الفصل السادس

نظرية التفسير

  • (١)

    هل لدينا نظرية في التفسير؟

  • (٢)

    أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟

  • (٣)

    عودٌ إلى المنبع أم عودٌ إلى الطبيعة؟

***

(١) هل لدينا نظرية في التفسير؟

سنحاول ابتداءً من هذا العدد١ أن نطرح هذه القضية ثم نتابعها في الأعداد القادمة، راجين أن يقوم الباحثون والمفكرون بالاشتراك معنا في وضعها والمساهمة في حلها.

ماذا تعني هذه القضية؟ وماذا نقصد بهذا التساؤل؟ الواقع أن أهم ما يميزنا كأمةٍ، سواء إذا كنا مجتمعًا حاليًّا أو حضارة سابقة، هو أننا قد تلقينا «وحيًا» يمتاز على الأقل بخصائص ثلاث؛ أولًا: أنه آخر مرحلة من تطور الوحي في التاريخ ابتداء من آدم حتى محمد، وبذلك يكون لدينا الوحي مكتملًا في صورته النهائية، يمكن أخذه كأصلٍ للشرائع دون انتظار تغيير أو تبديل أو نسخ. ثانيًا: أنه محفوظٌ كتابةً بين دفتَي القرآن؛ وبذلك أمِن خطورة التحريف التي انتابت الكتب المقدسة الأخرى من توراةٍ وإنجيل عند بني إسرائيل. ثالثًا: أن القرآن ككتاب مقدس لم ينزل دفعةً واحدة بل نزل منجمًا كما يقول علماء التنزيل؛ أي إنه ليس وحيًا ولكنه وحي منادى به، اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم، تأتي كل آية كحلٍّ لموقف، ثم تُجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عامًا وتصبح القرآن. فأهم ما يميزنا عن غيرنا من الأمم والحضارات المعاصرة هو هذا القرآن.

والقرآن كتابٌ مكتوب بلغةٍ معينة، وهي اللغة العربية. ولكي نعرف الوحي لا بد لنا من معرفته بقراءته وفهمه. وكما يقول الأصوليون في «مقاصد الشارع» إن الشريعة موضوعة للأفهام. وفهم القرآن ليس إلا نظرية في التفسير، والتفسير ليس إلا منطقًا لفهم القرآن. ومن هنا جاءت أهمية علوم التفسير باعتبارها العلوم الأولى الضرورية لفهم القرآن، ولإقامة نظرية دينية للمعرفة قائمة على الوحي كمعطى سابق؛ أي إن نظرية التفسير هي منطق الوحي؛ ولذلك عندما نتساءل: هل لدينا نظرية في التفسير؟ نقصد وضع الوحي من جديد باعتباره مصدرًا للمعرفة وموضوعًا لها في وقتٍ واحد أمام الأذهان، وهي الخطوة الأولى التي لا بد منها قبل استنباط الأحكام الشرعية، وقبل تأسيس أي علم ديني إسلامي، أو حتى قبل إعادة بناء علومنا التقليدية الإسلامية من أصولٍ وفقه وتصوف وكلام وفلسفة.

فإذا نظرنا إلى الحالة الحاضرة لنظرياتنا في التفسير نجد أننا لا نملك نظرية محكمة ذات أسس مدروسة ومختارة تهدف إلى قصدٍ معين. فلم يتعد تفسيرنا مرحلة الشرح والتفصيل والتكرار وبيان ما لا يحتاج إليه في كثيرٍ أو في قليل، بصرف النظر عن حياة الناس ومشاكلهم ومتاعبهم واحتياجاتهم، فيدور النص الديني على نفسه مستمدًّا معانيه من الإسهاب في المعنى الأولي للآية، فإذا ابتعد المفسر عن هدوئه واطمئنانه وتحمس للإسلام الذي يعتنقه، والذي يقوم بشرحه وتفسيره، فإنه يقوم بتقريظ الإسلام وبالثناء على الشريعة وبالدفاع عن قيمه الخلقية والروحية، وربما تكون حالة المسلمين على عكس ذلك، دون أن يحاول المفسرون تحسين أمور الناس — وليكن مستمعيه على الأقل — وإصلاح أحوالهم. فالمفسر في الحالة الأولى شارح، وفي الحالة الثانية خطيب، وكلاهما ليس بمفسر؛ إذ إن المُفسر مصلح صاحب دعوى لتحسين أحوال الناس، يرى في النصوص مشاكل المسلمين وحلولها.

ولكن هناك أيضًا ما هو أهم من أسلوب العرض، فشروط المفسر التقليدية — خاصةً إن كان فقيهًا — شرطان أساسيان: علوم اللغة وعلوم التنزيل. فعلوم اللغة هي التي يتم بواسطتها تحديد معنى النص الديني بعد تطبيق المبادئ اللغوية للغة خاصة: الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، الظاهر والمؤول، المقيد والمطلق، العام والخاص … إلخ، على النص لضمان صحة المعنى المستنبط منه. ولكن هذا المنهج اللغوي الاستنباطي يفترض أن النص غير واضح المعنى، وأنه يحتاج إلى جهدٍ زائد على الفهم البسيط لإدراك معاني النص، فضلًا عن أن المنهج ينسى تمامًا الخبرة الحية التي يصفها النص، والتي يشعر بها المفسر باعتباره إنسانًا ينتسب إلى الأمة كلها، يحس بمشاكلها ويعمل على حلها أو التي يتأكد منها المفسر في حياته اليومية باعتباره إنسانًا؛ أي إن هذا المنهج اللغوي الاستنباطي ينسى أساسًا المنهج التجريبي الاستقرائي الذي هو أساس الشرع واستنباط الأحكام عن طريق القياس الشرعي القائم على البحث عن العلة المؤثرة، كما أنه ينسى الفهم البسيط للنص عن طريق الحدس المباشر، دون حاجةٍ إلى منطقٍ لغوي منظم ومقنن.

