الدين والاشتراكية
-
(١)
الأيديولوجية والدين
-
(٢)
جارودي في مصر
***
(١) الأيديولوجية والدين١
مناقشة لكتاب ماكسيم رودنسون عن «الإسلام والرأسمالية».
ولا يدرس الباحث — وهو أوروبي — ظاهرة الدين بروحٍ من التعالي أو التعصب أو الاستعمار، كما هو الحال في كثيرٍ من الأحيان في دراسات المستشرقين خاصةً في القرن الماضي، بل يدرسه كصديقٍ يود مساعدة المسلمين على تفهُّم حاضرهم، وكأنه أحد مثقفيهم، خاصةً وقد عاش بينهم، ودافع عن قضاياهم. فهو إذن نموذج لمفكرٍ أوروبي معاصر، استطاع أن يتحرر من بعض الموانع والعقبات الدينية والأسطورية والتاريخية التي كانت تمنعه من حرية البحث والتفكير (ص٧)، ولنتحدث الآن عن منهج المؤلف الاجتماعي الاقتصادي، وعن موضوعه وهو الصلة بين الأيديولوجية والدين.
أولًا: بعض المفارقات المنهجية العامة
-
(١)
من أهم ما يلاحظه المحقق لأبحاث المستشرقين ربطها بين الإسلام والمسلمين، بين الدين والحضارة، بين العقيدة والتاريخ. فالمستشرق لا يرى الإسلام مجردًا، كما نراه نحن في كثيرٍ من الأحيان بالتجائنا إلى مبادئنا وهروبنا من واقع المسلمين، مجموعة من المبادئ والعقائد والنظم، بل يراه موجودًا بالفعل متحققًا بين المسلمين، ومؤثرًا في حياتهم؛ أي إنه يدرس الإسلام على الطبيعة لا في الكتاب فحسب، وماكسيم رودنسون من هذه الفئة، يزيد عليها أنه عالم اجتماع أولًا وماركسي ثانيًا مما أهله لدراسة الإسلام والمجتمع الإسلامي، وبوجهٍ خاص نظامه الاقتصادي، وبوجهٍ أخص الصلة بين الإسلام كدين والرأسمالية كنظام، وكذلك يعاب على الباحث إلقاء تبعة ما يحدث في التاريخ على عاتق الدين، وكأن الدين مسئول مسئولية مباشرة عن كل ما يحدث في حياة من يعتنقونه: فالإسلام في رأيه مسئول عن قدرية المسلمين وتخلفهم وضعفهم … إلخ.
لذلك تحتاج الظاهرة الدينية إلى منهجٍ مزدوج، يدرسها من حيث وجودها في التاريخ، وتحققها بالفعل في بيئةٍ أو مجتمع أو حضارة. وفي نفس الوقت يدرسها من حيث معياريتها واستقلالها عن التاريخ، خاصةً وأنها تعبيرٌ عن الوحي المعطى من قبل. فإن كان المؤلف قد استطاع أن يدرس الظاهرة الدينية بمنهجٍ اجتماعي، إلا أنه أغفل كليةً دراستها بمنهجٍ معياري، وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى عدم إيمان المستشرقين بالوحي الإسلامي، ويتضح ذلك في تكرار بعض العبارات الدالة مثل «مؤلف القرآن» (ص٣١)، وارتباط تفكير محمد «رسول الله» بتاريخه الشخصي أو بالأيدولوجيات السابقة، أو بالظروف الاجتماعية (ص١٩٧)، أو أن نجاحه يرجع إلى قدرته الفائقة على التكيف، أو أن الدافع الوحيد لفتح البلاد كان الدافع السياسي الاقتصادي … إلخ.
-
(٢)
جمع المؤلف في شخصيته كباحثٍ جوانب عدة؛ فهو عالم الاجتماع واللغة والحضارة والتاريخ؛ أي إنه عالم الإنسان وفي نفس الوقت هو الماركسي الذي يطبق المنهج الاجتماعي الاقتصادي في أبحاثه، معتمدًا على تحليلات ماركس، وهو المستشرق الذي يدرس تاريخ الإسلام وحضارته كعالمٍ ماركسي. ولكن المؤلف لم يستطع أن يبرز هذه الجوانب الثلاثة في وحدةٍ منهجية واحدة، فيتحدث مرةً بأسلوب العالم، ومرة بأيديولوجية الماركسي، ومرةً ثالثة كما يتحدث المستشرق. لذلك جاءت الفصول متفرقة متعددة الأساليب وكأنها مقالات متفرقة جمعها كتاب واحد. فالفصل الثاني مثلًا «تعاليم الإسلام» دراسة عن مبادئ الإسلام كما يعرفها القرآن الكريم والسنة، وعن المثل الأعلى الاجتماعي في الإسلام، يقوم بها مستشرق متخصص، وهذا الفصل يأتي بعد الفصل الأول من تعريف الرأسمالية ويكتبه ماركسي حر، والفصل الرابع دراسة عن الأيديولوجية القرآنية وعن التفكير الإسلامي كما هو الحال في الفصل الثاني، والفصل السادس مخصص لتوجيه الإسلام لاقتصاديات المسلمين وفي نفس الوقت يتحدث عن آخر التطورات في الفكر الماركسي المعاصر، ثم يعود أخيرًا لدراسة الصلة بين الإسلام والاشتراكية، وكيف يكون المجتمع إسلاميًّا واشتراكيًّا في نفس الوقت، هذا التجاوز بين الفصول ذات الموضوعات المتعارضة هو الذي منع من إيجاد وحدة فكرية ومنهجية للكتاب.
-
(٣)
يتعرض المؤلف لبعض قضايا تاريخ الأديان المقارن، فيدرس الإسلام كما يدرس المسيحية واليهودية وديانات الهند والصين واليابان، ويعتمد في ذلك على دراسات علماء تاريخ الأديان مثل مرسا الياد في دراساته عن الطقوس الدينية (ص٢١٢–٢٢٢) ناسيًا نوعية الدين الإسلامي الذي يفرق بين الإسلام كما هو موجود في الكتاب، وتاريخ الإسلام كما هو موجود عند المسلمين في حضارتهم، وهي التفرقة التي يعسر العثور عليها في الديانات الأخرى، فلا فرق بين العهد القديم وتاريخ بني إسرائيل. فالعهد القديم هو تاريخ بني إسرائيل، ولا فرق بين الإنجيل وتاريخ المجتمع المسيحي الأول. فالإنجيل وليد المجتمع المسيحي الأول، تحول الإسلام إذن في تاريخ الديانات المقارن إلى مجموعةٍ من العقائد والطقوس والعبادات تدور حول الألوهية، والإسلام بطبيعته يقوم أساسًا على الاعتراف بالناس وبحياتهم ومصلحتهم أولًا. لذلك كثيرًا ما أسقط المؤلف من حسابه الجوانب الاجتماعية والنظم الاقتصادية في الإسلام بإرجاعها إلى أصولٍ لاهوتية أخلاقية عن قصد، ليبين أن الإسلام — مهما قيل في اتجاهاته العملية — دين أولًا وآخرًا كباقي الأديان، محوره الألوهية. فالزكاة إحسانٌ مع أنها جزء من النظام الاقتصادي في الإسلام، والربا محرمٌ لأسبابٍ خلقية مع أن هذا التحريم جزء أيضًا من النظام الاقتصادي في الإسلام، تصور المؤلف الإسلام في نطاقٍ ضيق حتى يفسح المجال للأيديولوجية التي ينادي بها، والتي يراها الوحيدة القادرة على إعطاء نظام اقتصادي متكامل.
-
(٤)
يعتمد الكتاب على كثيرٍ من المراجع المباشرة وغير المباشرة، حتى ليعد الكتاب مرجعًا لتاريخ الإسلام المعاصر، إلا أن الباحث يعتمد أيضًا على كثيرٍ من المناقشات الشخصية التي دارت بينه وبين الباحثين من زملائه وطلبته العرب وغير العرب، وكذلك بعض الصحفيين مثل جان لاكوتير كما يعترف بذلك في المقدمة (ص١٧)؛ لذلك غلب على الكتاب أسلوب المناقشة وطابع التفكير الشخصي، كما أنه وقع في بعض العموميات المعروفة والقضايا المشهورة عن الإسلام، والتقدم، والربا، والقضاء والقدر … إلخ التي جعلت من الكتاب أشبه بالمقالات الصحفية المكتوبة للجمهور العريض خاصة إذا علمنا أن الكتاب في صورته الأولى كان مقالًا صحفيًّا في عشرين صفحة، ثم أصبح كتابًا في ثلاثمائة صفحة.
ثانيًا: بعض مظاهر التجديد في الفكر الماركسي
-
(١)
ومما يزيد في أهمية الموضوع تعرضه لأحد أحكام ماركس المشهورة على الدين بأنه «أفيون الشعب». وقد انتهى ماركس إلى هذا الحكم بعد دراساته للمجتمعات الأوروبية في العصر الوسيط التي استُغِل فيها الدين بالفعل في عصر الإقطاع لصالح رجال الدين والنبلاء وهذا أشهر من أن يعرَّف به. ودراسة ماكسيم رودنسون إحدى المحاولات الجديدة لإعادة التفكير في قضايا الدين وصلته بالأيديولوجية خاصةً بعد أن تطور الفكر الماركسي في هذه القضية وغير أحكامه فيها، نظرًا للمعطيات التاريخية والاجتماعية الجديدة التي ظهرت بعد ماركس؛ أعني دخول الدين بالفعل مجال الثورة، حتى أصبح من أهم الدوافع عليها، وارتباط الله بالأرض، والدين بالتحرر، كما حدث بالفعل في ثورة الجزائر، وفي الثورات الأفريقية في كينيا وأوغندة، وكما يحدث الآن في فيتنام وانضمام البوذيين إلى جبهة التحرير، ودخولهم كعنصر من عناصر المقاومة للاستعمار الأمريكي وللحكم العميل في الجنوب.
-
(٢)
يريد المؤلف تطبيق روح الماركسية أكثر من تطبيقه للنظريات الماركسية. وروح الماركسية ترتكز أساسًا على الالتزام بالواقع وتفسيره بفروضٍ لا تتعدى حدوده؛ ولهذا يرفض المؤلف تجميع الوقائع الجزئية بلا تفسير، كما يرفض وضع الفروض النظرية الفضفاضة. صحيح أن الاتجاه الماركسي في البحث هو الالتزام بالتفكير الموضوعي، بالاعتماد على البحث الاجتماعي التاريخي (ص١٢). ولكن لا بد أن يتم ذلك بروح البحث الحر بصرف النظر عن المذاهب الماركسية للماركسيين والمتمركسين، وأنصاف الماركسين ومدعي الماركسية في اليسار الأوروبي وفي العالم الثالث، فهناك عشرات المذاهب الماركسية بل ألوف! لقد قال ماركس أشياءً كثيرة يستطيع كل ماركسي أن يفسرها حسب هواه: «ولن يعدم الشيطان نفسه نصًّا في الكتاب المقدس يفسره حسب هواه».
بهذه الروح الحرة لا يتهم المؤلف الماركسيين بالخروج على ماركس، بل يتهم نفسه هو بذلك، فيرفض الماركسية المذهبية الرسمية القائمة Le Marxisme institutionnel كما رفضها سارتر من قبل، وهي التي تفرض على الواقع بعض المعتقدات الثابتة والمفاهيم المغلقة مما يضر الفكر نفسه؛ إذ لا يمكن التضحية بحرية التفكير في سبيل الالتزام بمبدأ أو الارتباط ببيئة، ومن ناحيةٍ أخرى يرفض المؤلف أيضًا الماركسية العملية Le Marxisme pragmatique التي تقصر الماركسية على النشاط الاجتماعي والسياسي دون أي أساس نظري. هناك إذن خطآن يقع فيهما الماركسيون: القطعية أو المذهبية التي يقوم بها الموظف الأيديولوجي من ناحية، والعملية البرجماتية المحضة التي لا تبغي إلا المصلحة المباشرة (ص١٢-١٣)، الخطأ الأول سيطرة النظر على العمل والخطأ الثاني سيطرة العمل على النظر، وهذا يذكرنا بما رفضه كانط من قبل: قطعية فولف من ناحية التي ترفض الحس والعالم الواقع، ولا تعتمد إلا على تركيب المفاهيم والتصورات، وشك هيوم من ناحيةٍ أخرى الذي لا يعترف إلا بالحس، وينكر كل نظر سابق على التجربة، وهذان الخطآن هما الواقعان الحقيقيان لكل حركة تجديد ترمي أساسًا إلى تحديد الصلة بين العام والخاص، بين المطلق والنسبي بين الكلي والجزئي، بين الأبدي والزماني … إلخ، وهي مشكلةٌ فلسفية إنسانية عامة تظهر في المنطق وفي الدين وفي السياسة، بل إن بعض التغيرات التي طرأت على المعسكر الاشتراكي في العقود الأخيرة لتخضع لهذا القانون: كيف يمكن الانتساب إلى الماركسية، وهي الأيديولوجية الشاملة. وفي نفس الوقت المحافظة على الشخصية القومية للشعوب؟ كيف يمكن اعتناق الأيديولوجية العامة التي تحدد أنماط التفكير. وفي نفس الوقت الاحتفاظ بروح البحث الحر المستقل؟ وبتعبيرٍ آخر، تكمن المشكلة في الصلة بين الاشتراكية التي تعبر عن العام والديمقراطية التي تعبر عن الخاص. -
(٣)
ولا ينتسب المؤلف إلى الماركسية الفلسفية الذائعة الصيت في فرنسا، التي ساهم فيها سارتر وجارودي ولوففر وشاتليه وغيرهم؛ لأنه لا يمكن استنباط الوقائع الخاصة بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي من النظريات الفلسفية، ماركسية كانت أو غير ماركسية، إلا أن الماركسية لا وجود لها، بل توجد أفكار ماركسية بعضها فلسفي والآخر اجتماعي أو أيديولوجي … إلخ (–٥)، والماركسية التي يتبعها المؤلف هي نظريات ماركس في الاقتصاد والسياسة التي تتركز على العلم، كما يعتمد على الأيديولوجية الماركسية وهي مجموعة القيم التي عرضها ماركس، أو كما يقول كارل مانهايم K. Mannheim الأيديولوجية الليبرالية الإنسانية في القرن الثامن عشر التي تستمد أصولها من التراث الخلقي الفلسفي والتراث الديني؛ أي إنها الأيديولوجية التي تعطي أولوية مطلقة للقيم الوطنية والاجتماعية، بما فيها القيم الدينية.
