الجامعة والعمل الوطني
-
(١)
رسالة الجامعة
-
(٢)
مناهج التدريس والعلاقات الداخلية في جامعاتنا
-
(٣)
الطلبة والمشاركة في العمل الوطني
-
(٤)
برنامج شباب أعضاء هيئة التدريس
***
(١) رسالة الجامعة١
سياسة التعليم في بلدٍ ليست سياسة مستقلة عن طبيعة هذا البلد، والمرحلة التاريخية التي يمر بها «واختياره» السياسي الذي تحدده موارده الاقتصادية، بل هي جزء من السياسة القومية، يتم وضعها كما توضع الخطط للاقتصاد القومي، وكلاهما استثمار، خطة التعليم من أجل الاستثمار الاقتصادي. وإن من أهم ما تعاني منه البلاد النامية اليوم لهو هذا الفصل القائم بين حياتها الاقتصادية والسياسية وبين حياتها الثقافية والفكرية؛ فقد كانت التنمية حتى الآن مركزة على الجانب المادي دون الجانب البشري.
ومعروفٌ أن نظم التعليم لدينا في نشأتها كانت من وضع الاستعمار الذي كان يهدف إلى خلق طبقةٍ من الموظفين يدينون بالولاء للوظيفة أولًا وللرؤساء ثانيًا، ويكونون مجرد آلات لتنفيذ الأوامر، وهي السياسة التي بدأنا نجني ثمارها في سنواتنا الأخيرة، عندما أصبح هم الدولة في كل عام همين: استيعاب خريجي التعليم العام من الحاصلين على الثانوية العامة، وتدبير الأماكن اللازمة لهم في الكليات والمعاهد، ثم استيعاب مصالح الحكومة الآلاف من خريجي الجامعة من أجل التوظيف والانتظار سنة على الأقل من العمل الوطني، حتى يتم القضاء على البطالة المفروضة. ما زال التعليم إذن يهدف إلى تكوين الموظفين الذين تنوء المصالح بهم، كما تنوء الميزانية العامة للدولة بأعبائهم، وفي نفس الوقت لا يزيد العمل الوطني بل يقل أحيانًا.
أولًا: من التعليم العام إلى التعليم الجامعي
-
أولًا: تبدأ مشكلة التعليم الجامعي لدينا من التعليم العام،
وإننا لنتقبل الطلبة لدينا وهم قد قاربوا على العشرين. وما
زالوا غير مؤهلين للعلم أو للعمل الوطني، وكأن التعليم
العام لم يؤدِّ دوره، ولم يحقق هدفه إلا في بعض
الأفراد.
فمثلًا نجد أن مستوى الطالب في العلوم الرياضية والطبيعية لا يؤهله كثيرًا للالتحاق بالكليات العملية، وأن مستواه في الآداب لا يؤهله أيضًا لدخول الكليات النظرية؛ ولهذا وضعنا في كلياتنا العملية سنة تمهيدية لرفع مستوى الطلبة وكان بإمكاننا الاستغناء عنها، وكذلك جعلنا سنة عامة في كلياتنا النظرية وكان بإمكاننا الاستغناء عنها لو كان الطالب قد وصل في تعليمه العام إلى المستوى المطلوب. ومع أنه لا مكان للمقارنة بين التعليم العام في البلاد النامية وبينه في البلاد المتقدمة، إلا أننا نعلم أن الرياضيات الحديثة والسيرنطيقا قد دخلتا التعليم العام، ولم يعد الطالب هناك يتعلم العمليات الحسابية الأولية، الجمع والطرح والضرب والقسمة، بل يدرس مباشرة أنواع المجموعات الرياضية. نحن في حاجةٍ إذن إلى إعادة وضع لبرامجنا العلمية والأدبية في التعليم كمًّا وكيفًا، حتى يمكن حل المشكلة نفسها على مستوى التعليم الجامعي.
- ثانيًا: نجد أن مشكلة اللغات الأجنبية في التعليم الجامعي تبدأ في التعليم العام. فطالما طالبنا طلبتنا بقراءة بعض النصوص الأجنبية فلا يستطيعون حتى فك طلاسم العنوان. إن حديث مُدرسي اللغة الأجنبية بالعربية في دروسهم طيلة العام، لا يجعل الطالب يسمع ولو مرة واحدة كل شهر إنسانًا يتحدث اللغة أمامه، حتى يعيها وتألفها أذنه، والمدرس قادرٌ على ذلك؛ فقد تخرَّج من أقسام اللغات بكليات الآداب التي يكون التدريس فيها باللغة الأجنبية ذاتها. قد تكون نفسية المعلم هي السبب: مشاكله المادية، الأعداد الكبيرة التي أمامه، إرهاقه البدني من كثرة ساعات العمل، عدم التقدير الكافي، عدم اعتبار التعليم قضية وطنية … إلخ. ومع ذلك فإن تعليم اللغات الأجنبية يجب أن يتم باللغة الأجنبية ذاتها. وقد كان ذلك متبعًا قديمًا عندما كان لدينا مدرسون أجانب، من جنسية اللغة التي يعلِّمونها، لن يكلف ذلك عملات صعبة، بل ويمكن أن يتم عن طريق التبادل. ففي بعض البلاد المتقدمة يمكن لأبنائها تعليم لغاتهم الوطنية بالخارج، كبديلٍ للخدمة العسكرية، فنشر اللغة الأجنبية خدمة وطنية. هذا بالإضافة إلى تغيير مناهج التدريس نفسها، واستعمال لغة الحوار المباشرة، وإعطاء ما يتصل بالحياة اليومية، حتى تزداد حصيلة الطالب من المفردات، ولكي نخرج من الفصول المغلقة، ومن الأسوار المحدودة.
