «يبيحون تعدد الزوجات وجعل النساء على الشيوع؟» (الرد، ص١٦٤-١٦٥)؛ أي إنه يثير في القراء الحمية الدينية بالالتجاء إلى الجنس. وإذا دعا إلى الكفاح المسلح فإنه يقول: «الأمل ضياء ساطع في ظلام الخطوب، ومرشد حاذق في بهاء الكروب، وعلم هادٍ في مجاهيل المشكلات، وحاكم قاهر للعزائم إذا عرَتها فترة، ومستفز للهمم إن عرض لها سكون» (الأمل وطلب الحق، ص٣٩١). وبعد مائة عام أصبح للكفاح المسلح أصوله وقواعده في حرب العصابات، وأصبح الأمل معقودًا لا على الاعتقاد فيه — فكثيرًا ما أملنا — بل على حساب للإمكانيات. ويستعمل الأفغاني أسلوب التقريظ والدفاع، فعلى الإنسان أن يعتقد أن دينه أفضل الأديان (الرد، ص١٤١)، وأن أمته أفضل الأمم والدين الإسلامي أعظم الأديان (الرد، ص١٧٣). كما يرى أن القرآن قد حوى كل شيء من علمٍ وفلسفة وفن وصناعة وتجارة (أوروبا والإسلام، ٣٢٦-٣٢٧)، مع أن الوقائع لا تفاضل بينها. ويرتبط بأسلوب الدفاع الهجوم على الآخرين والجدل معهم، فيرد الأفغاني على الدهريين كما حاور تلميذه محمد عبده سبنسر، وكلاهما يرد على هانوتو، ولم تعد مثل هذه الموضوعات الآن موضع جدل أو نقاش. ولم يعد هناك مجال لمقارعة الحجة بالحجة بعد الكشف عن الوثائق ودراستها دراسة علمية نقدية (الرد على رينان، ٢٠٨–٢١٠). وأخيرًا يستعمل الأفغاني أسلوب التشبيه الحسي، وهو أسلوب الجمهور لا النظار، كما قال الإسلاميون من قبل، فالطبيعيون في رأيه جحدة الألوهية «يسعون لقلع هذا القصر المسدس الشكل، قصر السعادة الإنسانية القائم بستة جدران، ثلاث عقائد (الإنسان ملك الأرض، أمته أشرف أمة، عروجه إلى السماء)، وثلاث خصال (الحياء، الأمانة، الصدق). أعاصير أفكارهم تدكدك هذا البناء الرفيع، وتلقي بهذا النوع الضعيف إلى عراء الشتاء، وتهبط به من عرض المدنية الإنسانية إلى أرض الوحشية الحيوانية» (الرد، ص١٤٩). ويشبه الأفغاني عادة الأمة بالكائن الحي، وهو التشبيه الغالب على التراث الإسلامي القديم — في حالتَي الصحة والمرض أو وظائف التغذية والنمو والحساسية، أو في السلطة المركزية التي يمثلها القلب بالنسبة للأعضاء (الأصالة والتقليد، ص١٩٢-١٩٣).
وتصور الأفغاني للعقل تصور إنشائي خطابي فيقول: «وعندي إذا ظفر العقل في هذا العراك والجدال، وتغلَّب إقدامه على الأوهام، واستطاع فك قيوده، ومشى مطلق السراح لا يلبث طويلًا إلا وتراه قد طار بأسرع من العقبان، وغاص في البحار يسابق الحيتان، وسخر البرق بلا سلك لحمل أخباره، وتحادث عن بعد أشهرٍ مع غيره كأنه قاب قوسين أو أدنى، وهل يبقى مستحيلًا إيجاد مطية توصله للقمر أو للأجرام الأخرى؟!» (الإنسان وحقائق الكون، ص٢٦٥). فالعقل ليس قوة سحرية تدل على الإعجاز، بل تحليل علمي للظواهر وإخضاعها لحسابٍ كمي للوصول إلى قوانين لا أثر فيها للسحر أو للدهشة أو للإعجاز. وكثيرًا ما يستعمل الأفغاني العقل استعمالًا جدليًّا يقدم به حججًا توقع الخصم في التناقض، أو تجعله يقول المستحيل كما هو الحال في التراث القديم، فيهاجم دارون مثلًا بحجة «كيف يخرج اللامتناهي من المتناهي؟!» (الرد، ٣٣)، وهو إسقاطٌ ديني ميتافيزيقي على واقعةٍ علمية، وهي التطور. ويرى الأفغاني في الأصل الرابع من أصول التشريع، وهو الاجتهاد استعمالًا للعقل «وهو الاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه» (باب الاجتهاد مفتوح، ص٣٢٩)، والقياس له مهمته في الأفعال وفي استمرار النظرة الشرعية للسلوك، أو كما يقول إقبال هو مبدأ الحركة في التفكير الديني؛ ولذلك ينكر الأفغاني على علماء المسلمين جمودهم «جمود بعض المعممين أضر بالإسلام والمسلمين» (كلمات، ص٢٤٨). ويطالب بإعمال العقل دون التقليد «خذ القياس ودع الناس» (كلمات، ص٣٦٣). ولكن هذا العقل التشريعي لا يتعدى أحكام التكليف، ومهمته قياس الفرع على الأصل، أما العقل العلمي فمهمته تنظير الواقع أو تحويل الطبيعة إلى رياضةٍ كما فعل جاليليو دون أن ترجع الواقعة إلى واقعةٍ أخرى مشابهة لها. فالعقل القائم على التمثيل والذي يقتصر عمله على الاستدلال أو على حصر العلل واختيار العلة المؤثرة من بينها ليس هو العقل العلمي الذي يعمل على معطيات التجربة دون أي حكم سابق. العقل عند الأفغاني إذن هو عقل المصلحين والفلاسفة العقليين، عقل غريزي أو نور فطري أو الفطرة نفسها، وفي بعض الأحيان يكون عقلًا تاريخيًّا؛ أي شهادة التاريخ «فما يحكم به العقل السليم يشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم علم تاريخه إلى اليوم» (احتلال مصر ينبه الأذهان، ص٤٨٣). هو العقل الذي يعمل ضد الخرافة والوهم عند الفرد أو الجماعة. فأول شيء تتم به سعادة الأمم «صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام» (الرد، ص١٧٣)، والثاني: أن تكون عقائد الأمة «مبنية على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة» (ص١٧٦)، والثالث: «أن يكون في كل أمة طائفة يختص عملها بتعليم سائر الأمم ألا يتوانوا في تنوير عقولهم بالمعارف الحقة وتحليتها بالعلوم الصافية» (ص١٧٧). ويعطي الأفغاني للعقل وظيفة عملية في التحرر من الجبن «لا معطل له إلا الوهم ولا يقعده عن عمله إلا الجبن» (كلمات، ص٣٢٤). وقد أشار الأفغاني إلى العقل المطلق الذي يُخضع كل شيء «كل عناصر الوجود في هذا العالم الفاني خاضعة للعقل المطلق الإنساني» (كلمات، ص٣٢٤)، وهو العقل العلمي الذي يُخضع الطبيعة؛ أي عقل النهضة بعد أن أدى عقل الإصلاح الديني مهمته.
وتصوُّر الأفغاني للعلم تصور قومي محض. فالعرب لديه أسبق من الأوروبيين في الوصول إلى نظرية النشوء والارتقاء (أبو العلاء المعري، أبو بكر بن بشرون) قبل دارون وهكسلي وبشنر وسبنسر (النشوء والارتقاء، ص٢٥٠، ٢٥٣)، ومع ما يفيد ذلك من إثارة للعزة الوطنية واعتزاز بالتراث القديم، إلا أن المهم في العلم هو المنهج لا النتيجة. لقد وصل أبو العلاء للنظرية بحدس شاعر وأبو بكر بن بشرون بتأمل فيلسوف للطبيعة، ولكن العالم هو الذي يدرس التاريخ الطبيعي بمنهجٍ علمي قائم على تتبع تطور الأحياء. يؤرخ الأفغاني إذن لتاريخ العلم عند العرب بدافعٍ قومي بصرف النظر عن «نظرية العلم». فأبو السمح قد سبق الأوروبيين في وضع علم الجبر، وأبو بكر بن بشرون سبق نيوتن في القول بالجاذبية، وسبق لافوازييه وعلم الكيمياء الحديث في القول بالتحليل والتركيب، وقد سماه الحل والعقد، كما اكتشف التغليب والتنشيف والتطهير والتكليس، وتحضير الأوكسجين من المغنسيوم، وسبق جابر بن حيان الغربيين في اكتشاف حامض الكبريت (أصالة العرب العلمية، ص٢١٢–٢١٨). وهكذا يتحول الإحساس بالأصالة عند الأفغاني إلى نعرةٍ بالماضي، وفخر بالانتساب واعتزاز بالأجداد. فالعرب أسبق الأمم في العلوم وأقوى الشعوب في الماضي «الكون يشهد والآثار تدل ولا من ينكر على أن للعرب وغيرهم من العجم آثارًا ومفاخر، أتت من وراء الهمم وصدق العزائم» (بين الأجداد والأحفاد، ص٢٠٤). وينعى الحاضر ويبكيه مستثيرًا مفاخر الماضي «نعم، أولئك آباؤنا وأجدادنا، قد جاد الزمان بهم فجاءوا، لكن وا سوأتاه! وا معرتاه! وا خجلتاه! إذا هم سألونا عما فعلنا بمخلفاتهم وما أورثوا لنا واستخلفوا عليه من الممالك والأقطار وعظيم المدن والأمصار» (ص٢٠٤). أي إن الأفغاني يصلح الحاضر بمناجاة الماضي «هذا بعض ما تحس به أرواحنا من مناجاة أجدادنا لنا» (ص٢٠٦)، وهو يعتز بالوحي ولكن عن إحساسٍ بالنقص، وكأن القرآن كتاب في علوم الطبيعة. ويفسر الأفغاني كثيرًا من آيات القرآن وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بأنها تعني اللاسلكي، كما أخبر القرآن بكروية الأرض وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، وبأن الأرض جزءٌ من الشمس كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (السياسة والعلوم في القرآن، ص٢٦٧–٢٧٠)، وهذا كله تقريظٌ للدين عن جهل. فلا يضير القرآن في شيءٍ ألا يحتوي على الحقائق العلمية. ولن يزيد العلم شيئًا أن يؤيده القرآن، وهو وضعٌ خاطئ لمشكلة «التراث والتجديد»، وذلك برؤية آخر المكتشفات العلمية في القرآن تعويضًا للنقص وإحساسًا بالهيبة أمام العلم، وهو ما وقع فيه القدماء وسار عليه الأفغاني أيضًا بتأكيده أن القرآن حوى كل الطرق الفلسفية والمناهج العقلية (أوروبا والإسلام، ص٣٢٧). وحتى لو افترضنا ذلك يكون طريق التقدم والكشف هو العلم، والقرآن تابعٌ له بتصديقه عليه.
فإذا ما انتقل الأفغاني إلى السياسة، ورأى عزة القدماء واستعمار المحدثين، بكى على الأطلال «هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام تؤدي لها الجزية استبقاء لحياتها، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية، يا للمصيبة ويا للرزيئة! أليس هذا بخطبٍ جلل؟! أليس هذا ببلاء زلل؟!» (سنن الله في الأمم، ص٣٣٨). ويقول أيضًا: «أيا بقية الرجال، ويا خلف الأبطال، ويا نسل الأقيال، هل ولَّى بكم الزمان! هل مضى وقت التدارك! هل آن أوان اليأس!» (الوحدة الإسلامية، ص٣٤٥). كل ذلك يدل على أن الأفغاني بدأ حركة الإصلاح الديني بكل مقوماتها، ولكن بعد مرور مائة عام لم تتحول هذه الحركة إلى نهضة؛ وبالتالي فإن عصر التنوير لم يحن بعد كما ظن البعض (الحوراني مثلًا).
ثانيًا: الروح والطبيعة
والعجيب أن العمل الفلسفي الوحيد المتكامل للأفغاني وهو «الرد على الدهريين» دعوة تقليدية في تصور الله والطبيعة؛ فهو ينقد ما يسميهم بالنيتشريين والسوسياليست والكومونيست والنهيليست، على أنها مذاهب تنكر الروح وترفض الخلق، ولا تؤمن بالأديان ولا تعترف بالحساب والعقاب. ويكفر الأفغاني أصحاب هذه المذاهب الضالة! والطبيعة ليس فيها كفر أو إيمان والعلم ليس فيه هداية أو ضلال. وقد نشأ ذلك عن تطبيق التصور الديني التقليدي للعالم على النظرة العلمية؛ وبالتالي يكون أي تصور آخر للطبيعة يعطيها استقلالها ويرجع إليها فاعليتها تصورًا خارجًا على الدين. لقد هاجم الأفغاني الموقف الطبيعي لسببٍ واحد هو أن يعتبره ضد الإيمان، مناقضًا للدين ومعارضًا للألوهية (الرد، ص١٢٩)؛ أي إنه يحكم مقاييس الدين في موضوعاتٍ علمية صرفة، بل ويحكم تصورًا دينيًّا تقليديًّا شائعًا على أحدث النظريات العلمية في عصره؛ أعني مذهب التطور. فالأفغاني من هذه الناحية وهو يمثل أول ثورة فكرية إسلامية في العصر الحديث، ما زال مشوبًا بالتفكير الديني التقليدي الشائع، وما زالت مشكلته هي الإيمان والعلم، الإيمان لأنه سليل العصر الوسيط، والعلم لأنه يعيش في العصر الحاضر؛ أي في القرن التاسع عشر.
