الفصل السابع

ثقافة الجماهير

  • (١)

    عن اللامبالاة، بحثٌ فلسفي

  • (٢)

    القرف، تحليلٌ لبعض التجارب الشعورية

***

(١) عن اللامبالاة، بحثٌ فلسفي١

في هذا العصر الثوري الذي نعيش فيه، ينفجر الثائر الرومانسي غضبًا عندما يجد الناس في عصره لامبالين بالثورة مع أنهم يعيشون أزمة العصر وتعيش أزمة العصر فيهم. فإذا كانت الثورة تمثل ذروة النشاط الإنساني وقمة الجهد البشري من أجل تغيير الواقع أو قلبه أو نفيه، كانت اللامبالاة، هي العاطفة المضادة للثورة بل وأشد مضادة لها من السلبية والانعزالية؛ لأن السلبية قد تكون إرادة؛ أي إنها قد تكون موقفًا واعيًا رافضًا لكل ما يدور في الواقع من أفعالٍ لاإرادية أو ارتجالية أو متميعة، وقد تكون احتجاجًا هادئًا عن طريق رفض المشاركة في سلوكٍ ثوري زائف، كما فعل سعد بن أبي وقاص وكثير من فضلاء الصحابة عندما آثروا السلبية على المشاركة في الفتنة ورفضوا نصرة علي على معاوية أو معاوية على علي. وقد تكون الانعزالية أيضًا موقفًا واعيًا أخذه الفرد إلى حين، حتى يحين الوقت لتحقيق الفعل الثوري الأصيل. قد تكون الانعزالية تعميقًا لمفاهيم الثورة أو تربية لكوادر من خلال الخلايا أو بناء للحزب بعد اكتمال الكوادر، وهي المرحلة التي يتم فيها العمل الثوري في الخفاء، كما كان الحال عندما كانت الدعوة الإسلامية سرًّا أولًا لمدة ثلاثة عشر عامًا قبل تحولها إلى دعوةٍ علنية.

فإذا عرفنا أن الإنسان في جوهره رسالة Vocation، وأن جوهر الإنسان لا يتحقق إلا إذا حقق رسالته، ظهرت اللامبالاة على أنها نفيٌ لجوهر الإنسان أو إلغاء لوجوده وتحويله إلى عدم. فالإحساس بالرسالة هو الدافع الأول على النشاط، وليس الحافز المادي أو الزيادة في الربح على ما يقول الاقتصاديون في الغرب الرأسمالي، أو حتى التقدير والثناء والجوائز على ما هو الحال في بعض البلاد النامية. الإحساس بالرسالة هو الدافع الأول خاصةً عندما يكون موجهًا بأيديولوجية ثورية تحول هذا الإحساس إلى نشاطٍ خلاق.

ولا يقال إن اللامبالاة عاطفة عامة شبيهة بما يدور في مشاعر بعض الفلاسفة المعاصرين في الغرب، من إحساسٍ بالغثيان والقرف والهم والحصر والضيق والاختناق والعبث واللاأدرية والاغتراب. فهذه الظواهر النفسية الموجودة في أوروبا المعاصرة لها جذورها في المجتمع الرأسمالي، وهو موقفُ رفضٍ عن طريق التقوقع داخل الذات في هذه الظواهر الأرضية أو في الانتهاء إلى الفوضوية. وقد تحولت هذه الظواهر الآن إلى رفض منتظم وإلى احتجاجٍ واعٍ بل وإلى ثورة تلجأ إلى العنف، وانقلبت اللامبالاة إلى التزامٍ بقضايا العصر العامة التي هي السبب في مشكلات الفئات الخاصة.

على أن هؤلاء الفلاسفة الذين تحدثوا عن الغثيان والقرف والاغتراب، هم الذين تحدثوا أيضًا عن الالتزام وعن ممارسة الحرية وعن أخذ المواقف؛ ومن ثم كانت ظاهرة اللامبالاة خاصةً بالمجتمعات النامية وهي في طريق التحول من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الاشتراكي. وقد لاحظ لامنيه (١٧٨٢–١٨٥٤م) — وهو الذي خصص أربعة أجزاء كاملة لدراسة اللامبالا في الدين٢ — أنها عاطفةٌ تنشأ في لحظات التحول الحضاري من عصرٍ إلى عصر، وتبدو كظاهرةٍ سلبية لأن لحظات التحول هذه تقتضي حل كثير من المشاكل والالتزام بعديدٍ من المواقف: القديم والجديد، التدرج أو الطفرة، الإصلاح أو الثورة، التقدم العقلي والتصنيع، الأصالة والمعاصرة، العمومية والفردية … إلخ. فإذا حدثت اللامبالاة كانت ظاهرة مرضية تدل على أن الجماعة لا تعيش عصرها ولا تحيا مشكلتها؛ أعني مشكلة التطور والنمو.

أولًا: وصف الظاهرة وتعليلها

اللامبالاة ظاهرةٌ نفسية درسها علماء النفس وهم بصدد تحليل الانفعالات أو تحليل الجوانب الشخصية. فاللامبالاة هي «بوجهٍ عام» استعداد عند من يجد نفسه في حالةٍ من الحياد العاطفي التام بالنسبة للآخر أو للآخرين، وبوجهٍ خاص استعداد عند من لا يحس بما يحدث للآخرين من سعادةٍ أو شقاء. وبهذا المعنى تكون اللامبالاة ظاهرة مرضية عند علماء النفس أو ظاهرة خلقية مرادفة للأنانية عند علماء الأخلاق؛ لأن اللامبالي بالآخرين لا يهتم إلا بنفسه. ولكن اللامبالاة ليست بالضرورة مرادفة للأنانية؛ لأنها قد تكون أيضًا من الفرد تجاه ذاته؛ أي حالة من الركود العام، أو غياب كل البواعث عن فعل أي شيء، أو فقدان الحماس لفقدان الباعث، أو لعدم وجود الغاية، أو لعدم الإحساس برسالةٍ عامة في الحياة. كما لا تصدق اللامبالاة فقط بالنسبة للآخرين، بل تكون أيضًا لامبالاة بالعالم، فإذا كان الإنسان على ما يقول المعاصرون موجودًا بالعالم كان اللامبالي موجودًا بلا عالم؛ ومن ثم فهو غير موجود. اللامبالاة بالنسبة للآخرين على ما يحددها علماء النفس «لا يبالي الإنسان بمصائب جاره ولا يتعاطف مع الآخرين» جزء من اللامبالاة بكل ما يحيط بالفرد من أفرادٍ وحوادث وأشياء. اللامبالي أشبه بصوفي هندي في حالة الفناء، إنسانٌ لا يتحرى، لا يحركه باعث، لا يفرح ولا يحزن، تستوي لديه المتناقضات، مهما وقع في محيطه من حوادث فإنه لا يبالي، مع أن هذه الحوادث قد تؤثر على مصيره، يسمع سقوط البعض من حوله ولا يبالي، يستوي عنده كل شيء، لا يتحمس لشيء. لذلك عرف بعض علماء النفس اللامبالاة بأنها «حالة نفسية لمن يظل محايدًا نفسيًّا وعاطفيًّا أمام حلول مختلفة متعارضة دون تفضيل أحدها». اللامبالي ليس لديه مقاييس للاختيار، أو لأن اختياره ليس له أي أثر لأن الحوادث تخضع في مسارها لقوةٍ أخرى خارجة عن إرادته. اللامبالاة هي فقدان القدرة على المحبة والكراهية؛ مبدآ الحركة عند أمبادوقليس، أو بلغة العصر فقدان القدرة على الإثبات والنفي أو حتى على قول شيء. يصبح الفرد لا نفع منه ولا ضرر، يتحول إلى شيءٍ يتحرك، يصبح كالماء بلا لون أو طعم أو رائحة.

ويصف كورني هذه الحالة فيقول:
«يعالج الحب بالكراهية، ولكن المبالاة أكثر ثباتًا،
ويتحول الإنسان كل يوم من الكراهية إلى الحب،
ولكنه لا يعود من اللامبالاة.»

وقد تحدَّث الفلاسفة من قبل عن حرية اللامبالاة على أنها «حرية بلا بواعث»؛ أي حرية زائفة؛ لأن الذي يحدد الفعل الحر هو الباعث عليه، فحرية اللامبالاة هي القدرة على أخذ القرار بدون باعث أو سبب، على ما هو الحال في «حمار بيوريدان» الذي وُضع على مسافتين متساويتين من معلفين بهما نفس الكمية، فنفق الحمار لأنه لم يجد لديه الباعث على الحركة نحو أحد المعلفين!

وهي أحط درجات الحرية؛ لأنها تعني أخذ قرار بالنسبة لشيءٍ لا نبالي به. اللامبالاة إذن هي غياب الباعث على فعل أي شيء، وفقدان الحماس وتساوي الأمور، وهي عاطفة عدمية عبر عنها سارتر في آخر عبارة له في «الكلمات» بقوله وهو يصف نفسه: «إنسان من صنع كل الناس فهو يساويهم جميعًا ويساوي أي واحد منهم»، يوضع الإنسان في أي مكانٍ ويفعل أي شيء، فلا شيء يهم، وهو السؤال الذي يطرحه سارتر دائمًا قائلًا ما الفائدة؟ A quoi bon.

ويتولد عن الشعور باللامبالاة إحساسٌ باللاانتماء أو بالغربة. فاللامبالي لا يهمه شيء مما حوله، يعيش في مجتمعٍ غريب عليه، لا يفرح لسعادةٍ ولا يحزن لشقاء؛ ومن ثم تتحول الجماعة إلى أفرادٍ منعزلين أو تتحول إلى جماعاتٍ وطوائف، تكون دوائر منعزلة لا تدري كل دائرة بما يدور في الأخرى، وقد لا يؤدي التجانس الجغرافي أو البشري أو الحضاري إلى خلق روح الجماعة؛ لأن الوضع الطبقي لكل طائفة هو الذي يحدد غربتها عن الطائفة الأخرى، فكل طبقة لا تبالي بما يحدث في الطبقة الأخرى. فالطبقات الفقيرة والمعدمة لا تبالي بما يحدث في الطبقات الثرية التي تبدو لها عالمًا غريبًا، كما لا تبالي الطبقات العليا بما يحدث في الطبقات الدنيا؛ لأنها عالمٌ مغلق على نفسه ينظر إلى العالم بمنظار رفاهية العيش. فالتجانس الظاهر لشعبٍ ما قد يكون ستارًا على الانعزالية الطبقية، ولامبالاة كل طبقة بما يحدث في الطبقة الأخرى، وعلى هذا النحو يمكن أن يقال إنه لا توجد مصر واحدة بل توجد أمصارٌ عديدة.

واللامبالاة أيضًا هي انفصام الفرد عن ماضيه وحاضره ومستقبله، فاللامبالي لا يهتم بتراثه القديم والبواعث الكامنة فيه التي يمكن لها تحويله إلى فردٍ نشاط أو إلى ثائر إن كانت مقوماته الثورة في تراثه القديم. اللامبالي ليس له ذاكرة، أو له ذاكرة خاملة، وهو ما قاله بعض علماء النفس من أنه في اللامبالاة العامة لا يمكن استدعاء الذكريات لأنها متساوية جميعًا. يصبح الفرد لا ماضي له عندما تمحى لديه كل الاهتمامات الخاصة؛ ومن ثم فهو إنسانٌ بلا حاضر (جوسدروف: الذاكرة والشخص).

كما تتحول اللامبالاة من حالةٍ نفسية إلى حالةٍ فيزيولوجية عن طريق المخدرات، حيث يغيب الفرد عن العالم، ويصبح لامباليًا بنفسه وببدنه، ويخالق عوالم وهمية يصول فيها ويجول ويصرف فيها نشاطه المكبوت.

ولكن من هو السبب في وجود هذه الظاهرة؟ هل هو سبب جغرافي، بيولوجي، ديموغرافي، اقتصادي، سياسي، حضاري، أيديولوجي؟ أم أن السبب هو هذه الأسباب كلها مجتمعة؟ لقد ذكر موريس ديفرجيه في «مقدمة في السياسة»٣ أكثر هذه العوامل على أنها صراعٌ ونشاط ضمن النظرية السياسية التي تجعل من السياسة أساسًا علمًا للصراع وليس علمًا للتكامل. ولما كانت اللامبالاة هي غياب الصراع، كانت هذه العوامل التي تحدد وجود الصراع، هي نفس العوامل التي تفسر غياب الصراع ووجود اللامبالاة.
  • (١)

    يرى البعض مثل هيبوقراط، هيرودوت، أرسطو، بودان، وكذلك مونتسكيو، راتزل، فيدال، برينيسن «أن سياسة الدول في جغرافيتها» على ما يقول نابليون. فقد ربط أرسطو بين المناخ البارد والحرية، كما ربط بين المناخ الحار والعبودية، وهو ما يقال عادةً من أن البلاد الحارة أقرب إلى السكون والدعة والكسل واللامبالاة. ولكن ميشليه يرى أن المناخ الحار هو المناخ الثوري، وأن ارتفاع درجة الحرارة قد ساهم في اندلاع ثورة ١٧٨٩م (مايو–سبتمبر). ولكن ثورة أكتوبر في روسيا ١٩٠٥–١٩١٧م اندلعت في المناخ البارد. وحاليًّا نجد ثورات أمريكا اللاتينية وأفريقيا تنشأ في المناخ الحار. الحقيقة أن العامل الجغرافي هو الأساس المادي للعامل الاقتصادي، وهو الذي يحدد مناطق الغنى والفقر، بالإضافة إلى الموارد الطبيعية والمناخ. هناك أيضًا طبيعة المكان. فالمناطق التي تتوفر لها الحماية الطبيعية من الصحراء والمحيطات والتي يتوزع سكانها في الريف لا في المدن، والتي تصعب فيها المواصلات البرية والبحرية، يكون سكانها أقرب إلى الهدوء والسكون والطمأنينة. ولكننا نعلم حاليًّا أن الثورات تقوم في الريف بفضل الأحزاب الثورية الشعبية، وبأن مصر كانت باستمرار مطمع الغزاة مع أنها محاطة بموانع طبيعية من الشمال والشرق والغرب. خلاصة القول أن العامل الجغرافي لا يفسر وجود اللامبالاة عند الجماعات.