- ثالثًا: كثيرًا ما نقاسي ونحن في الجامعة من غياب الثقافة العامة لدى الطالب، وكأنه، وقد قارب العشرين، لم يقرأ شيئًا إلا الكتب المقررة، وعبثًا نحاول توجيهه إلى القراءة، أو إلى ارتياد المكتبات فنقوم بالمستحيل، مع أن الأفكار لا تأتي إلا في سن الشباب، فلو أن المواد الاجتماعية لم تكن محصورة في كتابٍ معين، يحفظ مضمونه ويردده لما تعود الطالب في الجامعة اتباع هذه الطريقة وهو في مرحلة التثقيف الحقيقي. يمكن للمدرس أن يأخذ الطلبة إلى مكتبة المدرسة التي غالبًا ما تكون مغلقة لا تفتح دواليبها إلا للزوار وتستعمل كقاعة للاجتماعات، أو توجد في مكتب ناظر المدرسة. إن أسلوب الحوار والمناقشة، لا يمكن أن يتبع في الجامعة ما لم يتعود عليه الطالب في المدرسة أولًا، ولا يمكن أن تتم التوعية الثقافية في الجامعة ما لم تبدأ في المدرسة أولًا، ما أكثر ما نسمع عن الندوات المدرسية، واللجان الثقافية المدرسية. وقد تكون تلك مهمة مدرسي العلوم الاجتماعية في خلق الوعي الثقافي، أو على الأقل خلق الرغبة في الثقافة، وتعويد الطالب على التثقيف الذاتي.
- رابعًا: نجد الطالب وقد أتى للجامعة وليس لديه إحساسٌ كبير بالثقافة الوطنية، من هو؟ وإلى أي جماعةٍ ينتمي؟ وما هو هدفه؟ وما هي رسالته؟ فإذا كان طالبًا في العلوم، فإنه لا يدري كثيرًا عن المشاكل العلمية لبيئته فيما يتعلق بالصحة أو الصناعة أو الزراعة، وإذا كان طالبًا في الآداب فإنه لم يسمع عن الأدباء المعاصرين له. يأتي الطالب ولم يتضح هدفه بعد، ولم يعلم ماذا يبغي وماذا يريد، بل إن كثيرًا من الطلبة لا يتحمسون لشيء، وقد أتوا إلى الجامعة لأن مجموعهم يسمح بذلك؛ ولأن مكاتب التنسيق قد أرسلتهم إليها، ونادرًا ما نجد طالبًا يشارك في الحياة الثقافية الشهرية وفي الحياة الفنية الموسمية، ونادرًا ما نجد منهم من يساهم في حركة الأدباء الشبان، أو في حركة النقاد الشبان … إلخ.
- خامسًا: نجد الطالب وكأن الإحساس بالعمل الوطني لديه معدومٌ أو سطحي؛ فكثيرًا ما نود تحريك الطالب نحو المسئولية الوطنية، ولكنه لا يود ذلك، ويريد الاقتصار على مهمته الضيقة وفي أضيق الحدود؛ أي تحصيل العلم في حين أن الطالب وقد ناهز العشرين يكون مسئولًا عن أمةٍ بأكملها، فهي السن التي تظهر فيها القيادات، وتتحدد فيه الرسالات الوطنية. وإن ظهر نشاط الطالب الوطني، فإنه كجزءٍ من العمل الرسمي المفروض؛ فقد تعود أن يكون إحساسه بالعمل الوطني إحساسًا بلوحةٍ على الحائط، أو بصورةٍ على الواجهة الرئيسية للمدرسة، أو بمجموعة من العبارات المكررة في مادة اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، والمواد الاجتماعية. لم تستطع المدرسة إذن امتصاص النشاط الطلابي كله، فنرى الطلبة وقد ملئوا الطرقات بعد خروجهم من المدرسة، يلعبون الكرة، ويقضون أغلب النهار على هذا الحال. هناك إذن طاقات مختزنة لدى الشباب لم تستوعب كلها في التعليم العام، ولا تظهر في التعليم الجامعي الذي يبدأ الطالب فيه وقد شارف على تحمل الأعباء الأسرية المادية، التوجه بثقله كله إلى قضاء السنوات الأربع، حتى يصبح مؤهلًا اجتماعيًّا لكسب القوت.
ثانيًا: هدف التعليم الجامعي
ومع ذلك، فإنه يمكن استدراك الأمر، إذا استطعنا وضع سياسة قومية للتعليم الجامعي؛ فللجامعة في البلاد النامية دور مخالف تمامًا لدورها في البلاد المتقدمة؛ الجامعة في البلاد النامية جزءٌ من تاريخ نضالها الوطني؛ فقد نشأت مع ظهور الحركة الوطنية، كما حدث في مصر عندما اكتتب الشعب لها باقتراح جريدة المؤيد سنة ١٩٠٥م، لسان حال الحزب الوطني، ومنذ نشأتها وهي تقود النضال الوطني، ويسقط الشهداء منها، وقد يكون أغلى ما بالجامعة هو النصب التذاكري للشهداء الذي يعلن أمام الأجيال الحاضرة والقادمة دور الجامعة في قيادة العمل الوطني، ولا يعني العمل الوطني المباشر؛ أي الالتزام باختيار السياسي للأمة، ولكنه يعني توجيه سياساتنا التعليمية على أساسٍ وطني، ويتضح ذلك في العلم الوطني، وفي الثقافة الوطنية، وفي العمل الوطني.
-
(١)
والعلم الوطني في بلدٍ نامٍ يعني الربط الحضاري بين العلم القديم والعلم الجديد، وهو ما تفعله البلاد المتقدمة على مستوى تاريخ العلم؛ لأن وجودها قد ثبت، وليست في حاجةٍ إلى إثبات وجودها بإثبات فكرها. فمثلًا يمكننا التركيز أكثر فأكثر على تاريخ الرياضة في تراثنا القديم عند الخوارزمي أو الرازي أو ثابت بن قرة لتطوير النظريات القديمة، وإلقاء الضوء عليها بما وصلت إليه الرياضيات الحديثة، ويمكننا أن نفعل ذلك أيضًا في الطبيعة عند ابن الهيثم أو الخيام، أو في الكيمياء عند جابر بن حيان أو عند الكندي، ولا يعني ذلك وقوعًا في النظرة القومية الضيقة، أو رجوعًا على الذات، وانغلاقًا على النفس، وإبقاءً على التراث المحلي دون العالمي؛ لأن الجامعات في البلاد المتقدمة تقوم بنشر هذا التراث؛ فقد نشر معهد العلوم بموسكو أعمال ابن الهيثم كاملة، وأعيدت دراسة «المناظر» بنظريات الضوء الحديث، وتاريخ العلم جزء من العلم، بمعنى أنه وعي بأسباب تقدم العلم، وجزء من تكوين عقلية الباحث العالم، وقد كثرت في السنوات الأخيرة في البلاد المتقدمة معاهد تاريخ العلوم من أجل إعطاء دفعات جديدة للعلم الحديث، خاصةً للعلوم الإنسانية في أزمتها الراهنة؛ وبالتالي تستطيع كلياتنا العملية أن تساهم في نهضتنا المعاصرة بربط الجديد بالقديم، حتى تتحقق وحدة الحضارة وتجانسها الزماني.