-
(٤)
ويرفض رودنسون كل صور الرومانتيكية الجديدة في التفكير الماركسي، التي تعلي من شأن الإنسان ودوره في التاريخ، أو التي تعطي الأولوية للأفكار على حساب الظروف وتطور المجتمعات، ويسمي هذه الرومانتيكية اللاأدرية Agnosticisme التي تغفل أسس الماركسية نفسها وتغرق فيما يغري كل إنسان من أدوار البطولة في التاريخ، خاصةً بعد أن أصبح غيفارا وماوتسي تونغ ودوبريه وكاسترو وهوشي منه نماذج الشباب. إن الماركسية تبني الدور المحدود لعظماء الرجال من توجيه حركات الشعوب (ص٢٠٤). ولقد أراد سارتر أخيرًا من نقد العقل الجدلي أن يبين أهمية التحليل النفسي للفرد مع التحليل الاجتماعي للتاريخ. إن الإنسان في التفكير الماركسي ليس هو الفرد، بل يتضمن عددًا من المقاطع النفسية والاجتماعية والتاريخية؛ أي إنه حزمة من الخطوط المتقابلة. إن فاعلية الأفكار في تعبئة الجماهير لا يمكن إنكارها بل يمكن تقسيم الأفكار إلى أفكارٍ تعبئ الجماهير وأخرى لا تعبئ الجماهير، ويرى المؤلف أن الأفكار الدينية من هذه النوع الأخير لا تعبئ الجماهير، والتي تعبر عن مواقف اجتماعية متشابهة في صورة أسطورة أو طقس.
-
(٥)
يناقش المؤلف إحدى نظريات الفيلسوف الماركسي المعاصر جارودي التي تربط بين التفكير اللاهوتي والتنظيم الطبقي في كل دين. فمراتب الملائكة أو التدرج السماوي Hiérarchie céleste كما يقول دينيز Denis L’Areopagit الأريوباجي مفكر العصر الوسيط، هي نفسها التركيب الطبقي للعصور الوسطى، فكلاهما له نفس البناء، وهو التركيب الطبقي، سواء في الفكر كما هو واضح في اللاهوت أو في الواقع كما هو واضح في المجتمع الطبقي (عامة، كهنة، أمراء). وقد ظهر ذلك أيضًا في نظرية الفيض عند الفارابي، وفي ترتيب العقول العشرة التي تدبر الأفلاك العشرة، ثم في ترتيب النفوس (عاقلة، حيوانية، نباتية)، أو في ترتيب العناصر الأربعة (هواء، نار، ماء، تراب)، وتطابقها مع نظريته السياسية في ترتيب طبقات المجتمع من الحاكم حتى الدهماء مارًّا بطبقات الأمراء والجنود والعمال والفلاحين، ويقول الفارابي نفسه: سواء قلت الله أو الحاكم أو الملك أو الفيلسوف أو القائد فإني أقول نفس الشيء، ولكن أيهما أسبق على الآخر، الترتيب اللاهوتي أم التركيب الطبقي؟ أيهما العلة وأيهما المعلول؟ مهما تكن الإجابة على هذا السؤال يكفينا أن نعلم أنه لا يوجد لاهوت في ذاته Théologie en soi، بل يوجد لاهوت للمجتمع Théologie pour la societé.
-
(٦)
ويناقش المؤلف أيضًا محاولة الفيلسوف الشاب المأسوف على حياته لوسيان سيباج L. Sebag لتجديد التفكير الماركسي بآخر صيحات النظريات في العلوم الإنسانية، وهي البنائية، وذلك في كتابه الماركسية والبنائية Marxisme et structuralisme؛ فقد أراد سيباج أن يجعل أنماط الإنتاج التي حللها ماركس بدراساته الاقتصادية والسياسية أبنية ذهنية خالصة صادرة من الشعور (ص٢٠٠). ويرى رودنسون أن سيباج قد أثبت البنائية على حساب الماركسية، وأنه وقع في البنائية الشاملة وجعل النظم الاقتصادية معاني لا محاولات موجودة بالفعل، رفض رودنسون هذا الاتجاه الذي يريد استنباط جميع النظم الاجتماعية من أبنيةٍ عامة في الذهن البشري، حتى لا تصبح الماركسية فينومينولوجيا وتعود الفينومينولوجيا إلى كانط في تحليله لمقولات الذهن، لا توجد أبنية للإنسان المنتج أو للإنسان الآكل أو للإنسان المفكر. هناك مجموعة من الأنشطة تتحقق على مستوى الفعل. إن الإنسان المنتج هو الإنسان المفكر لا العكس. وهكذا يظل رودنسون ماركسيًّا وسيباج بنائيًّا.
-
(٧)
تعتبر دراسة ماكسيم رودنسون محاولة تالية لمحاولةٍ أخرى سبقتها قام بها ماكس فيبر Max Weber رائد هذا النوع من الدراسات في الصلة بين الأيديولوجية والدين، ويشير رودنسون إليها كثيرًا بل يعتبر محاولته الخاصة مكملة لمحاولة فيبر. لقد درس فيبر الصلة بين البروتستانتية والرأسمالية (كما فعل رودنسون مع الإسلام والرأسمالية) في دراسته المشهورة «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية L’Ethique protestante et L’esprit du capitalisme»، وانتهى منها إلى أن الأخلاق البروتستانتية من دعوةٍ للفكر الحر والفردية والصلة المباشرة بين الإنسان والعالم، هي السبب في نشأة الرأسمالية الغربية بالإضافة إلى ما يمتاز به الغرب من قدرةٍ على التنظير العقلي الذي تعتمد عليه الرأسمالية في الإنتاج والتسويق (ص٢١٧)، أما رودنسون فإنه يقف على الطرف المقابل ويرى أن الطبقية في الأديان ترجع أساسًا إلى عوامل اجتماعية تحكم التركيب الطبقي للمجتمع (ص٢٢٦). فإذا كان صحيحًا نشأة الرأسمالية في البلاد البروتستانتية قبل نشأتها في البلاد الكاثوليكية — كما يقول ماكس فيبر — فصحيحٌ أيضًا — وهذا ما يؤكده رودنسون — أن الرأسمالية لا تنشأ من قراءة الأناجيل ومؤلفات لوثر وكالفن، وينتهي رودنسون إلى أن الدين لا يؤثر في كثيرٍ أو في قليل في الأوضاع الاقتصادية.
ثالثًا: وضع المشكلة: هل هناك صلة بين الإسلام والقطاع الرأسمالي؟
يخصص المؤلف الفصل الأول (ص١٩–٢٨) لوضع المشكلة، ويتساءل ما هو وضع العالم الإسلامي في التصنيف العام لنظريات الإنتاج وتوزيع الثروات؟ هل يساعد العالم الإسلامي كنموذجٍ اقتصادي في فهم تطور هذه النظرية وتولد بعضها عن البعض الآخر؟ ما هي العوامل التي ساعدت على هذا التطور؟ ما هي الصلة بين العوامل الاقتصادية والعوامل الحضارية العامة، وخاصةً عوامل الأيديولوجية، وبوجهٍ أخص عامل الدين؟ (ص٨)، المشكلة إذن هي ما عبر عنها الكتاب «الإسلام والرأسمالية» أي الصلة بين الإسلام كدينٍ والرأسمالية كنظام.
هناك رأيان؛ الأول: أن الإسلام لا يرفض النظم الاقتصادية التقدمية بدعوته للعدالة الاجتماعية، وهذا هو رأي المصلحين، والثاني أن الإسلام لا يمنع إقامة نظام رأسمالي، وهذا رأي بعض المفسرين البرجوازيين وبعض الاقتصاديين الغربيين، وكلا الرأيين خطابي لا يعتمد على دراسةٍ علمية أو تحليل موضوعي للمشكلة. فالرأي الأول دعوة إصلاحية والرأي الثاني تأكيد للمصلحة الشخصية أو لمصلحة الاستعمار.
وفي الفصل الثاني (ص٢٩–٤٤) يعرض المؤلف لمبادئ الإسلام ليرى إذا كانت هذه المبادئ تحبذ قيام الرأسمالية أم تعوقها، أم هي محايدة في تنظيم النشاط الاقتصادي.
يرى المؤلف أولًا أن القرآن لا يعارض الملكية بل يعرف الاستخلاف: وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (٥٧: ٧)، والاستخلاف لا يكون على المال فقط بل على الأرض كلها. فالمال وديعة لدى الإنسان وأمانة عنده استخلفه الله عليه. فإن لم يحفظ الوديعة أعطيت لغيره واستخلف الله سواه وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ (٧: ٢٩) أو: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ (٦: ١٣٣). وقد ذكر لفظ الملكية في القرآن حوالي مائة وعشرين مرة، ولم يرد مطلقًا بمعنى الملكية الخاصة بل بمعنى الملكية المعنوية، فهناك ملك اليمين (حوالي ١٥ مرة) مثل: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (٤: ٣) بمعنى رعاية الإنسان والمحافظة عليه. وهناك ملك المفتاح أَوْ مَا مَلَكْتُم مَفَاتِحَهُ (٢٤: ٦١) بمعنى الائتمان. وهناك ملك النفس (٣ مرات) بمعنى القدرة على النفس لا ملكية الشيء (حوالي ٢٧ مرة) مثل: قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ (٧: ١٨٨). وهناك ملك خزائن رحمة الله قُل لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ (١٧: ١٠٠) وهو ملك معنوي في صيغة التهكم. وهناك ملك النبوة، وهو الملك الذي وهبه الله للأنبياء (حوالي ٨ مرات) مثل وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (٢: ٢٥١). وهناك ملك السموات والأرض (حوالي ٤٠ مرة!) وهو ملك الله مثل: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (٢: ١٠٧)، والله هو المالك وحده: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ (٣: ٢٦) وكثيرًا ما ورد لفظ الملك في صيغة التهكم مثل إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ (٢٧: ٣٣) أو في صيغة الرفض مثل قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ (٢: ٢٤٧). وبهذا المعنى يجب فهم السنة والتاريخ. وهناك من الوقائع في عصر الصحابة ما يؤيد هذا الفهم لنصوص الكتاب؛ فقد ألغى عمر الملكية عام الفتوح ومنعها المقاتلين حتى لا يستكينوا للأرض ويتركوا الفتح. وقد أفاضت كتب الشريعة في حق المحاكم في سلب الملكية المستغلة وفي شيوعية المرافق العامة كالماء والكلأ والناس. فليس صحيحًا إذن كما يقول المؤلف أن القرآن لم يتحدث عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج (٣١–٣٣)؛ لأن الشريعة تقرر الملكية العامة لوسائل الإنتاج. وإن أردنا الاحتكام إلى اللغة لوجدنا أن لفظ الملك ليس اسمًا بل اسم موصول «ما» وحرف الجر «ﻟ»؛ وبالتالي فهو لا يشير إلى شيءٍ بل يدل على علاقة، وبلغةٍ فلسفية معاصرة نقول إن الإنسان في نطاق الوجود لا في نطاق الملكية.
- (١)
أن الوصية ليست بالشيء فقط بل بالدين وبالتضحية وبالفعل وبالعواطف.
- (٢)
يمكن توريث آخرين غير الأقرباء ويمكن كتابة الوصية للمصلحة العامة.
- (٣)
وفاء الدين بالوصية والإنسان مدين دائمًا.
- (٤)
نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة يدل على أن الغاية من المال الاستثمار.
واعتراف القرآن بالأجر وبقيمته لا يدل — كما يحاول المؤلف أن يقرب للأذهان — على أية صورة من صور الرأسمالية (ص٣١)، بل يدل على قيمة العمل وأن العمل هو المصدر الوحيد للكسب، كما توحي كل الأحاديث التي تنص على إعطاء العامل أجره قبل أن يجف عرقه، على أن الجهد هو المصدر الوحيد للكسب، وأن المال لا يولد من تلقاء نفسه كما هو الحال في النظام الرأسمالي أو في الربا. فالأجر لا يدل بالضرورة على النظام الرأسمالي بل يفيد ضده، واستشهاد المؤلف بآية موسى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (٢٨: ٦) فقد وردت الآية في قصص الأنبياء تحكي أحوال بني إسرائيل، كما أن موسى لم يكن أجيرًا فقط بل أصبح زوجًا، كما أن العمل الذي قام به عمل مرغوبٌ فيه، حتى إن موسى قد تطوع بزيادة ساعات العمل فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ، وهو عملٌ شاق: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وليس هذا هو الحال في وضع العامل في النظام الرأسمالي، وفي حكاية موسى والخضر عليه السلام كان اتخاذ الأجر ظاهرًا وليس حقيقة: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (١٨: ٧٧)، والرسول نفسه لا يأخذ أجرًا على رسالته: اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا (٣٦: ٢١)، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا (٥٢: ٤٠)، وليس معنى هذا أن علاقة الرسول بالناس علاقة تاجر، واستعمال الإسلام لغة البيع والشراء لتحديد الصلة بين الإنسان والله، لا يدل على تحبيذ القرآن للتجارة، ولا يعني أيضًا إنكار القرآن للتلاعب بالموازين ورفضه للغش على تصوره للعلاقات بين الناس على أنها تجارة، بل يستعمل القرآن لغة المجاز والتشبيه ويدعو إلى الصدق في التعامل.