  • (٢)
    يرى البعض مثل «جوبينو» Gobineau، أن العامل الأساسي في الصراع هو العامل البيولوجي، تابعين في ذلك مبادئ دارون عن الصراع من أجل البقاء، وتحويلها إلى المنافسة الحرة في الحياة الاقتصادية، ومنتهين إلى النظرية العنصرية وإلى حكم الصفوة المختارة. والمعروف أن النظرية البيولوجية نقل لما يحدث في العالم الحيواني وعالم الإنسان وليست تحليلًا علميًّا للظواهر السياسية نفسها، كما أن النظرية العنصرية ستار يخفي وراءه العامل الاقتصادي واستغلال الشعوب، كما هو الحال في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة. وفي القسمة الثالثة المشهورة للأجناس (الأبيض والأسود والأصفر)، نجد أن المارد الأصفر (الصين) والمارد الأسود (أفريقيا) هما موطن الثورات.
  • (٣)

    ويرى فريقٌ ثالث، تحت أثر نظرية مالتوس، أن العامل الديموغرافي هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وأن الضغط السكاني يدفع بالجماعة إلى الصراع، ولكن بعض المجتمعات الزائدة في السكان مثل هولندا مجتمع سلمي، كما أن بعض المجتمعات القليلة السكان مثل روسيا نشبت فيها الثورة، ومجتمعٌ مثل المجتمع المصري الذي يتمتع بكثافةٍ سكانية كبيرة مجتمع سلمي، خاصةً وأن التركيب السكاني نفسه يساعد على ذلك؛ إذ إن أكثر من أربعة أخماسه من الأطفال والنساء والشيوخ، والعامل الديموغرافي لا يؤثر بمفرده لأنه مرتبطٌ بالعامل الاقتصادي. فالكثافة السكانية مع الفقر قد تؤدي إلى النشاط الداخلي والسعي وراء لقمة العيش، والتكالب على الكسب والتقاتل من أجل الفم.

  • (٤)

    ويرى فريقٌ رابع، وعلى رأسهم ماركس، أن العامل الاجتماعي الاقتصادي هو العامل الأول في تحديد الصراع الذي يتمثل في صورة صراع طبقي بين من يملكون ومن لا يملكون. ولكن الوضع الاقتصادي لا يتحول إلى صراعٍ طبقي إلا بعد تجنيد من لا يملكون في حزبٍ ثوري شعبي يقود هذا الصراع. وفي كثيرٍ من المجتمعات الطبقية لا يسودها الصراع بل تعمها اللامبالاة، وذلك نتيجة لإحساس تاريخي طويل بأن خيرات البلد لم تكن مرة للمعدمين، وأن المشكلة لا تتعدى إعادة توزيعها بين نفس الطبقات المالكة التي تتسع رقعتها. وإن قلت نسبة الملكية حتى أصبحت الطبقات تتوارث، الغنية ترث الغنية، والفقيرة ترث الفقيرة، ينشأ الشعور باللامبالاة عند الجماعة من إحساسها بأن البلد ليست لها، خاصةً إذا كان الحال كذلك منذ القدم حتى الآن. وفي نفس الوقت تقوى اللامبالاة بعدم الشعور بتكافؤ الفرص، وبأن النشاط مرهون بالوصول من غير حق بالتملق أو بالواسطة.

  • (٥)

    ويرتبط العامل الاقتصادي بالعامل السياسي الذي يتلخص في عدم الإحساس بالأمان نتيجة للنظم السياسية التي مهما اختلفت تسمياتها فإنها تقوم على نفس الأساس وهو اعتبار الشعب عدوًّا لها واعتبار الشعب النظام السياسي عدوًّا له؛ ومن ثم كانت علاقة القهر والتسلط والطغيان من جانب النظم السياسية وعلاقة الخوف من جانب الجماعة. ففي كل مرة تحاول الجماعة الانتماء إلى عالمها وممارسة الحرية، يقع عليها القهر فتنزوي من جديد وترجع إلى اللامبالاة، وكلما نوديت للمساهمة والإعلان عن الرأي استجابت الجماعة على استحياء أو فعلت ما يطلب منها؛ لأنها فقدت الثقة في جدية الطلب، وشعرت بالنفاق السائد حولها بين الشعار والتطبيق؛ ولأن ما يعطى لها باليمين يسلب منها باليسار، وبسبب النشاط الزائد لبعض الأفراد الذي يقابله بالضرورة لامبالاة الأغلبية.

  • (٦)

    ويساعد العامل الحضاري أيضًا أو إن شئنا العامل التاريخي في تقوية الإحساس باللامبالاة؛ وذلك بالإيمان بالقدرية التي تقضي على كل نشاط، والتي تسلم بكل ما يقع، فيقوم الله بدور السلطة وتقوم السلطة بدور الله، ويقضى على كل مبادرة من جانب الجماعة أو الفرد، ويقتصر دورها على الامتثال للأوامر والطاعة العمياء لكل ما يبدر لها من قرارات. ويقوى الإحساس باللامبالاة عندما يقرَّر للإنسان ما يفعل وعندما يُسلب مصيره من بين يديه، وعندما يصبح دميةً في يد لاعب ماهر يحركها علنًا أو خفية، أو عندما ينقل من مكانه كقطعةٍ من الشطرنج، أو عندما يقرر له ما يقول وما يفعل، أو عندما يطلب الموافقة من الأغبياء، ويبقى للأذكياء التبرير خاصةً في حضارة ما زال البعد الإنساني فيها غائبًا إلا فيما ندر.

  • (٧)
    وأخيرًا، قد يكون العامل الأيديولوجي هو العامل الحاسم في ظهور اللامبالاة؛ لأن الأيديولوجية الثورية يمكنها تحويل اللامبالاة التي تنشأ من العامل الاقتصادي السياسي الحضاري إلى الإيجابية، كما حدث في بعض ثورات العالم الثالث، فإذا غابت هذه الأيديولوجية الثورية تحولت اللامبالاة إلى روح العصر، ولم ينفعها تحزب قبلي أو تعصب مهني أو تجمع طائفي. ولا تعني الأيديولوجية الشوفينية أو التفاضل في المؤسسات أو في الأديان أو في المعتقدات أو في القيم أو في الحضارات، ولا تعني أيضًا مجموعة من القيم والآراء على ما حددها «دستيت دي تراسي Destutt de de Tracy»، أو على أنها مجموعة من الأفكار تفرزها طبقة من أجل المحافظة على مكاسبها، كما يصورها ماركس، بل تعني نظامًا اقتصاديًّا سياسيًّا وعملًا ثوريًّا جماهيريًّا. فاللفظ وإن استعمله ماركس بمعنى مضاد للعملية، فإنه يثير في وجدان العالم الثالث الحاجة إلى نظريةٍ ثورية علمية، وإلى عمل ثوري يجند الجماهير. الأيديولوجية هي الوسيلة لتحويل رسالة الفرد إلى نشاطٍ ثوري منظم؛ ومن ثم يحقق جوهره كنشاطٍ ويقضي على اللامبالاة.

اللامبالاة إذن ظاهرة اقتصادية سياسية حضارية أيديولوجية تظهر في سلوك الجماعة اليومي، وهي ليست ظاهرة نفسية على ما هو معروف في التحليل النفسي عند فرويد، من تحديد السلوك للأفراد حسب العقد النفسية منذ الطفولة أو حسب تصنيف الأفراد من حيث طبائعهم الانفعالية وأمزجتهم الشخصية، العنف، العدوان … إلخ. لأن الظاهرة النفسية جماع الظواهر الاقتصادية والسياسية والحضارية والأيديولوجية أو تراكم لها في الشعور وفي سلوك الجماعة.

ثانيًا: أنواع اللامبالاة

يمكن التعريف في اللامبالاة على أنواعٍ ثلاثة: اللامبالاة اللاإرادية، اللامبالاة الإرادية، اللامبالاة عن طريق العادة.

  • (١)

    واللامبالاة اللاإرادية هي التي عناها الفلاسفة وعلماء النفس، وهي التي أشار إليها ديكارت على أنها حالة لا تجد الإرادة فيها نفسها مدفوعة بمعرفة الصواب والخطأ إلى الانضمام إلى جانبٍ دون جانب، وهي في هذه الحالة فعل إرادي سلبي، وهي بهذا المعنى أيضًا أحط درجات الحرية، مثل حرية بيوريدان؛ لأنها تعني أخذ قرار بالنسبة لأشياء لا نبالي بها، وهي اللامبالاة الناتجة عن عدم الاهتمام بأي شيء أو فعل أي شيء، أو عن غياب أي باعث أو عن وجود كل البواعث؛ هي حالة من الحتمية المطلقة التي يتساوى فيها كل شيء بكل شيء، والتي لا يفضل فيها شيء شيئًا آخر، وبهذا المعنى القوي يجعلها ديكارت إحدى صفات الله؛ لأنها تدل على أخذ قرار بصرف النظر عن الدوافع والأسباب؛ لأن الله خالق النظام العقلي وقواعد الخير والشر، ولا يحتاج إلى شيءٍ ولا يفضل موجودًا على موجود، فلامبالاة الله دليل على عظمة قدرته المطلقة التي لا تتجه إلا نحو ما هو خير وحق ونحو ما يعرفهما بوضوح، وفي الإنسان دليل على جهله بما هو أفضل وما هو أصوب له (التأمل الرابع). وهي اللامبالاة التي قصدها ليبنتز في حديثه عن حرية اللامبالاة التي تعني أنه ليس هناك شيء يحتم علينا جانبًا دون جانب؛ لأنه في الحقيقة كل شيء مساوٍ للآخر في نطاق الحتمية المطلقة (العدل الإلهي). اللامبالاة اللاإرادية إذن هي عجز الإرادة عن فعل أي شيء.

  • (٢)

    أما اللامبالاة الإرادية فهي ظاهرةٌ صحية، وتعني عدم الاهتمام الذي يتخذه الفرد موقفًا له إزاء الأحداث الجارية حوله؛ لأنه يشعر بأن الموقف غير جدي؛ ولأنه يشعر بأن من حوله ليست لهم مواقف أصيلة أو جادة، وبهذا المعنى أخرج هوسرل العالم من دائرة الاهتمام إلى حين يستطيع الحصول عليه من جديد كتجربة حية في الشعور، والذي لا يتسرع نحوه ويلتصق به على ما هو الحال في علوم الطبيعة. وفي هذا المعنى يقول لافل: «هناك لامبالاة واعية لا تضر كثيرًا بل تدل على اهتمام أكثر مما تدل العاطفة المتسرعة المفضوحة.» فالثوري الأصيل لا يبالي بالثوري المزيف، والمثقف الأصيل لا يبالي بالمثقف المهرج، والعالم الأصيل لا يبالي بما يقال حوله من هراء، وتكون اللامبالاة في هذه الحالة موقفًا شريفًا وسط الزحام. لذلك يعرف بعض علماء النفس هذه اللامبالاة على أنها «حالةُ مَن ليس محايدًا عاطفيًّا؛ أي من يسعد ويشقى في اختياره، ولكنه لا يريد تفضيل شيء على آخر ويظل في حيادٍ إرادي».

    ولا تعني اللامبالاة الإرادية التنازل عن ممارسة الحرية؛ لأنها وإن كانت الكف عن النشاط الفعلي في العالم، فإنها تكون ممارسة للحرية الباطنية عن طريق السلبية الإرادية والاقتناع بالفعل الحر الداخلي والتوقف عن أي نشاط؛ ومن ثم فقد تكون حرية اللامبالاة بهذا المعنى أعلى درجات الحرية؛ لأنها تدل على ممارسة حرية الاعتقاد لدى الفرد، عندما لا يستطيع تغيير الفكر باليد أو باللسان، يكفيه القلب وهذا هو أضعف الإيمان، واختيار عدم الاختيار قد يكون أعلى درجات الحرية الذي يدل على الاستقلال الذاتي للإرادة.

    فإذا نشأت اللامبالاة اللاإرادية من غياب البواعث، فإن اللامبالاة الإرادية تنشأ من وجود الباعث، وهو الرغبة في الصدق وفي العمل الجاد، وإن نشأت اللامبالاة اللاإرادية عن نقصٍ في المعرفة الواضحة على ما يقول ديكارت أو نتيجة للتساؤل واللإرادية، فإن اللامبالاة الإرادية قد تنشأ من يقينٍ ومن معرفةٍ واضحة ومتميزة وعن وعي كامل بالموقف على ما يقول بعض المواطنين، مستشهدين بقولة سعد المشهورة: «مافيش فايدة»، ومن ثم لا يكون هناك أملٌ في التغيير أو في إسماع صوت الحق. وإن نشأت اللامبالاة اللاإرادية عن غياب الاعتقاد بشيءٍ؛ فقد تنشأ اللامبالاة الإرادية عن الاعتقاد الجازم بالصواب ومع ذلك لا يبالي الفرد بما يحدث حوله.

    ولا تعني اللامبالاة الإرادية التسامح والعفو وطيبة القلب وإيثار السلامة أو السذاجة والبلاهة، بل قد تعني الحقد والغضب والرفض والاحتجاج … كما لا تعني اللامبالاة الإرادية السلبية أو الانهزامية، بل قد تعني إحدى الصور المؤقتة للإيجابية، وهي اللامبالاة التي تحدث عنها الوحي عندما حث على الكف عن اللغو والإعراض عن الجاهلين.