وهناك اشتباهٌ في استعمال كل من لفظَي «روح» و«مادة»، فتقال «الروحية» عادة على الاتجاهات التي تعترف بوجود روح وراء الطبيعة، وبوجود إله وراء العالم؛ أي بوجود موجودات مفارقة تدخل في نظام الطبيعة وتغير من مسارها، كما هو الحال في التفكير الديني التقليدي، ويقع الاشتباه في أن هذا الاتجاه هو بحق اتجاه مادي؛ لأنه يتصور الطبيعة مادة الروح لا مادة منفصلة عنها ومغايرة لها بل ومعارضة لها تمامًا، فالطبيعة مادة والروح صورة، والكون متناهٍ والروح لامتناهية، والعالم زائل والروح أبدية … إلخ. أي إنه يعترف بالعالم كمادة ثم يضع فوقه أو وراءه روحًا، وفي هذه الحالة قد تقوى المادة أمام هذه الروح الطائرة، وقد تعجز هذه الروح أمام كثافة المادة، وقد يكون الراهب الذي فضل الآخرة على الدنيا والله على العالم أول مادي؛ لأنه أصدر حكمًا ضمنيًّا على العالم بأنه مادة، وحكمًا ثانيًا بأن المادة شر أو على الأقل يجب الابتعاد عنها، فالتجأ إلى الروح بتصور مادي للعالم (وهذا ما يبدو في التصور المادي للعقائد المسيحية من تجسد للمسيح بالفعل في مكانٍ وزمان معين، ومن أن الكنيسة هي جسد المسيح بالفعل، وبأن البابا هو رأس المسيح بالفعل، وبأن القداس والتناول المقدس حضور للمسيح بالفعل بلحمه ودمه، وبضرورة الصلاة أمام الأيقونات، أو بتقبيل الكتاب المقدس وتجليده بالذهب، ووضعه على الرأس، وكما يبدو في الممارسة الشعبية للدين، وزيارة مقابر الأولياء والتمسح بنحاسها، وتقبيل أبوابها ومقابضها، والدعوة لتفريج الكروب وزيادة الأرزاق). وكلما تم الإيغال في الروحية تم الإيغال في المادية، كما وضح هذا في التصوف الشيعي الذي بدأ نظريةً في الروح، وانتهى إلى نظريةٍ في المادة (انظر وحيد الدين الكرماني: راحة العقل). دخلت إذن هذه الوثنية في التصور الديني للعالم، وفي ممارسة الشعائر من هذه الروحية المنعرجة الطائرة التي تتصور الروح مجردة من الطبيعة، فتأتي الطبيعة وتفرض نفسها عنوةً في صورةٍ حسية. والاشتباه الثاني في لفظ «مادة»؛ فقد عدد الأفغاني مظاهر المادية في نظرية التطور عند دارون، وفي التيارات الاجتماعية والسياسية عند فولتير وروسو وماركس، وعند قدماء اليونان عند الطبيعيين الأُوَل من أمثال طاليس وديموقريطس وهرقليطس أو من أمثال لوكريس وأبيقور، والمادة هنا لا تعني مادة مغلقة على نفسها، بل تعني طبيعة تنحو نحو الكمال. فالنفس عند أرسطو كمال أول لكل ذي حياة بالقوة، والطبيعة عند دارون تنحو نحو الكمال، والطبيعة عند لوكريس وماركس وفويرباخ حية تحتوي على مبدأ حيويتها في ذاتها، أما الطبيعة عند روسو وفولتير فلها مدلولٍ معنوي، وهي السبيل لتحرير الفرد من الأوهام وإعادة براءته الأصلية إليه وهي كاملة خيرة؛ وبالتالي فالمادية لا تعني الروح بل تعيد للروح فاعليتها داخل الطبيعة؛ وبالتالي يكون المناضل الماركسي الذي يفعل في التاريخ أو الرواقي أو الأبيقوري الذي يعيش وفقًا للطبيعة أو الطبيعي اليوناني الذي يفسر الطبيعة أوروسو في غابات جنيف يكون هؤلاء كلهم أقرب إلى الروح منهم إلى المادة — على عكس راهبنا السابق — لأنهم لم يصدروا حكمًا على العالم بأنه مادة والمادة شر يجب الابتعاد عنه، بل الطبيعة عندهم وضع طبيعي فيه حياة وكمال وفيها تحرر واستنارة، وكان العود إلى الطبيعة هو السبيل الوحيد إلى تنوير الذهن وتحرر الفن.
وبهذا التصور التقليدي المزدوج للروح والطبيعة يهاجم الأفغاني كل الاتجاهات الطبيعية ويدعو إلى التصور الديني التقليدي، فيفضل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون على أرسطو (مع أن الأفغاني يجعله من أنصار المفارقة) وديموقريطس وهرقليطس وأبيقور وديوجين، ويرفض أي إحلال للروح في الطبيعة يجعل فيها شعورًا أو قوةً أو عقلًا؛ لأن الروح لا بد أن تأتي من خارج الطبيعة (الرد، ص١٣٧). وتصور الأفغاني استحالة وضع اللامتناهي في المتناهي ناشئ عن هذا الوضع الخارجي العقلي للروح والطبيعة، وكأنهما موضوعان مستقلان ومضادان، بقدر ما نعطي للروح نسلب الطبيعة وبقدر ما نعطي للطبيعة نسلب الروح.
يهاجم الأفغاني أولًا نظرية النشوء والارتقاء كتعبيرٍ عن الموقف الطبيعي؛ لأنها تنكر الخلق وتقول بالصدفة! وهذا غير صحيح من أوجهٍ كثيرة، أولًا: تنحصر مهمة العالم في تفسير وقائع الطبيعة بصرف النظر عن أي معتقدٍ سابق وإلا لما كان عالمًا ولما تقدم العلم. ثانيًا: لا يعني القول بالنشوء والارتقاء القول بالصدفة وبالبخت بل بالعكس؛ فإن نظرية التطور تقول بحتمية قوانين الطبيعة، وبأن كل شيء يحدث في التاريخ الطبيعي حسب قانونَي التنازع للبقاء والبقاء للأصلح. ثالثًا: لا يعني القول بالتطور إنكار الخلق ضرورة؛ لأن الخلق لا يعني الحدوث كما قال ابن رشد من قبل، بل قد يعني الضرورة نظرًا للعناية والحكمة الإلهية. ولا يعني الخلق أيضًا القول بالإمكان كما قال ابن رشد بتفرقته بين الممكن والجائز؛ فمن الجائز أن ينقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا ولكن من الممكن أن تكون الشجرة مثمرة. فالجائز هو الجائز افتراضًا والممكن هو الحادث واقعًا. ولا يعني القول بالنشوء الطبيعي إنكار الخلق؛ فقد أيد ابن رشد في شروحه على أرسطو قدم العالم، وتبعه في ذلك شراحه اللاتين دون أن ينقص ذلك من تصوره الديني للعالم. وقد يكون في القول بخلق العالم إغفالٌ لأهميته، وتأكيد لزواله وإلحاقه بحقيقةٍ أكبر منه. وقد يكون في القول بقدم العالم إثبات لوجوده وتأكيد لبقائه ولأهميته، وهذا ما يحتاج إليه الأفغاني في دفاعه عن الأرض وتحريرها. وبهذا المعنى لن يكون في الموقف الطبيعي قضاء على الأديان، بل عود بالوحي إلى أسباب النزول — كما يقول المفسرون — وحلول من الله في العالم كما يقول الصوفية، وتحقيق لمصلحة المسلمين كما يقول الفقهاء وأمرٌ بالمعروف ونهي عن المنكر كما يقول المتكلمون. ويخشى الأفغاني من الموقف الطبيعي إنكاره لله وللاعتقاد بالثواب والعقاب؛ أي إن الأفغاني يتصور الله تصورًا تقليديًّا شائعًا. على حين أن أكثر المفكرين المعاصرين إيمانًا مثل برجسون جعل الله داخل الطبيعة دافعًا للتطور. أما بالنسبة للثواب والعقاب فالموقف الطبيعي لا يمسهما من قريبٍ أو بعيد، وأن نظرية التطور تعتني بنشأة الأحياء وتطورها ولا تعتني بنهايتها. إلا أن الأفغاني ينصب العقائد الدينية حكمًا على الطبيعة، وكلما استقلت الطبيعة ظن أن ذلك يقضي على ضرورة العقائد، والعجيب أن الأفغاني يرى أن العرب أسبق من دارون في قولهم بالنشوء والارتقاء، مستشهدًا بقول المعري:
كما يستشهد برسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح بقوله: «إن التراب يستحيل نباتًا والنبات يستحيل حيوانًا، وإن أرفع المواليد هو الإنسان الحيوان» (النشوء والارتقاء، ص٢٥١)؛ وبالتالي لم يكفر علماء العرب بجعلهم نسمة الحياة في الطبيعة. ويعترف الأفغاني بذلك ويقول: «إن كل ما جاء في مذهب الطبيعيين من حصر الأحياء بأنواعٍ قليلة وتفرع الكثير منها وعنها، كل هذا لا يضر التسليم به» (ص٢٥٢). كما يعترف الأفغاني بقانون الانتخاب الطبيعي «أما الانتخاب الطبيعي فهو في جيل البداوة وفي حضارة الإسلام أمرٌ معروف ومعمولٌ به» (ص٢٥٢). ويجعله قانونًا لبقاء الحياة. ولكن لا يرضى الأفغاني في النهاية إلا بتصورٍ مدرج للطبيعة فيرى فيها مراتب كمال وشرف، وبين كل مرتبة وأخرى انفصال نوعي واختلاف طبيعي، ويجعلها ثلاث درجات تقليدية: النبات والحيوان والإنسان. فالحيوان أشرف من النبات والإنسان أشرف من الحيوان، وهذا إسقاط للقيمة على الطبيعة. فالطبيعة واحدة ولا فرق بين ورقة الشجر أو شريحة الحيوان أو الإنسان تحت الميكروسكوب. فالكل يتكون من عناصر أولية أحصاها علماء الطبيعة. وفرق بين هذا التصور المتدرج للطبيعة حسب مراتب الشرف والكمال وبين بعض الدعوات في التفكير المعاصر (دلتاي، برجسون، هوسرل، ميرلوبونتي) للتفرقة بين الجسمي والنفسي بعد أن خلطت السيكوفيزيقا بينهما؛ فقد حدث الخلط عن قصورٍ في النظرة العلمية، وإغفال لنوعية الظاهرة النفسية بالنسبة للظاهرة الفيزيقية.
ثانيًا، يهاجم الأفغاني كل الاتجاهات الطبيعية ذات المضمون الاجتماعي والسياسي؛ أي على حد قوله السوسياليست (الاجتماعيون) والكومونيست (الاشتراكيون أو الشيوعيون) والنهيلست (العدميون)، فيتصور أن الشيوعية هي شيوعية في الملكية أي استيلاء كل فرد على ما يملك الآخر، أو شيوعية النساء والقضاء على نظام الأسرة، أو شيوعية الأخلاق والقضاء على القيم والمبادئ الخلقية؛ أي إنه يجعل الشيوعية والإباحة مترادفيتن.
أن يكون كل مشاع على الشيوع «أي الإباحة والاشتراك في الأموال والأبضاع» (الرد، ص١٢٩)، إلى آخر هذه التصورات التي تروج لها كتب الدرجة العاشرة ليشمئز الناس؛ لأن هؤلاء الإباحيين «يزعمون أن جميع المشتهيات حق شائع» (الرد، ص١٥٠)، كما يتهم الأفغاني الاشتراكيين بأنهم يدعون أنهم من «محبي الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب خير المساكين، وكانوا يسيمون بسيماء دافع الظلم ورافع الجور»، وينكر عليهم ثورتهم الاجتماعية؛ فقد «زينوا ظواهرهم بدعوى أنهم سند الضعفاء والمطالبون بحقوق المساكين والفقراء» (ص١٦٤) … تاريخ المذاهب الاشتراكية غنيٌّ بالتعريف عن نفسه، بعد أن أصبحت نظامًا لأكثر من نصف سكان الأرض. وقد أنكر الأفغاني هذه المذاهب لأنها لم تتم باسم الدين، وهو لا يعلم أن الدين الرسمي كان في معظم البلاد الغربية متواطئًا مع الرأسمالية والإقطاع. ويلتجئ الأفغاني إلى الصور التقليدية للتفكير الديني الشائع، الذي تروج له النظم الرأسمالية فيقول مثلًا: «إن المبدأ الحقيقي لمزايا الإنسان إنما هو حب الاختصاص والرغبة في الامتياز، فهما الحاملان على المنافسة السائقان إلى المبارزة والمسابقة» (الرد، ص١٥١)؛ وبالتالي يدعو المفكر إلى الله وهو يقصد رأس المال، وينادي بالامتياز وهو يؤسس الطبقة الاجتماعية. لذلك ينتقد الأفغاني الاشتراكيين لأن «غاية ما يطلبون رفع الامتيازات الإنسانية كافة» (ص١٦٤)؛ أي إنه يدافع عن الدين في صورة الملكية، وينكر الأفغاني على فلاسفة التنوير خاصة فولتير وروسو موقفهما الطبيعي ومضمونه الاجتماعي والسياسي؛ فقد كان أنصاره «يظهرون في أوقاتٍ بدعوى السعي في تطهير الأذهان من الخرافات، وتنوير العقول بحقائق المعلومات … وكثيرًا ما تجرءوا على دعوى النبوة» (الرد، ص١٤٠)، ولا أحد ينكر على فلاسفة التنوير رسالتهم في تنوير العقول ضد العقائد الزائفة، وفي دعوتهم الاجتماعية التي مهدت للثورة الفرنسية بعدهم، إلا أن الأفغاني يعتبر أنهم «ظهروا في لباس المهذبين ولونوا ظواهرهم بصبغ المحبة الوطنية، وزعموا أنفسهم طلاب خير للأمة» (الرد، ص١٦٥). لقد نشأ الاتجاه الطبيعي في الفلسفة الحديثة ثورة على الاتجاهات الروحية الزائفة، التي هي في حقيقتها مادة مقنَّعة، كما هو واضح في اللاهوت العقائدي في المسيحية وعند مشبهة المسلمين، فظهر الموقف الطبيعي لدى سبينوزا كرد فعل على ثنائية ديكارت التقليدية، وظهر مؤلهة الطبيعة من أمثال فولتير وروسو كرد فعل على التشبيه والتجسيم في اللاهوت التقليدي، وكرد فعل على التصور المثالي الديني لله باعتباره ماهية كما هو الحال عند ديكارت، أو الذي يعتبره مجرد مطلب خلقي أو تقوى باطنية كما هو الحال عند كانط؛ وبالتالي استطاع فلاسفة التنوير الجمع بين الله والعالم، بين الوحي والطبيعة البشرية أو بين العقل والحس، وكانت الطبيعة هي الشامل لكل ذلك. ومن ناحيةٍ أخرى أخذ الموقف الطبيعي في القرن الثامن عشر في فرنسا مضمونًا سياسيًّا فأصبح جزءًا من الثورة الفرنسية. فإذا كان الوحي هو ما فيه مصلحة البشر يكون فولتير وروسو أنبياء العصر الحديث الذين رفضوا كل ألوان الظلم الاجتماعي، وساهموا في القضاء على طبقة النبلاء والأشراف، والذين قضوا على الحكم الملكي ودعوا إلى الحكم النيابي. أما الأفغاني فيرى أن فولتير وروسو قد تسترا تحت الثورة الاجتماعية «ويزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول» (الرد، ٦١)، مع أنهما رفضا التشبيه والتجسيم ولم يتهكما على الدين بل على الكهنوت ولم ينكرا الله بل الوثنية. ويدمغ الأفغاني الثورة الفرنسية التي نشأت بعد ذلك «فالأضاليل التي بثها هذان الدهريان هي التي أضرمت الثورة الفرنسية المشهورة، ثم فرقت بعد ذلك أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها، فاختلفت فيها المشارب وتباينت فيها المذاهب» … (الرد، ص١٦٢). ويمدح نابليون لأنه حاول إعادة المسيحية ومحو هذه الأضاليل! وأخيرًا يجعل الأفغاني الموقف الطبيعي داعيًا للركود والخمول، مع أن معظم المذاهب التي خرجت منه مثل الماركسية تدعو للنضال، وأن المذاهب القائمة على التصور الديني التقليدي للعالم (ثنائية الروح والطبيعة) هي أدعى للخمول والركود؛ لأن الإيمان بالروح المفارقة يعطي الاطمئنان وسلب الطبيعة يوحي بالعجز. وقد يكون هذا من أسباب انهيار المسلمين حاليًّا. وإن دعوة الأفغاني إلى تحرير الأرض لأقرب إلى عودة الروح إلى الطبيعة، وإن لم يكن قد دعا لذلك على المستوى النظري. ويجعل الأفغاني صاحب الموقف الطبيعي «لا يزال به الحرص على هذه الحياة الدنيئة، يبعث فيه الخوف ويكمن فيه الجبن حتى يسقط في هاوية الذل». وقد رأينا أن الذين يحرصون على الحياة هم المناضلون من أجلها، والذين يعنون بالناس وبالأرض هم أكثر الناس التزامًا بالموقف الطبيعي، كما وضح ذلك في حركات التحرير الأخيرة في فيتنام وأمريكا اللاتينية والثورات الوطنية في أفريقيا. أما الاتجاه العدمي الذي يمثله نيتشه فيذكره الأفغاني كأحد المواقف الطبيعية الهدامة. مع أنه نشأ ردًّا على القيم الزائفة في المجتمع الرأسمالي، بحيث إن قلب القيم عند نيتشه هو إعادة بناء قيم جديدة.