ويرى المؤلف أن القرآن لا ينقد التفاوت في الرزق، ويكتفي بلوم الأغنياء ويقلل من شأن الغني يوم القيامة، وهذه كلها أحكامٌ سريعة على القرآن (ص٣١). ويستشهد بآياتٍ لا تفيد ما يقصد إليه. فمثلًا نجد أن آية وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض (٤: ٣٢)، لا تفيد التفضيل في المال خاصةً وأن هناك آية إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (٤٩: ١٣)، وقد نزلت الآية الأولى عندما طلبت نساء رسول الله أن تغزو كما يغزو الرجال؛ أي إن التفضيل في الجهاد لا في المال (الواحدي: أسباب النزول، ٥)، وإنكار القرآن على الأغنياء غناهم وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا (٣٤: ٣٥) ليس مبدأ خلقيًّا فحسب كما هو الحال في جميع الأديان، بل جزءٌ من نظامٍ اقتصادي عام يمنع الاحتكار واستغلال الثروات: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٥٩: ٧).
والزكاة ليس عملًا أخلاقيًّا فحسب كما يدعي المؤلف (كل عمل مرتبط بالنية في الإسلام)، بل هو إشعارٌ بضرورة استثمار المال المختزن وبحق الآخرين فيه. وتحريم الربا ليس عملًا أخلاقيًّا فحسب، وليس مجرد منع للفائدة، بل يقوم على أساسٍ اقتصادي وهو أن المال لا يولد المال، بل العمل يولد المال. فالمال وظيفة لا صاحب له. ويمكن لبيت المال العام أن يستثمر لصالح المسلمين بالقرض، وتعطى الفائدة للدولة لا للأشخاص، ويرى حميد الله أن منع الربا هو نوعٌ من التأمين لرءوس الأموال. وتحريم الربا مثل تحريم الميسر وجميع أنواع الشراء المحرمة مثل بيع التمر على الشجر أو الرضيع في بطن أمه.
ويتناول المؤلف نفس المشكلة في التفكير الإسلامي المعاصر، ويؤيد أبا الأعلى المودودي في تأييده للملكية الخاصة ضد الفكر الإسلامي المجدد ناصر أحمد شيخ في إبرازه منع الإسلام للملكية الفردية للأرض، وكأن للمؤلف مصلحة خاصة في تفسير الإسلام تفسيرًا رأسماليًّا ليستعيض عنه بعد ذلك بالأيديولوجية الماركسية، ويؤرخ المؤلف للشيوعية ابتداءً من كواد الأول (٤٤٨–٥٣١م)، وعند خسرو انوشروان (٥٣١–٥٧٩م) في فارس، وإن كانت هناك بعض بوادر الاشتراكية في الإسلام، فهي ترجع إلى مزدك أو إلى الاتجاهات الشيوعية الفارسية السابقة على الإسلام! كما يجعل المؤلف شخصية أبا ذر الغفاري خرافية لم توجد بالفعل! وإذا كان القرامطة قد فرضوا ضرائب على الأغنياء وأرادو إقامة دولةً لمصلحة الجميع، فإن الإسماعيلية ظلت تنادي بالملكية الفردية! وينتهي المؤلف من هذا الفصل إلى أن تعاليم الإسلام ليس فيها ما يعرض النظام الرأسمالي وهي نتيجة مرفوضة علميًّا.
وفي الفصل الثالث (ص٤٥–٨٩) يتحدث المؤلف عن النظم الاقتصادية في العالم الإسلامي في العصر الوسيط، ويتساءل: هل عرف الإسلام وسيلة الإنتاج الرأسمالي أو القطاع الرأسمالي بعد وجود التكوين الاجتماعي الاقتصادي الرأسمالي؟ لقد كانت التجارة هي القطاع الرأسمالي وكان المجتمع المكي في نشأة الإسلام مجتمعًا تجاريًّا، وكان أغنياء قريش يستثمرون أموالهم في التجارة ويعطون القروض بالفائدة بطريقةٍ عقلية مدروسة، وكانوا يقصدون بالبيع والشراء إلى زيادة الأموال فحسب (ص٤٥). وقد استفاد من ذلك من يقومون بنقل التوابل من جنوب شبه الجزيرة إلى شمالها، ولكن كيف انتقل رأس المال التجاري إلى الإنتاج، بعد عصر الفتوح ازدهرت التجارة وانتشر القرض بالفائدة في عصر بني أمية، وبعد قيام الدولة العباسية انتظمت التجارة وخضعت لنظامٍ دقيق للمحاسبة، وكانت هناك تجارة الرقيق والحبوب والحيوانات والأقمشة، وعرف العرب قوانين العرض والطلب وكانوا يمارسون تجارتهم تطبيقًا لها كما يصرح ابن خلدون بذلك، ولم يكن العرب أمناء وكانوا يمارسون الخداع والمغالاة، وبعد ذلك انقسم التجار إلى ثلاث فئات: (١) «الخزان»، أو تاجر الجملة بلغتنا الحالية الذي يشتري بسعرٍ منخفض ويبيع بسعرٍ مرتفع. (٢) «الركاض»، وهو البائع الذي يرحل من مكانٍ إلى آخر وله موكلون في كل مكان يبيع لهم. (٣) «المجهز»، الذي يطلب من الوكيل البضاعة. وكانت الفائدة تحسب على أساسٍ نقدي، وكان الغنى يقاس بمقدار ما يكدسه التاجر من ذهبٍ أو فضة أو أحجار كريمة. وفي بعض الأحيان استثمر الأغنياء أموالهم في الأرض معلنًا بداية قطاع رأسمالي آخر. ويرجع جزءٌ كبير من نشاط الأسواق إلى التبادل التجاري للسلع التي من نفس القيمة، خاصةً وقد منع الإسلام — هكذا يظن المؤلف — أي تدخل في نشاط السوق الحر بالاحتكار، أو بالتأثير على قوانين العرض والطلب.
وبالإضافة إلى رأس المال التجاري كان هناك رأس المال النقدي (ص٥٢–٦٥) القائم على القرض بالفائدة، وكان معروفًا في المجتمع المكي. وبعد منع الإسلام للربا ظل العرب يمارسونه بالحيل المعروفة في كتب الفقه، ولكن ظل العرب ضعفاء في التجارة وكان ينقصهم «التكنولوجيا التجارية» من بنوكٍ وعملاء وتصريف … إلخ، وكانت تجارتهم ثابتة، بمعنى أن البائع لا يتحرك بل يقف أمام سلعته يأتي إليه المشترون …
ينتهي المؤلف إذن إلى هذه النتيجة وهي أن الإسلام لم يؤثر في النشاط الاقتصادي للمسلمين في العصر الوسيط خاصة في النشاط التجاري، وهو ما يتميز به المسلمون، حتى أن دعاة الإسلام الأول كانوا تجارًا وكانت التجارة أهم نشاط يميز البلاد المفتوحة. فقد مارس المسلمون الربا الصريح أو المقنَّع وهو ما يعتمد عليه رأس المال النقدي، وقد تعامل المسلمون بهذا النظام مع التجار اليهود في موانئ البحر الأبيض خاصة في البندقية ومع جميع الجمهوريات الإيطالية الحرة في القرن الثالث عشر الميلادي. والحقيقة أن عدم تأثير الإسلام في الحياة الاقتصادية للمسلمين سواء في العصر الوسيط أو في العصر الحديث، وممارستهم للقرض بالفائدة والتحايل على الربا لا يدل على أن الإسلام ليس نظامًا اقتصاديًّا كافيًا لتوجيه الحياة الاقتصادية، بل يدل على أن الواقع الاقتصادي يفرض نفسه لأنه أقوى من أي تنظير لا يلائمه.
وفي الفصل الرابع (ص٩١–١٢٨) يحاول المؤلف أن يتلمس الأسباب التي من أجلها لم تؤثر الأيديولوجية الإسلامية في النظم الاقتصادية عند المسلمين. وحاول أن يطبق الأسباب التي اقترحها ماكس فيبر على العالم الإسلامي. يرى المؤلف أن هناك تفاوتًا بين تطور الأيديولوجية الإسلامية وتطور التنظيم الاقتصادي. فبينما أخذ التنظيم الاقتصادي النمط الغربي نموذجًا له، لم تتطور الأيديولوجية الإسلامية بالقدر الكافي. قد يرجع هذا التفاوت إلى إهمال المسلمين وقدريتهم في مقابل نشاط الأوروبيين وأخذهم زمام المبادرة، والحقيقة أن المسلمين لم يأخذوا وحدهم النمط الأوروبي نموذجًا لهم بل أخذته شعوب أخرى كثيرة، وليس الإسلام مسئولًا عن إهمال المسلمين أو قدريتهم، إن نظرية فيبر عن قدرة الأوروبيين على التنظير تشابه النظريات العنصرية، وكان بعدهم عن السحر ورفضهم للأيديولوجيات المحافظة أثرًا من آثار عصر النهضة وعصر التنوير ونشأة العلم، وهي حركات تمر بها كل الشعوب. فإذا كان فيبر قد جعل الأخلاق البروتستانتية مسئولة عن قيام النظام الرأسمالي الغربي؛ فقد حاول رودنسون تطبيق هذه النظرية وقدم في هذا الفصل دراسة عن الأيديولوجية القرآنية وعن الأيديولوجية الإسلامية.
تتميز الأيديولوجية القرآنية بالتعقل والتنظير وطلب البرهان، بل يستطيع العقل إثبات وجود الله وصفاته. ولقد ذكر الله فعل «عقل» أكثر من خمسين مرة، وذكر «أفلا يعقلون» أكثر من ثلاث عشرة مرة، تنطبق على القرآن إذن نظرية ماكس فيبر في ضرورة العقلانية لنشأة النظام الرأسمالي، والحقيقة أن دعوة القرآن للتعقل هي دعوة لحرية الإنسان في الفهم ورفض الوقوع في الأوهام والأسرار، وفي كل ما يعرض العقل الصريح دون أن يكون فيه دعوة للعقلانية وللحرية، وهي دعامة النظام الرأسمالي كما يتصوره فيبر. ويرى المؤلف أن هذه الدعوة العقلية مرتبطة بالبيئة العربية نفسها، وعلاقة العرب بالأرض وبالتجارة ورفضهم للأساطير والطقوس الدينية. صحيح أن العرب كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة ولكنها آلهة أقل من مستوى البشر. لذلك جاء التوحيد الإسلامي عقليًّا واضحًا، وجاء الإسلام قائمًا على العقل والتجربة معًا.
ويرى ماكس فيبر أيضًا أن الإيمان بالقضاء والقدر يمنع من نشأة الرأسمالية، وقد اتهم المسلمون بالقضاء والقدر، والحقيقة أن الإسلام أنكر هذه العقيدة عند العرب قبل الإسلام، ومنع الرسول من الخوض فيها لتركيز الجهد على العمل، والصوفية هم المسئولون عن أشباه هذه الدعوة من زهدٍ وتوكل ورضى (ص١٠٦–١٠٩). ويرى فيبر أيضًا أن السحر هو العدو الثاني للرأسمالية، والقرآن في رأي المؤلف يعترف بالسحر (ص١٠٩–١١٣)؛ فقد أكلت عصا موسى ثعابين السحرة. ولكن الحقيقة أن دعوة الإسلام إلى العقل وإلى الفهم، تمنع من الالتجاء إلى جميع أنواع السحر من كهانة وعرافة ونفث في العقد … إلخ.
والواقع أن كلتا النظرتين خاطئة. لم يكن الإسلام لقدريته وإيمانه بالسحر حائلًا دون ظهور الرأسمالية كما يظن ماكس فيبر. فالإسلام ليس قدريًّا، ولا يؤمن بالسحر، والرأسمالية موجودة في العالم الإسلامي في تطوره الطبيعي من الرأسمالية التجارية، إلى الرأسمالية النقدية، إلى الرأسمالية الزراعية، إلى الرأسمالية الصناعية. وغير صحيح أيضًا أن الإسلام لم يمنع من ظهور الرأسمالية في أشكالها الأولى كما يظن رودنسون: فالإسلام لا يعرف الرأسمالية كنظرية، كما أن القطاع الرأسمالي عند المسلمين يرجع إلى تطورٍ طبيعي من الإقطاع.
- (١)
هل نشأ القطاع الرأسمالي من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه؟
- (٢)
هل ساعد الإسلام على انتشار الرأسمالية أم كان عائقًا لها وإلى أي حد؟
- (٣)
هل للرأسمالية المعاصرة نوعية خاصة وهل الإسلام سبب هذه النوعية؟
ويجيب المؤلف على السؤال الأول — نشأة القطاع الرأسمالي من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه — بعد دراسة التاريخ الاقتصادي المعاصر للبلاد الإسلامية مثل مصر وتركيا وإيران وسوريا ولبنان والعراق، وينتهي إلى أن الرأسمالية قد نشأت من الخارج بعد تبني النمط الأوروبي للإنتاج. وهذا واضحٌ في مصر في عصر محمد علي وبناء رأسمالية الدولة والاحتكار الزراعي والصناعي والتجاري، وبداية الرأسمال الأجنبي في الغزو وعدم استطاعة الرأسمالية الخاصة الوقوف أمام المنافسات الأجنبية، ثم بدأ القطاع الرأسمالي الوطني بعد ذلك بتأسيس طلعت حرب لبنك مصر لتمويل المشروعات الوطنية، ولم تكن الصناعات قد بدأت بعد إلا الحرفية. خلاصة القول: إن النموذج الاقتصادي للعالم الإسلامي المعاصر كان المشروع الرأسمالي الخاص، ثم أخذ هذا النموذج في التطور تبعًا لأبنية الاقتصاد الغربي، وكانت الدولة تقوم بتسهيل الاستثمارات وكانت الرأسمالية الصناعية تقليدًا مباشرًا لنظم الغرب. أما الرأسمالية الزراعية فقد نشأت من داخل المجتمع الإسلامي نفسه خاصةً في مصر، وكانت رأسمالية البنوك الزراعية أي إن رأس المال الحقيقي كان هو الأرض، ولا يمكن اعتبار الصناعات التحويلية ضمن القطاع الرأسمالي؛ لأنها كانت متناثرة محدودة. وقد نشأ القطاع الرأسمالي بعد ذلك بعد التوسع في المدن، وزيادة الدخل العقاري، ونمو الملكية العقارية الخاصة (ص١٤٦)، ولم يكن في استطاعة البلاد الإسلامية الحصول على نموذج أوروبي أمريكي قبل الغزو الاستعماري.