  • (٣)
    أما اللامبالاة عن طريق العادة فهي اللامبالاة اللاإرادية أو الإرادية، عندما تصبح عادةً عند الفرد أو الجماعة نظرًا لطول ممارستها سنين طويلة؛ لأنه لما كانت اللامبالاة موقفًا غير طبيعي، ما دام النشاط هو جوهر الإنسان؛ فقد نشأت في ظروفٍ عارضة تمر بها المجتمعات التي تمارس نشاطها الطبيعي في أحد الموقف، إما بالمجاهرة بالرأي أو بالتنظيمات الجماعية أو حتى بالتنظيمات السرية السلمية أو التي تقوم على العنف، ولكن جزاءها الاتهام بالخروج على النظام واستعمال أشد وسائل القمع، حتى أصبحت الإيجابية مرادفة للخيانة، وأصبح كل فكر أصيل متهمًا بالتبعية أو الشذوذ، حتى تم القضاء على كل محاولات المبادرة، وأصبح السلوك دائمًا طاعةً للأوامر أو تنفيذًا للقرارات. ومرت الأعوام حتى أصبح التسليم هو العادة المتبعة مع التقوقع داخل الذات، ثم نشأت ازدواجية الشخصية بين القول والعمل، ويقول الفرد ما لا يعمل ويعمل ما لا يقول، وبين الشعور والقول، يشعر الفرد بما لا يقول ويقول ما لا يشعر به.٤
أصبحت اللامبالاة هي العادة أو السلوك اليومي المعتاد؛ أي إنها أصبحت طبيعة ثانية عند الجماعة على ما يقول رافيسون Ravaisson في تحليله للعادة.٥ فقد نشأت اللامبالاة أولًا إرادية شعورية ثم أصبحت لا إرادية شعورية، بل أصبحت جزءًا من الطبيعة. فالذي تعود على الطاعة أولًا بطريق إرادي، تصبح الطاعة لديه جزءًا من الطبيعة، والذي بدأ السلبية كعادةٍ لأن الإيجابية كانت باستمرار موضع اتهام، أصبحت السلبية لديه جزءًا من طبيعته، واللامبالاة جزءًا من جوهره.
على أن كل محاولة محدودة لتحويل اللامبالاة إلى إيجابية نسبية، تؤدي بالضرورة إلى خدمة الوضع القائم؛ لأنها مقضي عليها بالفشل ولا يمارسها إلا من كان يبغي مطلبًا شخصيًّا، أو يطمع في منصبٍ أو يرمي إلى الوصول السريع من غير استحقاق. فإذا خرج فرد على اللامبالاة داخل المجتمع لأول مرة، أو أراد أن يحقق رسالته أو استطاعت طبيعته الأولى التغلب على طبيعته الثانية ظهر غريبًا، ونُظر إليه على أنه نشيط متطرفActiviste، يعمل على تغيير النظم القائمة أو وُصف بالغرور والرغبة في الزعامة والظهور، أو اتُّهم بالتعالم والتعالي على الآخرين، وكلها تؤدي إلى الخيانة والمروق.

تبدأ اللامبالاة فردية ثم تصبح عامةً تسود روح الجماعة كلها. وبهذا المعنى تصبح الهجرة لامبالاة بتقدم الدول النامية، وتصبح اللامبالاة هنا مرادفة للأنانية على ما وصفها علماء الأخلاق.

وقد تصل اللامبالاة عن طريق العادة حدًّا تطبع الجماعة كلها بطابع الرضا والخنوع، ولكنها مع ذلك طبيعة ثانية يمكن للطبيعة الأولى أن تتغلب عليها.

ثالثًا: اللامبالاة والأنشطة الزائفة

لما كان جوهر الإنسان هو النشاط كان لا بد أن يتسرب هذا النشاط من الأبواب الخلفية ما دامت اللامبالاة قد سدت تجاهه الأبواب الأمامية. ففي المجتمعات النامية التي تسودها اللامبالاة تخلق فيها أنشطة زائفة لامتصاص النشاط الحقيقي، وهو مساهمة الأفراد في توجيه مسار حياتهم وأخذ مصائرهم بأيديهم. ويجد عدم الاهتمام الناشئ عن اللامبالاة تعويضًا له في الاهتمامات الجزئية مثل التطلعات الطبقية، والسعي وراء السلع الاستهلاكية أو تتبع آخر أخبار حياة النجوم الشخصية من زواجٍ أو طلاق، واجتماع وافتراق، وخصام ومصالحة، وسفر وحضور، وانتظار آخر الأغنيات والأفلام والمسرحيات العابثة؛ فقد نشأت في البلاد النامية اهتمامات غريبة أبعد ما تكون عن مجتمع الاستثمار أو عن مجتمع النضال؛ مثل السعي وراء البضائع المستوردة، وفتح الأسواق الحرة، وتجارة البضائع المهربة، بل وأصبحت هذه المواضيع تشغل حيزًا يوميًّا من الجرائد والإعلانات، واستطاعت أجهزة الإعلام امتصاص نشاط الجماعة كلها عن طريق الحلقات المسلسلة حيث يمكث آلاف من المواطنين كل يوم في ساعةٍ معينة، وقد أصبح عدد ساعات الإرسال في بعض الدول النامية أكثر عشرات المرات من ساعات الإرسال في بعض الدول المتقدمة، وذلك لخلق أنشطة زائفة لامتصاص النشاط الذي لم يتحقق.

وتعم هذه الأنشطة الزائفة جميع الطبقات بلا استثناء، ابتداءً من الطبقات الفقيرة والمعدمة حتى الطبقات المترفة الثرية. فالطبقات الفقيرة همها لقمة العيش بالطريقة المباشرة؛ أي السعي وراء ما يقيم أودها. فالخبز هو الذي يحرك نشاطها، واهتماماتها لا تتعدى القوت اليومي، والسعي وراء القرش والكسب الإضافي. فإذا ما مضى اليوم وما زالت على قيد الحياة حمدت ربها، وانقضى اليوم على خير ما ترجو بعد أن حالفها التوفيق. وهي طبقة لا تحس بأنها فقيرة، وهذا هو الفقر الحقيقي؛ لأن الحياة لديها متعددة؛ لها حياتها وللآخرين حياتهم، وهذا النشاط حقيقي من حيث هو نشاط من أجل غريزة البقاء، وزائف لأنه يسعى إلى الحل الوقتي المباشر دون أن يجند في ثورةٍ عامة من أجل الحلول الدائمة وحتى يرجع خير البلد للأغلبية.

أما الفلاحون فهم لامبالون في كل عصر، يشعرون بأن مصر هي مجتمع المدينة لا مجتمع الريف، يرسل إليها حبوبه وخضرواته وفاكهته، وإليها يهرع إذا مرض، أو إذا استُدعي للقضاء. همهم الأول هو العيش لهم ولذريتهم. وهم كالطبقات المعدمة يعملون من أجل المحافظة على البقاء بطريقةٍ عملية مباشرة دون تجنيدهم من أجل رفع صوت الأغلبية. وقد نشأت طبقة أخرى في الريف جعلت همها الإثراء النسبي المتواصل من أجل شراء مزيد من الأفدنة ووراثة طبقة كبار الملاك القديمة. وقد أصبح هم هذه الطبقة التطلع إلى الطبقات العليا، وأصبحت تشارك في التكوين النفسي لسكان المدينة ولصغار التجار، وتسعى أيضًا وراء مظاهر الحياة الحديثة، وعلى رأسها الترانزستور.٦

أما العمال فبعد وضعهم في أنظمة، وبعد أن حصلوا على بعض حقوقهم كهبات لا كمطالب، فإنهم ينتظرون تحسين الأحوال من غير باعث. وقد يرجع عدم الدقة في العمل الذي يشكو منه البعض إلى الشعور باللامبالاة، أو بأن جهده ليس هو الوسيلة للحصول بها على حقوقه، العمال موظفون في الدولة ولهم اهتمامات الموظفين من سعيٍ وراء الدرجات، أو خلق وسائل كسب إضافية أو فتح متاجر صغيرة، دون أن يكون لديهم الوعي الطبقي الكافي لخلق اهتمام عام حول المطالب العمالية.

أما الطلبة فهم موضوعون أيضًا في أنظمةٍ لا سبيل إلى تغييرها. ليس الأمر بيدهم فيما يتعلق بمناهج التدريس أو في المواد المقررة أو في النظم الإدارية، أو في تمثيلهم في مجالس الأقسام ومجالس الكليات ومجالس الجامعة؛ ومن ثم نشأت لديهم اهتمامات زائفة حول النجاح المضمون، والحفظ المباشر، والتوظف السريع، وتحولوا أيضًا إلى موظفين في الدولة يسعون وراء الدرجة، مع أن الطلبة في العالم اليوم يقودون حركة النضال العالمي.

أما المثقفون فلديهم تظهر الأنشطة الزائفة بوضوحٍ؛ فهم أذكياء، على معرفةٍ بمنجزات العصر من تيسيرٍ لسبل العيش وطريقة الوصول السريع لها، فهم أيضًا موظفون في الدولة يسعون إلى المناصب، فإن تعثروا سعوا إلى الهجرة، وهم يساعدون أيضًا في خلق الاهتمامات الزائفة بالحديث عن آخر ما وصلت إليه الحضارة الغربية من منجزاتٍ فكرية وآلية، فيتحدث الجميع باشتياقٍ عن آخر اكتشافات العصر من مذاهب فكرية أو أساليب في الحياة وفي الملبس والمسكن، ثم تأتي الأحداث الصارخة والأخبار الفاقعة لتصبح موضع اهتمام الجماعة شهورًا وشهورًا، كالعلاج بالبندول والميني جيب في كليات الفنون. ولقد شعر شباب المثقفين بما يدور حولهم من زيفٍ ثقافي، فأصبحوا لامبالين بما يكتب مع أنه خضم كبير. وقد يكون السبب في بعض مظاهر الركود في حياتنا الثقافية والفنية، هو اللامبالاة من الأدباء والجمهور على السواء. فالمفكر لا يكتب إلا في موضوعٍ جزئي، ويترك الموضوع العام الذي يندرج هذا الجزء تحته، والذي لا يمكن تناوله حقيقة إلا بتناول المشكلة العامة. فمثلًا أثيرت في الآونة الأخيرة نسبة التوزيع المنخفضة لمجلاتنا الثقافية وعدم مبالاة جماهير القراء بها؛ وذلك لأن الكتاب لامبالون بأوضاعنا الراهنة؛ وبالتالي لا تجد جماهير المثقفين ما يقرءون، فكثيرٌ من الموضوعات مفتعلة والمقصود منها ملء الفراغ، حتى بدا فكرنا الثقافي انعزاليًّا عن واقعه.

إن هذه الأنشطة الزائفة لتدل على وجود فراع لا يمكن ملؤه إلا بنشاطٍ من نوع آخر، بل إن هذه الأنشطة الزائفة لا تحل شيئًا؛ لأن حل المشاكل الجزئية لا يقضي على اللامبالاة، بل القضاء على اللامبالاة هو الذي فيه حل المشاكل الجزئية، كما لا يقاس الوعي الجماعي بإدراك المشاكل الجزئية، بل يقاس إدراك المشاكل الجزئية بالوعي الجماعي. إن هذه الأنشطة الزائفة لتدل بحق على أن اللامبالاة مرادفة للأنانية كما وصفها علماء الأخلاق. فاللامبالي هو من لا يقدر على حب الآخرين ويحب نفسه أكثر. إن هذه الأنشطة الزائفة لا تحل شيئًا بل تقضي على الحل النهائي إلى الأبد.

ولكن لما كانت اللامبالاة أكثر من ظاهرةٍ فردية، فهي ليست فقط لامبالاة بين المحبين، يمارسها أحد الأطراف إراديًّا حتى يهرع الطرف الآخر إليه، أو هي لامبالاة بين الأصدقاء يتخذها أحدهم موقفًا لخيبة أمله في الآخر إلى حينٍ أو إلى الأبد، أو هي لامبالاة من الإنسان العظيم بالنسبة لمظهره الخارجي، بل هي لامبالاة بالعالم كل ما فيه من حوادث وأشياء وآخرين، فإنه لا يمكن للأنشطة الجزئية أن تكون حلًّا للامبالاة، ووسيلة لتحويل الجماعة من اللامبالاة إلى الإيجابية. أما الأنشطة الأخرى شبه الجماعية فلا يمكنها تحويل اللامبالاة إلى إيجابية، مثل الأندية الرياضية والجمعيات الخيرية والجماعات الدينية والتنظيمات النقابية، فهذه الأنشطة قد تكون سوية لو مارس الفرد نشاطًا إيجابيًّا في سلوكه العام، ولكنها تكون عمليات تعويض وامتصاصًا للنشاط الكلي للإنسان، لو كانت هي الأنشطة الوحيدة ولا يوجد سواها.

  • (١)

    فالأندية الرياضية وانتساب الفرد إليها لدرجة التحزب، تمتص جزءًا من نشاط الإنسان، ويقوم التحزب لها بملء فراغ أساسي في حياة الفرد وهو التحزب لشيءٍ ما، اعتناق فكرة، الانتساب إلى جماعة، الدفاع عن هدف، مناصرة قضية، وكثيرًا ما كانت تخرج المظاهرات حاملة الأعلام البيضاء والحمراء بعد انتهاء دورة رياضية، تعلن تأييدها للأندية المنتصرة بعد نهاية الشوط، وتتعطل المصالح، وتتوقف وسائل المواصلات، وفي أمريكا اللاتينية يموت المواطنون بالمئات تحت الأقدام. بل إن كثيرًا ممن يوكل إليهم تصريف الشئون العامة، يوجهون نشاطهم أيضًا إلى رئاسة الأندية رئاسة شرفية أو فعلية، ويحولون جزءًا من نشاطهم العام إلى النشاط الخاص، والحقيقة أن الانتساب إلى نادٍ رياضي لا يستطيع امتصاص كل نشاط الفرد، وكل إمكانياته الفكرية والعاطفية، خاصةً وأن النوادي لا ينتسب إليها إلا طبقة معينة تقدر على ذلك، وهي في الغالب طبقة منعزلة عن الجماهير المعدمة، ولا يهمها إلا متعتها الشخصية ومظاهر المدنية.