أما علوم التنزيل فإنها تعطي المفسر التقليدي أسباب النزول لمعرفة المعنى الصحيح للآية بالنسبة للواقعة الأولى التي نزلت لها، ولكن هذه الواقعة الأولى بالرغم من أنها تشير إلى سبب نزول الآية، إلا أنها خبرة حية لمن نزلت فيهم الآية، بل وخبرة حية متكررة عند غيرهم، فيتم فهم الآية بإرجاعها إلى خبرتها الحالية في شعور المفسر في حياته الفردية والجماعية؛ أي إن أسباب النزول التقليدية تتحول إلى مواقف إنسانية حاضرة، يتم فيها فهم الآية فهمًا مباشرًا برؤية الوقائع نفسها التي تشير إليها الآية. وعلى هذا تكون نظرية التفسير الجديدة قائمة على الحدس المباشر للموقف الإنساني.

نظرية التفسير إذن هي التي تربط بين الوحي والواقع، أو إن شئنا، بين الدين والدنيا، أو إن فضلنا، بين الله والناس. فإذا نظرنا إلى تفسيرنا الحالي نجد أننا لا نملك نظرية محكمة، فهناك علوم التفسير التقليدية التي تعتمد على علوم القرآن والحديث، ثم هناك الواقع الحالي بفكره الإنساني المستقل الذي لا يخرج من النصوص الدينية مباشرة، بل يبدأ بالوقائع والمواقف نفسها، محاولًا فهمها على أساسٍ من البواعث الإنسانية الصرفة؛ أي إن الوضع الحالي يكشف عن وجود ثنائية بين النص الديني والعالم الواقعي، كل منهما في جانب: النص الديني غارق في الشروح التقليدية أو في الخطابة الحماسية، والعالم الواقعي يسوده فكر إنساني محض دون نظر إلى تفسيرٍ مباشر من النص الديني بالرغم من اتفاقهما في البواعث.

وهناك بعض المحاولات الحديثة لإقامة تفسير لتفادي هذه الثنائية بين النص من ناحية وبين الواقع الحديث من ناحيةٍ أخرى، ولكن يغلب على هذه المحاولات بعض العيوب التي تمنعها من أن تكون نظرية محكمة في التفسير، والتي هي في نفس الوقت منهج للإصلاح والتغيير، وأول هذه العيوب هو أن التفسير ما زال نظرية في وجود الله أكثر من كونه نظرية في وجود الإنسان؛ أي يهدف إلى إثبات وجود الله وإلى تناول ذاته وصفاته وأفعاله بالبيان والتفصيل، وأن العالم مخلوق، وأن الإنسان محاسب؛ أي إنه تفسيرٌ إلهي عقائدي كلامي، مع أن التفسير المطلوب حاليًّا بعد أن ثبت وجود الله وخلق العالم وحساب الإنسان وباقي العقائد هو إقامة نظرية في وجود الإنسان الفردي والاجتماعي، محاولًا وصفه في مواقفه العديدة مع الآخرين وفي العالم. وقد كان الهدف الأساسي للجانب الإلهي والعقائدي هو الكشف عن تكوين الإنسان ووضعه في العالم، خاصةً وأن مقاصد الشارع التي وضعت «ابتداءً» كما يقول الأصوليون تهدف إلى الإبقاء على الضروريات الخمس المعروفة: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وكلها جوانب لحياة الإنسان الزمنية.

والعيب الثاني هو أن التفسير الحالي ما زال تفسيرًا مرتبطًا بظروف البيئة الإسلامية التي نشأ الإسلام بها خاصةً من الناحية الاجتماعية والاقتصادية؛ فهو تفسيرٌ يؤمن بالتفاوت بين الطبقات في الرزق بصريح الآيات، ويؤمن بالقيم الروحية والخلقية بنص القرآن. ولكن في بعض الحالات كالرق مثلًا استطاع التفسير أن ينتهي إلى حرمته (عمر بن الخطاب)، مع أن التفسير اللغوي للآية لا ينتهي إلى ذلك؛ أي إن التفسير باستطاعته في ظرفٍ معين أن يهدف إلى إصلاحٍ مباشر لأحوال الناس، وإلى تغيير جوهري للنظم الاجتماعية حتى ولو كان مخالفًا للتفسير اللغوي الظاهري للنص. ونظرًا للظروف الحاضرة وللأوضاع التي توجد بها الأمة، نجد أن كل تفسيرٍ طبقي يهدف إلى تأكيد التفاوت في الرزق لا يخدم مصالح المسلمين في شيءٍ؛ نظرًا للإقطاع القديم والجديد الذي ما زال موجودًا في كثيرٍ من بلاد المسلمين. ولا بد أن يهدف التفسير إلى الدعوة إلى التقريب بين الطبقات أكثر من الدعوة إلى التفاوت بينها، خاصةً وأننا نجد في تاريخ الدعوة الإسلامية تفسيرًا دعا إلى ذلك من قبل (أبو ذر الغفاري، عمر بن عبد العزيز)، عندما ظهر أثر التفاوت بين الطبقات على مصالح المسلمين داخل المجتمع الإسلامي. أما التفسير التقليدي الذي يهدف إلى إثبات القيم الروحية، فلم يستخدم القيم الروحية وسيلة لتسكين الناس ولإبقاء الاستغلال، ولكن للثورة على الأوضاع المنافية للشرع وللدعوة إلى الإصلاح والتغيير. أما الآن فيستعمل هذا التعبير عادةً للصد من التيار الثوري وللحد من تطور المجتمع الإقطاعي الرأسمالي إلى المجتمع الاشتراكي، وبتعبيرٍ حديث إن التفسير يجب أن يحتوي على البواعث الدينية نفسها من تحقيقٍ للعدالة، ومن قضاء على الاحتكار والاستغلال.