وأخيرًا يدين الأفغاني الموقف الطبيعي كله؛ لأنه يفصل الطبيعة عن الأخلاق، ويؤرخ للموقف الطبيعي وكأنه تاريخ الرذائل وللأخلاق الفاسدة، مع أن الطبيعيين الأول عند اليونان — على حد قول هيدجر — هم أول من وضعوا مسألة الوجود الحقيقي، فينعى على أبيقور قوله بالعيش، وفقًا للطبيعة لأن الطبيعة لا تحتوي على أخلاق، وينعى على مزدك موقفه الطبيعي مع أنه يؤمن بالثقافة المادية المتعارضة: النور والظلمة، الخير والشر، المادة والروح، وهي الطابع المميز للديانات الفارسية. ويأخذ على الباطنية موقفهم الطبيعي مع أن الطبيعة لديهم مشخصة وتكبير للإنسان. ويرفض الأفغاني حركة أبناء العصر الجديد في تركيا لأنها تدعو إلى الموقف الطبيعي والأخذ بالنظرة العلمية. ثم يضع الأفغاني أخيرًا تصوره للطبيعة وتفسيره الخلقي للحياة الاجتماعية، فتقوم المجتمعات على خصالٍ ثلاث: الحياء والأمانة والصدق! (الرد، ص١٤٥–١٤٨)، وتقوم حياة الفرد على خصالٍ أربع: المدافعة الشخصية وشرف النفس والحكومة والألوهية! وفي الخصلتين الثالثة والرابعة يقرن الأفغاني الله بالسلطة، ويجعل من كليهما مصدر خوف ورهبة، ويجعل الأفغاني الله هو الجامع لهذه الصفات ومصدر الأخلاقية، فبدونه تتحول البشرية إلى همجية، ولكن الله يجعل الفضيلة هي الوسط المتناسب كما قال التراث القديم إرضاءً للروح وإرضاءً للمادة. وهكذا يتصور الأفغاني المبادئ الخلقية مفروضة على الطبيعة من الخارج؛ لأن الطبيعة مجموعة من الغرائز لا بد أن تسيطر عليها مجموعة أخرى من الرقباء في صورة مبادئ؛ وبذلك تقوم الأخلاق الإلهية على النظرة الجنسية للعالم، والتي تجد تعويضًا لها في الطهارة، ويكون السلوك حينئذٍ إما الكبت والحرمان أو الشذوذ. فإذا كان الأفغاني قد وقع في الاشتباه في لفظَي «روح» و«مادة» منذ مائة عام، فإننا نقع أيضًا في اشتباهٍ مماثل، عندما لا نفرق بين المادية التي تتولد عن النشاط الزائد الناتج عن التعليق بالطبيعة ومحاولة فهم أسرارها، وهي المادية الأوروبية؛ وبين المادية التي تنشأ من الفقر والعوز والتكالب على القرش، وقتل الجار من أجل كوز ذرة، وقتل البائع الشاري من أجل بصلة وقتل الابن أبيه من أجل القرش كماديتنا نحن.
ثالثًا: الدين والأيديولوجية
بالرغم من أن الأفغاني يرى أن الإصلاح لا يتم إلا بالرجوع إلى مفاخر الماضي؛ أي إلى الدين كما يقول الاتجاه السلفي «تفتخرون بتمسكنا بأصول الدين وحسن اليقين، والتزام الكتاب والسنة والفعل بأحكامهما» (بين الأجداد والأحفاد، ٢٠٥)؛ لأن الدين وحده كفيل بنهضة الشعوب «من يعجب من قولي أن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع، تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتقدم الشعب الياباني الوثني، قد تم ببعض تعاليم الدين مثل العلم والشورى» (الأصالة والتجديد، ص١٩٩-٢٠٠)، بالرغم من هذه الدعوة السلفية، إلا أن الأفغاني استطاع أن ينحو بالدين نحوًا إنسانيًّا، ويحول بعضًا من تعاليمه إلى العلوم الإنسانية؛ وبذلك أخرج الأفغاني الدين من نطاق اللاهوت التقليدي تحقيقًا لمصلحة المسلمين وحوله إلى علمٍ إنساني. ولا غرابة في ذلك؛ فقد حوى الدين كثيرًا من قضايا علم النفس والاجتماع والاقتصاد والقانون والتاريخ والجمال، خاصةً وأن العصر هو عصر العلوم الإنسانية، كما كان العصر الوسيط عصر الفلسفة والمنطق. اعتمد الأفغاني على علم التاريخ أو على علم التمدن، أو كما يقول ابن خلدون على علم العمران لتحقيق تصورات القرآن للتاريخ كعبرةٍ وموعظةٍ وآية، فكان يرى تحقيق مبادئ الوحي سننًا للأمم، فلا فرق بين حقائق الوحي وقوانين التاريخ. كما يتحدث الأفغاني عن العلوم الإنسانية الناشئة في عصره كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ويتحدث عن المجتمعات البدائية ويقارنها بالمجتمعات المتمدنة، وبالرغم من اعتزازه بالعلم وتفضيله له على تجارب السنين «من صفة الرأي أن يعتقد الرجل أفضلية على الغير بالعمر والمشيب فقط. ربما أفادت السنون تجارب. الأقدمية لا تجدي الأفضلية غالبًا» (كلمات، ص٢١٠)، (كما يحدث في جامعاتنا حاليًّا من إقرار للدرجة العلمية بالأقدمية) على الرغم من اعتزاز الأفغاني بالعلم، إلا أنه يخشى من التقليد، ويعتبر أن من التقليد إنشاء المدارس الحديثة على النظام الأوروبي فيقول: «يتم شفاؤها (الأمة) من هذه الأمراض القتالة بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعةٍ من بقاعها. وتكون على الطراز الجديد المعروف بأوروبا، حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمنٍ قريب، ومتى عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة، واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون، فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قاهر!» (الأصالة والتقليد، ص١٩٤)؛ أي إن السلطة هي مربية الأمم لا العلم! ويرفض الأفغاني إنشاء المدارس تدريجيًّا حتى تتعود الأمة عليها: «وا عجبا! كيف يكون هذا والأمة في بعدٍ عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها، لا تدري كيف بُذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأثمرت وأينعت، وبأي ماءٍ سُقيت وبأية تربة غذيت» (ص١٩٤)، وأن من أسباب نهضتنا الأخيرة إرسال البعثات إلى الخارج أيام محمد علي، مثل رفاعة الطهطاوي وغيره من رواد النهضة الحالية. ولكن يصدق نقد الأفغاني للتقليد على بعض مبعوثينا العائدين من الخارج، عندما يتشدقون بالمدنية ويلوكون ألسنتهم بالإفرنجية، وينعزلون عن مجتمعهم ويكونون دولة داخل دولة، أو طبقة متميزة تضارع أشرف الطبقات، فهؤلاء لا يدينهم العلم نفسه. فالذي أنشأ القنبلة الذرية للصين مبعوث عائد من أمريكا بعد أن عرضت عليه كافة أنواع الإغراء من أجل البقاء في المجتمع المتطور. يرفض الأفغاني: «من يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية (القومية) وما شاكلها، ويصوغها في عباراتٍ متقطعة بتراء، لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها، ورسموا أنفسهم زعماء الحرية، أو بسِمةٍ أخرى من السمات ووقفوا عند هذا الحد» (ص١٩٦)؛ أي إنه يرفض المثقف النظري أو الليبرالي الخالص، أو البرجوازي الوطني الذي يتشدق بالحرية دون أن يعمل على تحقيقها، وينادي بالتحرير دون أن يساهم في المعركة، وينعى حظ الفلاحين وهو يسعى لزيادة دخله. كما ينتقد الأفغاني من يلبسون قشرة الحضارة والروح جاهلية، من ينقلون عادات وتقاليد الغرب وهم أميون كما هو الحال في البرجوازي النبيل الذي صوره موليير؛ أولئك الذين «قلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدُّوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة، فنسقوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم، واعتاضوا أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره» (ص١٩٦)، كما حدث في بعض الأحيان من الترويج للبضائع المستوردة في كبار المحلات العامة وتهافت المواطنين عليها، وهؤلاء يكونون أقرب الناس إلى خيانة أوطانهم لعزلتهم عنها واغترارهم بمظاهر التمدن.
إلا أن ذلك لم يمنع الأفغاني من الاتجاه بالدين نحو الأيديولوجية، بعد أن اقترب به من العلوم الإنسانية، ويحاول إخراج نظرية اقتصادية وسياسية من الدين، فيرى أن الاشتراكية هي الأيديولوجية التي ستسود في كل مكان، فيقول: «وهكذا دعوى الاشتراكية على ما سبق ذكره وبيانه، وإن قل نصراؤهم اليوم فلا بد أن تسود في العالم يوم يعم فيه العلم الصحيح» (الحق والأكثرية، ص٤٢٦). ولكن الاشتراكية عند الأفغاني، اشتراكية خلقية مستمدة من الدين وقائمة على الإحسان والزكاة والصدقات والتعاطف مع الفقراء، ويرفض الاشتراكية العلمية التي يراها قائمة على حاسة الانتقام من الحكام والحسد من أرباب الثراء، ويفسرها على أنها رد فعل الفقراء على الأغنياء … يدعو الأفغاني للاشتراكية الخلقية بذكر الأمثلة والنماذج من فضلاء الصحابة التي تثير الإعجاب بكرم النفس والسخاء (الاشتراكية، ص٤١٤–٤٢٣) والنخوة والاعتزاز بالماضي. لم يدرك الأفغاني إذن الأساس الاقتصادي للاشتراكية مثل تجميع رأس المال والملكية الجماعية وأولويات التخطيط. فالاشتراكية تقوم على أسسٍ علمية قبل أن تقوم على الفضائل الخلقية. ولكن الأفغاني رأى في الوحي مصلحة المسلمين؛ وبالتالي أعطى الأولوية للمصلحة على النص؛ لأن الله لا يفعل إلا ما فيه مصلحة العباد كما يقول المعتزلة في أصلهم الثاني وكما أبرزه المالكيون في قولهم بالمصالح المرسلة: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن». فالدين هو المصلحة «والدين في أصوله ما ينفع في الأمور الدينية» (الأصالة، ص١٩٩)؛ وبذلك يمكن دفع تفكير الأفغاني الاقتصادي خطوات إلى الأمام «فمن قال إن الدين يأمر بالصبر دون اليسر بالضار دون النافع، لمجرد التقليد والمألوف فهو كذاب» (كلمات، ص٢٧٦)، «وليس في الأديان الثلاثة ما يخالف نفع المجموع البشري (السلطتان الزمنية والروحية، ص٣٢٤)؛ وبالتالي يعاد تفسير الدين لمصلحة الشعوب لا الحكام. لقد سخر الغربيون الدين لمصلحة دنياهم. فالقائمون بالنصرانية يسخرون الدين لأجل الدنيا، ويحسنون أمر دنياهم وما تتطلبه مظاهر الحياة». أما المسلمون فهم ضيعوا الدنيا باسم الدين، «والعاملون بالإسلامية يسخرون الدنيا لأجل الدين. وإذا هم لا يعملون بأحكامه يخسرون الدنيا والدين معًا» (المسألة الشرقية، ص٢٢٨). وقد تبنى الإنكليز هذا المبدأ شعارًا لهم «إنه ليس في الوجود إلا الله وحق الإنكليزي» (سياسة إنكلترا في الشرق، ٤٦٤). ويرفض الأفغاني أن يتحول الدين إلى كهنوت وأن يكون له رجال قوامون عليه «الإيمان واليقين ليس معناهما عبادة رؤساء الدين» (كلمات، ص٢٥٣)، والأيديولوجية عند الأفغاني تقوم على حقوق الشعب العامل وفئاته الكادحة من عمالٍ وزراع «لولا الزرع ولولا الضرع لما كان سرف الأغنياء، ولا ترف الأمراء. موقف الزراع والصناع من الحضارة أنفع من موقف الإمارة» (كلمات، ص٢٩٦). وقد أراد الاستعمار استبعاد هذه الطوائف حتى «باع الفلاح أثاث بيته بل وما أبقاه التيفوس من غلة أرضه بعد ما ذهبت الحاجة بحلي حرمه وبناته … وعاد إلى الفطرة الأولى يقتات بأقوات البهائم ويسرح مسارح الحيوانات» (مصر، ص٤٧٠).