ولا يعني ذلك معرفة القديم لمجرد العلم به كجزءٍ من تاريخٍ مضى، أو للفخر به كجزءٍ من تراثٍ نعتز به ويعوض ما نشعر به من نقصٍ أمام نظريات العلم الحديث، بل لطرح المشاكل من جديد، وهي نفس المشاكل الحالية، والتعرف على المناهج القديمة لحلها ومقارنتها بالمناهج الحديثة المعاصرة، حتى تتحرك عقلية الطالب العلمية، ويساهم مع القدماء والمحدثين في وضع الحلول؛ أي إن الطالب على هذا النحو يدرس العلم كما يدرسه العلماء، وكثيرًا ما أتت الاكتشافات الحديثة من بعض الميادين الأخرى المجاورة أو من بعض التصورات القديمة، فكما أن التاريخ يعيد نفسه والحدوس الفلسفية تتكرر، فالعلم أيضًا يعيد نفسه.
ويحدث كل ذلك، ويكون المرجع الأول والأخير هو الواقع الذي يعيشه الطالب بنفسه سواء الواقع العريض وما يجريه من ملاحظاتٍ على الطبيعة، أو الواقع الضيق وما يجري عليه من تجارب محدودة داخل المعامل ومراكز البحث؛ وبذلك يتعود الطلبة على خلق العلم وليس على نقله، وليس بدعًا أن تكون الحضارة الأوروبية زاخرة بالعلماء لأنهم اتبعوا هذه المناهج، إعادة تحقيق القديم ثم التحليل المباشر للواقع. وفرصتنا أعظم لأن لدينا ثلاثة أطراف: القديم الذي ورثناه من التراث، والجديد الذي نقلناه عن العلم الغربي، والواقع الذي نعيش فيه ونريد تحليله مباشرة. وكثيرًا ما نفرح عندما نسمع عن مكتشفٍ شاب يريد تسجيل اختراعه، بل ونسارع بحضور مؤتمرات براءات الاختراع، ونحزن لأننا لسنا أعضاء في الجماعة الدولية لبراءات الاختراع، ونوزع على أعضاء هيئة التدريس بالجامعات أوراقًا يسجلون فيها مخترعاتهم ومكتشفاتهم، ونضع في الصف الأول علماءنا وأطباءنا الذين وصلوا إلى المستوى العالمي، والذين أصبحوا واضعي نظريات ساهموا بها في تقدم العلم الحديث. وكثيرًا ما نتحدث عن ارتباط العلم بالمجتمع، والجامعة بالواقع، ونريد إنشاء الجامعات الإقليمية على أنها جامعات نوعية، تقوم أساسًا على دراسة البيئة دراسة تطبيقية مباشرة، كما تنشأ بالفعل المدارس المحورية لتعليم الطلبة على الطبيعة، والخروج من خلف الجدران، ومن وراء القضبان، وهذا كله لا بد أن يتحول إلى تخطيطٍ فعلي، وإلى تغييرٍ في المناهج والمواد، ولا يبقى مجرد إعلان للنوايا، أو وضع لأسماءٍ جديدة لمضمونٍ قديم لم يتغير.
إننا نحاول ذلك من حينٍ لآخر، نحاول نشر القديم فنعيد طبعه ولا نوزعه، ونعيد طبع المطبوع منه، والذي قد لا يكون أفضل ما في القديم، دون أن ندرسه، كما نحاول رفع مستوى التعليم الحديث، وإرسال البعثات، وإحضار المراجع، كما تنشئ الجامعات الإقليمية، أبنية ضخمة رائعة زاخرة بالمعامل والأجهزة، وذلك كله يتطلب إمكانيات مادية هائلة قد لا تقوى الدولة على تحمل أعبائها، خاصةً لو كان جزء منه بالعملات الصعبة. وبالرغم من أن ذلك واقعٌ بالفعل، إلا أن التعليم جزءٌ من السياسة القومية، لا يقل أهمية عن التسليح أو عن توفير القمح. فالتعليم استثمارٌ بشري، وليس جزءًا من الخدمات كالصحة والنظافة. وإذا كنا نقاسي من غياب المتخصصين، أو من انخفاض مستوى التأهيل؛ وبالتالي من نقص الإنتاج، أو من انخفاض مستواه، فإن السبيل إلى تفادي ذلك هو الاستثمار على أوسع نطاق في التعليم. وكثيرًا ما تساهم الشركات والمؤسسات ومراكز الأبحاث في البلاد المتقدمة في تكوين الكادر البشري اللازم، فتعطي الجامعات الأموال اللازمة للأبحاث، وتعطي الدولة القدر الكافي لإرسال البعثات؛ وذلك لأن المؤسسات الإنتاجية ستستفيد كلما كان الكادر المؤهل لديها على مستوى عالٍ من الكفاءة. فما تعطيه أولًا كمساهمةٍ في التكوين، تحصل عليه بعد ذلك خبرة، وزيادة في الإنتاج. وفي بلادٍ أخرى يعتبر الطلبة موظفين في الدولة؛ لأنهم سوف يساهمون مستقبلًا في زيادة القدرة الإنتاجية، فلهم البعثات الداخلية، والأجور الشهرية من أجل الحصول على المراجع وأدوات البحث اللازمة. وإذا أخذنا في الاعتبار كثيرًا من مظاهر الترف في حياتنا اليومية، نستطيع أن نجعل ميزانية التعليم لا تقل عن ميزانية التسليح، ولكن تبقى الإرادة السياسية، وهي الكفيلة وحدها بأخذ هذا القرار، وهو استثمارٌ طويل الأمد لا تبدو نتائجه في الحال كاستثمار السد العالي.