والعيب الثالث هو أن التفسير الحالي لا يبدأ أبدًا بالنقد وبالدعوة إلى الإصلاح والتغيير الجذري للأوضاع المنافية للشرع، بل إنه تابعٌ ومؤيدٌ لكل إصلاحٍ أو تغيير يبدأ من خارج النص الديني؛ أي من الفكر الإنساني المستقل يعبر عنه ثائر ويقوم به؛ أي أن الأولوية في النداء بالتغيير وفي كشف المشاكل ووضع الحلول لها ليست للنص، بل للمذاهب الفكرية الاقتصادية والسياسية، وليست للمفسر بل للثائر الاجتماعي مع أن المفسرين التقليديين (ابن حنبل، أبو ذر، ابن تيمية، الأفغاني) كانوا يبدءون بالنقد بالمطالبة بالإصلاح وبتغير الأوضاع. فيجب أن ينحو التفسير الآن نحو البدء ولا ينتظر أن يكون تابعًا ولاحقًا وما عليه إلا التأييد. فالموقف الشرعي هو الموقف الأولي الذي يجب أن يأخذه المفسر، وبالتزامه يصبح أكثر من مصلحٍ أي ثائر على الأوضاع المنافية للشرع.

فإن أردت أن أجيب على سؤالين: هل لدينا نظرية للتفسير؟ فإني أجيب بالنفي للأسباب الآتية:
  • (١)

    ما زال التفسير جزءًا من العلوم التقليدية كعلوم القرآن والحديث، دون أن تكون له أولوية باعتباره نظرية في المعرفة القائمة على الوحي. فالتفسير هو منطق الوحي.

  • (٢)

    يدور التفسير التقليدي حول الشروح والتفصيلات والجزئيات التي لا أهمية لها والتي لا تراعي معاني النص المستقلة ولا الأوضاع الحالية للأمة.

  • (٣)

    يغلب على التفسير منطق لغوي لاستنباط المعاني من النصوص، مع الاستعانة بأسباب النزول دون استعمال الحدس المباشر للنص لفهم المعنى الواضح فهمًا مباشرًا، بالإشارة إلى الخبرة الحية التي يشعر بها المفسر في حياته الفردية والجماعية، والتي هي الوجه الآخر من النص الديني.

  • (٤)

    عيوب المحاولات الحديثة للتفسير من أنها تتجه نحو الجوانب الإلهية والعقائدية أكثر من اتجاهها نحو الإنسان ومواقفه بين الآخرين وفي العالم، وأنها لا تحلل الظروف الحالية بما فيه الكفاية لتعرف مدى التزامها، خاصةً وأن الإقطاع والاستعمار ما زالا جاثمَين على كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية، مما يقتضي تفسيرًا ثوريًّا لأقصى درجة، وأنها تفسيرات تابعة ولاحقة ومؤيدة دون أن تكون بادئة وناقدة وخالقة.

تلك بعض النقاط أطرحها للمناقشة أمام زملائي الباحثين والمفكرين في الجامعات خاصة في جامعاتنا الأزهرية، والتي أرجو أن تكون نقطة بدء لطرح قضية التفسير ودوره الحالي في تحقيق وحدة ثقافتنا الوطنية.

(٢) أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟

عرضنا في عددٍ سابق لقضية التفسير متسائلين عما إذا كانت لدينا نظرية في التفسير. وأجبنا على ذلك بالنفي لبعض العيوب المنهجية الكامنة في تفسيراتنا الحالية. وفي هذا العدد٢ نضع سؤالًا آخر، أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟
ماذا نعني بهذا السؤال؟ الواقع أن كل التفسير التقليدي يتبع طريق التحليل النظري سواء كان نقلًا للمأثور أم تفسيرًا بالرأي؛ أي إن المفسر — وهو كما قلنا سابقًا لم يكن إلا شارحًا — يستنبط المعنى من النص بالعقل المحض، ثم يلجأ للاستشهاد على ذلك إما بقولٍ مأثور أو بحجةٍ عقلية، ولكن هذه الطريقة في التحليل النظري لها عيوب ثلاثة:
  • العيب الأول: هو أن القول بالمأثور، حتى ولو اتفقت جميع الروايات على صحته وعلى شرعيته، إلا أنه يترك معنى النص دون حجة من داخله. فالمأثور حجة تؤيد معنى النص الذي استخرجه المفسر منه بطريقةٍ ظنية؛ أي إن يقين المأثور لا يؤثر في ظنية المعنى الذي يعطيه المفسر، فيظل ظنيًّا يحتاج إلى يقين له، لا يستطيع القول بالمأثور أن يعطيه إياه من الخارج.
  • والعيب الثاني: أن التفسير بالرأي — وإن كان من نفس طبيعة المعنى الذي يعطيه المفسر، إذ إن كليهما معنى — أفضل من القول المأثور، ولكنه ظنيٌّ أيضًا، والمعنى الذي يعطيه المفسر ظني كذلك، والظن لا يحيل الظن إلى يقين، هذا فضلًا عن تعدد الآراء وتعارضها، فبأيهما يؤخذ؟ وأيهما يرجح؟
  • والعيب الثالث: هو أن المفسر يشرح كل نص دون استثناء سواء كان في حاجةٍ إلى ذلك أم لا؛ فهو يبدأ من أول السورة إلى نهايتها أو من أول الربع إلى نهايته أو من أول الحزب إلى آخره، مع أن القرآن — كما قلنا — نزل منجمًا، كل آية تحمل معنى مستقلًّا كحلٍّ لموقف مشكل في حياة الناس اليومية، حتى الآيات التي يستعصي على المفسر شرحها يحاول ذلك قدر جهده. وقد كان عمر بن الخطاب يضرب من يتساءل عن معنى مثل هذه الآيات وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، بل ظل طيلة حياته لا يدري معنى ألفاظ بعض الآيات مثل: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا.