ويتحدث الأفغاني عن التصنيع ويعني به تحويل العلم إلى قوة، وهو سبيل الخروج من المجتمع البدائي إلى المجتمع المدني. يتحول العلم إلى صناعةٍ أي إلى علم تطبيقي، وأهم الصناعات صناعة الحديد والأسلحة أي الصناعات الثقيلة. أدرك الأفغاني أهمية التصنيع خاصة في المجتمعات الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الرعوي أو الزراعي أو التجاري. وما يخلفه ذلك من عقليات (فلسفة الصناعة، ص٢٥٥–٢٦٠). وتقوم الصناعة على الاختصاص وتقسيم العمل. ويضع الأفغاني الأولويات في التصنيع من الأكثر نفعًا للناس إلى الأقل نفعًا للعدد القليل. فالصناعات الثقيلة لها الأولوية على صناعات الكماليات، وصناعات الجرارات في بلدٍ زراعي لها الأولوية على صناعة العربات، وصناعة الأحذية في بلدٍ حافٍ لها الأولوية على صناعة التجميل. ويثني الأفغاني على محمد علي لإقامته دولة حديثة على أساسٍ من العلم والقوة (مصر، ٤٦٦-٤٦٧) «فهو نابغة رجال أعصار وأجيال» (المسألة الشرقية، ص٢٣٦). فبالتصنيع يستطيع المجتمع الإسلامي أن يصمد في الحروب «والأكثر في الحروب والتغلب والانتصار فيهما إنما يكون بالقوة والعلم» (ص٢٢٨). ولو أن العالم الإسلامي أخذ بالعلم والقوة كما فعل العالم الغربي لما وصل إلى مثل هذا الانهيار، «ولو أن الدولة العثمانية … راقبت حركات العالم الغربي وجرت معه حيثما جرى في مضمار المدنية والحضارة، وقرنت إلى فتوحاتها المادية القوة العلمية على نحو ما فعلت اليابان أقله لما كانت ثمة مسألة شرقية» (نفس الصفحة). ويدحض الأفغاني محاولة الحكام الاستعانة بالأجانب والثقة بهم؛ لأنهم يأتون لمنفعتهم الخاصة أو لا يعملون للوطن كما يعمل المواطنون أنفسهم «أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنسٍ ولا في دين تقوم رابطته مقام الجنس، فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء أجرته، ثم لا يبالي أسلِم البيت أو جرفه السيل أو دكته الزلازل» (رجال الدولة وبطانة الملك، ص٢٩٨-٢٩٩)، فهم كالخبراء الأجانب الغربيين الموجودين مثلًا في بعض البلاد العربية. أما الخبراء الذين يشاركون أهل البلد في القضية ويجمعهم وحدة النضال فهم مواطنون بالدرجة الأولى.
وكما يدعو الأفغاني إلى الاشتراكية والتصنيع، فإنه يدعو إلى الديمقراطية، فهي أنسب نظم الحكم وأبقاها في الأرض «وسينتهي ما بقي في العالم البشري من هذا النوع من الحكم المطلق على سنن التدرج ومقتضيات الفطرة، أصبح الأوروبيون اليوم والكل في وقتٍ واحد حاكمًا لنفسه، محكومًا منها بعامل الشورى» (الإنسانية والقومية والديمقراطية، ص٤٢٩). ويقول الأفغاني لخديوي مصر: «إن قبلتم نصح هذا المخلص (أي الأفغاني) وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة لسن القوانين، وتنفذ باسمكم وإرادتكم، يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم» (مصر والحكم النيابي، ص٤٧٣). ويقول الأفغاني لقيصر روسيا: «أعتقد يا جلالة القيصر أن عرش الملك إذا كان الملايين من الرعية أصدقاء له خيرٌ من أن تكون أعداء يترقبون الفرص، ويكمنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام» (إلى قيصر روسيا، ص٤٧٥)، كما يقول لشاه إيران: «اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك سيكونون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هو الآن … لا شك يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمةٍ استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكًا عاش بدون أمةٍ ورعية» (إلى الشاه الإيراني ناصر الدين، ص٤٧٥). ويطالب الأفغاني بالحكم الدستوري لمصر فيقول: «وحكم مصر بأهلها إنما عُني به الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح» (مصر والمصريين والشرق، ص٤٧٧). ويندد الأفغاني بنواب الحزب الذين يعملون من أجل طبقتهم، فيقول: «نائبكم سيكون على مقتضى ما مر من مهيئات مصر زمانكم، هو ذلك الوجيه الذي امتص مال الفلاح بكل مساعيه، ذلك الجبان البعيد عن مناهضة الحكام الذين هم أسقط منه همة، ذلك الرجل الذي لا يعرف لإيراد الحجة تجاه الحاكم الظالم معنى، ولو كانت من الحجج الساطعة، ذلك الرجل الذي يرى في إرادة القوة الجائرة كل خير وحكمة، ويرى في كل دفاع عن وطنه ومناقشة للحساب قلة أدب وسوء تدبير» (مصر والحكم النيابي، ص٤٧٤). «وقد يحدث في النظام النيابي تلاعب الأحزاب واتفاق اليمين واليسار، ويكون اليسار ملكيًّا أكثر من الملك، ولسوف ترون إذا تشكل مجلسكم أن حزب الشمال لا أثر له في ذلك المجلس؛ لأن أقل مبادئه أن يكون معارضًا للحكومة وحزب اليمين أن يكون من أعوانها» (ص٤٧٣). وهذا معنى ما قاله الأفغاني: «أما الحكم الجمهوري فلا يصلح للشرق اليوم ولا أهله» (مصر والمصريين والشرق، ص٤٧٩)، وما طالب به في حكم الطاغية العادل: «لقد عرفت مصر بالذات طوال تاريخها حكم الفرد المطلق، كأن القوة الفرعونية أخذت على الدهر عهدًا، أن لا تبرح وادي النيل، فكلما قضى فرعون تقمص بآخر، وكلما انقضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة وجاءت من وراء البحار والتصقت بالنسب الفرعوني، ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله على الناس، استخف قومه فأطاعوه» (ص٤٧٧)، وتاريخها الديني حافلٌ بذلك: خرج منها موسى خائفًا، وزجَّ فيها يوسف في السجن. وهذا يرجع إلى أنه يؤمن بالبطولة الفردية وبالقلة المؤمنة، طبقًا للعقلية الدينية التقليدية التي تؤمن بالسلطة المركزية في الكون وفي المجتمع، حتى ليبدو الأفغاني في بعض الأحيان من أصحاب نظرية الصفوة المختارة النشطة المحركة للمجموع، فيقول: «فالحقائق من دينٍ ومذهب وقواعد علمية وفنية، ما ظهرت وما استقرت وتدونت وانتشرت إلا بواسطة أفراد قلائل» (الحق والأكثرية، ص٤٢٥). ويظهر هذا التذبذب بين الحكم النيابي وبين الطاغية العادل، في دعوة الأفغاني إلى استقلال الإمارات أسوةً بما فعل محمد علي في مصر، والحفاظ على القوميات؛ أي تمتع الإمارات بالاستقلال الذاتي، لا أن تجبى الأموال ثم توزع على الآستانة العلية، وترتبط في نفس الوقت بالباب العالي؛ فهو يدعو إلى استقلال الإمارات لأن الباب العالي يرسل «أحد رجلين: إما الخامل البليد المرتكب وهمه جمع المال وتوسيع الخراب، وإما الرجل النشيط العاقل وليس له من الأمر شيء إلا الاستئذان من الباب العالي، لترميم جسر في بغداد مثلًا سقطت منه حجرات أو أكثر، فلا يصدر الإذن إلا بعد أشهرٍ وأعوام، وبعد أن يكون طغيان النهر قد جرف كامل الجسر؛ وبذلك يظهر آل عثمان فتخلصهم من القعود مع النساء وتربية الخصيان» (المسألة الشرقية، ص٢٣٩). وفي نفس الوقت يحن للخلافة لأنه لما رأى استعداد السلطان عبد الحميد للنهوض بالدولة، واقتناعه بمزايا الحكم الدستوري بايعه على الخلافة والملك؛ لأن «الخلافة كفالة الله في خلقه» (ص٢٤٧)، إلا أن الأفغاني يدعو الشعب للمطالبة بحقه ويرفض ازدواجية سلوكه، عندما يطعن الحاكم سرًّا ويمدحه علانيةً؛ لأن «أمة تطعن حاكمها سرًّا وتعبده جهرًا، لا تستحق الحياة» (كلمات، ص٢٥٣). كما يجعل سلوك الحاكم هو الباقي لا أقواله. فالقائد من قاد بأفعاله لا بأوامره وأقواله (كلمات، ص٢٧٠). وينعى على أمراء الشرق الذين يفرحون بالمظاهر من ألقاب وأسماء، بعد أن يسلبهم الاستعمار سلطتهم «إذا سلب الأمير الشرقي ملكه وماله، وجرد من جميع حقوقه، وبقي له لقبه ولواحق لقبه؛ فهو في سكرةٍ من لذة ما بقي له» (المعتمد البريطاني في مصر، ص٤٩٤).
رابعًا: الجامعة الشرقية ووحدة النضال العالمي
دعا الأفغاني لتحرير الأرض، ولكنه قام أولًا بإثبات حرية الرد في النضال، وتحرره من قيود النظم السياسية والعقائد الدينية، ولم تكن دعوته في الحقيقة إلى النظم النيابية إلا دعوة لحرية الفرد، نظرًا لما رآه في مصر من استكانةٍ لمحو الحريات الفردية: «زاد الويل بمحق الحرية الشخصية والأخذ بالشُّبه وإن ضعفت، واتباع بواطل التهم وإن بعدت أو استحالت، حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارًّا بطريق إلا وهو يلتفت وراءه لينظر هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فداء، وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة وفي كل نهضة سقطة، وله من كل شخصٍ دهشة ومن كل طارق لبابه غشية؛ أيُّ شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!» (مصر، ص٤٧٠). واتباعًا للحرية في الأفعال يفرق الأفغاني بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين الجبرية. فالقضاء والقدر لا يوقع الجبرية بل يحرر من الخوف، أما الجبرية فهي التي أدت بالمسلمين إلى التواكل: «الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة»؛ أي هو إحساس الفرد برسالته في الحياة والعمل على تحقيقها؛ فقد فتح المسلمون الأراضي مؤمنين بالقضاء والقدر، وكان معظم الفاتحين مثل قورش والإسكندر وجنكيز خان ونابليون مؤمنين به (القضاء والقدر، ١٨٢–١٨٨). ينعي الأفغاني إذن التواكل والمتواكلين الذين يرفضون الأخذ بالأسباب التي هي سنن الله في الخلق (فلسفة الصناعة، ص٢٥٩)؛ أي إن الأفغاني يؤكد من أجل الحرية السببية في الطبيعة «كل الحوادث لا بد أن يقترن في أن حدوثها مع سبب لها ملازم غير مفارق» (الإنسان وحقائق الكون، ص٥٦٢)، والحرية عند الأفغاني لا توهب بل تكتسب «إذا صح أن الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال لأن الحرية الحقيقية لا يهبها الملك، والمسيطر للأمة عن طيب خاطر والاستقلال كذلك، بل وهاتان النعمتان إنما حصلت وتحصل عليهما الأمم أخذًا بقوةٍ واقتدار …» (مصر والمصريين والشرق، ص٤٧٨). ولا يفرق الأفغاني بين تحرر الرجل وتحرر المرأة، ونقلها من عصر الحريم إلى عصر المرأة العصرية «وعندي لا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور» (مركز المرأة في المجتمع، ص٥٢٤). ويثبت الأفغاني الحرية حتى يدعو للعمل، وحتى يتم تحرير الأرض؛ لأن «اعتماد المظلوم على وعود الظالم أقتل له من المدفع والحسام … وإذا لم تتذرع الأمة بشكواها من ظالميها بغير الكلام، فاحكم عليها بأنها أضل من الأنعام» (كلمات، ص٢٥٣). بل إن الأفغاني مثل إقبال ونيتشه من دعاة القوة للشعوب المغلوبة: «القوة صنم مرهوب والضعف شبح مربوب، لا يؤمن بربوبية القوة إلا شبح الضعف» (كلمات، ص٢١٨)، والقوة هي دعامة الحق «لا خير في حقٍ لا تدعمه قوة» (كلمات، ص٢٢١).
ولا يتم تحرير الأرض إلا بالكفاح المسلح، وهذا ما أثبته التاريخ بعد مائة عام، فقد استقلت الجزائر وقامت ثورة الريف في المغرب بالكفاح المسلح؛ فهو الوسيلة لتحرير الشعوب والضامن لاستمرار ثوراتها، وتحقيق مضمونها الاجتماعي وتربية الشعوب على النضال، وظهور الكوادر السياسية من خلال المعركة، ونشأة الحزب الثوري الضامن لبقاء الثورة وعدم وقوعها في البيروقراطية والطبقية القديمة، فهذا هو السبيل للقضاء على ما بقي من جيوب الاستعمار، في بعض مراكز الاحتلال في الحجاز أو في دول الخليج أو في إمارات الجنوب، أو للقضاء على الأنظمة الموالية للاستعمار كما هو الحال في إيران، أو القضاء على الأحلاف العسكرية التي ترمي إلى القضاء على حركات التحرر الوطني، أو لتحقيق النظم الاشتراكية ضد حكم الفرد المطلق. ويؤكد الأفغاني أن الإسلام قد انتشر بالكفاح المسلح (العروبة والتعرب، ص٢١٩-٢٢٠)؛ لذلك يطلب الأفغاني إدخال العلوم العسكرية وإقامة الحصون وسد الثغور؛ أي إنه يضع الجهاد الإسلامي موضع التنفيذ «أمة تثبُت في جهادها لأخذ الحق ساعة خير لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة» (كلمات، ص٢٥٣). وتظهر القيادة الثورية من خلال المعارك «وقادة الأفكار تبرزهم الأخطار» (كلمات، ص٢٢١). ولا فرق بين قائدٍ وجندي في النضال «قلما يهزم جيش يتحلى قائده بالصبر والثبات واقتحام الموت قبل الجنود» (كلمات، ص٥٢٢). ويستمر الأفغاني في وصف أخلاقيات النضال التي تتحقق خلال المعركة، ولو أنه تعاوده في بعض الأحيان الأخلاق الدينية التقليدية القائمة على الإلهام الإلهي (الحسن والقبيح، ص٣٧٦–٣٨٢)، وعلى حب المحمدة الحقة وحسن الذكر من وجوه الحق (الرافع لحسن الأخلاق، ص٣٨٦)، وهي أخلاق الجزاء ثوابًا كان أم عقابًا، مع أن الفدائي الفلسطيني أو الثائر الفيتنامي لا يطلب محمدةً ولا يدفع ذمًّا، والكفاح المسلح يحتاج إلى الثبات وإلى الاستمرار وإلى البدء ولو بفئةٍ قليلة تكون نواة ثورية، كما حدث في كوبا، وكما يحدث الآن في فلسطين وفي دول أمريكا اللاتينية، ولا يقال إن النمل لا يقدر على الفيل؛ لأن العصفور ينقر عين الفيل فيسقط في الهاوية (الأمل وطلب المجد، ص٣٨٩–٣٩٤)، والكفاح المسلح غير التظاهر به لأن «قرقعة السيوف بغير فتك والتبختر بلأمة الحرب إبان السلم من الأدلة على الجبن في مواطن القتال» (كلمات، ص٥١٧). ويجمع النقاء الثوري أو الطهارة الثورية كل القيم المثالية القديمة من صبرٍ وتقشف وثبات، وهي القيم التي دعت إليها الأخلاق الدينية. ويفرق الأفغاني بين نوعين من الحرب: الحرب العدوانية للسيطرة على الشعوب والقضاء على استقلالها، وحرب التحرير للتخلص من الاحتلال (الحرب العادلة والحرب غير العادلة، ص٤٣٧–٤٤١). فالأولى مدانة لأنها تستغل العلم والتمدن في البطش والفتك بالآخرين «فالرقي والعلم والتمدن على ذلك النحو وفي تلك النتيجة إن هو إلا جهلٌ محض وهمجية صرفة وغاية التوحش» (الحرب والسلام، ص٤٣١)؛ ولذلك ينادي الأفغاني بالسلام وباستخدام العلم من أجل السلام «أما كون الإنسان أحط من الحيوان الناهق، لعدم استفادته من حقيقة العلم أو العلم الحقيقي فأعظم أدلته الحروب» (ص٤٣٢)، أما حرب التحرير فحق المستعبدين، ويستشهد بالشاعر العربي:
وينعى الأفغاني على المستعبدين تظلُّمهم وشكواهم؛ لأن العالم لا يحترم الشاكِين والطالبين العطف «لو ثابر الأميركانيون دهرًا على بث الشكوى من ولاة الإنكليز إلى مجلس وزراء الإنكليز، واستنفدوا المداد وسودوا ما في الأرض من قرطاسٍ تظلمًا واستغاثة، هل كان يفيدهم في استقلالهم شيئًا، أو يكشف عنهم بلاء استعمار البريطانيين؟!» (الاستعمار، ص٤٥٠). ويقول على المصريين أيضًا: «وهل يشك المصريون وهم يزيدون على العشرة ملايين (وبعد مائة عام على الثلاثين مليونًا) وكلهم أحفاد الغزاة الفاتحين من أعز قبائل العرب، وإخوانهم الأقباط … أنهم إذا نهضوا لم يظفروا بالاستقلال والحرية» (ص٤٨٩).