وإذا أتينا للعلوم الإنسانية، فإننا نجد أن الطابع القومي فيها أظهر وأوضح منه في العلوم الطبيعية والرياضية. ففي كلياتنا النظرية، كثيرًا ما تعرض معظم النظريات القديمة والحديثة في العلوم الإنسانية نظرية ومنهجًا، ونتحرج من التطبيق المباشر على واقعنا الخاص؛ لأن ذلك يمس حياتنا؛ ولأنه يتطلب أخذ موقف لا يود أحد أخذه سواء من السلطات الجامعية أو من الأساتذة، ولو شاءه الطلاب، حتى دخل واقعنا الخاص في كثيرٍ من الأحيان في نطاق المحرمات! ودون أي رغبة في الإقلال من أهمية الجوانب النظرية في العلوم الإنسانية، وأهمية مناهج البحث بها، إلا أن واقعنا المباشر أصبح مرئيًّا بكل المناهج الممكنة الحسية منها والعقلية التي تقوم على الملاحظة المباشرة أو على التحليل الإحصائي، التي تستعمل التحليل الإحصائي، أو التي تستعمل التحليل العاملي أو التي تستعمل المناهج الصورية الخالصة.
إن الجانب النظري في العلوم الإنسانية مشكل؛ لأنها ما زالت علومًا حديثة، ولكن الجانب التطبيقي أكثر وضوحًا. فمثلًا في علم النفس يمكننا توجيه أبحاث طلابنا، بعد إعطائهم الوسائل اللازمة لذلك، نحو تحليل بنائنا النفسي المعاصر، وما نعاني منه مثل: الخوف وأثره في التعبير، النفاق وأثره على وحدة الشخصية، اللامبالاة وأثرها على العمل الوطني.٣ وعلى هذا النحو، يتحول علم النفس إلى بحثٍ في الشخصية القومية، ويؤدي إلى التعرف على الذات، ويعمل على استكشاف النفس ويساعد على التعبير عن المضمون النفسي الذي تظهر فيها التراكمات القديمة حتى يمكن تصفيتها. ويمكننا في علم الاجتماع تحليل مشاكلنا التي نعاني منها معاناة مباشرة مثل العلاقات الاجتماعية التي تمثلها التقاليد أو المزاج الشخصي والتي لا ينظمها القانون، السلوك الانفعالي وأثره على سير الحياة اليومية، الرقابة الفكرية وأثرها في العلاقات الاجتماعية … إلخ، بدلًا من عرض لمدارس الاجتماع، ومشاكل علم الاجتماع كما هي موجودة في التراث الغربي المرتبط أشد الارتباط بالبيئة التي نشأ فيها، وبتوالي وجهات النظر التي طرأت على هذه البيئة.٤ وفي الاقتصاد ندرس مثلًا النظريات الاقتصادية القديمة والحديثة، والمذاهب الاقتصادية التي تتبعها البلاد المتقدمة، فإذا أتينا للبلاد النامية جعلناها موضوعًا خاصًّا، فرعيًّا، مع أن الاقتصاد كله يمكن إعادة النظر إليه من خلال اقتصاديات البلاد النامية. وحاليًّا نجد في البلاد المتقدمة ظهور كليات ومعاهد بأكملها من أجل دراسة اقتصاديات البلاد النامية، أفريقيا وآسيا، أو أمريكا اللاتينية. فالنمو الآن هو الموضوع الرئيسي في البلاد المتقدمة. وفي السياسة، نجدنا أيضًا ندرس النظم السياسية منذ أقدم العصور حتى الآن، والمذاهب السياسية الحديثة، ولا نكاد نذكر نظامنا أو مذهبنا السياسي، وكأن واقعنا لا يكون جزءًا من المادة العلمية؛ أو لأن واقعنا لم يُكتب فيه بعد كتابٌ مقرر، أو مرجع أجنبي يمكن الاعتماد عليه، في حين أنه يمكن إقامة دراسة مباشرة للواقع، يشترك فيها الأساتذة والطلبة على السواء، كل منهم يأخذ جانبًا من حياتنا السياسية أو فترة من تاريخ نظامنا السياسي، وتكون هي الأصل وغيرها من النظم والمذاهب هو الفرع، وذلك هو المنهج المقارن الملتزم، كما نرى في كثيرٍ من الدراسات على المذاهب الاشتراكية بقلم الرأسماليين. وفي التاريخ، نجد أننا نعلم في جامعاتنا كل شيء عن تاريخ العالم بكل مناطقه وبكل عصوره، بمعلوماتٍ متراصة، وعرض متتالٍ، في حين أنه يمكن دراسة الماضي من خلال الحاضر؛ فالحاضر هو تراكم للماضي، يمكن اعتبار الحاضر هو نقطة البداية للماضي ونقطة النهاية. ففي تاريخنا المعاصر، بقايا من مصر الفرعونية، ومن مصر القبطية، ومن مصر الإسلامية. وفي الفلسفة ندرس المذاهب الفلسفية القديمة والحديثة اليونانية والغربية والإسلامية القديمة، حتى يعلم الطالب شيئًا من كل شيء، ولا يعلم أي شيء عن التيارات الفلسفية المعاصرة له، أو عن سبب غيابها إن لم تكن موجودة، فنحن لا نعلم شيئًا عن الفكر المصري الحديث، وهو الفكر الذي ننحدر منه والذي ما زال مؤثرًا في حياتنا المعاصرة. وفي الفن، يحدث نفس الشيء، ندرس الاتجاهات الرئيسية في علم الجمال، ولا نطبق شيئًا منها على أعمالنا الفنية المعاصرة، ولا نقوم بمحاولاتٍ مباشرة لرفع أسس النقد الجمالي، أو دراسة قوالب الفن المسرحي أو في دراسة أزمة الفنون المعاصرة لدينا، خاصة في الموسيقى والسينما. وفي الأخلاق، نكرر عرض المذاهب المثالية أو المذاهب الواقعية، أو نتأمل في الحياة تأملًا ذاتيًّا شخصيًّا دون أن نحلل شعورنا الخلقي، وبناءه النفسي، فغالبًا ما يقوم سلوكنا على ازدواجية القيم بين الحلال والحرام والخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، وغالبًا ما نكون في الطرف السالب ونتستر وراء الطرف الموجب ونعلن عنه.