ويجيب المؤلف على السؤال الثالث — نوعية الرأسمالية المعاصرة وهل الإسلام سبب هذه التوعية — بأن الرأسمالية في العالم الإسلامي تتميز بأنها قليلة النشاط، وساعد على ذلك عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط، وهجرة بعض العناصر النشطة إلى دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية. كذلك يتميز اقتصاد المنطقة بالرغبة في الكسب المباشر السريع دون مجهود كبير، أو على الأقل بمجهودٍ فردي وبعقلية الوسيط دون الاعتماد على الرأسمالية المباشرة، ومع نقصٍ في الخبرة وميل أصحاب الأعمال إلى الحياة المترفة: يخشون المغامرة وينقصهم التنظير والتخطيط، يتجهون نحو الشيء ونحو الكم، وتشترك معظم الشعوب التي لا تدين بالإسلام في نفس هذه الخصائص. إن كانت على نفس المستوى من التطور، وكانت علاقة أصحاب الأعمال بالعمل تقوم على الاستغلال دون مشاركتهم في الأرباح، ولم تتدخل السلطات الإسلامية في ذلك، واعتمد أصحاب الأعمال على تشغيل الأطفال دون تحديد لساعات العمل (ص١٧٧–١٧٨). لم يؤثر الإسلام إذن في سير القطاع الرأسمالي في العالم الإسلامي، بل استُغِل الدين من البورجوازية في إعطاء القطاع الرأسمالي صفة الشرعية (ص١٨١).
ويرفض المؤلف جميع المحاولات التي قام بها بعض المفكرين المعاصرين لبيان الجوانب الاشتراكية في الإسلام مثل تحديد الملكية، والدعوة إلى التضامن الاجتماعي (ص١٨٢–١٩٠). فالملكية حسب التعريف المشهور هو حق الاستغلال والانتفاع والتصرف في الشيء طبقًا للقانون، وكل من أساء استعمال هذه الحقوق الثلاثة نزعت منه الملكية، وكان بيت المال هو رأس مال الدولة ولها الحق في استثماره للمصلحة العامة. فالملكية في الإسلام مرتبطة بالاستثمار، ويمنع الإسلام تكديس الأموال وتخزينها (ص١٨٣). ومع ذلك يرى المؤلف أن ذلك كله لم يمنع من تنمية القطاع الرأسمالي في البلاد الإسلامية، وأن كل هذه المحاولات هي تغطية الاشتراكية بشعاراتٍ إسلامية إما للحد منها أو لدعمها؛ إذ يستطيع الرجعيون والتقدميون على السواء استعمال شعارات الدين. كما يرفض المؤلف محاولة مصطفى السباعي في كتابه «الاشتراكية في الإسلام»، ويرى أن مبادئ التضامن الاجتماعي التي يعتمد عليها المفكر المصلح لا تكفي لتكوين أيديولوجية فعالة، ويجعل هذا الاتجاه مجرد نظرة لا أساس لها في واقع المسلمين، ويرى أن الإسلام دعوة للاقتصاد الحر وأن اشتراكية الإسلام كغيرها في سائر الأديان إنسانية محضة. خلاصة القول: إن من يربط الإسلام بالرأسمالية بورجوازي يبغي مصلحته الخاصة ويغطيها بشعارات الدين، ومن يربطه بالاشتراكية خطيبٌ متحمس ما زال في مرحلة الإصلاح الديني. ويرى المؤلف أن الاشتراكية لم تتحقق بالفعل إلا في ثورة أكتوبر في روسيا. وإذا كانت حصيلة الثورة الفرنسية إقامة دولة ديمقراطية فحصيلة الثورة الروسية إقامة دولة دون طبقات متميزة. وينتهي المؤلف بقوله: «لا يوجد طريق إسلامي للاشتراكية. قد يكون هناك في المستقبل طريق مراكشي أو جزائري أو مصري أو عربي أو تركي أو إيراني نحو الاشتراكية، ولكن من المستبعد أن تنبع هذه الخصائص من الدين الإسلامي» (ص١٩٣). ينفي المؤلف أية صلة بين الإسلام كدينٍ والاشتراكية كنظام.
رابعًا: الأيديولوجية والدين
الدين أيديولوجية بطبيعته، ولا يستطيع أن يدرك ذلك إلا من تحرر من تصور الدين القديم كمجموعةٍ من العقائد المغلقة أو العواطف الصوفية التي تشوبها الأساطير والمعتقدات الشعبية. وقد استطاع رودنسون أن يتحرر من هذا التصور القديم، واستطاع أن يفهم الدين كأيديولوجية، وساعده على ذلك اعتناقه للماركسية، كما ساعده اتباع المنهج النظري لا المنهج التاريخي (ص٨)؛ ولذلك رفض رودنسون استعمال منهج المستشرقين الذين يؤرخون «للإنسان المسلم»، واتبع منهجًا نظريًّا اجتماعيًّا يدرس فيه المجتمع الإسلامي.
ويخصص المؤلف الفصل السادس والأخير (ص١٩٥–٢٤٣) بعنوان «ختام ووجهات نظر» لهذا الموضوع ويبدأ برفض الأيديولوجية السياسية لتكوين نظام اقتصادي اشتراكي؛ لأنها سرعان ما تتحول إلى الصور الأولى للنظام الرأسمالي؛ إذ إنها تنشأ أولًا بدافعٍ وطني، وتكون البورجوازية هي أول من يستفيد بمرحلة ما بعد الاستقلال، وهذا واضح في كثيرٍ من البلاد النامية في آسيا وأفريقيا (ص٢٢٧-٢٢٨)، ولا يكفي التخطيط غير الملزم لتوجيه الاقتصاد توجيهًا اشتراكيًّا (يستشهد المؤلف بالأيديولوجية الكمالية في تركيا وباتجاه الثورة العراقية سنة ١٩٥٨م). إن الأيديولوجية السياسية لا تكفي إن لم تصبح في نفس الوقت أيديولوجية اقتصادية؛ ومن ثم تفرض الأيديولوجية الاشتراكية نفسها، ويساعد على ذلك قوة الشعوب المتحررة حديثًا وانتشار الأيديولوجية الماركسية بين مثقفيها ورغبتها في القضاء على أصحاب الامتيازات وقت الاحتلال وفيما بعده.
ثم يصنف المؤلف الأيديولوجيات إلى ثلاثة أنواع: أيديولوجية وطنية تقوم أساسًا على الوطن كقيمة، وأيديولوجية دينية تقوم على تعظيم الله، وأيديولوجية إنسانية أو أيديولوجية شاملة تجعل من الإنسان القيمة الأولى (ص٢٣٠–٢٣٢). ولكن ينقص هذه الأيديولوجيات الثلاث الأساس الاقتصادي، وقبول هذا الأساس معناه الاعتراف بالصراع الطبقي وهو مقياس صدق أيديولوجية عن أخرى، ولا شك أن الأيديولوجية الشاملة هي أقربها إلى تأكيد هذا الصراع؛ لأن الأيديولوجية الوطنية أو الدينية تتحول في كثيرٍ من الأحيان على أيدي الوصوليين وأصحاب الامتيازات باسم الوطن مرة، وباسم الدين مرةً أخرى، إلى رجعيةٍ أو فاشية، والأيديولوجية والاشتراكية وحدها التي تقوم على الصراع بين الطبقات، هي القادرة على الالتزام بقيمها.
ولكن ما هو دور الدين في الأيديولوجية؟ لقد لعب الدين في العصور الوسطى نفس الدور الذي تلعبه الأيديولوجية في العصور الحديثة (ص٢١٦–٢٢٢) صراحة أم كغطاءٍ لعوامل اقتصادية. وقد استطاع المؤلف أن يكشف عن استغلال الدين كوسيلةٍ للحد من التيار الثوري، وللإبقاء على المكاسب الطبقية للمفسرين، كما استطاع أن يحلل ظاهرة سوء النية في التفسير، وكيف يتم التفسير بدوافع اقتصادية بحتة تحت غطاء من المحافظة على العقائد والقيم الأخلاقية؛ أي إنه استطاع أن يبين الصلة بين التدين والنفاق، وهي الصلة التي تحدد التكوين النفسي للبورجوازية التي تدعي الإيمان والتمسك بالدين، ولا يتحرج المؤلف من ذكر الوقائع المشهورة كالحروب الصليبية في تغطية الدوافع الاقتصادية تحت ستار الدين (الكسب التجاري لجمهورية البندقية من نقل المحاربين، رغبة الأمراء في احتلال أراضٍ جديدة … إلخ) (ص٢١٦-٢١٧). ويندد بتفسير بعض المتدينين تفسيرًا يراعي التفاوت في الرزق ويبقي على التركيب الطبقي باسم الدين، ويدعو المؤلف إذن إلى التفسير «اليساري» للدين؛ فهو أقرب إلى طبيعته كعاملٍ محرك في ثورات الشعوب وفي تعبئة الجماهير لأغراضٍ اقتصادية (ص٢٣٢). ولكن أراد أولًا بناء الشعوب بطريقةٍ يستطيع الفرد بها أن يضع النظام الاقتصادي، وما زال الإسلام يستعمل للحد من التيار الثوري وللمحافظة على المكاسب الطبقية (ص٢٣٤). ولقد التجأ من طبقت عليهم بعض قوانين الإصلاح الزراعي في سوريا إلى علماء الدين، يطلبون منهم العون ضد الاتجاهات الاشتراكية؛ أي إن الأيديولوجية الرأسمالية لا تحتاج إلى تعبئة الشعوب، فهي تلقائية يعمل بها كل فرد. أما الأيديولوجية الاشتراكية فلا بد لها أولًا من تعبئة الجماهير وتوعيتهم وإنشاء الكوادر وتنظيمها.
ولكي تستطيع الأيديولوجية الإسلامية أن تقوم بمهمتها عليها أن تدخل في الصراع الطبقي، وأن تحرك المسلمين بدافعٍ من هذا الصراع (ص٢٢٢–٢٤٣). ويجب إذن أن يُعاد تفسير الإسلام في الصراع الطبقي، بعد تعبئة جماهير الفقراء والمعدمين وأصحاب الحق، وأن تُصاغ أخلاق النضال كما هو الحال عند المسلمين اليساريين في السنوات الأخيرة، ودخول بعض رجال الدين في الثورات المسلحة في أمريكا اللاتينية، بذلك يقضي المسلمون على كل التفسيرات الرجعية للإسلام التي تجعل منه حدًّا عائقًا للتحول نحو الاشتراكية باسم الدين مرة، وباسم التقاليد مرةً أخرى، وباسم الوطن والأرض مرةً ثالثة. إن مصير العالم الإسلامي مرتبطٌ بالصراع الطبقي الذي لا بد أن يأخذ مكانه في المستقبل (ص٢٤٢)؛ وبذلك تثبت الأيديولوجية الماركسية أنها أقدر الأيديولوجيات على تعبئة الشعوب وتحريكها، لا يكفي الإسلام إذن في نظر المؤلف كأيديولوجية في العصر الحاضر إلا إذا دخل في صراع الطبقات (ص٢٤٥). صحيح أن العالم الإسلامي له نوعيته، ولكنه لا يند عن القوانين العامة للتاريخ الإنساني. وقد يحل الصراع بين الجماعات السياسية محل الصراع الطبقي (كما حدث غداة استقلال الجزائر)، ولكن يبرز الصراع من جديدٍ لأنه ضروري في مرحلة التحول من نظامٍ اقتصادي إلى نظامٍ آخر، ولا يكفي أن تقوم الدولة بهذا التحول لأن الطبقة الحاكمة تجري هذا التحول في صالحها، لما تتمتع به من امتيازاتٍ وسلطة أخذ القرارات وإعطاء الأولويات في التخطيط (ص٢٣٦)، ويستمر هذا فترة طويلة مع استمرار الوعود برفع مستوى الشعب. فإذا ارتفع المستوى إلى حدٍّ قليل ظن الناس أن ما تتمتع به الطبقة الحاكمة جزاء لها على ما قامت به، ولا يمكن للطبقات الحاكمة أن تتخلى عن امتيازاتها إذا ما طلبت منها الطبقات الكادحة ذلك؛ ومن ثم ينشأ الصراع، ولا يمكن للمساومات وللخطب ولوسائل التهدئة والتسكين أن تخفف من حدة الصراع الموجود بالفعل. ولقد لعب الإسلام في الماضي دوره في الصراع بين الطبقات عندما انتصر ضعاف المسلمين له ضد تجار مكة وأشرافها. وإن جرائم الإقطاع في الريف المصري في العصر الحديث لأصدق دليل على ذلك.