ولا يتم الكفاح المسلح إلا بعد تحقيق الوحدة بين العرب أو بين المسلمين أو بين دول الشرق. ويرضى الأفغاني في النهاية بوحدة دول الشرق حتى لا تقوم الوحدة على تعصبٍ للجنس أو الدين (التعصب، ص٣٠٢–٣١٠). ويسهل على الأفغاني إثبات رابطة الدين التي تفوق رابطة الجنس؛ فهو الأفغاني الذي يعمل لكافة المسلمين ويطالب بوحدة المسلمين وسيادتهم (الوحدة والسيادة، ص٢٥٣–٣٥٧). ويرجع تخلفهم إلى انفصام الرباط بين شعوبهم وعلمائهم، وركونهم إلى السكينة والرضا (أسباب تخلف المسلمين، ٣٥٩–٣٦٣). ولكن الأفغاني يرضى أخيرًا بوحدة نضال الشرق في صراعه مع الغرب (المسألة الشرقية، ص٢٢٨)، ويرى أن الشعوب الشرقية مخالفة بطبيعتها للشعوب الغربية. فالإنكليزي الغربي بوجهٍ عام، قليل الذكاء، عظيم الثبات، كثير الطمع والجشع، عنود صبور متكبر، والعربي أو الشرقي كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع جزوع، قليل الصبر متواضع. يثُبت الإنكليزي على الخطأ إذا تسرع وقاله أو باشره، والشرقي لا يثبت على الصواب، ولا على طلب حقه، فيفوز الأول في خير النتائج بفضيلة الثبات، ويخسر الثاني برذيلة التلون وعدم الصبر (الغرب والشرق، ص٤٥٣). ومن الصعب تحويل انطباعات الأفغاني هذه إلى حكمٍ علمي، فلا يوجد غربي واحد في كل العصور ولا يوجد شرقي واحد في كل العصور. فالشرقي الخمول في عصر الأفغاني كان هو قائد الحروب القديمة، ويشهد بذلك تاريخ اليابان والصين المتسم بالقوة والشراسة، ونزوح التتار والمغول من الشرق إلى الغرب. بل إن الشعوب الأوروبية نفسها من أصلٍ آسيوي. وكما يُعرف الشرق باللف والدوران يعرف الإنكليزي أيضًا بالدهاء والمكر، والحقيقة أن الأفغاني يحلل علاقة الغرب الاستعماري بالشرق المستعمر باسم حفظ حقوق السلطان، إخماد فتنة قامت على الأمير، إنفاذ نصوص الفَرَامِين، حماية المسيحيين، حماية الأقليات، حماية حقوق الأجانب وامتيازاتهم، حماية حرية الشعب وتعليمه أصول الاستقلال، إعطائه حقه تدريجيًّا من الحكم الذاتي، إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته … إلخ، والشرق المستعمر يثق بذلك والغرب يقول في نفسه: «شعبٌ خامل جاهل متعصب، أراضي خصبة، معادن كثيرة، مشاريع كبيرة، هواء معتدل، نحن أولى بالتمتع بكل هذا؟!» (الغرب والشرق، ص٤٥٥). فالغرب يمثل الاستعمار العالمي والشرق يمثل وحدة النضال العالمي، وبعد مائة عام تصبح الجامعة الشرقية التي دعا إليها الأفغاني في مواجهة دول الغرب وحدة النضال العالمي في مواجهة الاستعمار العالمي، خاصةً وقد ظهرت دول العالم الثالث التي لا تنتسب إلى الشرق أو إلى الغرب، والتي تجسد وحدة هذا النضال العالمي. فالذي يربط المقاوم الفلسطيني بالثائر الفيتنامي بالمناضل في أمريكا اللاتينية بالوطني في أفريقيا، هو النضال المشترك ضد العدو المشترك لا الجنس ولا الدين ولا الشرق. فالمناضلون هم الجنس البشري الجديد الواحد في أيديولوجيته والواحد في نضاله «خليق بالإنسان كما أنه من نوعٍ واحد، ألا يكون له غير هذه الكرة الأرضية الصغيرة وطنًا، بمعنى أن وحدة النوع تقتضي وحدة المكان» (الإنسانية والقومية والديمقراطية، ص٤٢٧)، والمناضلون هم الأكثرية من حيث العدة؛ ولذلك يستعمل الأفغاني حجة الكم كما نستعملها بعد مائة عام، ونقول إن إسرائيل جزيرة بها مليونان في محيطٍ به مائة مليون، ويقول: «يا أهل الهند، وعزة الحق وسر العدل، لو كنتم وأنتم تُعَدون بمئات الملايين ذبابًا مع حاميتكم من البريطانيين ومن استخدمهم من أبناءكم، فحملتم سلاحًا لنيل استقلالكم واستنقاذ ثروتكم، وهم بجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف؛ لو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذبابًا لكان طنينكم يضني آذان بريطانيا العظمى … ولو كنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلًّا منكم سلحفاة وخضتم البحر وأحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى، لجررتموها إلى القمر وعدتم إلى هندكم أحرارًا» (إلى الهنود، ص٥١٧).
(٢) التفكير الديني وازدواجية الشخصية٢
بالرغم مما قد يكون لبعض الباحثين من تحفظات حول «الشخصية المصرية»، هل هي «مصرية» أو «عربية» أو «إسلامية»، وبالرغم مما قد يثيره البعض أصلًا من شكٍّ حول إمكانية تحديد خصائص مميزة للشعوب. فإن بحثنا الحالي عن ازدواجية الشخصية لا يتأثر تأثيرًا كبيرًا بما يمكن أن يقال حول الشخصية المصرية وبما يقدم لتحديد معالمها؛ لأنه يحاول تحديد الشخصية بإرجاعها إلى أحد مصادرها وأكثرها أهمية؛ أعني إرجاعها إلى التفكير الديني، ولا أقصد التفكير الديني الناتج عن دينٍ معين كالإسلام مثلًا، بل النمط التقليدي للتفكير الديني القائم على ثنائية الله والعالم، المطلق والنسبي، الآخرة والدنيا، الثواب والعقاب، الجنة والنار، الخير والشر، الملاك والشيطان، الحلال والحرام … إلخ، والذي قد يوجد في كل دينٍ وفي أية لحظة حضارية مشابهة لتلك اللحظة التي نمر بها حاليًّا.
وبالرغم من أن «الشخصية» موضوع من موضوعات علم النفس الفردي، إذا قصدنا تحليل شخصية «المصري»، أو علم النفس الاجتماعي إذا قصدنا شخصية جماعة من المصريين، وعلم الأنثروبولوجيا الحضارية إذا قصدنا تحليل شخصية الشعب المصري، وبالرغم مما يتطلب ذلك من تطبيقٍ للمناهج العلمية المعروفة وأهمها المناهج الإحصائية لجمع مادة البحث، ثم تحليلها بأحد مناهج التحليل في العلوم الإنسانية، فإننا سنحاول في هذا البحث اتباع المنهج الوصفي «الفينومينولوجي»؛ وذلك بإرجاع الظاهرة إلى أساسها في الشعور كتجربة معاشة تحكمها أصول فكرية، وهو المنهج الشائع الآن في مثل هذه الدراسات، بعد أن استطاع إعطاء مناهج العلوم الإنسانية أساسًا نظريًّا جديدًا، وجعلها أقدر على فهم الظواهر دون الاقتصار على تفسيرها. لذلك سأحاول وصف عمليات الشعور الديني، ومن خلالها نستطيع أن نتعرف على أحد مكونات الشخصية المصرية في لحظةٍ معينة من لحظات التاريخ، وهو العصر الحاضر، معتمدًا في ذلك على التجارب الشخصية وعلى قدرٍ وافٍ من الأمثلة الشعبية في فهم سلوكنا الحالي، ومعتمدًا على تفكيرنا الديني الموروث الذي أحاول أن أرجع إليه أنماط السلوك.
أولًا: مظاهر الازدواجية في الشخصية
- (١)
الإنشاء والإخبار «الشعور والتفكير».
- (٢)
القول والاعتقاد «الشعور والقول، التفكير والقول».
- (٣)
القول والعمل «الذي يضم أيضًا الشعور والعمل».
- (٤)
الداخل والخارج «الفكر والعمل».
(١) الإنشاء والإخبار
قد يقال إن هذا الطابع يرجع إلى طبيعة المجتمع الزراعي الذي ما زال يعتمد على تمني الفيضان، ويرجو القضاء على الديدان والآفات الزراعية، ويبغي زيادة المحصول، ويأمل الغنى، في مقابل المجتمع الصناعي المستقر على «الترشيد» وعلى ضمان الآلة واستقرار الإنتاج وعلى تحديد مواعيد العمل وعلى القدرة على التخطيط. وقد يقال أيضًا إن سبق الإنشاء على الإخبار ونقص النظرة الواقعية للظواهر أو قصورنا في النظرة الموضوعية للأشياء — قد يقال إن ذلك كله يرجع إلى الطابع العام للمجتمعات النامية التي ما زالت تمر في مرحلة الوجدان، وانفعالها بقضايا التحرر من الاستعمار القديم، وتوجسها من الاستعمار الجديد، وتعاملها مع القادة، حكام مرحلة ما بعد التحرر الذين ينتسبون إلى البورجوازية الوطنية، كما هو الحال بوجهٍ خاص في كثيرٍ من البلاد الأفريقية. هذه المجتمعات يكون تفكيرها أقرب إلى الانفعال منه إلى التفكير الموضوعي، ويكون مرتبطًا بالشخص أكثر من الموضوع، ولا يقدر على التخطيط على المدى الطويل.
وقد ميزت اللغة بطبيعتها بين هاتين الصيغتين: الصيغة الإنشائية التي تعبر عن التمني والرجاء والمرتبطة بالذات، والصيغة الإخبارية التي تشير إلى واقعٍ كما تحاول نظرية الإخبار الحديثة التخلي كليةً عن الجانب الذاتي في الخبر، وقيام الآلات الإلكترونية بهذه الوظيفة، كما تحاول السبرنيطيقا تحويل بناء الجهاز العصبي إلى الآلات الإلكترونية للتخلي كلية عن الجانب الإنشائي الذي قد يلحق بالخبر.
وقد حاول تراثنا العلمي القديم هذه المحاولة في الاتجاه نحو الموضوع، ففصل فصلًا حادًّا بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، وجعل الأول من خلق الذهن والثاني موجود في الواقع، كي لا يخلط بين المعاني والأشياء أو بين الإنشاء والإخبار. كما حاول الأصوليون وضع شروط لضمان حياد شعور الراوي، وعدم خلطه بين ما يسمع وما يشاهد من ناحية وبين ما يرجو ويتمنى من ناحيةٍ أخرى، ورأوا ذلك في مطابقة مراحل الخبر الثلاثة: السمع «شهادة الحس» والحفظ «عمل الذاكرة» والنقل «صحة الرواية»، حتى لا يحدث في القرآن وفي الحديث ما حدث في الإنجيل من خلطٍ بين الإنشاء والخبر، فنقل الراوي ما يتمناه «ظهور المسيح»، حدوث المعجزات، البرق والرعد والعواصف وقت الصلب … إلخ، دون أن يخبر بواقع. ولا يقال إن الفكر الموضوعي قد يقضي على انفعالية اللحظة، كما اتهم بذلك كيركجارد هيجل، وكما اتهم الصوفية الفلاسفة، بل نقول إن انفعالية اللحظة تقضي على التفكير الموضوعي، كما هو الحال في تكويننا النفسي المعاصر.
(٢) القول والاعتقاد
والمظهر الثاني من مظاهر الازدواجية هو الفصل بين القول والاعتقاد. فنحن نقول ما لا نعتقد ونعتقد ما لا نقول، حتى لقد أصبحت النصيحة الشائعة أن نردد ما يعتقده الآخرون «في البحر ملوخية». نحن نرى ولا نتحدث «اكتم سرك تملك أمرك»، ونسمع ولا نتكلم «يا قلب يا كتكت اسمع الكلام واسكت»، ونتهرب من الشهادة «يا عيني إن شفتي ما رأيتي، وإن شهدوكي قولي كنت في بيتي»، ولا نود سماع شيء حتى لا نقول شيئًا «ودن من طين وودن من عجين». لذلك صعب الحديث المباشر لأن على المتحدث أن يخبئ سر اعتقاده، وأن يعبر عما يعتقده الآخرون، واستحال التصديق المباشر، وأصبح الحديث من أشق الأمور على النفس، فعلى المستمع أولًا أن يقيس مدى صدق المتحدث، وأن يترك ما تسمع أذناه، ليدرك ما بين السطور ويستشف ما يعتقده المتحدث ولا يصرح به؛ فقد تعني «نعم» «لا» وقد تعني «لا» «نعم»، حتى عرفت العقلية الشرقية بالتأويل، وأصبحنا باطنيين قولًا وعملًا، نعتقد بأن الكلام قال شيئًا ولم يصرح به. أصبح الحديث قدرة على الوصول حتى نشأ بيننا أدب خاص لمحادثة الآخرين، خاصةً إذا كانوا في مراكز السلطة. لذلك أصبح الفرد في عزلة فكرية تجعله يعيش حياتين: صادقًا مع نفسه، وممثلًا مع الآخرين، ويصبح مخيرًا بين العزلة والنفاق. لذلك استعملت وسائل جمع المعلومات الحديثة للكشف عن أحاديث النفس التي تعبر عما يعتقده الناس بالفعل، وكلما قوي الفصم بين القول والاعتقاد زادت أهمية هذه الوسائل وتضخمت واستعملت لمعرفة اتجاهات الرأي العام، أو استغلت الجماعات السرية هذا الانفصام لتكوين المنظمات السرية، أو عبر عنه ابن البلد بالنكتة أو انفجر في ثورةٍ شعبية عامة، كما حدث في ثورات الشعب المصري ضد أنظمة الحكم السابقة التي كانت تتغنى بطرد الإنكليز، وتتواطأ معهم أو تظهر معارضة القصر وتتعامل معه. وفي أحسن الأحوال يلتجئ الأدباء إلى الرمز للتعبير عما يعتقدونه لتفادي خطر السلطة، كما كان الحال في عصر الخديوي عند يعقوب صنوع، وفي كثير من الرسوم الكاريكاتيرية اليومية. وقد قوَّى تراثنا الصوفي أيضًا هذه النزعة عندما عبَّر الصوفية عن مواجيدهم رمزًا خشيةً من العامة والفقهاء، بل كان الفقهاء أنفسهم يرون أن اللفظ يرمي إلى المعنى وإن لم يصرح به، وسموا ذلك «اقتضاء اللفظ» أو «دلالة الاقتضاء»؛ أي ما يقصد إليه النص دون أن يعبر عنه صراحة.