٥ وكثيرًا ما يكون دفاعنا عن الفضيلة تعبيرًا عن كبتٍ دفين، يود التعبير عن نفسه. يمكن أن يكون علم الأخلاق تحليلًا لشخصيتنا الوطنية، ودراسة لسلوكنا اليومي بهدف التغير، وتحويل سلوكنا من أخلاق القيم إلى أخلاق الطبيعة، حتى نكون أكثر اتساقًا مع أنفسنا وأكثر صراحة. وفي القانون ندرس الشرائع الأرضية والسماوية، والبشرية والإلهية، اليونانية والرومانية، المسيحية والإسلامية، ونتوقف عن دراسة القانون في واقعنا الخاص، وعن مقدار سيادته، وعن عمليته ومدى مطابقته للواقع، وعن مصدره، وعن تطبيقه بل عن وجوده أساسًا، بالرغم من حديثنا عن تقنين الثورة. وما زال الدين لدينا مرةً في التاريخ، ومرةً في القانون، ومرةً ثالثة في السياسة، ورابعةً في الجمال، وخامسة في الفلسفة … إلخ، دون أن يصبح موضوعًا لعلمٍ خاص وهو علم تاريخ الأديان الذي أصبح الآن في البلاد المتقدمة علمًا قائمًا بذاته وفي بعض الأحيان، أقسامًا أو كليات قائمة بذاتها. خلاصة القول: إننا لم نضع تصورًا قوميًّا للعلوم الإنسانية، ولم نحدد هدفنا منها، واقتصرنا على ترديد أهم نظرياتها ومناهجها على المستوى النظري، دون أن نحولها إلى علومٍ قومية، هدفها التغيير الفعلي للمجتمع بعد دراسته دراسة مباشرة إلا فيما ندر؛٦ لذلك يشعر بعض الأساتذة الشبان الذين يودون طرح مشكلات العلوم الإنسانية طرحًا قوميًّا، بازدواجيتهم الجامعية، فهم يقومون بتدريس مواد محايدة أو موضوعية أو تاريخية، ويعيشون أزمة واقعهم الخاص، ويحاولون القضاء على هذه الازدواجية بإعادة صياغة العلوم الإنسانية صياغة قومية، حتى يخرج الجميع عن هذا الفصم السائد في حياتنا، بين علومٍ نتعلمها وأزمات نعيشها. ويمكننا الآن في محاولتنا لتطوير التعليم، تحويل هذه الجهود الفردية إلى تخطيطٍ قومي عام؛ وبالتالي لا تكون المواد القومية منفصلة بذاتها كالدين في التعليم العام، بل يمكن إعادة صياغة كل مادة في إطارٍ قومي. فالتاريخ يمكن كتابته بنظرةٍ قومية، وكذلك الفلسفة والأدب، فالمواد القومية بوضعها الحالي يشعر بها الطالب وكأنها مفروضة عليه، إرضاءً للسلطة يحرم الأستاذ فيها المناقشة، ويكرر النظرة الرسمية في المادية. فالطالب لا يشعر بجديتها والأستاذ لا يؤمن بها. -
(٢)
أما الثقافة الوطنية، فإن من حقنا أن نتساءل: هل هي موجودة أساسًا؟ أعني بالثقافة الوطنية الحد الأدنى من المبادئ والأهداف التي يمكن للمواطنين، وبوجهٍ خاص للمثقفين، الاتفاق عليها. إننا نعاني أساسًا من مثقفينا، خريجي الجامعة، من عزلتهم عن واقعهم، ومن عدم حماسهم لشيء، ومن أنهم تركوا الجامعة ولم تتضح رسالاتهم بعد، ولم يعرف كل منهم ماذا يستطيع أي يقدم وإلى أي حد، بل نجد كثيرًا منهم قد عكف على مصلحته الخاصة، وعلى تحقيق المثل الجديدة، من سعي وراء الرزق، يصل به إلى حد التخلي عن شرف الكلمة، أو إلى الهجرة، والذين استطاعوا إلى حدٍّ ما الخروج بشيءٍ من الجامعة، خرجوا بعقليتين مختلفتين: الأولى: ريفية، والثانية حضرية إن شئنا استعمال لغة علماء الاجتماع، الأولى محافظة والثانية تقدمية إذا شئنا استعمال لغة السياسة؛ أي إن التعليم الجامعي لم يستطع أن يحول العقلية الريفية إلى حضرية، أو تطوير المحافظة إلى التقدم، ظل الريفي ريفيًّا والحضري حضريًّا، ولا نجد من الطلبة من تطور أو نضج إلا من كان له اختيار سابق، وهو في الغالب اختيار سياسي تقدمي، وإلا مَن كان بطبعه شاعرًا أو قصاصًا أو ناقدًا؛ وذلك لأن الأديب أكثر قدرة على الالتصاق بالواقع والتطوير طبقًا لمقتضياته. ولا تزال هاتان العقليتان سائدتين في حياتنا الثقافية وتبدو على أوضح صورة في ثنائية التعليم لدينا، بين الجامعة الوطنية والجامعة الدينية، وكأن هناك علمين: علمًا دنيويًّا وعلمًا دينيًّا، وكأن العلم النبوي لا يحقق مقاصد الوحي، وكأن العلم الديني لا شأن له بأمور الدنيا. لقد استطعنا إلى حدٍّ ما القضاء على ثنائية التعليم لدينا، بين التعليم الخاص والتعليم الوطني، أو على الأقل خفت حدته عن ذي قبل، ولكن بقي أن نحقق وحدة نظمنا التعليمية حتى نستطيع المساهمة بالفعل في خلق الثقافة الوطنية الواحدة. وفي داخل العقليات العلمانية نجد تشتتًا وتبعثرًا، وكأنها جميعًا لا تعيش في واقعٍ واحد، فنجد فيها من يرى التقدم في تقليد الغرب، والآخر يراه في تقليد القديم، والثالث يراه في تحقيق مصالح طبقته الخاصة. لقد قيل عن مصر إنها بلدٌ متجانس، لا يعرف التشتيت، سماؤها كأرضها، شمالها كجنوبها، وأنها لا تعرف التشتيت الداخلي، ونزاع القوميات الذي عرفته الشعوب الأخرى. والحقيقة أن هناك أمصارًا كثيرة