ولكن مهما كان الدين قادرًا على تحريك الشعوب، خاصة بالنسبة للإسلام وأوضاع المسلمين الحالية من تعرضٍ لأخطار الاستعمار والرأسمالية، والصهيونية العالمية، فلا بد وأن يتحول إلى أيديولوجية كاملة، وهي وحدها القادرة على إعطاء الأسس النظرية للثورة، وذلك لا يتم إلا إذا تحول إلى أيديولوجية اقتصادية. ويرى المؤلف أن الأيديولوجية الإسلامية لا تستطيع أن تقوم بدورها في ملء الفراغ الذي تتركه الأيديولوجية الاقتصادية التي هي وليدة العصر الحديث (ص٢٣٢)، إذا لم يشأ الدين أن يغير النظم الاقتصادية السائدة تغييرًا جذريًّا بل تابع النظم قائمة ونشطها (تنشيط التجارة بعد عصر الفتوح). ولكن هذا الحكم هو إسقاط للأيديولوجيات المعاصرة على التاريخ القديم الذي كانت مشاكله من نوعٍ آخر. فإذا كانت مشكلة العصر هي العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، فإن مشكلة العصور القديمة كانت تحرر الإنسان الداخلي، وهذا ما قامت به الأديان. ويعترف المؤلف بأنه يمكن وضع أيديولوجية اقتصادية ثالثة (غير الرأسمالية والاشتراكية)، وهذا ما ينكره الاقتصاديون الغربيون الذين لا يرون بديلًا للرأسمالية إلا الاشتراكية (ويقصدون بها الشيوعية لتخويف البلاد النامية). ولا يعتمد هذا الطريق الثالث في رأي المؤلف على الدين بالمعنى التقليدي، فليس هناك اقتصاد مسيحي أو إسلامي أو يهودي أو بروتستانتي، فرنسي أو ألماني أو عربي أو تركي، بل هناك نظمٌ اقتصادية علمية تتطور حسب الأوطان والظروف لكل بيئة. ولو أن المؤلف درس بعض المحاولات الاقتصادية الممتازة في التراث الإسلامي مثل «السياسة الشرعية» لابن تيمية أو «الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية» لابن القيم أو «الحسبة في الإسلام وظيفة الحكومة الإسلامية» لابن تيمية لاستطاع أن يحلل الأيديولوجية الإسلامية في جانبها الاقتصادي السياسي، ولوجد فيها مقومات الثورة الاقتصادية والتنظير السياسي (الولايات) والاقتصاد (الأموال) والقانوني (الحدود). إن عقائد الإسلام لا تتغير (هذا ما يعيبه المؤلف، ص١٩٨)، بل يتغير تفسيرها حسب تطور الواقع نفسه وثورية المفسر. فإذا تطور الواقع أكثر من مسايرة التفسير له ظن الباحث أن عقائد الدين لم تتغير. وإذا تطور التفسير أسرع من مسايرة الواقع له (كما هو الحال في تفسير أبي ذر الغفاري في عصر بني أمية)، بدا الإسلام أكثر تقدمًا من الواقع نفسه. وتلك مهمة المفكر المسلم في العصر الحديث في إعادة التنظير، وهو يعبئ الجماهير في ثورتها وفي صراعها مع آلهة العصر.
(٢) جارودي في مصر٣
جميلٌ للغاية أن تنفتح التجارب الاشتراكية في بلدان العالم الثالث على غيرها من التجارب حتى يمكن أن تعطيها من خبرتها، خاصةً إذا كان لديها نموذج فريد لم يسبقه إليها أحد، أو أن تأخذ منها إذا كانت تشعر بحاجةٍ لذلك لسد النقص فيها. ولكن أجمل منه أن يتم هذا الانفتاح على المستوى الشعبي لا على المستوى الرسمي. فالصحافة الآن ملك الشعب بملكية الاتحاد الاشتراكي لها، والاتحاد الاشتراكي هو تحالف قوى الشعب العاملة عند من يرضى ومن لا يرضى؛ إذ يحتاج المثقفون حقًّا لمن يلتقون معه باستمرار، يحاورونه ويحاورهم، ويناقشونه ويناقشهم، ويسمعونه ويسمعهم، وهذا يفسر لنا سبب الإقبال الشديد على مثل هذه اللقاءات، ورفض قصر الدعوات على البعض دون البعض الآخر، وحتى يتم التحام حقيقي بين الزوار الكرام وجماهير المثقفين التي يدل حرصها على اللقاء على انفتاحٍ حقيقي على تجارب الغير، وعلى عشق غريب لكل ما يدور في تيارات الفكر العالمي، وعلى أنهم بالفعل الطليعة الواعية من الشعب.
وقد تمت زيارة روجيه جارودي لمصر في الشهر الماضي، وكانت زيارة، من حيث الترتيب والتنظيم واللقاء، أجدى بكثيرٍ من زياراتٍ سابقة لها مثل زيارة سارتر الذي تحول في غمضة عين إلى نجمٍ اجتماعي تتهافت عليه الألوف طلبًا لتوقيعاته أو رغبةً في رؤية رفيقة حياته، حتى عُزل عن جماهير المثقفين ولا سيما المتخصصين منهم. وقد بحث سارتر عن المثقفين فلم يجدهم؛ ذلك لأنه لم يحاورهم ولم يحاوروه، وهو فيلسوف الجدل، حتى لقد كانت زيارته للجامعة أقرب للهرج والمرج منها إلى اللقاء الفكري، كما كانت محاضرته فيها عطاء دون أخذ، وكانت الزيارة كلها أقرب إلى السياحة منها إلى اللقاء الفكري، لم يناقشه أحد في قضايا «الوجود والعدم»، وقد كان يود سماع آراء المثقفين فيها. فالمفكر ينال بالفكر أكثر مما ينال بالدعوات.
أقول إن زيارة جارودي لمصر كانت أحسن ترتيبًا، وأجدى لقاء، وأثمر فكرًا، على الأقل لقد فهمنا الرجل، ولا ريب أنه فهمنا أيضًا أو كان يفهمنا قبل أن يأتي وتأكد لديه ما رآه وسمعه، عقد المثقفون معه لقاء، وكانوا يرجون لقاءات عدة. كان هناك لقاء فكري بالإضافة إلى الجانب السياحي، شارك فيه عدد من المثقفين، وشارك فيه الجمهور على صفحات الجرائد، ولا ريب أنه سيظل يشارك فيه لمدة طويلة في مجلاتنا الثقافية وندواتنا الفلسفية.
وليس الغرض هنا هو كتابة تقرير عن هذه الزيارة الكريمة أو وصف برنامجها أو تلخيص ندواتها، ومحاضراتها بل معالجة ما طرحته بيننا من قضايا وما أثارته وما لم تثره فينا من أفكار.
وفي مثل هذه الزيارات التي يتم فيها اللقاء بين أحد المفكرين الأجانب، خاصةً إذا كان من أمثال جارودي، المفكر الفيلسوف، الاشتراكي، وبين مثقفينا أن نستفيد منه أكثر مما نفيده، وأن نتعلم منه أكثر مما نعلمه، وأن نسمع له أكثر مما نسمعه نحن. لقد تصورنا جارودي على أنه مستشرق من طراز برك ورودنسون وغيرهما، ضليعًا في الحضارة الإسلامية، خبيرًا بأحوال المسلمين الحاضرة، عليمًا باللغة العربية، بل ومؤمنًا بكتاب الله وسنة رسوله لكثرة ما سمعنا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فاستمعنا إليه وهو يحاضر في الحضارة الإسلامية — التي يسميها الحضارة العربية وهي تسمية خطأ لانتساب الفكر إلى الدين لا إلى الجنس — وفي الإسلام كما نستمع إلى شيخ الأزهر، فاستشهد الفيلسوف الكريم بالنصوص الدينية من الكتاب والسنة إرضاءً لأذواقنا؛ أي إننا استمعنا إليه في أشياء يحتاج هو لسماعها منا، وهذا شيء طبيعي لا ندعي فيه نحن موقف الأساتذة ولا نطالب منه أن يأخذ موقف التلميذ؛ لأن معلوماته عن التاريخ الإسلامي كحضارةٍ أو عن الإسلام كدين لا تزيد عن معلومات أي مثقف أوروبي عادي غير متخصص، يعلم أن العرب كانوا حملة العلم إلى أوروبا، وأنهم نقلوا العلم اليوناني وزادوا عليه مشكورين، ويعلم أن الإسلام دين أتى لصالح الفقراء والمعدمين. وإن كل دين سماوي هو بالضرورة دين أتى لصالح الجماهير إلى آخر ما يقال في الصحافة وأجهزة الإعلام والندوات والمحاضرات في الغرب عما يسمونه «الإسلام الحديث»، ويقصدون به حياة المسلمين في العصر الحاضر وكيفية التوفيق بين الإسلام كدين وبين مظاهر المدنية الحالية، ليس جارودي هو المسئول عن ذلك بل نحن الذين وضعناه في هذا الموقف، حتى لقد سأله البعض منا عن رأيه في الموسيقى الأندلسية، وهل هناك أثر عربي فيها وكأنه أحد المتخصصين في الموسيقى العربية.
•••
لم نحاول أن نعرف منه موقف المثقفين الفرنسيين من القضية العربية، وعن مدى التغير الذي حدث في الرأي العام الفرنسي، وعن أهم طرق مواجهة الدعاية الصهيونية وعن اتصال المثقفين الفرنسيين بقضايا العالم الثالث ومدى تأييدهم لحركات الشعوب. لم نعرف منه مدى مساهمته في نشاط الطلبة العرب في فرنسا، وعن مدى تأييده لهم في نشاطهم من أجل منظمات المقاومة الفلسطينية، كل ذلك كان أجدى لنا أن نتعلمه منه لا أن نتعلم منه ما نعرفه حق المعرفة، حتى إننا سمحنا لأنفسنا عقب كل محاضرة بإكمال ما نقص من محاضرته وبإلقاء محاضرات أخرى عليه، جهزها السادة المناقشون قبل أن يستمعوا لما سيقول، البعض يحييه بتحية الإسلام والبعض الآخر يحكي له قصة إبراهيم الخليل، فريق يدلي له بالنصوص من الكتاب والسنة وفريق ثان ينساه ويحادث المستمعين ويطربهم مذكرًا إياهم بمجد الإسلام القديم، ومثيرًا حميتهم بعد أن لمس عواطفهم الدينية، وفريقٌ ثالث يستعرض معلوماته والزائر الكريم يستمع ويستفيد ويعتذر عن نقص معلوماته.
وعلى مدى هذا اللقاء الفكري الطويل كان كل النقاش يدور حول كل شيء إلا حول ما يدور في مصر، بالضبط كما يحدث في جامعاتنا، في أقسام الفلسفة مثلًا، عندما نتحدث عن تاريخ الفكر العالمي ونتوقف قبل تاريخ الفكر المصري الحديث. إن شغلنا الشاغل اليوم هو تجربتنا الاشتراكية، أصالتها وجدتها وما حققته حتى الآن وما زال أمامها لتحقيقه. وإن قضايانا الكبرى اليوم هي التخلف والاحتلال. وإن كل لقاء فكري لا يعرض لهاتين القضيتين لهو فكرٌ عاجز أو هارب خائن. قد يكون السبب في ذلك هو أن موضوع التجربة الاشتراكية في مصر لم يكن موضوع المحاضرات، بل كان موضوع الندوات التي عقدها الزائر الكريم مع قيادات الاتحاد الاشتراكي وأماناته، ولكن ما كان أجدى أن يناقش جماهير مثقفينا تجربتنا الاشتراكية خاصةً وأنها أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا، فضلًا عن أن جماهير المثقفين قد عقدت العزم بعد الخامس من يونيو على المساهمة الفعالة والأكثر إيجابية في الحياة السياسية، وعلى المشاركة فيما يدور بيننا من نقاشٍ وحوار وطرح للأسئلة إحساسًا منهم بالمسئولية، وإيمانًا منهم بطبيعة دور المثقفين، واستجابة لطلب قائد الثورة عندما طالب الجماهير في خطابه الأخير في نوفمبر الماضي بالتفكير في تكوين لجان المواطنين من أجل المعركة، وفي التعرف على مهامها، وطرق تكوينها، وصلتها بالأنظمة السياسية القائمة وبالسلطات التنفيذية، وبلجان الدفاع المدني، وبالمقاومة الشعبية وبالجيش النظامي، وبجماهير الشعب العريضة.
حتى في هذا العلم الذي حاولنا أن نأخذه منه لم نكن نتعامل معه كما يتعامل مفكر مع آخر، بل كان كل منا يثني على صاحبه، كان يمدح في الحضارة العربية ويفخر بتاريخنا القديم، ويثني على الإسلام ويعتز به كأصلٍ من أصول الاشتراكية، كان يعتز بتجربتنا الاشتراكية ويعتبرها موصلة، لا ريب فيها، إلى الاشتراكية العلمية حتى ولو لم نتبين هذه الاشتراكية العلمية نفسها، وحتى لو لم ينشأ حزب طليعي ثوري يقوم بمهمة بناء الاشتراكية، وكنا نحن بدورنا نثني على هذا المستشرق المنصف للحضارة الإسلامية، وعلى هذا المسيحي المسلم الذي يؤمن بالتوراة والإنجيل ويستشهد بنصوص القرآن والحديث، وكنا نعجب بهذا التاريخ الاشتراكي المنفتح على الديانات، وهذا الماركسي المتحرر الذي يرفض الجمود ويدعو إلى التحرر الفكري ورفض الجمود العقائدي، ويطالب الناس بالأخوة، ويدعوهم كما دعاهم سقراط من قبل، إلى النقاش الحر في الأسواق بحثًا عن الحقيقة وممارسة الفضيلة. لقد أعجبنا به وأعجب هو بنا على ما يبدو، ورأى كل منا في الآخر ما يريده، رأى فينا الاشتراكية النابعة من الإسلام ورأينا فيه الاشتراكية النابعة من المسيحية — على ما تقول آخر الدراسات عنه — ومن ثم كان اللقاء الفكري بين أخوةٍ متحابين في الله ويجتمعون على الخير!