ومع ثنائية «القول والاعتقاد» هناك أيضًا ثنائية «التفكير والتعبير»، فكما أننا لا نقول ما نؤمن به ونؤمن بما لا نقوله، نفكر ولا نعبر عن كل ما نفكر فيه كما نعبر عن أشياء لا نفكر فيها، حتى أصبح التعبير من أشق الأمور تعقيدًا، فبدل أن يكون هدف القول هو التعبير عن الاعتقاد، أصبحت مهمته تمهيد السامع حتى يقبل ما أريد التعبير عنه، أو الدخول إلى قلب السامع والتقرب إليه حتى يتهيأ للسماع. فإذا وثق المتحدث من تهيؤ السامع له عبر عن تفكيره في إيجازٍ شديد أو بالإشارة، وهو ضامن بلوغ المراد، وإن لم يثق تمامًا من تهيئته له عبر في إطالة بعد «لف ودوران» حول الموضوع. فإذا قبل السامع فرح المتحدث وإن لم يقبل لم يحزن المتحدث؛ لأنه لم يعبر صراحةً عما أراد؛ أي إن التعبير عندنا أصبح «جس النبض» دون الالتجاء إلى الوسائل المباشرة.
هذه السمة من سمات الشخصية ترجع إلى تاريخ مصر الطويل حتى الثورة الأخيرة، وهو التاريخ الذي لم يعرف من ألوان الحكم منذ فرعون حتى ملكها الأخير إلا ما قام على بطش السلطان وعلى الحكم لمصلحة فرد أو جماعة متسلطة، مما اضطر الشعب إلى التعبير عن نفسه بهذا الأسلوب غير المباشر، ومما اضطره لأن يقول ما لا يعتقد ويعتقد ما لا يقول، ويفكر في شيءٍ ويعبر عن شيءٍ آخر، ويعبر عن شيء ويفكر في شيءٍ آخر، وأصبح المثل السائر «خلينا نعيش» أو «ماتوديش نفسك في داهية»، وأصبح الكتمان أو الهمس سلوك الكثيرين «مين يقدر يقول يا غولة عينك حمرة» دون أن يقدروا على التعبير عن الأوضاع المقلوبة «مين يقدر يقول البغل في الإبريق» وإلا نال الشعب من ألوان الاضطهاد ما رآه على طول الزمن، وأصبح الشعار «اللسان عدو القفا» أو «لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك». وقد شعر الشعب ذلك بحسه التلقائي فهو يعلم أن أعلى درجات الإيمان قول كلمة حق في وجه حاكم ظالم «مطرح ما تطلع الكلمة تطلع الروح» لأن «الساكت في الحق زي الناطق في الباطل».
(٣) القول والعمل
وتبدو الازدواجية في مظهرٍ ثالث، وهو الفصل بين القول والعمل، فكثيرًا ما نصرح بشيء ولا نعمله ونعمل شيئًا ولا نصرح به، حتى لقد أصبح القول ميدانًا خاصًّا تحدث فيه الوقائع وتقام فيه الإنشاءات. لذلك يكثر القول لأنه يجعل من نفسه عملًا، يكفي أن يتحدث خطيب في موضوعٍ لتشعر أن هذا الموضوع قد وُجد بالفعل، ويكفي أن يذكر حل المشاكل باللسان حتى نشعر أنها قد حُلت بالفعل. أصبح «الخطاب» موضوعًا له وجوده المستقل عن مضمونه وتحقيقه، وأصبح التصريح بشيء هو حدوث هذا الشيء بالفعل، خاصةً إذا كانت حياة الخطيب وأفعاله مناقضة تمامًا لأقواله «يحلف لي أصدقه أشوف أموره أستعجب» أو «أسمع جعجعةً ولا أرى طحنًا»، والسبب في ذلك هو غياب الواقع كميدان للنشاط والسلوك أو إن شئنا هروب من الواقع الذي لا نقوى على مواجهته أو الالتزام به أو تغييره. لذلك أصبحت الكلمة في ذاتها دون أن تكون موجهًا للفعل، ودون أن تحتوي على معنًى يُستخدم كأساسٍ نظري للسلوك.
ومع ثنائية «القول والعمل» تأتي ثنائية «النية والسلوك»؛ أعني عندما لا يصدر سلوكي تلقائيًّا عن نيةٍ، بل يتوسط من الفكر بدافعٍ من الحيطة والحذر، حتى لقد أصبح السلوك من أكبر المشاكل وأكثرها تعقيدًا، وأصبح تطابق القصد مع السلوك، أو كما يقول الفقهاء تطابق النية مع العمل مستحيلًا. فلا يكفي حدوث القصد أو النية، بل لا بد من اختيار أفضل أنماط السلوك التي يرتضيها المجتمع، وكلما تم إخفاء النية وضح السلوك على المستوى الاجتماعي وأصبح مقبولًا، وكلما تضخمت النية قل الفعل وانعدم الإفصاح، فتزداد عزلة الفرد بالرغم من مشاركته في السلوك الاجتماعي. وكثيرًا ما يصدر السلوك ولا معنى له، ولا يدل على شيء، وتأتي لحظات ينعدم فيها السلوك لانفصاله التام عن القصد الموجه له.
وقد يكون السبب في هذا الفصل بين «القول والعمل» أو بين «النية والسلوك» الشعور بالعجز أمام الواقع، فتتسرب الطاقة من خلال القول ما دام العمل عاجزًا، أو من خلال التحكم في النية ما دام السلوك غير مواتٍ، أو إن شئنا يعوض في القول ما ينقص في العمل، ويصبح «القد قد الفولة والحس حس الغولة». وكثيرًا ما يكون الفعل في صورة «تهويش» لأن «الكلب اللي ينبح مايعضش».
وقد أشار النص الديني لهذا الانفصام بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٦١: ٢)، ووجدنا في المثل العامي «خذ من كلام الشيخ ولا تاخودش من أعماله». ويكون الفرد حقًّا مثالًا يُحتذى بتطابق قوله مع عمله، وهو شرط وجود المفتي عند الأصوليين.
(٤) الداخل والخارج
وأخيرًا يجمع المظهر الرابع من مظاهر الازدواجية، وهو الانفصام بين «الداخل والخارج» بين المظاهر الثلاثة السابقة، فازدواجية الإنشاء والإخبار هي في الحقيقة انفصام بين الداخل والخارج. فالإنشاء يعبر عن باطن الذات والإخبار يكشف عن الواقع الخارجي. لذلك فإن التعريف التقليدي هو تطابق الفكر مع الواقع، وازدواجية القول والاعتقاد هي أيضًا انفصام بين الداخل والخارج. فالاعتقاد شعور داخلي والقول تعبيره الخارجي. ويشير الانفصام بين القول والعمل أيضًا إلى انفصامٍ بين الداخل والخارج. فالقول يحتوي على الأساس النظري للسلوك؛ أي إنه باطن السلوك وما وراءه، والعمل هو المعبر عن القول والمحقق له؛ أي ظاهر السلوك وخارجه. وكما نشأت شخصية «الفشَّار» أو «الرغَّاي»، نشأت أيضًا شخصية «المهياص» فهو «زي الحما فاضية ومشبوكة»، كما نشأت شخصية «البكَّاش» الذي يبدي أكثر مما يستطيع «فهو» «كثير النط قليل الصيد»، «وغني الحرب» الذي يتظاهر بالمدنية وما زال جلفًا «ما كان ناقص على ستي إلا طرطور سيدي». ومن هنا نشأ حب التظاهر وإعطاء المظهر الأولوية على الحقيقة «يا شايف الجدع وتزويقه ياترى هو فطر ولا على ريقه»، وعادةً لا تدل المظهرية على حقيقةٍ وراءها «من شاف الباب وتزويقه يجري عليه ريقه»، وتصبح المظهرية هي الرصيد الوحيد للسلوك «زي الطاووس يتعاجب بريشه»، ويكون السلوك نفسه «زي الخيلة الكدابة»، والظاهر لا نفع منه «زي حمير العنب تشيله ولا تدوقه»، ولا يأتي بشيء «زي بوابة جحا وسع على قلة فايدة» أو «زي بعجر آغا ما فيه إلا شنبات»، أو يأتي بالشيء القليل «زي فطيرة الزيارة واسع على قلة بركة». ويوجد هذا الانفصام بين الداخل والخارج على كل المستويات، فيوجد في العواطف «الوش مزين والقلب حزين»، وعلى المستوى النظري فيكثر المدعون «ما كل من ركب الحصان خيال» الذين لا خبرة لهم بشيء «ما كل من صف الأواني قال أنا حلواني». لذلك يوجد الكثيرون في مناصب دون كفاءة، وهو ما نعبر عنه دائمًا بمشكلة الرجل المناسب في المكان المناسب. كما يبدو هذا الانفصام في «العياقة» والتأنق خارج المنزل والتهلهل داخله، وكثيرًا ما يكشف هذا الفصم ساعة المحن والكوارث، ويقال: «نشفت البِركة وبانت زقازيقها».
ويظهر الفصم بين الداخل والخارج في نظرتنا الخلقية، فنجعل الداخل هو الحرام والخارج هو الحلال، أو الداخل هو الشر والخارج هو الخير: فالمشكلة الجنسية مثلًا مشكلة داخلية خاصة لا يجوز الحديث عنها؛ ومن ثم توضع في نطاق التحريم، أما مظاهرها الخارجية من وضع شرطة للآداب العامة وحرص على تغطية الجسد فتدخل في نطاق الحديث الصريح، حتى أصبح الداخل أكثر غواية من الخارج، وكلما زاد التحريم زادت الغواية، وكلما زادت التغطية زادت الرغبة في التعرية.
ويظهر هذا الفصم أيضًا على مستوى الحديث في الجماعة، فهناك حديث للنفس لا أحدث به الآخرين، وحديث للآخرين والأصدقاء ومجتمعي الضيق لا أحدث به الناس على الملأ، وتستمر هذه الحلقات في الاتساع حتى نصل إلى الإعلام، فهناك حديث للداخل وحديث للخارج، كما يحدث في بعض البلاد الأفريقية عندما تمنع الأخبار عن الداخل وهي معروفة في الخارج؛ لذاك تسري الشائعات التي قد تصبح في بعض الأحيان المصدر الوحيد للأخبار، ويصبح الترويج لها أمرًا ميسورًا.
ولكن الحس الشعبي التلقائي يدرك ذلك ويعيه، بل ويشعر بعكسه عندما لا يدل الظاهر على شيء، ويكون الباطن هو الحق «يا ما تحت السواهي دواهي»؛ فهو يود الدخول إلى الباطن «من لقي الوش يدور على البطانة»، وفي السلوك لا يعني الخمول والرضاء والسكينة شيئًا؛ لأن «كل رأس مطاطية تحتها ألف بلية»، ويكون المنهج المغاير هو «اتمسكن لما تتمكن»، ويكون مآل الداخل الذي وضع في نطاق التحريم الظهور والكشف «ماتزغرطوش يا ولاد دجرت الداهية تحت القنطرة». ازدواجية الظاهر والباطن إذن هي الجحيم «زي عذاب الزيت في القنديل، تحته ميه وفوقه نار»، وهي الازدواجية التي عناها الصوفية واتخذوها شعارًا لهم في معارضتهم الظاهر بالباطن، كما يفعل كيركجارد أيضًا، وعندما يتصور أن توحيد هيجل بين الداخل والخارج تعرية للوحي وقضاء على الحياة الدينية.
ثانيًا: الازدواجية في التصور الديني الموروث:
قد يقال إن هذه الازدواجية التي عدَّدنا مظاهرها في الشخصية موجودة في كل فرد، ولا يتفرد بها «المصري» خاصة، وتدل أكثر ما تدل على مستوى معين من التقدم الحضاري. ولكن الذي يهمنا هنا هو أصل هذه الازدواجية في التفكير الديني التقليدي الذي تسوده هذه الثنائية الموروثة: الله والعالم، الدنيا والآخرة، الثواب والعقاب، الخير والشر، الملاك والشيطان، الحلال والحرام … إلخ. وبالرغم مما يقال في تفسير ازدواجية الشخصية وردِّها إلى عوامل جغرافية «النيل» أو اقتصادية «الفقر» أو سياسية «الظلم»، فإننا نقتصر على تحليل مصدر فكري لها، وهو الثنائية التي يقوم عليها تصورنا الديني للعالم.
لقد نزل الوحي معلنًا لأول مرة ارتباط الفكر بالواقع، ونزول كل آية لسبب، بل معطيًا الأولوية للواقع على الفكر؛ أعني وجود سبب النزول أولًا ثم نزول الآية ثانيًا. وفي كثيرٍ من الأحيان كانت الآية تقاس على قدر الواقع، ويتم تعديلها حسب درجة تقدمه ورُقيه، وأعني بذلك النسخ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (١: ١٠٦)، وكان الوحي على هذا النحو موجهًا للواقع لأنه صورة مثالية منه أو اكتمال طبيعي له، فكان الله ساريًا في العالم في عصر الفتوح، وكان العمل في الدنيا هو طريق الآخرة؛ أي إن الفكر كان يؤدي وظيفته في توجيه الواقع والتشريع له، وكان الواقع طيعًا للفكر من خلال العمل. وفي هذه الفترة كانت هناك حقيقة واحدة هي الله أو الأرض، الدنيا أو الآخرة، وهذه الحقيقة هي «مصلحة المسلمين» وكما يقول الفقهاء: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، كانت هناك شخصية واحدة فكرها واقعها، إنشاؤها أخبارها، قولها عملها، وباطنها ظاهرها.