داخل مصر، هناك عديدٌ من الدوائر المنعزلة التي لا صلة لبعضها البعض من قريبٍ أو بعيد، أو أن الصلة الوحيدة هي صلة العبد بالسيد، فهناك مجتمع القرية غير مجتمع المدينة، وهناك الطبقة الشعبية غير الطبقة المترفة، هناك عديدٌ من الفئات كل منها محصور داخل مشاكله الخاص، والجامعة هي المسئولة لحدٍّ كبير عن هذا التشتيت؛ لأنها لم تكسر حدة الفوارق الطبقية، ولم تفتح هذه الدوائر المنعزلة لخلق المجتمع الواحد المتجانس. ولا تعني وحدة الثقافة الوطنية انتماء المثقفين جميعًا إلى تيار فكري واحد، بل تعني الاجتماع على قضايا أولية، تمثل الحد الأدنى للثقافة الوطنية، مثل تصفية مظاهر الخرافة في تراثنا القديم وفي عقليتنا المعاصرة، تحرير الأرض، إعادة توزيع الدخل، التنمية، ارتباط الفكر بالواقع؛ أي حصول المثقفين على بعض المبادئ العامة أو على أيديولوجية واضحة المعالم، تكون ضمانًا كافيًا لارتباط المثقفين بالأرض، وبملايين المعدمين، وتجمعهم على قضيتَي العصر: الاحتلال والتخلف. تستطيع الجامعة إذن المساهمة مساهمةً فعالة في خلق ثقافتنا الوطنية، وتحليل عقليتنا المعاصرة ورؤية رواسب الماضي فيها وتراكماته، ما يعوقها وما يدفعها إلا الأمام، خاصةً وأننا نمر بلحظةٍ أحوج ما نكون فيها للثقافة الوطنية، ولتحديد خصائص الأمة، كما فعل فشته في «نظرية العلم والدولة التجارية المغلقة». فنحن مهددون في وجودنا في المنطقة، ويمكننا درء هذا الخطر بتحديد معالم ثقافتنا الوطنية التي هي أساس وجودنا القومي.
-
(٣)
أما دور الجامعة في قيادة العمل الوطني، فقد عاصرت الجامعة نشأة الحركة الوطنية، أو عاصرت الحركات الوطنية نشأة الجامعة. كانت نشأة الجامعة تعبيرًا عن الاستقلال الوطني عن الاستعمار البريطاني، ثم أصبحت تعبيرًا عن التحرر الاجتماعي من الإقطاع الداخلي، ودعوة للحياة الديمقراطية السليمة بعيدًا عن التسلط والقهر ونظم الحكم السابقة الممثلة للأحزاب وللسراي. والعمل الوطني رسالة الشباب، والجامعة هي أكبر تجمع للشباب، والعمل الوطني تعبير عن الثقافة الوطنية وتحقيق لها، والجامعة هي أكبر تجمع للشباب المثقف، وتمثل طاقة كبرى للنضال كما حدث في معارك القناة سنة ١٩٥٢م. والشباب هو الأمين على الواقع والذي يتمثل فيه النقاء الثوري، والذي لم يقع بعد تحت إغراء السلطة أو المنصب أو المال أو الجاه؛ ولذلك فدوره الطبيعي أن يمارس العمل الوطني وأن يتعود عليه داخل الجامعة، حيث تتوفر شروط المناقشة الحرة، وعرض وجهات النظر وإمكانيات التعبير عن النفس. يستطيع الشباب أن يمارس بالفعل على المستوى الوطني علومه القومية التي شارك في صياغتها، وأن يحقق ما يرجوه من وحدة الشخصية الوطنية؛ فهو يفكر ويعمل، ينظر ويحقق، يخطط ويتقن، وبذلك يستطيع أن يقضي على ألوان العمل السياسي الرسمي، وأن يتحول العمل الوطني لديه إلى تحقيقٍ للذات، وإلى التحامٍ أكثر بالواقع؛ وبذلك يتعلم أخذ زمام المبادرة، والبدء بالتفكير والمطالبة، بدل أن يقتصر عمله على المتابعة وتنفيذ ما يطلب منه. وقد كان مفكرو ألمانيا أساتذة جامعتها، وقادة نضالها الوطني، وواضعي أسس ثقافتها الوطنية. ولا يعني العمل الوطني بالضرورة الخروج على السلطة. فالسلطة في البلاد النامية، أو على الأقل في عديدٍ منها، سلطة تؤمن بالاشتراكية، وتعمل على تقليل الفوارق بين الطبقات، وتؤمم وسائل الإنتاج لتحقيق ملكية الشعب لها وتعادي الاستعمار. وتكون جزءًا من حركة النضال العالمي. يأتي الشباب ويعطي كل ذلك مضمونه، ويحققه بالفعل ويكون أعظم ضمان للمسيرة الاشتراكية، وأكبر سند لنظم الحكم التقدمية في البلاد النامية. وإن الشباب الجامعي في البلاد المتقدمة بدأ يقوم بالدور الذي على الشباب الجامعي في البلاد النامية أن يقوم به، وهو مناهضة الاستعمار العالمي، ومجتمعات الحروب، وجماعات الاستهلاك، والانضمام إلى حركات التحرر العالمي، والعمل من أجل نصرة شعب فيتنام، وشعب فلسطين وشعبَي أنغولا وموزامبيق، ومن أجل القضاء على نظم الحكم العنصرية في روديسيا وأفريقيا الجنوبية. إن من يتحدث عن عزلة الجامعة كمن يثير الغبار، ثم يشكو من عدم الرؤية! فالطريق إلى خروج الجامعة عن عزلتها، هو مساهمتها الفعالة في قيادة العمل الوطني، فهذا هو أحد أدوارها، إن لم يكن دورها الأول. فالعلوم القومية والثقافة الوطنية تهدف في النهاية إلى إعطاء الأساس النظري الكافي لممارسة العمل الوطني.٧
ثالثًا: مناهج التدريس والنظم الجامعية
ليست الجامعة في الحقيقة إلا عدة أطراف تدخل في علاقاتٍ معينة، ويمكن تحديد هذه الأطراف في أربعة: الأستاذ، والطالب، والمناهج، والنظم. وتقوم الجامعة وتؤدي دورها الفعلي لو كان كل طرف في مكانه الصحيح وبصورته المثلى.