أما منهج تحليل الخبرات فهو المصدر الطبيعي للنص الديني في نشأته الأولى — كما أوضحنا ذلك من قبل في أسباب النزول. ومن ثم فلا بد لفهمه من معرفة معناه كخبرة حية في شعور الفرد الذي نزلت بسببه الآية أو في الجماعة الأولى التي نزل فيها النص. فالنص الديني لم يكن رأيًا ووجهة نظر ولا معنى مجردًا، بل كان قلقًا وضيقًا وألمًا وتوجعًا يحس به الفرد، حتى يأتيه النص بما يفرج همه وكربه. فالعثور على الخبرة الحية الأولى لا تؤدي فقط إلى فهم معنى النص، بل تعطينا الواقعة نفسها؛ أي الحقيقة الدينية التي يعبر عنها النص. فالخبرة الحية هي مصدر النص الديني ويكون التفسير إذن هو رد الشيء إلى أصله، كما يقول المفسرون في المعنى الاشتقاقي للفظ «التأويل».

والخبرة الحية لا تحتاج إلى فهمها لا إلى القول بالمأثور ولا إلى التفسير بالرأي، ولكن إلى تحليل الخبرة الحية نفسها لإدراك معناها قبل أن يتحدث للسامعين المحيطين به، وقبل أن يكتب لجمهور قارئيه، فهو في نفس الوقت متحدث وسامع وكاتب وقارئ. ويصبح النص الديني مفهومًا لدى رؤية مباشرة وحدس عيان أو كما يقول الصوفية مشاهدة، فلا يحتاج إلى شرح معاني النصوص بل إلى وصف ما يشعر به ويتحقق في حياته اليومية مرة بل مرات عديدة.

فإذا تم للمفسر ذلك فإنه يمكنه بعد ذلك إشراك غيره في خبرته، حتى يكون على يقينٍ أكثر وأعم بأن تحليله لخبرته كان صادقًا وصحيحًا، يمكنه الالتجاء إلى خبرات غيره سواء من المفسرين أو من السامعين؛ وبذلك يصبح النص الديني واقعة إنسانية عامة يتحقق من وجودها أكثر من شخص، ولها من الموضوعية والعمومية ما يؤهلها لأن تكون حقيقة إنسانية عامة.

فإذا أردنا الإجابة على هذا السؤال: أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟ يمكننا أن نقول إن منهج تحليل الخبرات هو النظرية الوحيدة الممكنة في التفسير؛ وذلك لأن فهم النصوص لا يتأتى إلا بإرجاعها إلى مصدرها في مجموع الخبرات الحية التي نشأت فيها. فالمفسر في نفس الوقت قارئ للكتاب، وإنسانٌ يحيا ويدرك المعاني بقدر ما يشعر بالخبرات المحققة لها في حياته اليومية؛ فهو لا يحتاج لفهم وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ إلى البحث عن معناها، ولكن إلى التأمل في حياته اليومية التي يمكن أن تمده بخبرةٍ أو بأكثر، تبين له أن ما ظنه مرةً أنه شر ظهر بعد ذلك خيرًا، وأن ما حسبه يومًا أنه خير بان له بعد ذلك شرًّا.

فبدوام قراءة المفسر للنصوص الدينية، وبمقدار تعدد خبراته في حياته اليومية، فإن معاني النصوص الدينية التي يتم إدراكها مباشرة دون حاجةٍ إلى تطبيق منطق صارم للغة — باستثناء أبعاد اللفظ الثلاثة: المعنى الاشتقاقي والمعنى العرفي والمعنى الشرعي — تتحول إلى رؤيةٍ مباشرة لنفس المعاني ولكن مستقرأة من الخبرات اليومية التي يعيشها المفسر، ومن ثم يصبح المعنى الرباط بين النص الديني والخبرة الحية. وهذا ما قلناه سابقًا من أن نظرية التفسير هي التي تربط بين الوحي والواقع. وعلى هذا يمحى الفرق بين الحقيقة النظرية والواقعة المشاهدة.