وفي عصر الفتنة، فضل بعض الصحابة الاعتكاف، وآثروا الآخرة على المساهمة في الدنيا ونصرة فريق على فريق، وبدأ الانفصام بين الفكر والواقع، آثر البعض الفكر على الواقع؛ ومن يعمل جهده في الفكر ينعزل عن الواقع — وآثر البعض الواقع على الفكر وعمل جهده في السيطرة عليه، ولو انعزل عن الفكر «معاوية»، فمن حاول الالتزام بالمنهج الأول، وهو توجيه الفكر للواقع قضي عليه «الحسن والحسين» أو انفصل عن الجماعة «الخوارج». وكلما كثر «الفضلاء» زاد «الأشقياء»، وكلما ذكر البعض «العالم» ذكر البعض الآخر «الله»، واستمر هذا الانفصام بين الفكر والواقع يغذيه المتكلمون والصوفية والفلاسفة، وتقويه مدارس الفقه الافتراضي على الرغم من ثورة بعض الفقهاء عليه «المالكيون ضد الحنفيين»، وتأكيد المعتزلة لحرية الفرد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفض ابن رشد لصور التفكير الإشراقي عند سابقيه، ورفضه للموجودات المفارقة، واعتماده على العقل والتجربة، وكانت وحدة الوجود أكبر رد فعل على ثنائية التفكير الديني، وكان منطق الواقع عند الفقهاء ورفضهم منطق القضايا تأكيدًا لواقع المسلمين.
ومما ساعد على تقوية هذه الثنائية ظروف الإنسانية ومصير تفكيرها الديني بتمثله نظريات أفلاطون وأفلوطين، كما هو واضح في المسيحية الأفلاطونية وفي الفلسفة الإشراقية الإسلامية، حتى أصبح كل تصور ديني أفلاطونيًّا، بالضرورة، وأصبح أي تصور ديني آخر يوحد بين الله والعالم أو بين النفس والبدن، ويرفض المفارقة لهذا العالم التي ينسجها الخيال ويغنيها الإيمان بالخرافات؛ أصبح هذا التصور خارجًا عن الدين يدعو له «الملحدون» من أمثال سبينوزا وهيجل وابن رشد وابن عربي، وأصبح موضوع الإيمان هو «المفارقة» مع أن موضوعه في الماضي كان «الحلول» أي ظهور الله في التاريخ كما هو الحال في التوراة، وظهوره في الإنسان كما هو الحال في الإنجيل، وظهوره من خلال الفعل كما هو الحال في القرآن، كما ازدادت هذه الثنائية حدةً وركودًا في عصر الشروح والملخصات وإبان الحكم العثماني، عندما أصبح التصوف إيمانًا بالمعجزات وبخوارق العادات وبكرامات الأولياء، وأصبح الكلام لاهوتًا رسميًّا يدور حول صفات الله، وأصبحت الفلسفة إشراقًا صرفًا وهدمًا للعقل، كما أصبح الفقه مجرد فتاوٍ للتحريم والتحليل باسم السلطان، إلا من محاولة بعض الفقهاء في إعادة الفكر إلى الواقع إبان الحروب الصليبية (ابن تيمية)، ومن حركات بعض المصلحين إبان الاستعمار الأوروبي (الأفغاني، إقبال).
وبالإضافة إلى هذا الأصل التاريخي للثنائية فإنها تتحول إلى بناءٍ نفسي وتصور للعالم، ثم تحل محل الدين نفسه، ويصبح الدين ثنائية الله والعالم، ولا يصبح خروجًا في سبيله بل غاية في ذاته، ولا يعود الدين جهادًا بل تواكلًا، ولا يعود الله حالًّا في العالم أو في النفس، بل ينكمش تصورنا له وينحسر عن العالم، وتتعالى فكرته على الأرض، يضمر تصورنا لله من حيث الاتساع ويقوى من حيث الارتفاع، وينحصر من حيث الرقعة، ويشتد من حيث الطول؛ أي يضيع تصورنا الأفقي له ونحل محله تطورًا رأسيًّا، وفي ذلك يقول إقبال عن التوحيد:
يصبح الله إذن على قمة تصور هرمي للعالم، ومن ناحيةٍ أخرى يبدأ العالم في فقد وجوده الضروري، ويصبح وجودًا ممكنًا زائلًا فانيًا أمام قوة الله القاهرة، ثم تظهر نظرية الخلق في التفكير الديني مجسدةً لهذه الصلة الجديدة، ويبدأ الفعل الإنساني على ما يقول إقبال — في الضمور ويقتصر على العبادات دون المعاملات حتى لا يدخل في صراع الواقع، ويتحول الفعل إلى طقوسٍ وشعائر عند البعض، وإلى عجزٍ مطلق عند البعض الآخر. وبقدر عجز الإنسان عن السلوك يزيد من سلطة الله، وتتحول الحرية الإنسانية إلى قدرية.
ويقال بالمثل في ثنائية الدنيا والآخرة، بعد الانفصام بين الله والعالم، لا تصبح الدنيا دار بقاء بل دار فناء، ولا تصبح الآخرة خلودًا للحق بل تعويضًا عنه؛ إذ يجد المؤمن في الآخرة تعويضًا عما افتقده في دنياه، ويصبح تطلعه لها قائمًا على الحرمان، وكذلك ينتقل الثواب والعقاب من إحساس بالفرح عند التحقيق، أو بالندم عند الفشل إلى بناءٍ نفسي يقوم على الرغبة والرهبة، ويصبح الترغيب أو الترهيب من السلطة الدافع على الفعل، ويفقد الفرد إمكانية الفعل التلقائي. أما الجنة والنار فيتحولان إلى موجودين حسيين، وتتحول «روحانية» الدين إلى «مادية» تنم عن الواقع الضائع … وينقلب الدين من إثباتٍ للروح إلى تأكيدٍ للمادة. وكذلك يصبح الخير والشر موجودين بالفعل، ويفتقد كلاهما الأثر النفسي الذي يحدثانه من استمرار الفعل دون الحكم على لحظةٍ من لحظاته وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (١: ٢١٦)، ثم يتحول الخير والشر إلى صورتين حسيتين في الملاك والشيطان، طبقًا لتحول التفكير الديني من الروح إلى المادة. وأخيرًا يفتقد الإنسان وحدته وينقسم إلى قسمين: نفس وبدن، الأول يعبر عن مطلب الإنسان نحو البقاء، والثاني يفنى مع العالم، وتنتقل هذه الثنائية إلى الأخلاق فتكون الفضيلة والرذيلة، والصدق والكذب، والسعادة واللذة، والعقل والحس، وتصبح الأخلاقية الابتعاد عن الرذيلة والكذب واللذة والحس، والاقتراب من الفضيلة والصدق والسعادة والعقل.
وتبدو هذه الثنائية في مجالات الفكر ممثلة في جميع التيارات المثالية التي تقوم في جوهرها على ثنائية الجوهر والعرض، وكان الكندي هو المعبر عن هذه الثنائية أصدق تعبير في إثباته، لاتناهي الله وتناهي جرم العالم، ووضعه الأسس النظرية لثنائية التفكير؛ أعني: المطلق والنسبي، الأزلي والفاني، الأبدي والزماني، الواحد والكثير. اللامتناهي والمتناهي، الثابت والمتحرك، العقلي والحسي … إلخ. لقد حاول بعض الفلاسفة الاستعاضة عن نظرية الخلق المعبرة عن هذه الثنائية بنظرية الفيض أو الصدور لتماشي فصل الله عن العالم والنفس عن البدن والصورة عن المادة، ولكنهم انتهوا أيضًا إلى تكرار الثنائية القديمة وتجاور الازدواجيات، فأصبح الله صورة والعقل مادة، والعقل صورة والنفس مادة، والنفس صورة والبدن مادة، والهواء صورة والأرض مادة … إلخ. كما أصبح العقل الأول صورة والعقل الثاني مادة له، والعقل الثاني صورة والعقل الثالث مادةً له … إلخ. أي إنها لم تزد على ثنائية الخلق إلا التكرار. وإذا كان رد فعل نظرية الخلق في التفكير السياسي قد ظهر في صورة الحكم الإلهي؛ فقد ظهر صدى نظرية الفيض في التفكير السياسي في التصور الطبقي للعالم، كما هو واضح في تصور الفارابي للمدينة الفاضلة. لذلك تعتبر نظرية قدم العالم ثورة في التفكير الديني، بالرغم مما يبدو عليها من مظاهر التعارض مع التفكير الديني الموروث، فلأول مرة استطاع ابن رشد في شرحه لأرسطو، وكما فهمه شراح ابن رشد اللاتين، أن يقضي على هذه الثنائية بين الله والعالم، بين النفس والبدن في بقاء المادة وخلود النفس الكلية، واختفت العناصر الإشراقية في المعرفة والتصور الروحي للمادة، وقام عصر النهضة في أوروبا متمثلًا فلسفة ابن رشد وشعارها: العقل والتجربة.
وتبدو ثنائية التفكير الديني في تصورنا لله وفي ممارستنا للدين في المظاهر الأربعة الآتية:
(١) القدرية والعجز
على الرغم مما يقدمه لنا اللاهوت السلبي أو كما يطلق عليه علماء الكلام «آيات السلوب» طبقًا لآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، من تحليلٍ لتصوراتنا عن الله من أنها نفي لأوجه النقص الإنسانية، وعلى الرغم مما يقدمه لنا اللاهوت الإيجابي من إثبات صفات الكمال الإنساني إلى الله، فإن كثيرًا من الفلاسفة وعلى رأسهم «كانط»، استطاع لأول مرة صراحةً تحليل حديثنا عن الله على مستوى الطلب لا على مستوى الوجود، كما كان يعمل «توماس الأكويني» أو على مستوى الماهية كما كان يفعل «أنسيلم وديكارت». وقد استطاع محمد عبده أيضًا في «رسالة التوحيد» لأول مرة إقامة التوحيد على أساس مطلب خلقي، معطيًا بذلك التوحيد أساسًا جديدًا «عثمان أمين رائد الفكر المصري». ولكن ذلك لم يمنع من نشأة الإيمان بالقضاء والقدر متولدًا عن عجزٍ في الإرادة وقصور في الفعل، لا كما يقال عادة من نشأة العجز والقصور على الإيمان بالقضاء والقدر «العاجز في التدبير يميل على المقادير»، وقد أشار إلى ذلك «الأفغاني» في رسالته عن القضاء والقدر، وأن الإيمان بهما كان سبب الفتوح الإسلامية الأولى؛ لإيمان المسلمين حينئذٍ بالقدرة والفعل. وقد عبرت الأمثلة الشعبية عن ذلك، فأصبح الله هو الفاعل لكل شيء، مهما فكر الإنسان «ابن آدم في التفكير والرب في التدبير». فالفعل كله لله «خليها في قشتها تجيء بركة الله»، وعلى الإنسان الانتظار «من عمودٍ لعمود يأتي الله بالفرج القريب»، وفي بعض الأحيان يفعل الله بدل الإنسان «من حبه ربه واختاره جاب له رزقه على باب داره»، ويصبح الإنسان متفرجًا محايدًا «تبات نار تصبح رماد، لها رب يدبرها»، وأصبح هلاك الإنسان محتومًا «يا هارب من قضايا ما لك رب سوايا»، ولم يكن القدر مطلقًا في صالح الإنسان فقد كتب عليه أن يكون على حاله طيلة حياته «المتعوس متعوس ولو علقوا على رأسه فانوس». ولن تغني عنه الآخرة شيئًا «المغلوب مغلوب وفي الآخرة يضرب طوب»؛ لأن «المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»؛ ولأن «المكتوب ما منوش مهروب»، ولا يستطيع الحذر أن يفعل شيئًا «لا يغني حذر من قدر»، فإذا نال الإنسان نصيبًا ما فهو الحظ والبخت والمقسوم «بختك يا بو بخيت»، ومهما زاد الإنسان من جهده فلن يحصل إلا على ما قسم له «تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش»؛ لأن «البخت يتبع أصحابه» أو «كل صدفة خير من معاد»، ويفضل البخت على الجهد «قيراط بخت ولا فدان شطارة»، ويأتي المقسوم حتى الباب دون تدبر أو حيطة «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب» أو «ارميه في السطوح وإن كان لك فيه قسمة ما يروح»، ولآخر لحظة قد يظهر البخت في صالح الغير «تبقى في إيدك وتقسم لغيرك»، والنتيجة الحتمية لذلك هي «إسقاط التدبير»، كما قال الصوفية وسقوط الفعل والقضاء على التكاليف كما يقول الفقهاء؛ لأن «كل عقدة ولها حلال» أو «ما لها إلا النبي» أو يفعل الإنسان أي شيء «مطرح ما ترسي دق لها»، والله يكمل الباقي «على ما ينقطع الجريد يفعل الله ما يريد»، فعلى الإنسان الراحة «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، أو الاتكال على الغير «شيلني وشيلك»، ولكن الحس الشعبي يعلم من تلقاء نفسه أن الإيمان بالقضاء والقدر على هذا النحو هو إيمان الضعيف العاجز «سلاح الضعيف الشكية»، ويعلم بضرورة الأخذ بالأسباب «احسب حساب المريسي (ريح الجنوب) وإن جال طياب من الله»، أو على الأقل الأخذ بأتفه الأسباب «تجي على أهون سبب»، وهو يعلم أن عدم الأخذ بالأسباب يوقع في التهلكة «يفتح العين للدبان ويقول دا قضا الرحمن»، كما يعلم أن القعود تواكل واسترزاق ممن يقومون بالجهد «اجري يا مشكاح للي قاعد مرتاح»، ويرى أن الاحتجاج بالقدر استغلال للفرد «يا غراب هات بلحة، قال دا قسمة، قال قسمتي بين إيديك».