  • (٢)

    أما الانتساب إلى الجمعيات الخيرية أو الأندية المهنية أو المنظمات أو الهيئات الاجتماعية؛ فهو أيضًا لا يمتص إلا جزءًا من نشاط الإنسان، بل ويجد في هذا النشاط تعويضًا عن الأنشطة الكامنة. فالجمعيات الخيرية تريد حل مشاكل الفقر والمرض عن طريق الحلول الجزئية، بدافعٍ من الإحسان والشهامة الإنسانية، وتترك المشكلة من أساسها وهي توزيع الدخل على المواطنين، بل قد يؤدي نشاطها إلى وضع الجسور الطبقية والقضاء على ثورة المعدمين. وقد يكون وجود المعدمين والمرضى سببًا في قيام ثورة جذرية، وتقوم الجمعيات بإعطاء الحلول المسكنة لها، ويقتصر نشاط الأندية المهنية على الإبقاء على التعارف القديم، وعلى ملء الفراغ بين صحبة العمل الواحد أو الحديث النظري عن مطالب الفئات، أما نشاط الهيئات الاجتماعية خاصة النسائية منها، فتقوم به سيدات المجتمع الشهيرات أو ذوات الحظ العاثر أو المسنات، من أجل أحاديث لملء الفراغ ووسيلة لرؤية العالم الخارجي هربًا من المحافظة التقليدية.

  • (٣)
    أما الانتساب للجماعات الدينية فهو أيضًا ضمور للنشاط الإنساني في تصورٍ ديني تقليدي. فالموقف الديني على ما يقول فيورباخ موقف مغترب، والموقف الصحيح هو الموقف من الحياة، فتوجيه نشاط الإنسان نحو المقدس ضمور للنشاط، وقصور له وانكماش عن الامتداد نحو العالم، وتوجيه النشاط نحو الله قد يكون فيه انكماش — على ما يقول فيورباخ أيضًا — للنشاط نحو الإنسان، وتخصيص الأفعال في صورة طقوس وشعائر فيه ضمور للفعل العام في كل مكان وزمان. وفي الجماعة الدينية يحل الاعتقاد محل الفهم، والأحكام المسبقة محل الدراسة والنظر، وتكون اللامبالاة في هذه الحالة لامبالاة بالحياة، وتكون بهذا المعنى على ما وصفها لامنيه حالة من لا يهتم بالواجب الديني أو بالله فحسب ولا يهتم بسواهما. فإن كانت اللامبالاة في الإرادة كانت استسلامًا، وإن كانت في العاطفة أصبحت حبًّا صوفيًّا أو «لامبالاة مقدسة» Sainte indifférence، يؤيد الصوفية هذه الحالة لأنها استسلام أو خضوع أو تفضيل لإرادة الله على كل شيء، فالله هو موضوع الحب، واللامبالاة أعلى من الخضوع لأنها حب لإرادة الله (فرانسوا دي سال Francois de Sales رسالة في حب الله)، وهو ما عناه الصوفية المسلمون خاصةً ابن عطاء الله السكندري وسموه «إسقاط التدبير». اللامبالاة المقدسة هي هذه الحالة التي لا تريد فيها النفس شيئًا لذاتها ولا تريد إلا ما يريد الله لها، يجذبها نحوه، فليس لها رغبات خاصة، بل تحب الله في كل ما تحب، وتريد كل شيء من أجل الله، لا تريد خلاصها أو جزاءها بل تريد رضاء الله، يؤدي الموقف الصوفي إذن إلى لامبالاة بالحوادث، نتيجة لعدم تناسبها مع حب اللانهائي الموجود في أعماق النفوس، وعدم استطاعة أي موضوع متناهٍ الاستحواذ عليه (لافل: خطأ نارسيس). اللامبالاة في الدين على ما يصفها لامنيه على أنها حالة من لا يهتم بالدين، قد تكون أولى بوادر النشاط السليم؛ أي توجيه نشاط الفرد نحو الحياة لا نحو ميدان معين، وهو المقدس، وقد تكون المذاهب الثلاثة في اللامبالاة التي يرفضها لامنيه، الأول الذي يعتبر أن غرض الدين هو السيطرة على العامة من الناحية السياسية، ومن ثم لا يبالي الخاصة به (وهو رأي الملحدين)، والثاني الذي يرى أن الدين العقائدي دين زائف، وأن الدين الطبيعي هو الدين الحقيقي (أنصار الدين الطبيعي والمفكرون والأحرار وعلى رأسهم روسو)، والثالث الذي يرفض الدين العقائدي ويرضى بالدين الخلقي (المصلحون وعلى رأسهم لوثر)، قد تكون هذه المذاهب الثلاثة مقدمة للموقف الطبيعي، وهو الاقتراب من الموقف السياسي والموقف النظري والموقف الخلقي، وهي مواقف إنسانية طبيعية.

    فضلًا عن أن النشاط الديني كثيرًا ما يتحول إلى تعصبٍ ديني، حتى إنه قد يحدث استغلال هذا النشاط لمصلحة الخائن أو المستعمر الذي يستطيع تملق الجماعة فتدين له بالطاعة والولاء، ويكون التعصب لديها جهادًا والموت استشهادًا. وغالبًا ما تصدر أحكام قطعية على كل ما سواها من جماعاتٍ واتجاهات، فهي المؤمنة والجميع كفار، وهي الفرقة الناجية والجميع ضلالات في النار. لذلك يعيش المنتسبون إليها في عالمين: عالم الحق وعالم الباطل، عالم الإيمان وعالم الكفر، ويقسمون الناس إلى نوعين: من لهم ومن عليهم؛ ومن ثم تنتهي الجماعة إلى التمرد وتكون العواطف السائدة هي الحقد، وكثيرًا ما يترك الأفراد الجماعة وينقلبون إلى الضد، من التزمُّت إلى الإباحية، أو من الإيمان إلى الكفر، أو من الجهاد إلى الخيانة، أو من اليمين إلى اليسار، أو من الاعتقاد إلى البحث النظري الدائم، وعادةً ما ينضم المراهقون للجماعة الدينية فيجدون فيها إعلاء لعواطفهم الجنسية المكبوتة، أو تطويرًا لرومانسيتهم أو تعديلًا لتمردهم الأول، أو تلبيةً لإحساساتهم الدينية التي يجدون فيها تعويضًا عن حياتهم الضامرة. فالانتساب إلى جماعةٍ دينية ترضى عنه الأسرة ويؤيده المجتمع، ففيها تتم المحافظة على الأبناء من الشر والفساد.

    ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمكنه تحويل العاطفة الدينية إلى عاطفةٍ ثورية منتمية؛ أي أن تتحول العاطفة الدينية إلى نشاطٍ سياسي؛ وبالتالي يكون «الدين النصيحة»، ويأخذ الشعار معنى جديدًا في رفض النظم القائمة وتغيير الواقع.

  • (٤)

    قد تكون التنظيمات النقابية أقرب الوسائل لتحويل الجماعة عن اللامبالاة إلى الإيجابية؛ لأن النشاط النقابي موجهٌ أساسًا لمصلحة الطبقات، وفيه يستطيع النقابي أن يمارس كل نشاطه الذي يعبر عن جوهر حياته، وفيه يستطيع أن يعرض لمآسيه وأن يطالب بالحلول الجماعية، ابتداء من تحقيق مطالبه الفئوية حتى الثورة على النظم القائمة كما حدث في غينيا. ولكن النشاط النقابي نفسه مرهون بمحركه، وهو النشاط السياسي الذي تستطيع التنظيمات النقابية من خلاله أن تأخذ بعدها الحقيقي، حتى لا تصبح مجرد هيئة حكومية رسمية يشكو منها النقابيون ولا يشكون إليها.

رابعًا: الإيجابية واللامبالاة

  • (١)

    يثبت الواقع والتاريخ أن الوسيلة الوحيدة الجذرية للقضاء على اللامبالاة هي ممارسة الفرد للنشاط السياسي. فالإنسان «حيوان سياسي» على ما يقول أرسطو، والسياسة ليست أحد أوجه النشاط الجزئية بل هي النشاط الجامع لكل الأنشطة المختلفة؛ إذ يشمل النشاط السياسي النشاط الرياضي والاجتماعي والفني والثقافي. فالتكوين السياسي للفرد يتضمن تكوينه البدني والفكري؛ لأنه عضوٌ في حزبٍ مناضل ثوري، والنضال لا يتم من خلال المناقشات المكتبية بل بالمقاومة المسلحة على الأرض، كما يشمل النشاط السياسي تكوين المناضل الفني، فغالبًا ما يكون شاعرًا، والشعر والثورة صنوان، كما يشمل النشاط السياسي تكوينه كعضوٍ في جماعة، خاصةً لو كان من المليشيا الشعبية وأداة للاتصال بالجماهير العريضة الذي هو أحد طلائعها. السياسة هي الوسيلة الوحيدة للتغير الجذري. لذلك كان هم نظم الحكم التي تود الإبقاء على الأوضاع القائمة تحريم السياسة، وجعل الجماعات والطوائف لاسياسية؛ ففي السياسة تتوحد كل الأنشطة حتى النشاط الديني، خاصةً بعد إمكانية تحويل الدين إلى أيديولوجية. ولا يقال «لعن الله ساس ويسوس» على ما هو الرأي لدى محمد عبده، بل يقال السياسة هي روح الدين، ما دام الدين أساسًا هو الجانب الاجتماعي، وما دام الجانب الاجتماعي مرتبطًا بالجانب السياسي؛ أي بتنظيم علاقة الراعي بالرعية على ما يقول ابن تيمية وابن القيم.

    ومن خلال النشاط السياسي يتم تكوين الفرد داخل عمل جماعي موحد؛ لأن الأنشطة الجزئية لا تستطيع إلا أن تنمي بعض الجوانب لدى بعض الأفراد. السياسة هي روح الجماعة التي تتحقق في المظاهرة وفي مناقشات اللجان، خاصةً وأن السياسة علمٌ ولا مجال فيها للبطولات الفردية المنعزلة. السياسة هي عود للفرد داخل الجماعة وعود للجماعة داخل الفرد؛ أي قضاء على اللامبالاة وانحسار الفرد عن الجماعة وانحسارها عن الفرد.

    وبالنشاط السياسي يمحى خطر التمرد على السلطة والتخلي الفجائي عن اللامبالاة، بالتمرد الفردي أو تمرد الفئات الصغيرة. فالنشاط السياسي المنظم هو الكفيل بتنظيم النشاط نحو الثورة على نحوٍ علمي، وبتعبئة الجماهير وانتظار الثورة حتى تنضج، ويمحى أيضًا خطر العنف الفجائي ويتحول إلى نضالٍ ثوري منظم.

    وليست السياسة بالضرورة هي ما كان معروفًا في مصر قبل الثورة، وهو التفكير في الحكم أو توالي الأحزاب على كراسي الوزارة أو في التعيين في الوظائف الكبيرة. فالسياسة أساسًا هي تنظيم الاقتصاد القومي؛ لأن الوضع الاقتصادي هو الذي يحدد شكل النظام السياسي. كانت الأحزاب القديمة ممثلة للإقطاع. فمهما تغير الحكم من حزبٍ إلى حزب ومهما تغير الحزب نفسه، فإن ذلك التغيير لم يكن يمس الوضع الاقتصادي. النشاط السياسي هو في الحقيقة تفكيرٌ في الخبز، عن طريق سيادة الأغلبية المعدمة أو الفقيرة. النشاط السياسي هو في نفس الوقت تغيير لملكية وسائل الإنتاج، وإعادة توزيع الدخل وقضاء على الطبقية والاستغلال. فالثائر لا يثور من أجل كرسي الحكم، بل من أجل الخبز الذي لا بد أن يوصل إلى تغيير نظام الحكم؛ وبالتالي فليست السياسة هي علم الحكومة أو الدول على ما يقول ليتريه Littre في قاموسه، بل هي قيادة الجماعات البشرية.

    والسياسة هي التي تقدم الحلول الجذرية للمشاكل العامة للتخلف. فمهما كانت هناك من محاولاتٍ فردية أو حكومية لمحو الأمية فإنها لن تتعدى زيادة عدد المدارس والمدرسين، وهي الإمكانيات المتاحة عادةً أمام السلطات الرسمية. ولكن النشاط السياسي هو الذي بإمكانه القضاء على الأمية بحلولٍ جذرية كما حدث في كوبا، فيُلغى عام دراسي، وينزل الطلبة إلى الريف، وتحول المساجد والأندية والمقاهي والحدائق إلى مجالس لتعليم القراءة والكتابة. ولن يتم ذلك إلا بتوجيهٍ سياسي.

    ولا يمكن تحويل فنون اللهو والعبث السائدة في المسرح والسينما إلى فنونٍ جادة أصيلة إلا بتوجيهٍ سياسي. فمهما أعطت الدولة مؤسسات المسرح والسينما من معوناتٍ، فإنها لن تتعدى «طبق سلطة» أو «شنبو في المصيدة». لن يتحول فن اللهو والعبث إلى فنٍّ هادف إلا بثورةٍ سياسية.

    كما لا يمكن القضاء على التسول والسرقة والبطالة والبطالة المقنَّعة عن طريق عربات البلدية والتشديد في قانون العقوبات، وجمع هذه الطوائف وتسطير المحاضر لها ودفع الغرامات أو الرشاوى، لا يمكن القضاء على ذلك إلا بنشاطٍ سياسي وتجميع هذه الطوائف وتوجيههم توجيهًا مهنيًّا.

    ولا يمكن القضاء على البيروقراطية بتغيير الرؤساء أو بكتابة الشعارات أو بنقد الصحف والمجلات، بل يمكن ذلك بالتوجيه السياسي الفعلي وبتحريك البواعث، فلا يمكن لثورةٍ أن تقوم وأن تستمر على جهازٍ بيروقراطي قديم.