والحقيقة أن اللقاء لا يكون مثمرًا إلا بقدر ما فيه من تعارض. فالتعارض يدل على الخصوبة، ومن خلال التعارض يتم تعميق الفكر، فكرنا وفكره على السواء. بل إن بعض الفلاسفة المعاصرين مثل برجسون يجعل النفي عملًا فلسفيًّا أصيلًا، إن لم يكن هو العمل الفلسفي الوحيد، وإن الفكر يحدد نفسه عن طريق نفي ما سواه، ونحن، على ما يبدو، لم نجد شيئًا في فكر جارودي نحاسبه عليه، وهو أيضًا، كما ظهر، لم يجد شيئًا في فكرنا يمكنه تصحيحه لنا. لقد وجدنا كل شيء لديه في الكمال والتمام، ووجد هو كل شيء لدينا في التمام والكمال، وكثيرٌ من المفكرين والشرفاء والأصدقاء المخلصين عابوا علينا كثرة القول وقلة العمل، واشتداد العاطفة ونقص التفكير، والتسرع والتهور وهي ملاحظات مخلصة نرى جديتها وصدقها، نستطيع إذن أن نقول إن اللقاء لم يكن صريحًا، فنحن لم نقل كل ما يريد وهو لم يقل لنا كل ما يعرف. لقد أعطى كل منا للآخر أكثر مما يستحق، جعلنا ماركسيًّا منفتحًا وهو في الحقيقة كاثوليكي تقدمي، وجعلنا اشتراكيين مستقلين ونحن في الحقيقة ما زلنا في طريق التحول الاشتراكي.
•••
خلاصة القول إن دور العرب في التاريخ لم يتعد ما نقرأ دائمًا في كتب تاريخ الحضارة الغربية وما تذكره عن دورنا، وما نكرره نحن على غير وعيٍ منا، وهو الدور الذي لا يتعدى حمل العلم ونقله من اليونان وتسليمه لأوروبا؛ أي إننا مجرد حمالين، نهلنا العلم من اليونان. فاليونان هم مصدر العلم كما هو معروف في التصور الأوروبي لمصادر الحضارة الأوروبية. لقد عرف العرب طب أبقراط وجالينوس، وحفظوه بلا تحريف أو تشويش؛ أي إننا، ولنا الخير في ذلك، حملة علم أمناء، لم نضيع الأمانة التي عهدت إلينا محافظةً منا على الأصول، ونحن حفظة القرآن، ثم زدنا عليه مشكورين، ثم نقلنا ذلك كله إلى الغرب أو نقله الغرب عنا، فأخذ الغرب منا كما نأخذ نحن عنه الآن، وهذه بضاعتنا ردت إلينا، كلنا خدام الغرب، اليونان مخترعو العلم ونحن ناقلوه، وكلنا نصب في الغرب. إن نهضة الغرب ترجع لنا كما أن نهضتنا الحالية ترجع للغرب، واحدة بواحدة، فلا هو أفضل منا لأنه يعطينا اليوم ولا نحن أفضل نمه لأننا أعطيناه بالأمس.
هذا التصور القومي للعلم مبني على الشعور بالنقص أمام الحضارة الغربية، وعلى تعويض ذلك بماضي الآباء ومآثر الأجداد، وبما أسدوه للغرب من خدمات تعويضًا عما يسديه لنا الغرب اليوم، والغريب أننا نفخر بأننا حملة العلم مع أن الغرب اليوم لا ينقل علمه من مصدرٍ آخر، بل يخترعه ثم يعطينا إياه، وفرقٌ بين ناقل الأمس ومخترع اليوم. وقد أتى هذا التصور القومي للعلم بعد عصر التحرر من الاستعمار، وبعد أن حاول الاستعمار أن يسلبنا أرضنا وتراثنا، فإذا نحن استعدنا الأرض أو كدنا، فلم يبقَ لنا إلا استعادة التراث بنفس الروح القومية. وخطورة هذا التصور أنه يعطينا من السكينة والرضا والطمأنينة على حاضرنا الشيء الكثير؛ فما دمنا قد كنا سادة الأمس فلا ضير أن نكون عبيد اليوم، وإن كنا عبيد اليوم فيغفر لنا أننا كنا سادة بالأمس. إن جهلنا النسبي اليوم يجد تعويضًا له في علمنا بالأمس الذي يشهد له الجميع ونحن نسر لشهاداتهم، وإنه لتصور، حتى من الناحية القومية المحضة، ضارٌ بالشعور القومي لأنه يخدر أكثر مما يحث على البحث.
إن تصور زائرنا الكريم للفن انعكاسٌ لتصوره للأيديولوجية، فبما أن الماركسية اللينينية مفتوحة حتى لمضاداتها مثل الدين المخدر للشعوب والبورجوازية الصغيرة، فكذلك الواقعية الاشتراكية مفتوحة لمضاداتها مثل التجريد والخيال. إن الواقعية بلا ضفاف وليدة بيئة تشبعت بالماركسية اللينينية في الفكر، وبالواقعية الاشتراكية في الفن، وأرادت تجديد كليهما معًا، حتى ولو كان على حساب المبادئ الأولى والمنطلقات الأساسية لكل منهما. وقد تم ذلك عن طريق إسقاط الروح الفنية المعاصرة الأقرب إلى التجريد، كما وضح ذلك في الرسم والموسيقى والنحت والشعر، على الواقعية الاشتراكية التقليدية، مع أن التعارض ما زال قائمًا، خاصةً في الاتحاد السوفيتي، بين روح الواقعية الاشتراكية وروح الفن المعاصر.
والشيء الوحيد الجدير بالاهتمام حقًّا هو تفسير الحضارة الإسلامية تفسيرًا إنسانيًّا محضًا، وتفسير نشأتها بعوامل تاريخية واجتماعية صرفة، وهو ما لا يختلف عليه اثنان مسلم أو مسيحي، كما هو معروف علميًّا ودينيًّا أيضًا، ولكن هذا التفسير الذي ذكره الزائر الكريم من سرعة انتشار الدعوة الأولى لوجود علاقات اجتماعية في المجتمع الإسلامي أكثر تطورًا من تلك التي كانت موجودة في المجتمع الفارسي أو الروماني. هذا التفسير الإنساني الذي يعلي من شأن العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي، والتي أخذت صور اللامركزية والنقابات والإدارة والمراكز الريفية، على عكس العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الفارسي والروماني، القائمة على المركزية والتبعية وقسمة الناس إلى أشراف وعبيد، رأى البعض في هذا التفسير الإنساني والاجتماعي لسرعة انتشار الدعوة تفسيرًا غير مقبول؛ لأن الحضارة الإسلامية من صنع الله وليست من صنع البشر، وكأن الحضارة الإسلامية مرادفة للقرآن. وقد جاهرهم الزائر بألا يؤاخذوا ملحدًا على هذا التفسير خشيةً منه أن يمس مشاعر القوم الدينية، راجع قضية التفسير العلمي إلى قضية الإيمان والإلحاد.
•••
أما محاضرة الاشتراكية والإسلام فإنها تسير في نفس الاتجاه الشائع بيننا من انبثاق اشتراكيتنا من أرضنا وتراثنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا … إلخ، ومن أن الإسلام هو الاشتراكية الأولى قبل ظهورها في القرن الماضي؛ فقد كان الماء والكلأ والنار، على ما يذكر الحديث، مشاعًا بين الجميع. وقد حرم الإسلام الاستغلال والاحتكار، وكان على الحاكم أن يقاتل الأغنياء الذين يمنعون سيولة المال عند الغير ويقصرونه على أنفسهم حتى لا يكون دولةً بينهم، على ما تقول الآية. وما أسهل الحديث على هذا النحو وما أصعب التدبر فيه.
وقد يتم هذا التفسير الإسلامي للاشتراكية أو التفسير الاشتراكي للإسلام عن حسن نية، بدافعٍ من الطبيعة والرغبة في المحافظة على القديم والتفتح نحو كل جديد، ولكن حتى هذا الفكر الأكثر احترامًا يقع في التوفيق بين الإسلام كدينٍ والاشتراكية كأيديولوجية؛ فهو يؤمن بالغيبيات وبالعلم في آنٍ واحد، والتوفيق بطبيعته لا ينتهي إلى شيء، وهو طابع تراثنا القديم، هو لا يزيد عن كونه رغبة في التجديد دون أن تواتيه الجرأة الكافية للبدء الجذري، والانطلاق من الواقع نفسه.
ولقد سئل زائرنا الكريم عن ذلك في الندوة المغلقة، وأجاب بأن التصور الهرمي للعالم ليس هو النموذج الوحيد للاهوت، وأن هناك نماذج أخرى، ضرب مثلًا واحدًا منها، يؤمن بالتصور الأفقي للعالم، ولكننا لم نسمع به في بيئتنا، بل إن كل من يحاول عرض ذلك، ويضع التعالي أو المفارقة موضع التساؤل ويأخذ جانب الحلول يتهم بالإلحاد، ويوصف بالمروق على الدين، وحتى ولو كان هناك مثل هذا اللاهوت الأفقي، فإنه لا يمثل شيئًا بالنسبة للاهوت التقليدي، وهي مجرد اجتهادات من اللاهوت الذي يود أيضًا أن يلحق بالركب ولمَ يسمى لاهوتًا إذن؟ لم لا نسميه صراحة فلسفة في التاريخ أو جدلًا في الطبيعة، أو نسميه ببساطة أيديولوجية إذ إنه على هذا النحو لا يفترق عنها في كثيرٍ أو في قليل.
ولكن أين نحن من ابن رشد؟ نحن نعلم جميعًا أن لابن رشد فلسفتين: الأولى دينية محضة خرجت من فصل المقال ومناهج الأدلة، وفيها لا يتعدى ابن رشد كونه فيلسوفًا معبرًا عن التصور الديني للعالم: الخلق، والبعث، والرسل، والمعجزات، والحساب والعقاب … إلخ. وهو ابن رشد الذي أخذناه نحن والذي لا يفترق عن أي متكلم سني. وهناك ابن رشد العقلي المعتزلي الذي يؤمن بحتمية قوانين الطبيعة، والذي يعطي الأولوية للعقل على النقل، والذي جعل شعاره: العقل والتجربة، والذي في رده على الغزالي في كتابه تهافت التهافت، لا يرى حرجًا في الدفاع عن قدم العالم عند الفلاسفة، وعن إنكار علم الله بالجزئيات، وعن إنكار حشر الأجساد، وعن القول بخلود النفس الكلية، ابن رشد هذا لم نعرفه ورفضناه وجعلناه ملحدًا؛ لأنه يفسر الإعصار بقوانين الطبيعة لا بريحٍ صرصرٍ عاتية، وحرفنا كتبه علنًا في ميدان قرطبة على ما هو معروف في محنة ابن رشد، وحتى إلى عهدٍ قريب في جامعاتنا الدينية نرفض ابن رشد هذا ونفضل عليه الأشعري والغزالي، وهو ابن رشد الذي عرفه الأوروبيون والذي سميت فلسفته بالرشدية اللاتينية، والذي كان سببًا من أسباب التحرر الفكري في أوروبا المسيحية، وسببًا من أسباب قيام عصر النهضة الأوروبي، فأين نحن من ابن رشد هذا؟
أما محاضرة تعدد النماذج الاشتراكية فإنها لم تتعد أيضًا ما تردد بيننا من أننا اشتراكيون على طريقتنا الخاصة، ودون الالتزام مسبقًا بأية نظرية في الاشتراكية، ودون أن نتبنى صراحةً الاشتراكية العلمية. فإن تجربتنا الخاصة وصلنا إليها بطبيعتها دون حاجةٍ إلى فكرٍ مستورد؛ أي إننا كما نتعامل مع الحضارة الغربية القديمة بعقلية التصدير، فإننا نتعامل مع الفكر المعاصر اليوم بعقلية الاستيراد، نقول إن اشتراكيتنا تنبع من أرضنا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، ومن منا يقول غير ذلك؟ إن النظرية العلمية نفسها تحتم علينا الواقع كله بما فيه من أرضٍ وتراث وعادات وتقاليد، فأرضنا المحتلة اليوم هي لمن يقومون بتحريرها وهم أصحاب المصلحة الحقيقية؛ أي إن الأرض لجماهير الفلاحين والعمال الذين يكونون ثلاثة أرباع هذا الشعب، وأن تراثنا فيه ما يعطينا دفعات إلى الأمام مثل نظرية الاستخلاف، وتحريمه للملكية والميراث، ونظريته في الشورى ورفضه لحكم الفرد المطلق، ونظريته في المجتمع بلا طبقات، وتحريمه لكل مظاهر الاحتكار والاستغلال، ولكن في بعض جوانب من تراثنا ما يمنعنا من التقدم خاصة الجانب اللاهوتي والغيبي فيه، التصور المركزي للعالم، بعض الاتجاهات التي تغفل من حرية الإنسان وإرادته، قياس السلوك بما هو خارج عنه، اعتبار الدنيا ورقة في مهب الريح وتعويض خسارتها في عوالم غيبية أخرى.
صحيحٌ أن اشتراكيتنا تقوم على السلم، ولكن الاستعمار يتربص بنا، ويحيك المؤامرات، ويدبر للعدوان. إن الاستعمار لم يعرف الغزو بالسلم ولكن بالحرب؛ فقد سلب فلسطين سنة ١٩٤٨م بالحرب، وقام عدوان سنة ١٩٥٦م بالحرب، ووقع علينا عدوان سنة ١٩٦٧م بالحرب أيضًا. فالاستعمار يستعمل وسائل بعيدة كل البعد عن الوسائل السلمية للقضاء على كل فكرة اشتراكية في المنطقة، ويلجأ الإقطاع القديم إلى المحافظة على بقاياه بالقهر والطغيان، وكان يدفن الناس أحياء، أو يغتالهم ليلًا، وحادث كمشيش ليس ببعيد، والثورة لا بد أن تحمي نفسها وأن تقضي على جيوب الإقطاع وبقاياه، ويسقط منا الشهداء ونحافظ على اتجاهنا الاشتراكي وندفع الدم ثمنًا له.