ومميزات هذا التفسير أنه يكشف عن الوقائع نفسها التي تتحدث عنها النصوص دون أي تغليف لفظي أو معنوي لها، أو كما يقول الأصوليون لا يصبح التفسير مبحثًا من مباحث الألفاظ، ولا مبحثًا من مباحث دلالة الألفاظ بل مبحثًا من مباحث العلة، ويكون التفسير هو البحث عن العلة المؤثرة؛ وبذلك لا تحتاج الخبرة المحللة إلى شاهدٍ يشهد لها من خارجها، سواء كان قولًا بالمأثور لصحابي أو حجة معنوية لصاحب رأي، بل تحتوي على محك صدقها في باطنها باعتبارها واقعة إنسانية عامة بها، ولا يحتاج المفسر في التعبير عنها إلى استعمال ألفاظ النص نفسها التي قد تكون مصطلحات خاصة بالحقائق الدينية، والتي قد لا قد لا يقبلها أو لا يفهم معناها كل مفكر على وجه التمام؛ إذ يكفيه استعمال الألفاظ الشائعة والمتداولة بين الناس في حياتهم اليومية.

ومنهج تحليل الخبرات كنظرية في التفسير ليس غريبًا على الحضارة الإسلامية؛ فقد نشأ بها منذ نشأتها وظهر بصورٍ مختلفة في شتى العلوم الإسلامية. فالمثل الفقهي ليس إلا موقفًا إنسانيًّا يعيشه المكلف ويحيا خبرته، والقياس هو تحليل عقلي لهذه الخبرة بإرجاعها إلى صنوها في الشرع أي في خبرة منزلة، والطريق الصوفي هو أساسًا تحليل لخبرات الصوفي ولما يعتلج في نفسه من وجدٍ وهيام، وشوق ولهفة إلى آخر ما يعبر عنه الصوفية تارةً بالأحوال وتارة بالمقامات. بل إن نظريات المتكلمين قائمة على تحليل الوجود الإنساني في شتى مظاهره وكأيمان وحرية وكسلوك اجتماعي، وأيضًا فإن نظريات النبوة عند الفلاسفة يظهر فيها جانبها الإنساني والاجتماعي اللازم لها، فضلًا عن أن علوم القرآن تقوم أساسًا على علوم التنزيل التي تكشف عن مجموعةٍ من المواقف الإنسانية المثالية التي يمكن أن تتكرر، كما أن علوم الحديث تقوم أيضًا على تحليل شعور الراوي لمعرفة مقدار ضبطه.

ولا يُخشى على تفسير النصوص الدينية بإرجاعها إلى مصادرها في التجارب الحية التي نشأت من إغفال المصدر الإلهي للنصوص. فكما قلنا سابقًا إن من عيوب تفسيراتنا الحالية أنها تنحو نحوًا إلهيًّا أكثر منها نحوًا إنسانيًّا. وقد بان في الشريعة الإسلامية خاصةً في «المقاصد» كيف أن الشريعة أساسًا موجهة نحو الضروريات — الدين والنفس والعقل والعرض والمال — وهي مكونات حياة الإنسان الفردية والجماعية. فالوحي قائمٌ كما هو بين أيدينا بين دفتَي القرآن، والنبوة قائمة، فها نحن نعلم عن يقين وجود الرسول عن طريق كتب السيرة ومن آثاره العيانية في التاريخ، إنما الشيء الجديد هو محاولة العثور على أساس الوحي داخل الخبرة الإنسانية؛ ومن ثم يصبح مرادفًا للوجود الإنساني، وذلك ما نحن في أشد الحاجة إليه خاصةً في عصر المذاهب الفكرية والسياسية التي تحاول كلها العثور على نظامٍ اجتماعي سياسي اقتصادي للإنسان وللجماعة الإنسانية.

ولا يُخشى على النص الديني أيضًا من ذاتية الخبرة الإنسانية، خاصةً وأن الوحي له وجود موضوعي مستقل عن وجود الإنسان، ولكن فرق بين النسبية والذاتية. فالنسبية هي استحالة وجود حقيقة موضوعية شاملة يتفق عليها كثيرون، أما الذاتية فهي إمكان وجود مثل هذه الحقيقة الموضوعية، ولكن لا يتم الكشف عنها إلا من خلال ذات الفرد، والتصوف الإسلامي خير دليل على ذلك؛ فهو منهج ذاتي صرف إلا أنه يصل إلى كشفٍ موضوعي يتفق فيه أكثر من صوفيٍ واحد، هذا فضلًا عن أن الخبرة الحية ليست إلا مادة التفسير التي تأتي للمفسر من العالم الخارجي، بوصفه مجموعة من المواقف الإنسانية يجد المفسر نفسه فيها. أما النص الديني فهو الذي يحيل هذه المادة إلى إدراكٍ وإلى رؤيةٍ مباشرة؛ أي إن معنى النص وهو عنصر الوحي هو الضامن لموضوعية الخبرة الحية.

ولا يُخشى أيضًا على موضوعية الشريعة الإسلامية بعد ارتباطها بتحليل الوجود الإنساني بوصفه المصدر الأول لها فالشرع آتٍ من الوحي، ولكن أوجه تطبيقه هي التي بينها الوجود الإنساني، فرب حكم شرعي ينزل على غير وجهة في الوجود الإنساني؛ ومن ثم لن تصبح موضوعية الشرع موضوعية قبلية فحسب بوصفها الوحي المنزل، ولكن ستصبح أيضًا موضوعية إنسانية ترتكز على الوجود الإنساني نفسه، وذلك ما يقصده الفقهاء بقولهم إن كليات الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ أي إنها تحتوي على موضوعيةٍ شاملة عامة ومطلقة مرتكزة على طبيعة الوجود الإنساني نفسه.

يمكننا إذن أن نستخلص النقاط الآتية:
  • (١)

    عيوب التفسيرات النظرية التي تبدأ بشرح النصوص الدينية بكليتها — سواء كانت تعتمد على المأثور أو على الرأي — لأن معاني النصوص تظل ظنية في حاجةٍ إلى يقين يأتيها من داخلها ويربطها بالواقع ويجعلها مرادفةً له.