    السياسة إذن هي السبيل إلى الدخول في العالم القديم من جديد بعد أن سقط في الشعور باللامبالاة، وهي التي توجد الإنسان على أنه موجود في العالم. السياسة هي التي تطلق جميع نشاطات الإنسان، وهي السبيل لخلق المواطن وتحقيق كل إمكانياته. ويستطيع الرد من خلال نشاطه السياسي توجيه الأحداث توجيهًا مباشرًا دون وساطة، وأن يغير الأوضاع دون الاكتفاء بالاحتجاج أمام السلطات، كما يستطيع أن يقوم بالثورة لا أن يتمتم بالكلمات. السياسة هي التي تيسر للفرد الانتشار في العالم والتحقق فيه.

    وبلغة العصر نقول: الإنسان حيوانٌ سياسي؛ فقد تصور القدماء أن الإنسان حيوانٌ ناطق لأن الفكر كانت مهمته القضاء على الأسطورة، كان الفكر هو وعي بالذات، وكان الوعي بالذات وعيًا بالعالم، والوعي بالعالم لا بد أن يؤدي إلى الاصطدام بقوى القهر والسيطرة. لذلك حوكم سقراط من أجل حرية الفكر محاكمةً سياسية. وفي العصر الحديث أصبح للكوجيتو «أنا أفكر إذن فأنا موجود» مضمون سياسي في الثورة الفرنسية. فالإنسان حيوانٌ ناطق تعني أن الإنسان حيوان سياسي؛ وبذلك يكون العصر الحديث قد أعطى معنى جديدًا للفكر التقليدي، وهو الثورة والتفكير في نظم الحكم، أو إن شئنا أصبح الإنسان في العصر الحديث حيوانًا أيديولوجيًّا.

  • (٢)

    ولا يتحقق النشاط السياسي بصورةٍ منظمة إلا بالانتماء إلى حزب، فالسياسة هي النظر والحزب هو العمل. ولا يعني الحزب التعصب لجماعةٍ أو التحيز لأسرة أو الانتساب إلى عقيدة، فتلك هي القبلية الحزبية، بل يعني تبني الواقع نفسه الذي ينشأ فيه الأفراد، والواقع هو الكفيل بفرض فكره.

    وإن كان الحزب هو بالضرورة تعبيرٌ عن مصلحةٍ طبقية، فإنه يكون أيضًا عن الفقراء والمعدمين وتجنيدًا لهم، وهم يكونون الأغلبية في البلاد النامية. ولا يعني الحزب بالضرورة الثبات والمحافظة والبقاء على الأوضاع، بل يكون أيضًا حزبًا ثوريًّا من أجل الطبقات الكادحة.

    وهنا ينشأ الحزب الثوري ليقوم بدور الانتقال من التحرر الوطني إلى التحرر الاجتماعي. السياسة إذن لا تعني بالضرورة المحافظة على الأوضاع بل قد تكون علمًا للصراع. ليست السياسة بالضرورة علمًا للحكومات وللدول، بل قد تكون علمًا للشعوب والجماعات.

    وليس هدف الحزب هو بالضرورة الوصول إلى الحكم وإعطاء الأولوية لمصلحته الخاصة على مصلحة الجماعة، فهذا ما يحدث في الغالب في أحزاب الأقلية؛ لأن الحزب الجماهيري مصلحته مصلحة الجماعة، بل لأن مصلحة الجماهير لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الحزب الجماهيري. وإن كان من الصعب في البلاد النامية محو صورة الأحزاب التقليدية، وما اتصفت به من عصبيةٍ وقبلية وطائفية ورغبة في السلطة، إلا أن الأحزاب الثورية في الصين وفيتنام والاتحاد السوفيتي وكوبا والجزائر واليمن الجنوبية، يمكن أن تعطي صورة جديدة للأحزاب التي تقود نضال الجماهير الوطني والاجتماعي.

    ومشكلة تعدد الأحزاب مشكلة وقتية صرفة ستختفي باختفاء هذا الجيل المخضرم الذي عاصر الاستعمار والاستقلال، والذي نشأ في الإقطاع ونضج في الاشتراكية، فبقايا الإقطاع وممثلو الاستعمار القديم وأنصار الاستعمار الجديد. كل هؤلاء هم الذين جاءت الثورة الاجتماعية للقضاء عليهم، ومن ثم فهم لا ينضمون بالضرورة إلى الحزب الثوري، ولا يمكنهم تكوين حزب يعملون فيه على إرجاع الإقطاع والاستعمار لأن في ذلك قضاء على الثورة. فالحزب الثوري الجماهيري هو أنسب الأنظمة في مراحل التحول الاشتراكي، من أجل تجنيد الجماهير التي لم تتعود بعد على الممارسة السياسية. ولكن تترك للجماعات الأخرى حرية التعبير عن أنفسهم وعن آرائهم، وتكوين صحفهم ومجلاتهم وأنديتهم حتى تعي الجماهير بأخطار أعداء الثورة، وحتى تتعمق الأفكار الثورية بالمناقشة الحرة حتى مع الأفكار المضادة كي يؤمن خطرها إلى الأبد.

    ولكن لا يعني الحزب الثوري الواحد سيادة رأي واحد؛ وذلك لأن الحزب الثوري الجماهيري حزب ديمقراطي يقوم على المناقشات الحرة، وعلى حرية الرأي، وعلى الامتناع والاقتناع؛ فقد يأتي الرأي من فلاحٍ بسيط، وقد يكون أدرى بمشاكل الأرض من أحد المتخصصين في الزراعة، أو من عامل أبسط، وقد يكون أدرى بمشاكل العمال من أحد المفكرين النقابيين. وعلى هذا النحو يؤدي الحزب الثوري الديمقراطي دور الأحزاب المتعددة في جانبها الإيجابي في تعدد الآراء، ولا يقع في سلبياتها وأهمها ترك حرية العمل لأعداء الثورة في مجتمعٍ لم تتأصل فيه جذور الثورة بعد، ولم يتكون فيه الحزب الثوري والجماهيري. ولا تعني حرية الرأي في الحزب، حرية الرأي النظرية ثم سيادة رأي السلطة الممثلة في الحزب، وإلا تحولت الديمقراطية إلى ديمقراطيةٍ صورية زائفة وأصبحت تسلطية مقنَّعة، كما لا تعني حرية الرأي وصول السلطة للكشف عن آراء أفراد الحزب ومحاسبتهم عليها، وإلا تحول الحزب إلى أحد وسائل الأمن العام. وما دام هناك أيديولوجية يقوم عليها كل تعدد وجهات النظر من داخل الحزب، فالأيديولوجية هي التي تجمع الآراء على المبادئ العامة للحزب. وتكون مهمة الآراء البحث عن أفضل الوسائل لممارسة النشاط السياسي، وتطبيق مبادئ الحزب وتحويلها إلى ثورة. فالانتماء الأيديولوجي هو الباعث على النشاط وليس الحافز المادي أو الربح الزائد. فالإحساس بالرسالة الذي يحوله الانتماء الأيديولوجي إلى ثورةٍ منظمة، هو الباعث على النشاط.

    ليست المبالاة إذن هي السبب في ضعف التنظيمات السياسية، بل إن التنظيمات السياسية هي السبب في اللامبالاة بها؛ لأن التنظيم السياسي الشعبي ينبع من الجماعة ويلبي حاجاتها؛ ومن ثم فهو إحدى صور الإيجابية، بل إن ضعف التنظيمات السياسية هو الذي يزيد في الشعور باللامبالاة بالنسبة للقيادات؛ فقد انخفضت نسبة أنصار الاعتماد على القادة سنة ١٩٨٥م من ١٢٫٧٧٪ إلى ٦٫١٢٪ سنة ١٩٦٢م، كما انخفضت ثقة الأهالي بأنفسهم من ١٩٫١٥٪ سنة ١٩٥٨م إلى ٤٫٧٦٪ سنة ١٩٦٢م، وزادت نسبة اعتمادهم على السلطة (كما كان الحال دائمًا) من ٦٨٫٠٨٪ سنة ١٩٥٨م إلى ٨٨٫٤٤٪ سنة ١٩٦٢م.

  • (٣)

    ولكن لما كان العمل من خلال الحزب فيه قضاء على كل الهموم وتطهير لكل الطاقات الزائدة، وحل لكل الأزمات الانفعالية فإن النشاط الحزبي لا يتم إلا من خلال جماعات صغيرة، هي اللجان أو الأسر أو الخلايا. فالجماعة الصغيرة هي صورة مصغرة للحزب ونواته الأولى، يدور فيها ما يدور في الحزب كله من قيادةٍ وفكر وممارسة، تقوم الجماعة الصغيرة بتربية الفرد، وتبزغ قدرات الفرد وقدراته الفكرية أو العملية، فهي بمثابة الأسرة الأولى له يرتبط بها وترتبط به، ومن خلالها يقوى الفرد فكرًا ونشاطًا، وهي ليست بالضرورة سرية تعمل على قلب نظام الحكم، بل قد تكون أسرة علنية لتثقيف الفرد، ولتنمية وعيه في درجاته الأولى ولتنظيم قراراته. لقد ارتبط مفهوم الجماعات الصغيرة بالأحزاب الشيوعية السرية، وبمناهضة السلطات لها، وأصبح الانقضاض عليها كالانقضاض على جلسات الحشيش. وميزة الجماعة الصغيرة تطور الفرد من خلال جماعة متسقة في الفكر والنشاط؛ لأن الجماعة غير المتسقة تهدم نفسها بنفسها. وهذه الجماعة الصغيرة جماعة عمل مباشر، تعمل على الطبيعة وتوصل القرارات وتجمع الجماهير العريضة، يرتبط أفرادها كما المناضلون الروس بعضهم مع بعض في الخلايا الثورية، التي كانت الحياة الروسية تغص بها قبل وقوع الثورة. الجماعة الصغيرة هي عصب الحزب ونواته الأولى، وحزب بلا جماعات صغيرة يكون مجرد تجمع طائفي يتجمع بأمرٍ وينفض بعصاة. فليست مهمة الجماعة الصغيرة تنفيذ أوامر اللجان العليا، أو ترديد الشعارات أمام الجماهير، أو تنظيم احتفالات الاستقبال والوداع، بل مهمتها تثقيف الأفراد وقيادة الجماهير قيادةً فعلية من أجل النضال.

ولا يعني ارتباط الجماعة الصغيرة بفكرٍ واحد التسلط في الرأي؛ لأنها مدرسة الحزب وفيها يمارس الفرد حرية الرأي، ويتعلم الفرد فيها القيام بتحليل مباشر للواقع، ويقدم الدراسات الوافية عن أبنية طبقاته. فالجماعة الصغيرة على هذا النحو هي مصدر القوة الدائمة، ومن خلالها يتطور بناء الحزب وفكره؛ فقد يصل الحزب إلى مرحلةٍ تتجمد فيه اللجان أو يتحول إلى بيروقراطيةٍ حزبية، وهنا تقوم الجماعات الصغيرة التي تغص دائمًا بالشبان الجدد وبالأجيال الأكثر حسمًا في النضال، وتقوم بدور التجديد وإرجاع الروح الثورية الأولى للحزب.

انتساب الفرد إلى جماعةٍ صغيرة يجعله يحس أن مصيره بيده، لا بيد قوةٍ عمياء تسيره كيف تشاء، بل يجعله يحس بأن مصير الجماعة معلق بفكره وبنشاطه. الانتساب هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على اللامبالاة، ويعبر فيها الفرد عن نفسه ويكتشف ذاته، وتبرز المشاكل وتظهر أوجه النقص في تكوينه، من خلال الجماعة الصغيرة تتحقق ذات الفرد، ويصبح فردًا سويًّا، ويظهر نشاطه الكلي في صورته الشاملة، وتتحول اللامبالاة إلى التزام، والسلبية إلى إيجابية، والانعزالية إلى مشاركة، والقنوط إلى رجاء.

(٢) القرف … تحليل لبعض التجارب الشعورية٧

ليس المقصود بتجربة القرف هنا ظاهرة حسية؛ أي ما يشعر به الإنسان إزاء الروائح الكريهة، بل هي تجربة شعورية تحدث في موقف؛ إذ لا تثير رائحة عرق الحبيب القرف، أو عبور المناضل في الماء الآسن؛ لأن الموقف نفسه الحب أو النضال، يطغى على الانطباع الحسي. القرف ليس ظاهرة فيزيولوجية بل ظاهرة نفسية، تبدو في موقفٍ إنساني عندما تدخل الذات في علاقات مع الآخرين؛ أي إنها ظاهرة نفسية تبدو اجتماعية. ليس القرف من الأشياء اللزجة كالبصاق والبلغم، فاللزوجية لا تبعث على القرف في كثيرٍ من الحالات، فهناك لزوجة البالوظة ولزوجة الجيلاتين وطراوة الجسد …

وقد تختلف تجربة القرف من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ آخر، أو من حضارةٍ إلى حضارة أخرى. فالمنافسة في مجتمع رأسمالي مظهر من مظاهر النشاط وتحقق للذكاء، في حين أنها في مجتمعٍ آخر اشتراكي قد تثير القرف. والرغبة في العيش كنتيجة للجهد الذاتي بصرف النظر عن أحوال الآخرين — أنقذ نفسي والآخرون إلى الجحيم — مطلب أساسي في مجتمع، في حين أنها قد تثير القرف في مجتمعٍ آخر.

كما يختلف القرف داخل المجتمع الواحد من طبقةٍ إلى طبقة، فالأيادي السوداء والملابس القذرة للطبقة العاملة مظهرٌ من مظاهر الشرف والعمل، في حين أنها قد تثير القرف في الطبقة الراقية، والانحلال الجنسي في طبقةٍ أرستقراطية يكون مظهرًا من مظاهر التمدن، ولكنه يبعث على القرف عند الطبقات المتوسطة. فالطبقات مجتمعات صغيرة بعضها فوق بعض بالرغم من وجودها في مجتمع واحد.