ومن هنا تولدت لدينا قدرة خارقة على التحمل والصبر، حتى أصبح الصبر فضيلة «الصبر خير»، فيه دواء لكل مرض «كل شيء دواه الصبر لكن قلة الصبر ما لهاش دوا»، وأصبح الصبر لا العمل وسيلة لنيل المراد «من صبر نال ومن لج مالوش»، حتى أصبح الصبر هو الحل الأول والأخير «ما دوا الصبر إلا القبر»، والصبر من الله «الغيرة مرة والصبر على الله». يجوع الفلاح ويدفع الضرائب للوالي التركي لأنه لا يتحمل الصبر «صبري على نفسي ولا صبر الناس عليَّ». وكذلك تولد فينا طول البال لأن «طولة البال تبلغ الآمال، أو لأن طولة البال ما تخسر شي»، والمظلوم ينتصر في النهاية لطول البال «طولة البال تهد الجبال»، والحياة نفسها تستحيل دون طول البال! «المعيشة تحب طول البال»؛ لذلك عرفنا في كثيرٍ من المواقف بالسلبية، ونتحدث عن سلبية الشعب عامةً والمثقفين خاصةً؛ لأن «الهروب نص الشطارة»، والفعل يؤدي إلى التهلكة! «ما يقع إلا الشاطر»، والإيجابي هو الشاذ، وأصبح الشعار «طاطي لها تفوت»، ومن الأفضل أن يكون الإنسان مظلومًا على أن يكون ظالمًا «بات مغلوب ولا تبات غالب». وعلى هذا النحو يمكن أن يقال على الصبر والتواكل وطول البال إنها «أفيون الشعب»؛ لأنها تجعل من الفقر فضيلة «الفقر حشمة والعز بهدلة»، وتجعل من القناعة رأسمال «القناعة مال وبضاعة»، وتجعل الإفلاس أمانًا «المفلس في أمان الله»، وتجعله قوةً «المفلس يغلب السلطان»، وتجعل الكفاية في العيش سخطًا من الرب! «من كرهه ربه سلط عليه بطنه»، واستحالت المطالبة بشيءٍ؛ لأن «من طلب الزيادة وقع في النقصان»، وأصبح الدفع أفضل من الأخذ «المركب اللي تودي أحسن من اللي تجيب»، وذلك لوضع السكينة والرضا في قلوب المعدمين «قالوا ترمس امبابة أحلى من اللوز قالوا دا جبر خواطر الفقرا». ويؤدي الصبر والسكينة والرضا والتواكل والسلبية إلى الرضا بالحال وإلى الاعتقاد بأن هذا العالم أفضل العوالم الممكنة لأن «ربنا ريح العريان من غسل الصابون»، أو لأن «ربك رب العطا يدي البرد على قد الغطا»، ويظل المعدمون على هذه الحال إلى أبد الآبدين «عمر الفلاح إن فلح» أو «من يومك يا خالة وانتي على دي الحالة»، ويظل الإنسان تعيسًا بأية وسيلة «ربنا ما يقطع بك يا متعوس يروح البرد وييجي الناموس»، والله لا يعدل بين الناس إلا في الموت «ربنا ما سوانا إلا بالموت».
(٢) سوء النية
لا أقصد بسوء النية مقولة خلقية بل بناءً نفسيًّا للشعور، درسه الكثيرون من الفلاسفة المعاصرين، خاصةً سارتر في تحليله لسوء النية وجانكلفيتش في دراسته عن «النفاق»، وهو في رأيه أكبر خطر يهدد الشعور الديني من جراء هذه الثنائية في التصور الديني للعالم التي على أساسها تقوم ازدواجية السلوك، للمنافق واقعان: واقع بينه وبين نفسه يخفيه، وواقع بينه وبين الآخرين يعلن عنه، وهو ما يفعله الشعور الديني عندما يعجز عن التدبير ثم يميل على المقادير. ويتضح هذا الموقف في نظرتنا للجنس وتحريمه ثم اتجاهنا بكل طبيعتنا نحوه. فنهاجم «الميني جيب» والمهاجم يود رؤيته، وكثيرًا ما يتحدث الوعاظ عن المشاكل الجنسية لا زيادةً في الوعي بالمشكلة (لأن حديثهم لا يقوم على نظرةٍ علمية)، بل لاستهواء الموضوع لهم وللمستمعين على السواء. وقد تكون في «نحنحة» الرجل الغريب التي يصدرها حتى تختفي النساء من الطريق إثارة أكثر مما فيها من تعفف، وكثيرًا ما نسترق الحب «حب وواري واكره وداري»، ونختلس النظرات التي تعبر عن الحرمان، فتنزل خصلة من الشعر على الجبين ثم ترفع دائمًا باليد. فإذا انعدم الرقيب أصبح السر موضوعًا للحديث المتواصل في المجتمعات المتجانسة المغلقة (مجتمع الإناث أو مجتمع الذكور)، ويدوم التستر ويقوى الإحساس بالذنب، فتنشأ عبادة المحرمات وأسطورة الجنس، ويصبح مثل «التابو». وفي نفس الوقت تكثر الإشارة إلى الجنس في أجهزة الإعلام وفي الفنون؛ لأنه مطلبٌ نفسي لدى الجمهور يشبع حرمانه؛ وبذلك يروج الفن الرخيص لديه ويتلهف على أخبار الفنانين الشخصية، وعلى شراء مجلات الجنس ويكثر استيرادها؛ وبذلك نعبد ما نحرمه ونخفيه «والظاهر لنا والخفي على الله»، ومن ثم ينشأ رد الفعل من الحرمان ومن التستر إلى الإباحة ومن الحجاب إلى آخر صيحات الموضة.
وكثيرًا ما تصور الأمثلة الشعبية مواقف سوء النية مثل «زي شحات الترك، جعان ويقول مش لازم» أو «بعد ما أكل واتكى قال ده رحته مستكى»، ويعم الشعور الديني في أي دين مثل «زي قراية اليهود تلتينها كدب»، خاصةً وأن اليهودي معروف بالبخل «احتاجوا ليهودي قال اليوم عيدي». وقد يظهر النفاق وسوء النية في صورة مكر ودهاء اشتهرت به بعض الطوائف، كما يظهر في ممارسة رجال الدين للشعائر كما تصور ذلك الأمثلة العامية؛ فقد تتحول الإمامة إلى نفاق «ضلالي وعامل إمام، والله حرام»، وقد يصبح بعض الإفتاء نفاقًا «يفتي على الإبرة ويبلع المدرة»، كما قد يصبح الحج نفاقًا «الوش وش حاجج والطبع ما يتغيرش»، وكما قد تصير الصلاة نفاقًا «يصلي الفرض وينقب الأرض»، كما قد يصبح التسبيح دجلًا «زي القطط يسبح ويسرق»، وقد يقوم النفاق على المصلحة الشخصية، ما دام الواقع العريض الذي يتحقق فيه الوحي قد غاب، فيدافع بعض المتدينين عن الملكية الشخصية في الدين وهو في الحقيقة يدافع عما يمتلك. وقد يدافعون عن التفاوت في الرزق وعن خلق الناس درجات، وهم يدافعون أساسًا عن وضعهم الاجتماعي وتميزهم الطبقي، «والشبعان هو الذي يذكر الله» يقول الرزق على الله، ولا يستخدم الدين إلا للمصلحة الشخصية «زي التركي المرفوت يصلي لما يستخدم»، أو مثل راكب الأوتوبيس المجهد الذي يتظاهر بالإعياء، ويقول: «هوه ما فيش إسلام يا عالم» حتى يترك له أحد الجالسين مكانه، فإذا لم يحصل على مصلحته يقول: «راح اللي زمرنا له لله»، وكثيرًا ما تطغى المصلحة الشخصية على مصلحة الآخرين باسم الدين «هات عمتك وخدها يوم القيامة».
(٣) تجاوز حياتين، الدين والدنيا
وهذا كله لم يمنع من ضمور التفكير الديني وانحساره بين المحافظة على اللاهوت القديم الذي لا واقع له، وتبني التيارات الفكرية الحديثة التي تنتشر فوق الواقع دون أن تتمثله أو تغير فيه شيئًا، وهذا ما يفسر لنا غياب الصحف والمجلات الدينية التي تعلن فكرًا أو تتبنى واقعًا.
ويبدو هذا التجاور بين الدين والدنيا في أجهزة الإعلام، فنجد فقرةً من الرقص الشرقي تتلوها فقرةً من التواشيح الدينية، كما نجد في الصحافة أخبار الدين وأخبار نجوم السينما في نفس الصفحة، وكأن للإنسان حياتين، خاصةً إذا فُسرت النصوص على هذا النحو فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ، إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ كما نجد في الصحافة أيضًا أخبارًا عن شهداء معارك اليوم، وبجوارهم أخبار عن أمسيةٍ غنائية كانت بالأمس، ويوجد هذا التجاور أيضًا في حياتنا الثقافية، فتكون الثقافة في بعض الأحيان تخزينًا لبعض المعلومات، ولا أثر لها في حياة المثقفين. فالجامعية أولى الباحثات عن الموضة، والجامعي أول الباحثين عن المنصب.
وقد عبرت الأمثال العامية عن هذا التجاور بين الدنيا والدين مثلًا «ساعة لقلبك وساعة لربك»، ولكن كثيرًا من الأمثال العامية ترفض هذا التجاور، وتعطي الأولوية للحياة مثلًا «اللي يلزم البيت يحرم ع الجامع» أو «الزيت إن عازه البيت حرام ع الجامع» أو «حصيرة البيت تحرم على الجامع» أو «الحسنة ماتجوزش إلا بعد كفو البيت» أو «كل لقمة في بطن جائع خير من بناية جامع»، وتحرم الزكاة عند الحاجة «يا مزكي حالك يبكي». وقد استطاع الحس الشعبي البديهي أن يكشف هذا الكهنوت في ممارسة الشعائر؛ لأن الحياة أقوى من أي مظهرٍ خارجي. فالصلاة قد تدل على التظاهر بالإيمان «بركة يا جامع اللي جت منك ما جت مني»، وقد لا تنفع التوبة في تغيير الحال «كل ما اقول توبة يقول الشيطان بس النوبة». وقد تكون قراءة النصوص الدينية مجرد ترتيل دون فهم لمعناها، ودون أن يعيها أحد «إحنا بنقرا في سورة عبس» أو «تقرا مزاميرك على مين يا داود». أما رجل الدين نفسه فيسري عليه ما يسري على سائر البشر. وقد لا يكون لروحانيته أثر فيه «هاتوا م المزابل حطوا على المنابر»، ويكون مثالًا للكهنوت الذي كشفه فلاسفة التنوير «ما كل من لف العمامة يزينها». أما الفقير فيكفيه هم الدنيا لذلك لا تكليف عليه «الفقير لا يتهادى ولا يدادى ولا تقوم له في الشرع شهادة». وقد يصل الحس الشعبي إلى حد الاكتفاء بتجربة الحياة «الصلاة خير من النوم قال جربنا ده وجربنا ده»، ولا يعترف إلا بالطبيعة حتى في العبادة «كل شيء عادة حتى العبادة».
(٤) الله والسلطة
بعد ضمور التفكير الديني وتجاور الدنيا والدين تتجه العاطفة الدينية إلى أعلى، فينشأ التصور الأفقي لله الذي يكون على رأس قمة التصور الهرمي للعالم، كما هو الحال عند الفارابي مثلًا، وعلى هذا النحو يصعب التفرقة بين تصور الله وبين تصور السلطة، فنعبد الله بتملق السلطة ونعبد السلطة في شخص الله، ونفعل كل شيء من أعلى إلى أسفل، من الرئيس إلى المرءوس وعلينا السمع والطاعة. لذلك يكثر الرقباء ويحاول كل فرد الوصول إلى مركزٍ من مراكز السلطة، ليمارس السلطة على من دونه، كما نلتجئ دائمًا إلى السلطة لحل النزاع أو لتملقها، وتصبح نقطة وصول لا مصدر قهر «يتملق أحد الركاب المحصل أو يتشاجر معه»، وقد يكون التمسح ببيوت الله مثل التقرب إلى مراكز السلطة.
وفي الأمثال العامية نجد هاتين الصورتين لله وللسلطة: الخوف والتملق، مثل «منتش رب أخاف منك» أو «لا يذكر الله إلا تحت الحمل»، أو على الفرد أن يكون تابعًا للسلطة خاضعًا لها كخضوعه لله، «ارقص للقرد في دولته» ما دام عاجزًا عن الفعل والالتزام بالواقع «يا فرعون مين فرعنك قال مالقيتش حد يردني»، وكل ما يملكه الفرد هو اغتياب السلطة «السلطان مع هيبته يتشتم في غيبته»، أو السير في موكبها «ركب الخليفة وانفض المولد»، وكلما نال منها رزقًا ازداد لها عبودية «من زادك زيده واجعل أولادك عبيده». وقد نشأت معظم هذه الأمثال إبان الحكم العثماني حتى عصر الخديوي، حين شبَّت الثورة العرابية على هذه الأوضاع. ونتيجة لهذا التصور لله وللسلطة ينشأ رد الفعل في تصورنا الطبقي للمجتمع، كما حدث عند الفارابي في مدينته الفاضلة «فالناس مقامات»، وخلق الله الناس درجات لا يستطيع أحد تغيير مقامه الذي حدده الله أو السلطة له «من عرف مقامه ارتاح»، وليس له أن يتضرر أو يشتكي لأن «من شاف بلوة غيره هانت بلوته عليه»، ولا تشيع في مثل هذا المجتمع إلا أخبار ذوي السلطة «غني مات جروا الخبر، فقير مات مافيش خبر»، وكما يجوز التقرب إلى الله يحدث التقرب للسلطة بالوسائط «يا بخت من كان النقيب خاله»، ويصبح التطلع الطبقي هو البناء النفسي للفرد «المنصب روح ولو كان في السكة»، وتنشأ الجماعات والشلل حول ذوي النفوذ «العيان ما حد يعرف طريق بابه، والعفي يا مكتر أحبابه»، ويعم شراء الذمم «يجيب الكويس لأحبابه قال كل شيء بحسابه»، خاصةً وأن «بوس الإيد ضحك على الدقون».
ونتيجة لذلك يصعب أي عمل جماعي؛ لأن الله هو شمس النفوس، كما يقول الإشراقيون يغمر كل فرد؛ ولأن السلطة هي عين الله الساهرة، ويكون الجميع أمام الله وأمام السلطان، لا سلطان لهم «زي ولاد الكتاب يتسرعوا من أول كف»، أو «زي ولاد الحارة زمارة تجمعهم وعصاية تفرقهم». وهذا ما عبر عنه الأفغاني بقوله: «لو كان مسلمو الهند جرادًا وحط على الجزيرة البريطانية لأغرقها». فإذا تعامل الأفراد معًا يأخذ كل فرد مظهر المتسلط، ويلعب الدور الذي سلب منه «يا أرض ما عليكي إلا أنا» أو «يا أرض اشتدي ما عليكي قدي»، ويعوض في لحظاتٍ ما حرم منه آلاف السنين فيبدو «عامل لمونة في بلد قرفانة» أو «عامل عنب والباقي فراطة»، ويتحول الدور إلى غرور فيؤله الفرد نفسه، ثم يأمر ويتسلط ولا يقبل الرد «ماحدش يقول على عسله حامض».
وأخيرًا، قد يقال إن إرجاع ازدواجية الشخصية إلى ثنائية تفكيرنا الديني الموروث شيء لا يدركه إلا المثقفون. فما بال الجمهور الذي لا يدري عن هذه الثنائية الحضارية والتفكير النظري؛ لذلك أكثرنا من الأمثلة العامية لبيان تطابق التراث القديم مع التجربة المعاشة، ونكون بذلك قد قدمنا لونًا جديدًا من البحوث الدينية القائم على تطبيق المنهج الوصفي في دراسة الصلة بين «التراث المكتوب» و«التراث الحي» وتحليلها في الشعور.