  • (٢)

    ضرورة البحث عن معنى النص في التجربة الحية التي يشير النص إليها، ومن ثم تحويل رؤية المعنى العقلي إلى مشاهدة عيان.

  • (٣)

    لا توجد أسبقية في الزمان بين فهم المعنى من النص وبين تحليل الخبرة الحية التي نبع منها، بل هناك معية زمنية فالمعنى هو الضامن لصدق تحليل التجربة بل ولاختيار عينتها.

  • (٤)

    هذا المنهج الجديد لتحليل الخبرات ليس غريبًا على الحضارة الإسلامية، وليس تابعًا لمناهج أخرى مشابهة في حضاراتٍ أخرى؛ لأنه ظهر من صورٍ شتى في العلوم الإسلامية سواء في علوم القرآن والحديث أو في علوم الفقه والتصوف، بل وفي علم الكلام والفلسفة.

  • (٥)

    لا يخشى من هذا المنهج على الوحي باعتباره مصدرًا إلهيًّا للنصوص الدينية. فالوحي ما زال، أو من ذاتية الخبرة أو من النيل من موضوعية الشريعة الإسلامية؛ لأن الوحي هو الضامن الأول له في صدق تحليل الوجود الإنساني.

ذلك ما نطرحه أيضًا على علمائنا الكرام في بحثنا عن قضية التفسير.

(٣) عَودٌ إلى المنبع أم عودٌ إلى الطبيعة؟

تتميز الحركات السلفية التي تدعو للأصالة بالدعوة إلى القديم تحت شعار «عود إلى المنبع» Retour aux sources، ويقصد بهذا العود إلى الكتاب.٣ فكان شعار لوثر في الإصلاح الديني «الكتاب وحده» Sola Scriptura ورفض تراث العصور، وكان شعار ابن تيمية وابن القيم العود إلى القرآن طبقًا للحديث المشهور «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح به أولها»، وكان شعار الإصلاح الديني عند محمد عبده ورشيد رضا العود إلى صفاء الإسلام الأول وإلى عصر الصحابة كنموذجٍ لتحقيق الدعوة، وما زالت هذه الدعوة قائمة عن وعيٍ أو دون وعي ترى خلاص الحاضر في الرجوع إلى الماضي في الأجيال الأربعة الأولى من الأفضل إلى الأقل فضلًا: الرسول، الصحابة، التابعون، تابعو التابعين.

وهذه الدعوة في الحقيقة لها خطورتها على الحاضر ومملوءة بالصعاب في تعاملها مع الماضي. وتتمثل خطورتها على العصر في الانعزال عنه كليةً والهروب منه، ورفض مواجهته لفهمه بالاتصال المباشر وللسلوك فيه، والتأثير عليه بالعمل والممارسة، ثم تعويض ذلك العجز في عشق القديم المشرق، واتخاذ فترة من فترات التاريخ وفصلها عن مجراه، وجعلها نموذجًا للتأمل والإعجاب والاحتماء فيها من محن العصر الداخلية والعواصف الخارجية التي تهب عليه. وعلى أفضل الأحوال، يحدث هذا عن حسن نية عجزًا وتعويضًا، وعلى أسوأ الأحوال يحدث هذا عن سوء نية لرفض الدعوات الجذرية التي تدعو للمعاصرة والتي تبغي تشكيل الواقع برمته، يحدث هذا تملقًا للجماهير واعتمادًا على إحساسهم الديني وتقديسهم للتاريخ القديم «وليس في الإمكان أبدع مما كان»، وفي النهاية يخرج القديم بعبله، بكل ما فيه من تشبيه وتجسيم، أو ما يضاد ذلك من تجريدٍ وتنزيه وبعد عن الواقع وإغراق في المتاهات النظرية والمشاكل الوهمية.

وإذا حدث هذا عن حسن نية تظهر الصعاب التي تجعل «العود إلى المنبع»، لا يؤدي الغرض منه، وهو تغيير الحاضر طبقًا لنموذجٍ ماضٍ. وأولى هذه الصعوبات الاصطدام باللغة؛ وذلك لأن النبع هو الكتاب أي النص مدون لا سبيل إلى الاتصال به إلا عن طريق اللغة؛ وبالتالي الوقوع في مناهج التفسير والتشتت بين التفسير اللغوي والتفسير المعنوي والتفسير الباطني، خاصةً وأن اللغة — واللغة العربية بوجهٍ أخص — تحتوي على الحقيقة والمجاز، الظاهر والباطن، والمحكم والمتشابه … إلخ. فتتحول مشكلة تغيير الواقع إلى مشكلة تأويل النصوص وتعارض الآيات، ولا يتم تغيير شيء من الواقع، ولا يتم عود إلى المنبع الذي يتبخر في روافد عدة، وتضيع وحدة الرؤية للواقع وتحل محلها اختلافات المفسرين التي لا يمكن التوفيق بينها لتعارضها وتضاربها، حتى ليقال إن الحضارة الإسلامية كلها كما يعرضها التراث القديم، هي حضارة تفسير أو حضارة لغة أو حضارة كتاب «فيها قولان»!