وقد يكون القرف لاشعوريًّا أو شعوريًّا. فالقرف اللاشعوري هو الذي يحدث نتيجة لتراكماتٍ عديدة من مظاهر البؤس والضنك، وقد يقوي ذلك إحساس عام بالقضاء والقدر، وأنه لا يمكن تغيير شيء، أو إيمان متعالٍ بإمكانية عالم أفضل في نهاية العالم كنوعٍ من العزاء والسلوى. وهنا يتحول القرف إلى طبيعةٍ ثانية أو إلى تجربةٍ أصلية. فالفلاح لا يقرف من وضعه، ولا يظهر قرفه إلى الشعور إلا بعد الوعي بالقرف، حينما يبدأ في الثورة على واقعه، وعندما تتكثر العوالم أمامه، ويصبح قادرًا على الموازنة والمقارنة. ومن ثم فقد تكون هناك مواقف تبعث على القرف دون أن تحدث تجربة القرف، ولا تحدث تجربة القرف إلا بعد الوعي بالقرف.

القرف إذن ظاهرة حضارية؛ أي إنها تراكم لبعض الظواهر، والظواهر الحضارية ليست ظواهر فردية مثل اشمئزاز الشيخ من الموضة أو استنكاف راكب الأوتوبيس من جاره، بل ظاهرة اجتماعية تنشأ داخل العلاقات الاجتماعية. ليس القرف ظاهرة فردية مثل تحول الرجل إلى امرأة أو اختيار الرجل لامرأة لمالها أو لطبقتها أو الزوج المخدوع أو الرجل المخنث، بل ظاهرة اجتماعية بتحول هذه الحالات الفردية إلى أنماطٍ للسلوك الاجتماعي.

وليس القرف حكمًا مسبقًا على العالم أو تصورًا فلسفيًّا بل هو تجربة واقعة. ليس القرف حكمًا على العالم بأنه خير أو شر، أو نظرة عقلية في الانفعالات، بل هو تجربة شعورية تحدث لفردٍ ينتسب إلى حضارة، ويعيش في مجتمع أصبح وضعه مثيرًا للقرف. ومن ثم فليس القرف وليد تجربة ذاتية بل هو تجربة ذاتية فردية، نشأت في أوضاع اجتماعية تبعث على القرف. القرف إذن ظاهرة ذاتية وموضوعية في آنٍ واحد.

ومن الصعب أن نجد للقرف مرادفًا في اللغات الأجنبية، فهناك الاشمئزاز Dégoût والغثيان Nausée والقيء Vomissement، وهي في غالبيتها ألفاظ تدل على القرف دلالة مجازية. درس ديكارت الاشمئزاز في «مقال عن الانفعالات» وأعطى له تفسيرًا فيزيولوجيًّا خالصًا؛ إذ إنه ينشأ عن أبخرة الدماغ!

ومهما يكن من شيء فإنه لا وجه للصلة بين تجربة القرف في مجتمعاتنا النامية، وتجارب الغثيان في المجتمعات المتقدمة، فهذه وليدة ظروف مخالفة تمامًا لتلك. فالغثيان في المجتمعات المتقدمة وليد المجتمع الرأسمالي ودعائمه التي يقوم عليها من استغلالٍ واحتكار، أو وليد تحويل الحياة إلى آلة، أو فقدان الحياة كلية تحت سيطرة العقل الصوري أو المادي على كل شيء، وذلك بعد أن دام سلطان العقل أكثر من خمسة قرون. قد يكون القرف وليد العبث، فكلما ازدادت الرفاهية المادية ازداد الشقاء «الروحي» وكلما زاد الإنتاج ظهر شبح الحرب، وكأن المجتمع الحديث يحتوي على مظهر انهياره في داخله.

لذلك، سنقوم بهذه الدراسة، بتحليل لتجارب مباشرة نعيشها جميعًا، ومن ثم، فهي تحليل لوجدان العصر أو على الأقل لأحد مظاهره في إحدى لحظاته التاريخية نشعر بها كل يوم. يسمع منا كل يوم هذه العبارة: «أنا قرفان»، وقد عبَّر الأدباء الشبان في أشعارهم عن هذه التجربة أصدق تعبير، فسادت أشعارهم ألفاظ تدل على القرف مثل الموت والغثيان والدم والظلمة والهجرة والبكاء والغربة والحيرة.

والإحساس بالقرف ليس ظاهرة سلبية فقط تشير إلى اشمئزاز النفس والإحساس بالغثيان وبالشعور بالانقباض، وبسيادة التشاؤم وبالرغبة في عدم الحركة وإيثار السكون، بل هو أيضًا ظاهرة إيجابية تشير إلى رفض التفاهة وتفاقم الأزمة، والرغبة في إطلاق القوى الحبيسة، وتوقع تغير قريب عندما ينفرج الهم. فالشعور بالقرف هو شعور على أية حال، وحياة الشعور في حد ذاتها مظهر إيجابي يدل على وجود الوعي، حتى وإن كان حبيسًا منقلبًا على نفسه.

والقرف تجربةٌ متداخلة متشابكة تجمع بين تجارب أخرى عديدة، مثل الخوف والجبن والنفاق والخيانة … إلخ. البعض منها علة حدوث تجربة القرف، والبعض الآخر معلول لها. ونظرًا لتداخل هذه التجارب قد يكون البعض منها علة ومعلولًا في آنٍ واحد. ومع ذلك فسأحاول الفصل بين هذه التجارب المتداخلة، واعتبار بعضها علة والبعض الآخر معلولًا، ثم سأحاول في النهاية الحديث عن وسائل القضاء على القرف.

أولًا: أسباب القرف

  • (١)

    ينشأ القرف في موقف العجز، عندما يجد الإنسان نفسه عاجزًا عن أن يفعل شيئًا؛ فالثائر الذي يغير ويرى نفسه عاجزًا عن فعل شيء يصاب بالقرف. والجندي الرابض أمام العدو بلا معركة يصاب بالقرف. القرف إذن ينتج عن نشاطٍ مكبوت أو عن قوةٍ ضائعة لا تتسرب إلا من خلال الشعور بالقرف. ويبلغ العجز ذروته عندما يجد المناضل نفسه وقد تحول إلى متفرجٍ، عندما يقضى على المناضلين في مذابح جماعية. وأستاذ الجامعة الشاب يشعر بالقرف عندما يجد الجامعة وقد تحولت إلى مجموعةٍ من المصالح المشتركة بين عددٍ من الأفراد، تدخل في مساومات مستمرة بينها على حساب المصلحة العامة، أو عندما يترك الدعاة الرسالة ويتحولون إلى موظفين. والطالب يشعر بالقرف عندما يجد نفسه كل سنة في نظامٍ مختلف، وعليه السمع والطاعة دون أن يؤخذ رأيه، وكأن مستقبله أصبح في يدٍ خفية تسيره كما تشاء. والذي لا حول له ولا قوة يصاب بالقرف عندما يشعر أنه لا حول له ولا قوة أمام نظامٍ يختار له ويسميه ويوافق بدلًا عنه. فالساعي الذي يبلغ مرتبه أقل من أربعة جنيهات يصاب بالقرف عندما يجد نفسه وقد خُصم منه جزء من مرتبه لأنه عضو في تنظيم أو اتحاد يجد نفسه فيه، ويصاب بالقرف من رئيسه الذي يحاول إقناعه بأنه عضوٌ عامل فيه! يصاب الإنسان بالقرف عندما تقام أمامه المذابح للوطنيين ولا يستطيع إزاءها شيئًا، عندما يتحول الإنسان إلى متفرجٍ أو محايد أمام أحداث تستدعي منه أن يأخذ موقفًا، عندما لا يتحول النظر إلى عمل، ويصبح النظر غاية في ذاته، وكأن الثورية لا تخرج عن نطاق الكلام ورفع الشعار.

  • (٢)
    ينشأ القرف عندما لا يكون مصير الإنسان بيده، عندما يقرر له أو عندما يريد الآخرون أن يعيشوا أبطالًا على حسابه،٨ عندما يجد نفسه مأمورًا فيطيع، عندما يتحول الإنسان إلى آلة للتنفيذ. وكثيرًا ما صرخ سارتر على لسان روكنتان Roquentin «لم أعد حرًّا»، أو «لست حرًّا، ولم أعد أستطيع أن أفعل ما أريد … هناك غثيان في يدي.»٩
    ينشأ القرف عندما لا يمارس الإنسان حريته، ويحقق ذاته، عندما يصبح كالريشة في مهب الريح، عندما يفقد ذاته، عندما يضيع جوهره، عندما يتحول وجوده إلى عدم، عندما يصبح دميةً تحركها أصابع خفية ثم يرمى بها في النهاية إلى مخزن اللعب.١٠
  • (٣)
    ينشأ القرف عندما يتحول الناس جميعًا إلى آلات، ويصبحون مجرد ديكور، وأن تقوم المجالس وتنفض؛ أي أن تتحول الحقيقة إلى مظهر: «وهل كنت إلا مجرد مظهر».١١ وهنا يغيب التجمع الإنساني، ويضيع سلوك الجماهير، وتقف حركة التاريخ، وتتحول مظاهر الحياة إلى أشياء مصمتة. ينشأ القرف عندما تتحول الكتل البشرية إلى كتلٍ من لحمٍ متراص، وعندما يتحول الماء الهادر إلى ماءٍ آسن، وعندما تتحول الجماهير الغاضبة إلى قطيعٍ من العبيد، وعندما تتحول المظاهرة الصاخبة إلى جنازةٍ صماء! في مجتمع القرف، كل من يخرج على السلبية والعجز وعن السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر فهو مشكوكٌ فيه، وكل من يعرض فكرة لا يرددها الآخرون فهو خارجٌ على الجماعة، فالجرائد واحدة وتتنوع أختام العناوين.
  • (٤)

    ينشأ القرف من ضياع الذات والتسول أمام الآخرين. ليس القرف من العاهرة من أنها ليست بذات فضيلة فقد تكون هي «المومس الفاضلة»، ولكنه قرف العهر عندما تعرض الذات نفسها وتتسول، عندما يطلب المقتول شفاعة القاتل، وقد قيل: «إن لم تستحِ فاصنع ما شئت»، عندما يطالب صاحب الحق ود المغتصب، وعندما يستجدي المحكوم عليه بالإعدام عطف جلاديه. ليس العهر هو عرض الجسد؛ فقد تُعرض الأجساد وتكون الأرواح طاهرة، كما هو الحال في «سونيا» دستويفسكي في «الجريمة والعقاب». يصاب الإنسان بالقرف أمام الإنسان اللحوح الذي يستجدي ولا يهون من الاستجداء، مثل تسول طالبي الهجرة على أبواب السفارات حتى إنه ليقذف بالاستمارات في الهواء حتى تتساقط وتتلقفها الأيدي، حتى لو مقطعة، وفي المعارض ترمى العينات في الهواء ويتقاذف عليها الجميع، وتدوس الأقدام على الرءوس والأجساد! وقد حذر إقبال من قبل من «فلسفة السؤال»، فالاستجداء مقتل للذات، والتسول نهاية لها.

  • (٥)

    وقد ينشأ القرف عند البعض من عدم وضوح العلاقات الاجتماعية، أو اضطرار الذات أن تسلك مع آخرين يقابلونها بموقفٍ ازدواجي. ينشأ القرف عندما لا يسود العلاقات الاجتماعية القانون، بل يسودها المزاج والهوى والمصلحة والمساومة. ينشأ القرف عندما لا يدري الإنسان ما هي علاقاته بالآخرين؛ ومن ثم تتحول الحقائق إلى انفعالات، وتضيع الموضوعية في الذاتية. فالواسطة تبعث على القرف، والحياة تثير الاشمئزاز، وإعطاء الحق لمن لا يستحق يفرز التقزز. في مجتمع القرف يأكل الكبير الصغير، ويضطهد القوي الضعيف، ويضيع الحق ويغيب القانون، ويتم ذلك على مستويات عدة، فتخطط الطبقة الحاكمة وتضع القوانين لصالحها ويدفع الآخرون الثمن!

  • (٦)

    ينشأ القرف من الخوف والجبن والنفاق والتعايش والمصالحة الجوفاء. ينشأ الخوف عندما يضيع من الذات قدرتها على إعلان الحق والتخلي عن الشهادة وهي قول الحق في وجه الحاكم الظالم. فالخوف جبن يبعث على القرف عندما يعلم الآخر الحق ولا يفصح عنه. وقد قيل على مسامعنا «الجبن سيد الأخلاق». فإذا التوت الذات نشأ النفاق عندما لا يعبر الآخر عما يدور في نفسه إلا في بيته وبين قومه ويمنعه على الملأ، عندما تتحرك الذات في الخفاء وتسكن في العلانية لا عن تدبيرٍ وحركة بل عن جبنٍ وتلصص. ينشأ القرف من النفاق عندما يعلن الآخر غير ما يبطن، ويتحول العبوس إلى ابتسامة، والرذائل إلى فضائل، والخيانة إلى وطنية. فالمطرب يقف في بداية حفلته دقيقة حدادًا على الراحلين، ثم ينقلب فجأة إلى راقصٍ ومغنٍّ يطرب الجماهير حتى الصباح، وكأن أنات الحزن ونغمات الفرح تدار بمفتاح! في مجتمعات القرف قد تعني «نعم» «لا» وقد تعني «لا» «نعم»، وقد تعني الابتسامة القلب المعد. وفي مجتمع النفاق يتشدق بالفضيلة ويكثر العري، وتذكر الفضائل ويروج لمسرح الجنس والإشارات العلنية في المسارح والأفلام، ويبدأ البرنامج الديني وينتهي برقصةٍ شرقية. ينشأ القرف في مجتمع النفاق الذي يجعل المحرم علنًا والمباح سرًّا، وعندما يتحول فيه الحرام إلى حلالٍ والحلال إلى حرام، عندما يمكن الحديث عن كل شيء إلا ما يعلمه الناس جميعًا، وعندما تصبح القاعدة هي الشاذ والشاذ هو القاعدة.