-
(١)
الجامعة أساسًا هي الأستاذ، وبدون الأستاذ لا توجد جامعة، وفي كثيرٍ من البلاد المتقدمة، إذا وجد الأستاذ أنشئت الجامعة له، ولا تنشأ الجامعة أولًا ثم يبحث لها عن الأساتذة، فإما أن نجد أو لا نجد، أو تنشأ الجامعة ثم يبحث لها عن الأساتذة ثم يتركها الأساتذة، وكأنها أحد دور الحكومة. وقد عرفت الجامعات المشهورة بأساتذتها، فلا تذكر جامعة برلين ويينا إلا ويذكر فشته وهيجل، ولا تذكر جامعة فريبورج إلا وذكر هوسرل وهيدجر، ولا تذكر جامعة ماربورج إلا وذكر كوهن وناتورب وكاسيرر، ولا تذكر جامعة توبنجن إلا وذكرت مدرسة اللاهوت الحر … إلخ.
وقد بدأت الجامعة المصرية لدينا على هذا المنوال، فاستقبلت مشاهير المفكرين والعلماء الذين أسسوا نظمها، وصنعوا مكتبتها، وأثروها بالمراجع التي ما زالت هي المراجع الأساسية حتى اليوم، ثم نشأ الرعيل الأول من أساتذتنا على أيديهم، فكانوا مفكرين وعلماء وباحثين، وكانوا بالفعل مربي جيل وأجيال. ولما كان هذا الرعيل الأول حفنة قليلة، ظهروا كالنجوم الزاهرة، ولمعت أسماؤهم، وانتشرت نظرياتهم، وراجت مؤلفاتهم، ولكن بعضًا منهم تملَّكهم الحسد، ورفضوا المنافسة، وأصروا على البقاء في أماكنهم دون مزاحمة، بل كثيرًا ما تناطحوا فيما بينهم على المناصب، وتقاضوا أمام المحاكم، وامتلأت المحاضرات بالتلميح منهم وإليهم، وبالغمز واللمز لهم وعليهم، وظل كل منهم في الجامعة ثلاثين عامًا أو يزيد، ولم يترك وراءه من يخلفه، أو إن ترك فواحدًا أو اثنين بشق الأنفس، فكانوا يتصورون الطلبة أعداء، إذا شجعوهم ورأوا فيهم استعدادًا للبحث العلمي فإنهم سينافسونهم في عملهم ورزقهم، وبدل النجم سيكون اثنان، مع أنهم كانوا يستطيعون الانتباه إلى طالبٍ واحد في كل دفعة، فيكون لكل منهم ثلاثون طالبًا، ويكون قد خرج من بين يديه ثلاثون أستاذًا تزخر بهم جامعاتنا، بدل هذا النقص الشنيع في أعضاء هيئة التدريس. تتحمل الأجيال السابقة إذن بعض المسئولية فيما وصلت إليه الجامعة اليوم من نقصٍ في أعضائها.
وإذا نظرنا إلى حال مدرجاتنا اليوم، ومقدار تكدس الطلبة فيها عرفنا أنه لا بد من التوسع إلى الحد الأقصى في تعيين أعضاء جدد، وتعيين معيدين جدد، لا عن طريق التكليف، بل عن طريق الإعلان واختيار الأصلح، فدرجات التخرج لا تثبت وحدها أهلية الطالب للبحث العلمي. وكذلك يمكننا إرسال البعثات المستمرة، ويكون الاختيار على أساسٍ وطني، وعلى درجة إحساس المبعوثين برسالاتهم العلمية والوطنية، فالبعثة ليست امتيازًا لطبقةٍ على أخرى، وليست وسيلة للكسب أو الحصول على المناصب العالية، وليست أيضًا وسيلة لشراء ما يلزم البيت الحديث من الخارج، والمطالبة بالإعفاءات الجمركية، بل هي رسالة وطنية. وقد فضل المبعوثون الصينيون في الخارج تخفيض مرتباتهم إلى النصف، ومضاعفة عدد المبعوثين، حتى يمكن خلق أكبر كادر فني ممكن، ولم يرجع المبعوثون الصينيون إلى بلدهم ثانيةً إلا ومعهم مراجعهم وأبحاثهم، وهي حصيلة حياتهم بالخارج. وفي نفس الوقت يمكننا توجيه الدعوة على مستوى وطني لزملائنا الموجودين بالخارج الذين هاجروا لسببٍ أو لآخر، من أجل الرجوع إلى جامعاتنا، وملء الفراغ في هيئة التدريس بها، فإننا لا نكاد نمر بجامعةٍ أوروبية، أو مركز للبحث العلمي، إلا ونجد فيه على الأقل أستاذًا أو رئيس قسم مصريًّا، وكثيرًا ما سمعنا عن إنجازاتهم العلمية في الخارج.٨ وقد سبق أن وجه مؤتمر المبعوثين الذي عقد بالإسكندرية في أغسطس سنة ١٩٦٦م نداءً قوميًّا لعقد مؤتمر للعاملين بالخارج. ومهما قيل في سبب الهجرة، من رغبةٍ في الحصول على مكسبٍ أعظم، أو رغبةً في زيادة في التحصيل، أو البحث عن مكانٍ أفضل للبحث العلمي، تتوافر فيه الإمكانيات اللازمة لذلك، أو الدعاية الفعالة للوطن في الخارج، فإن النهضة القومية الحالية التي نحاول إرساء قواعدها، لا يمكن أن تقوم إلا على أكتاف الجميع. والهجرة في هذه الظروف حلٌّ فردي محض، وتخلٍّ عن الوطن في أقسى لحظات نضاله، وهروبٌ من الميدان. فواجبنا الوطني إن أردنا رفع مستوى التعليم في جامعاتنا، وزيادة أعضاء هيئة التدريس بها عقد مؤتمر للعاملين بالخارج بعد توجيه نداء قومي لهم، فلا داعي لأن تصدر العقول بالمئات ثم نستورد البديل من الخبراء بالعشرات!أما بالنسبة لرفع مستوى أساتذتنا العلمي، فإنه يمكننا ذلك بالوسائل المتعارف عليها، والتي نعلمها جميعًا، والتي تنحصر في تخصيص العملة اللازمة لإحضار المراجع والدوريات العلمية، وإعادة كوبونات اليونسكو، والاشتراك السنوي في المجلات الثقافية، أو عن طريق التبادل، وإعداد قسم خاص بالجامعة مؤهل بدرجةٍ عالية من أجل القيام بذلك، وسفر الأساتذة للخارج مرة كل سنتين أو ثلاث، من أجل الاطلاع على آخر الأبحاث العلمية، وعقد المؤتمرات الداخلية، على المستوى القومي أو العالمي لمناقشة أبحاثنا العلمية، وقضايانا الفكرية. وغالبًا ما يحاول كل منا القيام بذلك على المستوى الشخصي، وبجهده الفردي. والأمر في النهاية لإرادة الباحث أو المفكر، فإنه لن يعدم وسيلة في التعرف على آخر الأبحاث من مؤتمرٍ أو صديق أو دار نشر يتعامل معها.