إن التنظير المباشر للواقع القائم على النظرية العلمية يجعلنا نخطو حتمًا نحو الاشتراكية العلمية، ويمحي من الفكر الاستيراد والتصدير الذي هو من بقايا التصور القومي للحضارة، والذي يخدم الاتجاهات اليمينية والرجعية أكثر مما يخدم التيارات التقدمية، ويدافع عن تصورٍ غير صحيح للاشتراكية باسم الدين، ما دام في الدين بديل عنها.
إن مثل هذا الحديث عن تعدد النماذج الاشتراكية والوصول إليها بطرقٍ متعددة، وعن تجديد التفكير الماركسي وعن انفتاحه على التيارات الأخرى، حتى ولو كانت المضادة لها وعن المفارقة والتعالي والروح والإيمان، والذات، والفرد، والحيرة، وخلق الذات بالذات، والنزوع نحو الكمال … إلخ. إن مثل هذا الحديث قد يصح في بيئةٍ تشبعت بالاشتراكية العلمية وآمنت بالمادية الجدلية منذ قرونٍ وتود، بعد تطورات العصر، تجديد فكرها، وتأمل، بعد كفاية الحياة المادية لها، أن تتحدث عن الإنسانية وتطالب ببعض مظاهر التحرر العقائدي والسياسي. إن الذي يطالب بالتحرر العقائدي هو الذي شبع من الجمود العقائدي. إن مثل هذه الدعوات تصح في البيئة الغربية التي تشبعت بالمادية، والتي كفلت لها نظمها الحد الأدنى للمعيشة. في هذه البيئة يمكن الحديث عن أن البناء الفوقي ليس مشروطًا بالبناء التحتي، وأن في بعض لحظات التاريخ يؤثر البناء الفوقي في البناء التحتي؛ لأن هذه البيئة قد وعت وفهمت من قبل واستقر في أذهانها إلى الأبد، أن البناء التحتي هو المصدر الذي يكون البناء الفوقي انعكاسًا له.
أما في البلاد النامية، الحديثة العهد بالتحرر، والتي ما زالت تئن تحت وطأة عقليتها الأسطورية الغيبية، والتي ما زالت تفسر الظواهر الطبيعية بالرجوع إلى القوى الخفية، والتي ترى في مظاهر النعم هبات من الأرواح الخيرة، ومظاهر البؤس انتقامًا من الأرواح الشريرة؛ ففي هذه البلاد تكون الدعوة إلى ما يسمى بالتحرر من الجمود العقائدي ستارًا مشكوكًا فيه للرجوع إلى العقلية الأسطورية، وتثبيتًا للقديم بكل ما فيه من خرافةٍ ووهم، ويكون التأكيد على أهمية المادة وعلى الجدل في التاريخ أجدى لها وأنفع من بيان تدخل العوامل اللامادية في سير الظواهر الطبيعية والإنسانية. في هذه البيئة لا يصح أن يقال إن البناء الفوقي غير مشروط بالبناء التحتي؛ لأنها تقاسي من تفسير كل شيء بالرجوع إلى البناء الفوقي. فالسرقة لا تفسر بالفقر بل بنقصٍ في الأمانة، والإباحة لا تفسر بالكبت والحرمان بل بنقصٍ في الفضيلة. وإن أمثال هذه الدعوات عن تجديد الفكر الاشتراكي الغربي وامتداده إلى البلاد النامية التي ما زالت تخطو نحو الاشتراكية، والتي ما زالت تنحو نحو الفكر المادي والجدل التاريخي، أمثال هذه الدعوة ضررها أكثر من نفعها، ويسهل أن تنقلب إلى الضد وتصبح وسيلة للقضاء على أي تقدم ملموس في العقلية الأسطورية الغيبية.
بل إن أمثال هذه الدعوات في البلاد الاشتراكية نفسها لا خطر عليها من الالتزام بالمبادئ الأولى للاشتراكية العلمية، تستغلها النظم الغربية للدعاية ضد النظم الاشتراكية وللدعاية للنظم الرأسمالية، كما رأينا أخيرًا في بعض بلاد أوروبا الشرقية، فباسم حرية الفكر بدأت الأفكار الرأسمالية تتسرب إلى الصحافة وأجهزة الإعلام، وباسم الانفتاح على الدول الأخرى بدأ البعض يحبذون استثمار رءوس الأموال الأجنبية، وباسم الاستقلال الوطني بدأ البعض في الدعوة إلى الاشتراكية القومية أو الاشتراكية الوطنية، وباسم اشتراكية الكيبوتز بدأ آخرون بالدعوة إلى مناصرة إسرائيل كجزءٍ من العالم الاشتراكي، وكنظامٍ يقوم على العمال والفلاحين! وباسم الدافع وزيادة الإنتاج فكر البعض في إدخال الربح كدافعٍ للتنشيط الاقتصادي، وباسم الرفاهية بدأت بعض التطلعات الطبقية في المجتمعات الاشتراكية، وبدأ التوسع في الاستهلاك، حتى لقد وصل طابور انتظار العربات في بعض البلاد الاشتراكية سبعة عشر مليونًا!
إن الرجوع إلى الأصول نفسها يعطي دفعةً جديدة للثورة لا انتكاصًا عليها، وتجديدًا مستمرًّا لها لا خروجًا عليها، وإن ثورة الصين الثقافية قد قامت باسم الأصول الأولى دون أن تقضي على الأسس العامة للاشتراكية، ودون أن تضعها موضع الشك باسم تجديد التفكير الاشتراكي، بل زادت بها تمسكًا من الناحية العقائدية. وإن تجديد الثورة لا يتم بالتخلي عن المبادئ الأولى، كما يود الزائر الكريم، بتجديد روح الثورة، وإدخال عنصر الشباب فيها، ورفض كل مظاهر الترف والرفاهية التي يود البعض أن ينعم بها باسم اشتراكية الرفاهية. إن تجديد الثورة لا يتم عن طريق الرجوع إلى مضادات الأيديولوجية العلمية — العقلية الغيبية الأسطورية — بل إلى النقاء الثوري، والطهارة الثورية، وتمسك جماهير الشعب بمصلحتها فهم أصحاب المصلحة الحقيقية.
إن مظاهر تجديد التفكير الاشتراكي في البلاد الغربية ناتجة أساسًا عن إحساس الغربي بحريته، وإنه ما يزال يود أن يكون اشتراكيًّا فرديًّا، أو اشتراكيًّا حرًّا في التمويه، وحرًّا حتى في الرجوع إلى النظام الذي رفض قبل ذلك، يود أن يتمتع بالحرية من أجل الحرية، فتلك روح العصر، رفض الشكل والقيد ولكن يخشى أن يرفض المضمون معه، ويجد الزائر الكريم في دعوى التجديد هذه نصوصًا من مؤسس الاشتراكية العلمية يشرحها لحسابه الخاص، ويفصلها عن سياقها ويعطيها مضمونًا هو أبعد ما يكون عنها.
ولقد كان أحد السادة المحاورين على حق، وكانت تتمثل فيه أمانة الفكر وشرف الكلمة، عندما ركز على السمات العامة للاشتراكية، والتمييز بينها وبين السمات الخاصة، وأن تعدد النماذج الاشتراكية إنما هو في الحقيقة تعدد في الأساليب والطرق، وليس اختلافًا على مبادئها الأساسية العامة في كل النظم الاشتراكية؛ فقد خطت كوبا نحو الاشتراكية بطرقها ووسائلها، وانتهت إلى الماركسية اللينينية بطريقها الخاص، في حين أن البعض الآخر صرح بأنه مستعدٌ لقبول الاشتراكية العلمية بشرط التخلي عن شيئين: حتمية القوانين الطبيعية أو ضرورة انتصار الطبقة العاملة وبقايا من الجمود الاستاليني وآثار النظرة الآلية للعلم الطبيعي والإنساني التي كانت سائدة في القرن الماضي! أما الصراع الطبقي، فمن قال بضرورته؟ تستطيع دول العالم الثالث — في رأي الزائر الكريم — الوصول إلى الاشتراكية بالطرق السلمية؛ أي عن طريق توزيع الدخل القومي حسب القوى الوطنية الموجودة، ما دامت الاشتراكية هي الكفاية والرفاهية! ماذا يبقى إذن من الأسس العامة للاشتراكية؟ ماذا يبقى من حتمية انتصار البروليتاريا ومن ضرورة ثورة المعدمين؟
لقد كانت التجارب الاشتراكية في العالم الثالث أولى بالدراسة من تجارب الصين وكوبا ويوغوسلافيا؛ لأن هذه التجارب الأخيرة قد استقرت ووضحت معالمها، ولها سماتها المشتركة وخصائصها المميزة، وهي كلها تنتسب إلى الماركسية اللينينية، أما تجارب العالم الثالث فهي التي كانت تحتاج إلى وقفةٍ طويلة حتى يمكن إفادتها، خاصةً وأنها التجارب التي نعيشها والتي يعيشها أصدقاؤنا معنا، وتكلفنا وتكلفهم الكثير. هذه التجارب تطرح أسئلةً عديدة كنا نود من الزائر الكريم أن يلقي عليها بعض الضوء.
- (١)
لقد قامت هذه التجارب أولًا نتيجة لانقلاباتٍ عسكرية دون أن تكون نتيجة لثوراتٍ شعبية عامة؛ فقد كان الجيش في هذه البلاد هو القوة الوطنية الوحيدة المنظمة التي لها من القوة ما يؤهلها للقيام بثورةٍ ناجحة، والجيش الوطني، وقاعدته المكونة من الفلاحين والعمال، يمثل بالفعل تعبيرًا عريضًا عن السخط الشعبي؛ وبالتالي فهو المؤهل للقيام بالثورة، خاصةً وأن الاحتلال في هذه البلاد كان ما زال قائمًا، أو على الأقل كان من السهل على نظم الحكم الرجعية القائمة آنذاك والموالية للغرب ضرب أي تجمع شعبي حزبي أو لا حزبي، باستعمال القوة من البوليس أو الجيش خاصةً وأن قواده كانوا من أنصار الطبقة الحاكمة، أو من جنود الاحتلال، بعد ذلك يتحول الانقلاب العسكري إلى ثورةٍ اجتماعية، تبدأ وهي في السلطة بدعوة الجماهير إلى المشاركة في الثورة، هذه التجربة فريدة يقدمها العالم الثالث لم توجد في البلاد الاشتراكية التي عرفت ثورات الشعب وتوجيهات الحزب للنظم كما هو الحال في روسيا، أو التي عرفت المسيرة الشعبية الطويلة كما هو الحال في الصين، أو التي عرفت الثورة الشعبية المسلحة كما هو الحال في كوبا.
- (٢)
لقد طرحت تجارب العالم الثالث أيضًا سؤالًا آخر، وهو كيف يمكن للاتجاه الوطني الصرف المعبر عن العواطف الدينية الوطنية السائدة لدى شعب في بلدٍ محتل، والذي يتلخص أساسًا في مقاومة جنود الاحتلال المباشر، أو بنظرةٍ استراتيجية أوسع، في معاداة الاستعمار، كيف يمكن لهذا الاتجاه الوطني الذي كان تقليدًا سائدًا في الأحزاب الوطنية التي تدعو إلى أن حب الوطن فوق كل شيء، كيف يمكن لهذا الاتجاه أن يتحول إلى أيديولوجيةٍ كاملة، لا تقتصر على القضاء على الاحتلال بل تتبنى قضايا الجماهير، وتعمل على إحداث تغيير اجتماعي جذري. صحيح أن ذلك يتم ولكن تتعثر الخطوات؛ فليس هناك ما يمنع من وجود وطني رأسمالي، حتى تضخمت بعض القطاعات مثل الاستثمار في العقارات، والمقاولات، وتجارة الجملة. ولقد طرحت تجارب العالم الثالث هذا السؤال، وهو: هل يكفي الشعور الوطني أن يكون أساسًا لأيديولوجية اجتماعية؟ وكيف يمكن الانتقال من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة التحرر الاجتماعي؟
- (٣)
وقد قدمت تجارب العالم الثالث لنا مشكلة ما زلنا نعاني منها، وهي كيف يمكن إقامة تجربة اشتراكية دون أيديولوجية واضحة العالم من أول الطريق، والاكتفاء بتغييرٍ اجتماعي ذي طابع تجريبي يقوم على مبدأ المحاولة والخطأ، الذي قد يمتد إلى ما لا نهاية؟ كيف يمكن لتجربة محضة دون أساس نظريٍ كافٍ أن تستمر، وأن تضمن البقاء والوصول إلى تحقيق الهدف منها وهو تحقيق الاشتراكية؟ إن الوضوح النظري في أول الطريق لهو أضمن لسلامة التحقيق، وأكثر اقتصادًا للجهد والوقت والنفس والمال، خاصةً وأن التجارب أمامنا كثيرة. إن مهمة الأيديولوجية هي حل جميع المسائل التي تعرض لها أية تجربة اشتراكية حتى قبل وقوعها مثلًا تعريف الفلاح أو العامل. لقد قيل من قبل إنه المالك لخمسة وعشرين فدانًا، وأصبح الآن المالك لعشرة أفدنة؛ أي إن الفلاح لم يخرج عن كونه مالكًا، ولدنيا اثنا عشر مليونًا من الأجراء الزراعيين لا يملكون شيئًا؛ وبالتالي لا ينطبق عليهم تعريف الفلاح. هذا الطابع التجريبي لا يخرج عن كونه خادمًا لطبقةٍ معينة، وهي طبقة ملاك الريف المتوسطين؛ لأن الذي يملك عشرة أفدنة في الريف يعتبر إقطاعيًّا بالنسبة للأجراء الزراعيين المعدمين. إنما الأيديولوجية الواضحة المعالم هي التي تعرف الفلاح بأنه كل من يفلح الأرض؛ وبالتالي تحرم الملكية على قاطني المدينة الذين لا يعملون بأيديهم؛ وبالتالي تكون الأرض لمن يفلحها. مثل آخر تنظره الأيديولوجية قبل أن يحدث كتجربة، وهو أنه لا يمكن تحقيق تخطيط يقوم على التوسع في الاستهلاك والاستثمار معًا، فإما أن يقام اقتصاد يبغي الرفاهية فيوسع من الاستهلاك، وإما أن يقام اقتصاد الحد من الاستهلاك والتوسع في الاستثمار؛ وبذلك تكون الأيديولوجية الواضحة المعالم بالنسبة لتجارب البلاد النامية مسألة حياة أو موت.