وثاني هذه الصعوبات هي الوقوع في تفسير مضاد لحركة الواقع، وجعل «العود إلى المنبع» وسيلة للقضاء على تغيرات الواقع الطبيعية، خاصةً إذا سمحت اللغة بذلك، فتستخدم آية: وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ لمعاداة الحركات الاجتماعية الثورية، كما فعل الشيخ مصطفى الغنيمي التفتازاني في هجومه على الحزب الاشتراكي بعد مولده سنة ١٩٢١م، والهجوم باسم الإيمان على ثورات العصر، واتهام كل فكر طبيعي بالإلحاد، والتغني بالروح، واتهام كل فكر علمي بالمادية، ويصبح «العود إلى المنبع» تثبيتًا للأوضاع القائمة وتدعيمًا لها باسم الدين، والوقوف في وجه كل تغير تحت ستار الكتاب، وسواء تم ذلك عن حسن نيةٍ وإيمان تقليدي أو عن سوء نية، للمحافظة على بعض المكاسب الطبقية للمفسرين فالنتيجة واحدة.

وثالث هذه الصعوبات هو أن يحدث بالفعل تفسير تقدمي اجتماعي كما هو الحال في تفسير المنار، ولكن يكون التقدم نابعًا من الواقع ويكون النص تابعًا له، ويصبح المنبع لاحقًا بالطبيعة لا مصدرًا لها؛ وبالتالي يفقد قيمته ومبررات وجوده، ويصبح مجرد مباركة للتقدم الذي يقوم به بحيث يستطيع أن يفرض نفسه. فإذا تمت محاولات جدية لربط النص بالواقع ولخلق «لاهوت ثوري»، فإنه قد يقع في التلفيق الذي غلب على التراث القديم، ويظهر غريبًا شاذًّا أمام الفكر العلمي، ويكون مصير دعاته العزلة والرفض، فلا هم يعودون إلى المنبع كالسلفيين ولا هم يعودون إلى الواقع كدعاة الحلول الجذرية.

«العود إلى المنبع» إذن طريقٌ مسدود محفوف بالمخاطر والصعوبات. ولكن ما البديل؟ البديل هو «العود إلى الطبيعة». فالطبيعة هي مصدر الفكر، وليس الفكر مصدرًا للطبيعة. وقد كانت حركة «العود إلى الطبيعة» التي أعطى سبينوزا أساسها النظري في القرن السابع عشر، والتي أعطاها روسو بُعدها الاجتماعي والفني في القرن الثامن عشر، والتي أعطاها العلماء بعدها العلمي في القرن التاسع عشر، والتي أعطاها الفلاسفة المعاصرون أساسها الوجودي في القرن العشرين؛ كانت هذه الحركة مصدرًا للتمرد الفني من الكلاسيكية ولنشأة الرومانتيكية، والتحرر من الدين اللاهوتي ونشأة الدين الطبيعي، وللتمرد من التربية القائمة على الثواب والعقاب، وإرساء لمبادئ التربية الطبيعية، وللتحرر من القانون الإلهي المفروض ونشأة مدرسة الحق الطبيعي، وللتحرر من التفكير المثالي وإرساء قواعد المنهج العلمي، والتحرر الداخلي من المصير الذي تحتمه الماهية المسبقة والبدء بالوجود الإنساني. ويتميز «العود إلى الطبيعة» بأنه اتصالٌ مباشر بالواقع والتحام معه، ويدل على التزام بالمواقف، وعلى رفض كل صور العجز والتعويض، كما يستطيع التخلص من عقبة اللغة والتفسير والتأويل والتبعية، وتنشئة حضارة العلم.

ولقد كان الوحي نفسه «عودًا إلى الطبيعة»، وهو ما يعرف عند الأصوليين والمفسرين «بأسباب النزول»؛ فقد استدعت الطبيعة الوحي بدليل وجود أفراد قبل البعثة، يرفضون عبادة الأصنام ورغبة العبيد والفقراء في التحرر. ولأول مرة لا يُعلَن الوحي مرةً واحدة بل يُستدعى حسب المواقف، كلما اقتضت الواقعة أساسًا نظريًّا نزل الوحي ملبيًا لمقتضيات الطبيعة. وقد كان لدى عمر بن الخطاب حدس يستطيع به الوصول إلى حكمٍ ينزل الوحي بتأييده. كان الوحي إذن دعوة من الطبيعة وتلبية لمقتضياتها، ولم يكن مفروضًا من الخارج يعمل ضدها ويبغي قهرها.

ويمكن أن يكون هناك تفسير طبيعي لا يبدأ من اللغة، بل من تحليل الواقعة نفسها التي يشير إليها النص، وتحليل الإدراك الحسي أو الانفعال أو العقل. فمثلًا تعبر الآية وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ عن حقيقة هي في الواقع تجربة حية نتحقق منها في حياتنا اليومية، فهزيمة يونيو/حزيران مثلًا شر ولكن خرج منها خير كثير في معرفة مواطن ضعفنا وأسباب قصورنا؛ أي إن التفسير الطبيعي لا يبدأ من النص بل من الواقع، هدفه إدراك تكوين الطبيعة الذي هو في الحقيقة المعنى الحسي للنص. وتكون مهمة المفسر رؤية الواقع في بطن النص، وحينئذٍ لا ينفصل الحديث عن النص عن الحديث عن الواقع فهما شيء واحد. فالنصوص الدينية مواقف إنسانية، يسمع المفسر الأولى ويحيا الثانية، يأخذ حدسه من الأولى ويعقله في الثانية، ويتحول التفسير الطبيعي للنص إلى تحليلٍ للوجود الإنساني، ويتم الانتقال من اللفظ إلى «الشيء نفسه».