  • (٧)
    ينشأ القرف من رؤية من يريد إنقاذ نفسه مع غرق الآخرين، والذي يريد أن يثري من أزمات الناس «كالشيخ حسونة» الذي تزدهر تجارته مع احتلال الهجانة للقرية، في «الأرض» للشرقاوي، وهم الذين يصفهم لينين باسم «الانتهازية» والذين يسميهم سارتر «الأوباش» Les Salauds. ينشأ القرف عندما يفسر المفسر النصوص الدينية على هواه من أجل الدفاع عن مصلحةٍ شخصية باسم الدفاع عن الدين، أي عندما يقوم التفسير على النفاق من الكهنوت. وفي أدبنا المعاصر ثورة الشباب على شيخ الطريقة الأكرمية والشيخ طلبة وتواطئه مع رزق بيه في «الفلاح» للشرقاوي أيضًا، ولا تكاد تخلو رواية معاصرة من الشيخ المتواطئ مع السلطة. ينشأ القرف عندما يزايد اليمين على اليسار، وعندما يقوم اليسار بدور اليمين، وكلاهما انتهازي، ويكون الشعب في كلتا الحالتين هو الضحية. والوصولية كالانتهازية تبعث على القرف، فهي تملق وكذب ونفاق. فحاشية الأمير تبعث على القرف عندما تمدح سيئاته وتزين له أخطاءه، وكذلك الذي يضحي بكل شيء، بذاته ومبادئه والآخرين في سبيل الوصول والترقي، وعندما يقوم الطلبة بالنضال الوطني ويتعرضون للقمع، ويجني الأساتذة الثمار ويصلون إلى كراسي الحكم! ينشأ القرف عندما تُشترى الضمائر والذمم، ويتاجر في الأعراض، ويتسابق العارضون لبضائعهم فتنتقي منهم السلطة ما تشاء، ويظل الباقي في قائمة الانتظار، ينتظرون على الباب في طابورٍ طويل، وعندما يُشترى من الناس صمتهم ووعد كل منهم بمعاش. ينشأ القرف من الخائن والواشي الذي يلقي بزملائه إلى المقصلة من أجل إنقاذ نفسه. ينشأ القرف من الذي لا يكمل نهاية الشوط ويطالب بالأجر أمام المصورين والعدسات، ويقول: إني جريحٌ يا رفاق.١٢
  • (٨)

    ينشأ القرف من الفكر التبريري الذي يتحول فيه الفكر إلى عهر الكلمات، وتصبح مهمة المفكر تبرير القائم، وإيثار الثبات على التغير. يصاب الإنسان بالتقزز لأنه يرى الحق مهضومًا والشرف ضائعًا، وعندما يرى «الفشارين» في كل مكان كما هو الحال في مسرحية «الزجاج» لألفرد فرج، أو عندما تتحول الوجوه إلى مرايا. لذلك فرق الفلاسفة بين الحقيقة والمظهر، أو بين الشيء في ذاته وظاهره. ينشأ القرف عندما يتغير السطح والجوهر باقٍ لم يتغير، وأن يحل «محمد الحيوان» بدلًا من «علي الحيوان»، وأن يتم طلاء واجهة المنزل، والمنزل آيل للسقوط.

وأخيرًا، القرف هو حلول الشذوذ محل الطبيعة، لذلك يبعث الشذوذ الجنسي على القرف، والرجل المخنث، والمرأة المسترجلة، والحياة المهترئة، والسلوك المتسيب، والوعي الضائع، والصوت الخافت، والألم المكبوت، وبكاء الرجال.

ثانيًا: نتائج القرف

  • (١)

    ينتج عن القرف إحساسٌ باليأس التام، ويشعر القرفان بأن قواه أقل بكثيرٍ مما يرجى منه، أو بأن الواقع أعتى من أن يغير فيه شيئًا، ويشعر البعض الآخر بأن جيله جيلٌ ضائع أو بأن عصره عصر إفلاس تاريخي. وفي مثل هذا الوقت غالبًا ما يبحث الناس في تراثهم الوطني القديم عما يؤيدون به مشاعرهم الحالية، فيجدون مثلًا «مافيش فايدة» أو «ماتتعبش نفسك»، ويفوض الناس أمرهم إلى الله في «خليها على الله»، أو يأملون في التغيير بإن شاء الله، وبأمر الله، وتكثر أمثال هذه العبارات في الأغاني الشعبية، ويحدث ما يسميه سارتر «الموت في الروح».

  • (٢)

    كما يؤدي القرف إلى حالةٍ من السلبية الدائمة أشبه بنرفانا الهنود، فيعجز القرفان عن الحركة، ويكون السلوك هو عدم السلوك. والحقيقة أن العجز سبب ونتيجة، علة ومعلول، ينشأ القرف ويتولد عنه. ومن العجز عن فعل شيء تتولد الاهتمامات الفردية الخالصة، كما حدث لشعب ألمانيا عندما ترك المشكلة الوطنية وانتبه كل مواطن لمصنعه أو متجره، عربته أو منزله، أسرته أو عشيقته. فالعجز عن الممارسة الفعلية للنشاط والمشاركة في القضايا العامة، تتولد عنه الاهتمامات الفردية؛ مثل شركات تقبل دفع الناولون لعربتك بالعملة المحلية، سيارات نصر الشعبية، البضائع الأجنبية من السوق الحرة من غير سؤال عن مصادر العملة، وتروج الكتب التي تلبي عطش الناس لموضوعاتها: كيف تحصل على ورقة تجنيد من أجل الهجرة، مشاكل الهجرة والجوازات، دليل العمل بالخارج، الحياة الخاصة بالنجوم. وتسود التفاهة كما بدت أخيرًا في كلمات الأغاني مثل «الطشت قاللي» وما يسمى بالأغاني الشعبية حتى الإعلانية منها. ويزداد الابتهاج بالمواسم والأعياد والبحث عن قمر الدين والزبيب وجوز الهند المبشور والتين المجفف ووفرة الكعك، وكثرة الإجازات تملقًا للجماهير لدرجة إعطاء شهر كامل للجامعات في أخصب فترات العام الدراسي، والإكثار من النوادي الليلية، وازدهار شارع الهرم، وازدحام الطرقات في ليالي الصيف، والإكثار من المسرح الهزلي والفرق الخاصة، واستجداء الضحك الرخيص، وفي نفس الوقت انتشار الفن الرمزي لتناول الحقائق في واقعٍ أحوج ما يكون إلى فنٍّ واقعي (المرحلة الأخيرة في أدب نجيب محفوظ).

  • (٣)
    يؤدي القرف إلى حالةٍ من الملل والسأم، فلا جديد تحت الشمس، كل يوم يُعاد ويُكرر نفس الشيء، ونفس العناوين، نفس الأفكار، مرة بصيغة المضارع ومرة بصيغة الماضي ومرة بصيغة المستقبل، وكأن الزمان كله قد أصبح لعبة ألفاظ، ويفقد الجميع الحماس لعمل أي شيء حتى إنه ليصعب تحريك الناس حتى في أشد لحظات الخطر المحدقة بهم. وقد يظل الموظف على مكتبه المترب دون مسحه؛ ولماذا يمسحه؟ وما الهدف منه؟ وهو ما عبر عنه سارتر بسؤاله A quoi bon، وينتهي الناس إلى فقدان الوسيلة والغاية معًا؛ فقدان الوسيلة يؤدي إلى ضياع الغاية، وضياع الغاية يؤدي إلى فقدان الوسيلة، ويفقد الناس الإحساس بالزمان، ويغيب التوتر الخالق، ويضيع الاهتمام بأي شيء، ويتم فقدان الذات.
  • (٤)
    يؤدي القرف إلى حالةٍ من التبلد الذهني والركود العقلي، فلا يقدر أحدٌ على التفكير بعد أن يفقد الحماس، وهي الحالة التي يسميها سارتر الموت في النفس La mort dans l’Âme، يصف بها ما يعتري الإنسان بعد الهزيمة، وعبثًا يحاول التخفيف عن ذلك بإحياء التراث الفلسفي القديم وبإعادة مسرحيات نصف قرن مضى، وترويج بعض المسرحيات التي تتناول المشكلة السياسية. ويظهر الفن معبرًا عن هذه التفاهة ويسطح الفكر، ويشتكي الجميع، ألا يوجد عمل فني واحد؟! ألا يوجد عمل فكري واحد؟! ما هذا الخواء والفراغ؟! والكل يعلم السب، وهو القرف الذي استشرى في نفوس الناس وحوَّلها إلى عدم.
  • (٥)

    وكثيرًا ما يؤدي القرف إلى الولاء للأجنبي، وإلى فقدان الصلة بالأرض موقفًا وموطنًا، وفقدان الولاء ظاهرة عامة تنتهي بالناس إلى الانعزال عن الأرض، وإلى أن يعيش المواطن بجسده لا بروحه، مما يظهر في الهجرة حتى إنها لتعتبر بحق نقطة تحول في تاريخ أمة عُرفت بالولاء لأرضها، وبارتباطها بترابها، وبحنينها إلى واديها، إذا خرج المواطن عن قريته يصبح غريبًا، وإذا عاد إليها رجع إلى «أم الدنيا»، ويتجه شعور الناس إلى الأجنبي بفعل أجهزة الإعلام التي تصور الحياة في الخارج على أنها هي الأمل المنتظر، فيزداد شعور الجماهير انحرافًا، ويزداد وجودهم اغترابًا.

  • (٦)
    ويؤدي القرف إلى الإحساس بالذلة والمسكنة، وإلى تخليد العبودية، وتتحول مظاهر القرف إلى نتائج وتصبح العلة معلولًا والمعلول علة، يسود الشاذ على الطبيعي، وينتشر العهر بالطبع؛ مثل «حميدة» في «زقاق المدق»، ويتم التحول في روح الشعب، وتتغير خصائص الأمة، تتحول «خير أمة أخرجت للناس» إلى شر أمةٍ أخرجت للناس، ويتحول الشيء إلى نقيضه، وبدل أن يكون غرض الدين هو التحرر يصبح هو الاستعباد، ويشيع الموت في النفوس، ويعم الخواء في كل مكان، وتسود العدمية كل شيء، ويحكم علينا من الخارج بأننا شعب ذليل بطبعه، قذر بخلقه، مسكين بجبلته، شقي في جوهره، فإذا أنشئت حدائق عامة ربى فيها السكان الدجاج، وإذا غرس شاطئ النيل تحول إلى مراحيض، وغالبًا ما نستعمل حوائط الشارع المظلم مكانًا للتبول.١٣ وبجانبها تقوم عربات الأكل، تتحول الحدائق إلى أماكن للنفايات، وترمى بالزبالة بجوار الصناديق وليس بداخلها.
  • (٧)

    ويؤدي القرف إلى فقدان الإحساس بالحياة، ويصير كل ضحك بكاء، وكل فرح حزن، فإذا ضحك الإنسان قال «اللهم اجعله خيرًا» وإذا أراد الأب إدخال السرور على أسرته ببطيخة انقلب نكدًا لأتفه الأسباب، وغالبًا ما تنقلب الأفراح إلى مآتم، وكأن التمتع بالحياة لا يكون إلا جريمة، واتهام كل من يخرج على ذلك بالعهر والفجور والإباحية، ويضيع الإحساس بعطلة نهاية الأسبوع، ويتحول المنزل إلى مرتعٍ لمظاهر القرف من سبٍّ وشتم وتراب وضجيج؛ فالقرف مقتل للحياة، ولا غرو فهو مظهر من مظاهر العدم، والموت عدم.

  • (٨)

    ومع أن القرف ظاهرةٌ نفسية اجتماعية وليس ظاهرة فيزيولوجية فحسب، إلا أن هذا القرف النفسي قد يؤدي إلى مظاهر فيزيولوجية، فتكون للقذارة الأولوية على النظافة، ولربما كنا من أكثر الشعوب إهمالًا في اللباس، فالجزار يسير بجلبابه الملطخ بالدماء، والعامل يتنقل في الطرقات العامة «بعفريتته» الملطخة بالزيت، والمحصل يعمل ببدلته الرسمية الصفراء المرقعة بخيط أبيض وأسود وبلحيةٍ طويلة وأسنان صفراء، دون التفرقة بين ما يتطلبه العمل وقت العمل وما يتطلبه السلوك العام، وأصبحنا نعجب للفحام الأجنبي المتهندم، وللفلاح الأجنبي النظيف، وللخباز الأجنبي المتمنطق. ومع أن العمل شرف إلا أنه أصبح عند الجماهير سببًا للقرف، ومظهرًا له، والبصق في الطرقات ومن نوافذ المركبات العامة قذف للقرف على عالم القرف.

ثالثًا: وسائل القضاء على القرف

لما كان القرف هو الشاذ بالنسبة للطبيعة، وهو الاستثناء بالنسبة للقاعدة، يمكن القضاء عليه أيضًا بوسائل من نفس النوع؛ أي وسائل شاذة واستثنائية، مثل أن يخلق الإنسان من ذاته عالمه الخاص وهو في وعيٍ تام، وتكون له فلسفة «طز»، كما هو الحال في «محجوب عبد الدايم» في «القاهرة الجديدة»، أو فلسفة «اضربها صرمة» أو «خليها على الله»، أو أن يخلق الإنسان من ذاته جمهورية فاضلة يعيش فيها، كما هي الحال في «جمهورية فرحات»، أو أن يغرق الإنسان في التدين والعزاء، ويمحى في طلب النصر الوهمي. أما بالنسبة للثوار الذين لا يستطيعون استبدال ثورتهم بالقرف، فيظهر نشاطهم فيما وراء الستار في تكوين التنظيمات السرية، كوسيلةٍ للتنفيس عن النشاط المكبوت. أما عامة الشعب فقد يلجأ إلى الفكاهة والسخرية كتنفيسٍ عن قرفه الدائم، يخلق من نفسه بهجة حتى يمكنه أن يعيش؛ ولذلك عرف شعبنا بأنه أكثر الشعوب إلقاءً للنكتة، وللنكتة السياسية بالذات لأنه أكثر الشعوب قرفًا. أما «ضيقو الروح» فيثورون في المركبات العامة لأتفه الأسباب، ويعملون من «الحبة قبة» ويشترك الجميع في الجدل والعراك، الكل قرفان، يظهر قرفه على قارعة الطريق وعند اللمة والزحام؛ فالكل مكبوت، ويود إظهار نشاطه بأي ثمن. عندما يود عامة الناس ملء الفراغ يسيرون في الطرقات، أو يصعدون المركبات العامة «والترانزستور» في الأيادي أو معلق في الرقاب، لخلق موضوع وهمي للاهتمام أو للإعلان عن ذاته المنسية.