- (٤)
كيف يمكن أن تقام تجربة اشتراكية دون حزب شيوعي ثوري، يقوم بتحقيق الاشتراكية ويكون هو الحافظ لها؟ لم تحدث في التجارب الاشتراكية التي استقرت معالمها حتى الآن، أن قام نظامٌ اشتراكي دون حزب شيوعي ثوري؛ فوراء التجربة السوفيتية هناك حزب البلاشفة. وإن عظمة لينين أساسًا لا ترجع إلى تأسيس أول دولة اشتراكية في العالم، بقدر ما ترجع إلى بناء أول حزب اشتراكي في العالم، استطاع أن يقضي على النظام القيصري وأن يقيم دعائم النظام الاشتراكي، ووراء التجربة الصينية الحزب الشيوعي الصيني، وراء التجربة الكوبية اتحاد الأحزاب الوطنية الكوبية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي الكوبي. أما تجارب العالم الثالث فتقدم تجربةً فريدة، وهي الرغبة في إقامة نوع من العدالة الاجتماعية، لا تخرج عن توسيع رقعة التوزيع بين الطبقة الوطنية التي ورثت الحكم عن الأجنبي أو الحكم العميل، وبين الطبقة الوطنية الجديدة التي تخدم الطبقة الأولى، والتي ورثت هي أيضًا الاحتكارات الأجنبية بعد تأميمها. هذه العدالة في التوزيع لا تخرج في حقيقتها عن إعادة التوزيع في حدود طبقةٍ معينة، دون أن تمتد إلى الجماهير العريضة إلا بحساب، والتي لا تنال من التوزيع الأول إلا ما تبقى. هذه التجارب بهذا المعنى لا تحتاج إلى حزب، بل إن قيام أي حزب شعبي ثوري خطر عليها؛ لأنه سيطالب بأن يكون الدخل القومي لأصحاب المصلحة الحقيقية، كما سيطالب بالحد من الاستهلاك الذي لا تقدر عليه الطبقات المترفة، وتخصيص جزء كبير من الدخل للاستثمار، وتغيير جهاز الدولة المتبقي من الأحكام الرجعية السابقة، والاعتماد على كوادر الحزب من أجل استبداله بجهازٍ ثوري جديد، يقضي على بيروقراطية القديم وتخاذله، ويحفظ الثورة الأولى ويضمن لها البقاء ضد الإغراءات الخارجية ومؤامرات الاستعمار.
- (٥)
ومن سمات تجارب العالم الثالث أنها تجارب اشتراكية قامت بعد مجموعة من الانقلابات، ثم تحولت إلى ثوراتٍ وطنية تبغي المحافظة على نفسها والاستمرار في البقاء؛ ومن ثم أعطت لنفسها الحق في اتخاذ كل الوسائل لحمايتها، حتى يتسنى لها القضاء على كل محاولات الرجعية للإطاحة بها، وكان نتيجة لذلك أن ضاعت الأصوات الشريفة مع الأصوات العميلة، وامتنع الحوار الداخلي بين الجماهير، أو بين الجماهير من ناحية والقادة من ناحيةٍ أخرى، فأصبح صوت القادة هو الوحيد المسموع. ومن هنا نشأت أزمة الديمقراطية في تجارب العالم الثالث، وكيف أن القادة قاموا بنفس الدور الذي كان يقوم به الحكم الأجنبي من كبتٍ للحريات وفرض للرقابة وإقامة للأحكام العرفية ومنع النقاش، وأصبح السؤال المطروح اليوم هو كيف يمكن إقامة نظام اشتراكي دون أن يكون له أساسٌ ديمقراطي؟ وقد حدث هذا كله نتيجة لعدم تجنيد الجماهير في حزبٍ شيوعي ثوري، يقوم بالتخطيط والتنفيذ كما هو الحال في جبهة التحرير الفيتنامية، وفي منظمات التحرير الفلسطينية وكما كان في جبهة التحرير الجزائرية.
ولا يقال إنه يصعب إقامة حزب وقادة الثورة في السلطة، فهناك تجارب عديدة أثبتت إمكان ذلك وأقرب مثل إلى ذلك هو إقامة الحزب الثوري الكوبي بعد استيلاء كاسترو على الحكم. وقد تم ذلك بتصور سليم للحزب وهو اشتراك أعضائه في الهدف والغاية، والقيام على أكتاف أصحاب المصلحة الحقيقية. أما صيغة التحالف ووضع المتناقضين معًا فإنه يقضي على وحدة الحزب نفسه ويفقد فاعليته. إن تكوين الحزب يأتي باشتراك مجموعةً من الأفراد في فكرٍ واحد وهدف واحد، دون أن يكون ذلك وظيفة يؤجر عليها أو يتفرغ لها أو تعطى لها أجور إضافية. فالمواطن لا يؤجر للدفاع عن وطنه وللمحافظة على النظام الاشتراكي. ليست وظيفة الحزب كشف الاتجاهات الوطنية والتعرف على معارضي السلطة، بل هو الضامن لحريات الأفراد والمدافع عنهم أمام السلطة، فسلطة الحزب في البلاد الاشتراكية أعلى من سلطة الدولة، حتى إذا اضطرت الدولة لأخذ بعض المواقف السياسية المائعة استطاع الحزب أن يأخذ موقفًا يعبر عن أيديولوجيته وعن التزامه بمبادئه، حتى ولو كان مغايرًا لموقف الدولة السياسي، يستطيع الحزب أن يكون هو الحل الوحيد لسلبية الجماهير ولرغبتها في التعبير، بل يكون فيه حل لحالة الضيق والتمزق وتربية للكوادر وخلق للقيادات الجديدة.
- (٦)
وقد طرحت تجارب العالم الثالث سؤالًا آخر: وهو كيف يمكن إقامة نظام اشتراكي على أيدي البورجوازية الصغيرة المدانة بطبيعتها والمعروف تكوينها الذهني والنفسي، والمعروف أيضًا مصلحتها، فهي وطنية بحساب، بشرط ألا يتحول الحكم الوطني ضد مصلحتها، واشتراكية بحساب، بشرط ألا تمس الاشتراكية مكاسبها الخاصة، ومعادية للاستثمار بحساب، بشرط عدم التناطح معه والاستفادة من رءوس أمواله ومهادنته إذا لزم الأمر، محافظةً منها على موقعها وعلى عدم التردي في نظامٍ اشتراكي لا تريده. إن البورجوازية بطبيعتها تحمل عداءً ساخرًا أو مقنَّعًا لطبقات الشعب ولجماهير الفلاحين والعمال، وهي أقرب إلى الطبقة المسيطرة منها إلى الطبقة الشعبية، تستفيد منها وتتعايش عليها، وتتحدث الوطنية وتدعو الشعب إلى النظام الاشتراكي، وهي بيدها السلطة، وهذا ما لم يحدث في التجارب الاشتراكية المستقلة السابقة، مثل التجربة الصينية أو التجربة الكوبية؛ فقد كانت جماهير الفلاحين هي صاحبة السلطة؛ وبالتالي لم يكن هناك وجود للطبقة المتوسطة أو التي تم القضاء عليها «نظام دييم في فيتنام الجنوبية مثلًا»، أو في سبيل القضاء عليها «حكومة فيتنام الجنوبية حاليًّا»؛ إذ إنها إذا ما شعرت بالخطر انتهت إلى العمالة، وفضلت حكم الأجنبي على الحكم الشعبي.
- (٧)
وسؤالٌ آخر طرحته تجارب العالم الثالث، وهو كيف يمكن استمرار التجربة الاشتراكية — على فرض أنها بدأت — وبعد القضاء على الإقطاع القديم المباشر، مع ميلاد طبقات جديدة تود الإبقاء على الأوضاع الراهنة، وهي الطبقة المكونة من كبار رجالات الجيش في البلاد الأفريقية، ومن رؤساء وأعضاء مجالس الإدارات والمديرين العموميين وموظفي الدرجات الكبيرة؟ كيف يمكن استمرار التجربة الاشتراكية مع التوليد المستمر لهذه الطبقات، حتى أصبحت مسيطرة على أجهزة التخطيط والتنفيذ، وحتى أصبح كل شيء يتم لمصلحتها، فهي التي بيدها سلطة أخذ القرارات؟ إن هذه الطبقات الجديدة في العالم الثالث، وهي البورجوازية الصغيرة عندما تصل للحكم، لهي أخطر على التجربة الاشتراكية من الاتجاهات الرجعية السافرة؛ لأنها اشتراكية القول، وطنية التعبير، وبيدها السلطة. لقد بدأت التجارب الاشتراكية في العالم الثالث ضعيفة الأثر، وأتت الطبقات الجديدة فقضت عليه.
- (٨)
ثم طرحت تجارب العالم الثالث سؤالًا آخر وهو كيف يمكن إقامة تجربة اشتراكية والمحافظة على الشعور الوطني والقومي؟ كيف يُبنى نظام اشتراكي على أساسٍ غير دولي، وهو السؤال الذي طرحته الأحزاب الاشتراكية الوطنية في أوروبا قبل قيام الثورة الروسية، والتي انتهت بالفشل التام وانضمامها إلى الأحزاب الرأسمالية. فالغالب على التجارب الاشتراكية في العالم الثالث أنها لا تود التخلي عن الصياغة الوطنية أو القومية لقضايا التحرر الاجتماعي، وأن الشعور الوطني من أجل التحرر من الاحتلال الأجنبي، لا بد أن يدخل في قضايا التحرر الاجتماعي، وأن الشعور القومي أيضًا أحد عوامل تحريك الجماهير، وأن تسرب النظم الاشتراكية من وطنٍ إلى وطن، يتم داخل أوطان من نفس القومية، ففي كثيرٍ من اللحظات التاريخية لهذه البلاد يتضح فشل الصياغة الوطنية والقومية للقضية، وكثيرًا ما يقول شعب غني بالبترول إنه غني لا يحتاج إلى نظامٍ اشتراكي، فله الأجر المرتفع والمسكن والمأكل والمشرب وبل مظاهر الترف والنعيم، ويرى أن القومية ضارة به لأنه يرى أن من يشاركونه في القومية أقل منه مالًا وأعز نفرًا، وكثيرًا ما هزمت القوميات بقومياتٍ أطغى منها وأشد. فما هو البديل للعالم الثالث الذي ما زال يمر بنفس المرحلة القومية التي مرت بها أو أوروبا في القرن التاسع عشر؟
هذه هي بعض الأسئلة التي تطرحها تجارب العالم الثالث، كنا نود أن نسمع إجابات عنها من الزائر الكريم الذي دعاه فريق من اليسار المصري لعقد حوارٍ معه. ولقد أثار فينا اللقاء التمسك بالاشتراكية العلمية ورفض كل ما عداها، وننتظر لقاءاتٍ أخرى تخدم الاشتراكية أكثر مما تضر بها وتضعنا على الطريق أكثر مما تبعدنا عنه.
ماكسيم رودنسون عالم اجتماع ومستشرق، ولد في باريس سنة ١٩١٥م، وأتم دراسته فيها، ثم رحل إلى الشرق الأوسط، وأقام هناك سبع سنوات كأستاذ ثم كمفتش في مصلحة الآثار ببيروت. أصبح مشرفًا على الأبحاث بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بالسربون L’Ecole pratique des Hautes Etudes، وهو يقوم الآن بتدريس اللغة الحبشية القديمة واللغة القديمة لجنوب شبه الجزيرة العربية «اللغة الحميرية» بجانب محاضراته عن إثنولوجيا الشرق الأوسط.
وهو ماركسي مناهض للاستعمار، أشرف على تحرير مجلة «الشرق الأوسط»، وله مقالات عديدة عن الشرق المعاصر وفي الدراسات الإسلامية عن التاريخ الحضاري والإثنولوجي للعالم الإسلامي، وكذلك عن تاريخ أفريقيا وعلم اللغات وعلم الاجتماع.
وأهم مؤلفاته هي:
- (١)
تلك آثارنا، العمل الأثري لفرنسا في الشرق، دار المكشوف، بيروت ١٩٤٣م.
- (٢) L’Arabes avant L’Islam in Encyclopedie de la Pleiade, Histoire Universell, Tome II, Paris 1957 (شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام).
- (٣) Club Francis du Mohamed livre, paris 1961 (محمد).
- (٤) La Lune chez les Arabes et dans L’Islam in la Lune mythes et rites, Paris 1962 (القمر عند العرب وفي الإسلام).
- (٥) Les Semites el L’Alphabet, les Ecritures sud-arabiques et ethiopiennes, in L’Ecriture el la Psychologie des peoples, Paris 1963 (الساميون والأبجدية).
- (٦) Le Monde et L’extension de L’Ecriture Arabe en L’Ecriture el la psychologie des peuples, Paris 1963 (العالم الإسلامي وانتشار الكتابة العربية).
- (٧) Précis d’ethnologie du Proche-Orient (ملخص إثنولوجيا الشرق الأوسط).
- (٨) Islam et Marxisme (الإسلام والماركسية).