بالعود إلى الطبيعة يمكن تحليل شخصيتنا الحاضرة وواقعنا الاجتماعي، والتعرف على مكوناتهما دون أن نفرض عليهما أحكامًا من الخارج، مستقاة من التفسير اللغوي للنص، فمثلًا يمكن بتحليل شخصية المؤمن وبنائه النفسي، والتعرف على أن الشعائر التي يقيمها، قد تكون تسترًا على أفعالٍ أخرى تصدر عن طبيعته. وقد يكون الالتجاء إلى الروح تأكيدًا لماديةٍ فاقعة، فيملأ الفرد معدته بالحلال ثم يذهب للصلاة الشرعية. وفي كلتا الحالتين يكون قد أخذ نصيبه من الدنيا ومن الآخرة كما أمر، وقد يكون الالتجاء إلى الله عجزًا عن الالتصاق بالأرض، وتعويضًا من التخلي عن قضايا العصر، وقد يكون المؤمن قاسي القلب لأنه مطمئن لشرعية أفعاله، وضمانها الإلهي بصرف النظر عن الواقع الإنساني نفسه، فيتم جز الرقبة باسم الله كما حدث في تاريخنا القديم. وقد تكون كثير من قيمنا الخلقية من عفةٍ وحجاب قائمة على الكبت الجنسي الذي هو في الحقيقة رغبة جنسية مقنَّعة تعلن عن نفسها بطريقٍ عكسي، حتى تكون أكثر إثارةً وأشد جذبًا، وكثيرًا ما يؤدي قهر الطبيعة إلى قلبها، فتتحول إلى الإباحة أي إلى فضح الطبيعة، مع أن «العود إلى الطبيعة» كفيل بتوجيه الطبيعة نحو الكمال، كما قد يكون في حديث الشيخ المستمر عن المشاكل الجنسية، خاصةً وأنه لا حياء في الدين إشباعًا للمستمعين وتعويضًا للحرمان، كما قد تكون في «نحنحة» الشيخ وهو داخل في فناء المنزل حتى تنفضَّ النساء إعلان عن قدوم الذكر. هذه الثنائية هي النفاق بعينه، وهو نفاقٌ شعوري أحيانًا ولا شعوري أحيانًا أخرى. وقد تكون هذه الثنائية هي لب الشرك، وقد تكون وحدة الطبيعة هي جوهر التوحيد. «إن العود إلى الطبيعة» هو الكفيل برد الاعتبار إلى الشخصية الإنسانية؛ وذلك بالتعرف على مكوناتها، وبالحرص على تكوينها السوي، ورفض الازدواجية والثنائية معًا وما يتبعها من عملياتٍ للتعويض والنفاق والمداراة والتستر.

وفي واقعنا الاجتماعي يمكن تفسير النصوص في خدمة التطور الاجتماعي الحالي، ويمكن أن يظل هذا التفسير تابعًا لحركة التقدم لا سابقًا عليها. ومهما كان التفسير اللفظي تقدميًّا فإن الواقع المرير يظل يفرض نفسه بكل ثقله على الثوري. «العود إلى الطبيعة» هو الكفيل بالبدء بالواقع وبالتعرف عليه بالمناهج الإحصائية. فوجود أربعة عشر مليونًا من الفلاحين والمعدمين أمام ثلاثة ملايين من الملاك تقريبًا أقوى من أية نظرية في الملكية، ملكية كانت أم استخلافًا، فردية كانت أم اجتماعية. وكون الملاك الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة يكونون ٩٤٫٥٪ من الملاك يملكون نصف الأرض المزروعة (حوالي ٥٧٫١٪) أثقل من أي قانون للإصلاح الزراعي يحدد الحدد الأعلى للملكية. فالواقع يحتم التوزيع العادل لسبعة ملايين فدان على ثمانية عشر مليونًا من الفلاحين؛ أي يكون نصيب الفرد أقل من نصف فدان؛ أي أن يكون دخله السنوي أقل من ثلاثين جنيهًا؛ أي إنه أقل من نصف دخل موظف الدرجة العاشرة التي تعترف بها الدولة كحدٍ أدنى في السلم الوظيفي. «العود إلى الطبيعة» يعطي للواقع كله ثقله، ويقف أمام النصف عاجزًا لا يستطيع إلا التبرير أو إعادة توزيع الدخل القومي بين الأغنياء، فيتم توسيع قمة الملاك من ٢٫٨ مليون قبل الثورة إلى ٣٫٢ مليون بعدها. «العود إلى الطبيعة» هو الكفيل بتغيير الواقع تغييرًا جذريًّا، وهو المنهج الثوري بالأصالة لأنه هو المنهج العلمي في عصر الثورة.

١  طلب مني مندوب مجلة «منبر الإسلام» الذي يدور على أساتذة الجامعات يعرض على كلٍّ منهم مبلغًا مجزيًا من المال في مقابل كتابة مقال في الزهد أو الورع أو التقوى أو الصبر! فأبيت الكتابة في أمثال هذه الموضوعات واقترحت كتابة مقالاتٍ صغيرة أطرح فيها قضية التفسير، وبعد أول محاولة بتاريخ ١٠ / ١١ / ١٩٦٦م عاد المندوب وهو يرتعش، ففهمت.
٢  كُتب هذا المقال بتاريخ ١٠ / ١٢ / ١٩٦٦م، لمجلة «منبر الإسلام»، ولم يُسلم لمندوب المجلة وتوقف المشروع كلية.
٣  كُتب هذا المقال للملحق الأدبي للأخبار بعد «الأصالة والمعاصرة» و«موقفنا الحضاري»، ولكن ألغي الملحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