ولكن يمكن القضاء على القرف بالطبيعة ذاتها دون الالتفات حولها، يمكن القضاء عليه إما تدريجيًّا عن طريق التربية الطويلة، والتطور الحضاري، وإما دفعةً واحدة عن طريق الثورة العامة؛ فالطريق التدريجي كمن يحاول هدم جبل بمعولٍ صغير، لا يؤدي إلا إلى تحريك بعض الأفراد أو فئاتٍ معدودة، وهو طريق محمد عبده، أما التحول المفاجئ؛ فهو الكفيل بالقضاء على تراكم القرف، وهو طريق الأفغاني.

ومع ذلك فالقرف حالة عارضة على الطبيعة الإنسانية التي تتجوهر في النشاط. ومهما تراكم القرف فإنه يمكن القضاء عليه بالرجوع إلى الطبيعة البشرية بالطرق الآتية:
  • (١)

    إطلاق القوى الحبيسة، والتوحيد بين قوى الذات: القول والعمل والوجدان والفكر حتى لا تتبعثر طاقاتها. وقد استطاع عمر بالتوحيد بين قوله وعمله وفكره ووجدانه إشهار إسلامه، ومنذ ذلك اليوم انتقلت الدعوة من السر إلى العلن.

    وكذلك إطلاق قوى الشعب، ورفض كل مظاهر الازدواجية من كذب، ونفاق وتملق وسوء نية، وهي المواقف التي حللها سارتر كمظاهر للعدم (باستثناء التساؤل والنفي؛ لأن التساؤل يقضي على السلبية، والنفي يقضي على الخنوع والاستسلام). فلحظات الصدق هي لحظات تحول في التاريخ. لذلك كانت الثورات لحظات صدق. وقد كان المسرحي التقليدي يعتمد على لحظات صدق في مسار النفاق (ثورة بيومي أفندي ضد امرأته، ثورة حمدي أمام العرضحالجية والفتوة وامرأته في مسرحية «الزجاج»). فانفجار الذات هو الظهور المفاجئ للطبيعة المكبوتة، وهو ما يقوله المصلحون دائمًا من أن بقاء الباطل في غيبة الحق عنه. والبؤرة الثورية هي لحظة صدق في مجتمعٍ مستسلم، ومقال فكري حاد حجر يلقى في ماءٍ آسن وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ …!. وقد كانت الخطط المضادة باستمرار هي القضاء على القيادات باحتوائها أو رشوتها أو استئصالها؛ فقد تم القبض على «عبد العظيم عبد المقصود» في «الفلاح»، وإلقاء القبض على قائدي المظاهرات أول خطوة في القضاء عليها، والقبض على التنظيم السري خطوة من أجل القضاء على الثورة. وقد تنتهي لحظة الصدق إلى الشهادة، فتكون شهادة على العصر ويكون الصادق شاهدًا وشهيدًا، والرومانسية أحيانًا أقرب إلى إثارة الخيال الثوري، والخيال الثوري في مجتمع القرف يقظة لوجدان الشعب القرفان؛ ولذلك كانت الرومانسية في الفن أصدق من الكلاسيكية لأنها تعبر عن لحظة صدق، فالمضمون أكثر انطلاقًا من الشكل، والجوهر أكثر صدقًا من العرض، والبروتستانتية أكثر صدقًا من الكاثوليكية.
  • (٢)

    أخذ مصير الذات بيدها، واستعادة حريتها، فالمشاركة الفعالة في توجيه الواقع تحرير للذات من بقايا القرف. لذلك رفض «حمدي» في «الدخان» أن يكون مطية يركبها الآخرون كي يصبحوا أبطالًا على حسابه، وآثر أن يتحول بإرادته الحرة، ورفض شعب فيتنام الاستعمار الأجنبي والعمالة الدخيلة، ورفض التنظيمات الطلابية جميع الوصايات، ورفض الشعوب الوصاية من حكامها، ورفضت الأجيال الحاضرة وصاية الأجيال الماضية. لذلك كان الاستقلال مطلبًا دون التبعية. وقد استطاعت «فؤادة» في «شيء من الخوف» الوقوف أمام «عتريس» وتحرير القرية كلها، وأخذ مصيرها بيدها.

  • (٣)

    تحقيق رسالة الذات، فلكل ذات رسالة هي دعوتها في الحياة، وهي الأمانة التي عهدت إليها، وهي ما يود الإنسان أن يكتبه على قبره بعد الممات، وهي الوصية التي يتركها الإنسان للأجيال القادمة، وهي وسيلة تحقيق خلوده في التاريخ عندما يتذكره الناس، وعندما يبنون على ما قد تركه ويستمر البناء من جيلٍ إلى جيل. والكشف عن الذات سابق على تحقيق رسالتها. لذلك كان التعليم في مجتمع القرف يقوم على طمس معالم الذات وتغليفها بمئات من الأقنعة اللفظية الزائفة دون فكر أو وعي أو أخذ موقف. كل إنسان قد خلق لشيء، وحياته هي تحقيق لما خلق له؛ ومن هنا تأتي نشوة الحياة. وقد جعل كانط الغائية أكبر دليل على وجود الله، كما جعل إقبال العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية. فالإنسان يحيا للغاية وبها، وهو ما عبر عنه تراثنا القديم باسم الاستخلاف على الأرض، والأمانة التي حملها الإنسان بإرادته الحرة.

  • (٤)
    الدخول في صراع الأضداد، ورفض موقف المتفرج، وتنظيم الصراع تنظيمًا علميًّا حتى لا يخضع لهوى أو يسوده الانفعال فيعاود الذات الشعور بالقرف. فالتعرف على الذات يؤدي بالضرورة إلى التعرف على الآخر، فالآخر قابعٌ في بطن الذات كما هو الحال عند فشته. وقد صاغ الفلاسفة الحياة في مفاهيم الأضداد والسلب والنفي والتعارض والصراع من أجل البقاء والصراع الطبقي؛ فقد قال كانط بالكبر السلبي Grandeur negative، وقال هيجل وماركيوز بالنفي، وتصور تارد Tarde الكون على أنه تعارضٌ شامل Opposition Universelle، ووضع لافل العقبة كقيمة، وجعل فشته الذات لا تضع ذاتها إلا بمعارضتها للآخر. إن خلق الأفكار لا يكون إلا بصراعها. لذلك، وحتى يتم الخروج من الجو الآسن للقرف، تقوم الذات بالدخول في صراع الأضداد حتى تصحو وتعود إلى نشاطها الطبيعي.
  • (٥)

    تنظيم الصراع تنظيمًا جماعيًّا، فمن خلال الجماعة ينمو الفرد، ويكون النشاط أكثر ضمانًا وأمنًا، ويصعب استئصال القيادات حتى لا تتحرك قواعدها العريضة، وتتحول قضية التحرر من لحظات صدق فردية إلى ثورات اجتماعية، وتصبح الثورة الذاتية ثورة موضوعية وجزءًا من حركة التاريخ، ومرحل من مراحل التقدم. وهنا تصبح القيادة شعبًا، والشعب قيادة، ويصبح الشعب خالقًا لقياداتٍ جديدة أكثر شبابًا من القيادات القديمة، فكل واحد في القرية «محمود» كما هو الحال في «شيء من الخوف»، وكل فرد هو «هوشي منه» كما هو الحال في فيتنام. بل إن القيادات تكون جماعية، والفكر جماعي، والعمل جماعي، والنصر جماعي، والجزاء جماعي. وقد حارت الرومان في القبض على «سبارتاكوس» لأن كل عبد كان «سبارتاكوس».

  • (٦)

    العيش على مستوى الوجدان، وتمثل إحدى العواطف النبيلة حتى يبقى في الذات بصيص من ضوء: الحب، الإخلاص، الوفاء، التضحية، الثورة، الجمال؛ فالذات التي لا توجهها إحدى العواطف النبيلة تظل حبيسة القرف. لذلك كان الفنان أكثر الناس إحساسًا بالقرف وأولهم لأن الفنان يعيش بوجدانه، ولا تعني العواطف النبيلة العواطف الخلقية فحسب بل ما يسميه الفلاسفة «الانفعالات الأولية». فالحب عاطفة تجمع وتوحد والقرف تجربة تفرق وتشتت، والعواطف النبيلة كلها عواطف توحيد.

    أما الانفعالات السلبية من كراهيةٍ وحقد وحسد وغيرة، فكلها عواطف تشتيت وتفريق وتفتيت وتبديد. فالطهارة الثورية أو النقاء الثوري يقضي على النفاق والكذب والخداع والتضليل والتبرير والتملق والجبن والخوف وكلها تبعث على القرف. ولا يعني ذلك الوقوع في المثالية التقليدية؛ فتضحية غيفارا حقيقة واقعة، وتفاني الثائر الفيتنامي أو المناضل الفلسطيني واقع ملموس. عندما تحيي الذات العواطف النبيلة تقضي على كل مظاهر القرف. لذلك حارب «سيرانو» حتى في لحظة موته كل الرذائل بالسيف، ووجه طعانه للخيانة والنفاق والجبن والخوف والنميمة والاغتياب.

  • (٧)
    الإحساس بالتفاؤل وبأن التغيير ممكن، وأنه يحدث بالفعل ولو ببطء أو بصورةٍ غير مرئية، فمن أنقاض الهزيمة — هزيمة ألمانيا أمام نابليون — خرج فشته لإعادة بناء شعور الأمة من أجل مقاومة المحتل، وحوَّل المقاومة إلى نظريةٍ في العلم، والاعتماد على الذات إلى نظريةٍ في الاستقلال الاقتصادي والتنمية بالاعتماد على الموارد الذاتية دون حاجة إلى ديون أو إلى رءوس أموال أجنبية. وقد جعل إقبال التفاؤل عنوان الغائية في تراثنا ووجداننا المعاصر مستبشرًا بآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ … أو بآية: لَا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. بل إن الفلسفة الوجودية المعاصرة وإن كانت قد ركزت على التشاؤم والتناقض والعدمية، إلا أن بعضًا منها قد حاول إقامة «ميتافيزيقا الأمل». فالإحساس بالتفاؤل هو تغيير للواقع الوجداني في خضم واقع مقرف وهو أضعف الإيمان. ولا يعني ذلك إغراق في الطوباويات أو في التمنيات، بل هو شعور بأن الثبات طارئ وبأن التغير أصيل.
  • (٨)

    الانتقال من الفكر إلى الوجود أو من الوهم إلى الطبيعة، فتتحول الأخلاق من المبادئ إلى الطبيعة، فليس هناك حلال أو حرام من حيث المبدأ بل من حيث الطبيعة، فكل ما يساعد الطبيعة على الازدهار والنمو فهو حلال، وكل ما يؤدي إلى اضمحلال الطبيعة ونكوصها فهو حرام (إقبال)، فالقتل حرامٌ لأنه قضاء على الحياة.

فأخلاق المبادئ تتعرض لخطر الازدواجية بكل صورها من نفاقٍ وكذب وسوء نية، عندما يظهر الإنسان أحد أطراف المبدأ، الواجب، الفضيلة، الصدق مثلًا، وهو يعيش تجربة الطرف الآخر، الخيانة، الرذيلة، الكذب، في حين أن أخلاق الطبيعة هي أخلاق الواحدية والصدق واتحاد الظاهر والباطن. فكل ما يند عن الطبيعة أو عن الوجود فهو وهمٌ وتعمية وإظلام وإضلال وتضليل. وقد كانت حركات الفن باستمرار عودًا إلى الطبيعة Retour a la Nature. أما المبادئ التي هي تعبيرٌ عن الطبيعة، فتدخل ضمن أخلاق الطبيعة، ويكون تحقيق المبادئ تحقيقًا للطبيعة.
١  الكاتب، يوليو ١٩٧٠م، العدد ١١٢، عدد خاص بمناسبة ثورة ٢٣ يوليو.
٢  Lammennais: Essair sur L’indifférence en matière de religion.
٣  M. Duergar, Introduction a la politique.
٤  انظر «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، في هذا الكتاب.
٥  Ravaisson: De L’habitude.
٦  الدكتور لويس مليكة: بين الإيجابية واللامبالاة، دراسة تبعية لاتجاهات القرويين نحو العمل الجمعي في خمس سنوات، مركز تنمية المجتمع في العالم العربي، سرس الليان سنة ١٩٦٦م.
٧  قُدِّم هذا البحث لمجلة «الكاتب» أولًا ثم لمجلة «الفكر المعاصر» ثانيًا في منتصف سنة ١٩٧١م، وهو آخر ما كتبت تقريبًا في هذه الفترة، ولكن تنصلت الأولى وترددت الثانية، والمقال الأصلي مفقود، وهذه صياغة ثانية من المسودة.
٨  هذه تجربة حمدي في مسرحية «الدخان» لميخائيل رومان.
٩  La Nausée, pp. 22, 23.
١٠  هذه أغنية من تأليف فؤاد قاعود وتلحين الشيخ إمام.
١١  La Nausée, p. 113.
١٢  فقرة من قصيدةٍ لمحمود درويش.
١٣  هي حوائط مسرح جورج أبيض «الأزبكية سابقًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