وقد يعتبر البعض منا أن انخفاض مستوانا العلمي يرجع أساسًا لمشكلة الكادر الجامعي، وأننا نحاول أن نكسب قوتنا بالأعمال الإضافية؛ ولهذا فإننا لا نملك الوقت الكافي لتخصيصه في الأبحاث، وليس لدينا الاستقرار المادي الكافي لصفاء الذهن، وتركيز الجهود على البحث العلمي. وهذه المشكلة وإن كانت واقعية بالفعل، إلا أن انخفاض مستوى الأجور في البلاد النامية مشكلة عامة، توجد لدى طبقات الشعب جميعها، والجامعيون إحداها، والجامعة باعتبارها قائدة للنضال الوطني، فإن مهمتها، في المرحلة الحالية، تكون في بذل الجهود لرفع المعدمين، مثل عمال التراحيل، والأُجَراء الزراعيين، إلى الحد الأدنى وليس رفع بعض الطبقات إلى الحد الأعلى، أسوةً بطبقات الفنانين والصحفيين. بل إن مهمة الجامعة هي المطالبة بوضع سياسة عامة للأجور، تتناسب مع طبيعة العمل وحده. وكل مشاكل من هذا النوع هي في الحقيقة مشاكل وهمية، يمكن أن تبدو أو أن تحل من تلقاء نفسها، إذا ما اعتبر الجامعيون أنفسهم من طلائع الشعب.
-
(٢)
أما الطالب لدينا، فإنه لا يشعر بأن وجوده في الجامعة رسالة وطنية؛ لأنه لم يتعود على الإحساس بها في التعليم العام؛ نجد كثيرًا منهم وكأنهم قد أتوا للنزهة وللتظاهر أو للحصول على الشهادة. الطالب لدينا في الجامعة خائفٌ ضعيف، يخشى كل شيء، يخشى الأستاذ، ويخشى زملاءه، ويخشى النظم الجامعية، يترك مصيره الفكري والاجتماعي تحدده الأوضاع التي يرى عيوبها، ويقاسي منها طيلة حياته الجامعية، والتي قد تؤثر عليه إلى الأبد. قد يعلم المأساة، ولكن ليس لديه الشجاعة الكافية للتعبير عنها، والعمل على تغييرها. ونظرًا لأنه لم يمارس الفكر في الجامعة، ولم يتعود على التغيير، فإنه يتركها ويترك كل شيء وراءه كما هو، ويعمل في وظيفته ويترك فيها كل شيء كما هو؛ لأنه تعود أن يجد نفسه في مكانٍ ليس له الخيرة فيه. مع أن الطالب الآن في كثيرٍ من بلاد العالم هو كل شيء؛ يقرر مصيره بيده، يحدد المقررات الجامعية، ونظم التدريس بها، يحدد أشكال الامتحانات، يشارك في تعيين الأساتذة، يساهم في التنظيم الإداري للجامعة، ووضع نظمها وقوانينها، يرعى استقلال الجامعة، ويحافظ على حرمتها وحصانة أساتذتها، يقود النضال الوطني مع باقي الطوائف، كما حدث في تاريخ مصر الحديثة في لجان الطلبة والعمال. والحقيقة أن الطلبة هم أقدر من الأساتذة في التعبير عن أنفسهم. لذلك فهم طرفٌ في قضية تطوير التعليم، وطرف يجب سماعه؛ لأنهم هم الذين يعانون منه، وهم الذين ستحدد حياتهم بناء عليه. وتلك مهمة اتحادات الطلاب لتمثيلهم في المؤتمر الذي لا يجب أن يقتصر على الفنيين والمختصين والمهنيين، وفرق الأجيال يوجب فرقًا في الاختيار.
-
(٣)
أما مناهج التدريس، فهي الطرف المسئول عما وصل إليه تعليمنا الجامعي من مستوى لا يرضى عنه الكثيرون منا. فقد تصورنا أن التدريس لدينا يكون بطريقة وضع «كتب مقررة»، أصبحت عند البعض منا وسيلة للتكسب وزيادة الرزق، وأصبحت عند الطلبة وسيلة سهلة للحفظ والتكرار وعدم التفكير، في حين أن الجامعة ليست بها كتب مقررة، بل هي فتح لأبواب المعارف كلها، هي مطالبة للطالب بالاطلاع على أمهات المراجع، بعد أن تعطى له الموضوعات في أول العام، هي عدة سنوات من القراءة المتصلة، والبحث المستمر. كما نجد أيضًا أن كثيرًا منا اتبع مناهج الإملاء التي يتحول بها الطلبة إلى مجرد نساخ دون فهم أو مناقشة لما يملى عليهم، في حين أن الجامعة أساسًا هي حوار متصل بين الأستاذ وطلبته، وطرح للمشاكل وعرض للحلول، بل إن كثيرًا من الجامعات في البلاد المتقدمة قد تخلت عن نظام المحاضرات العامة التي يقف فيها الأستاذ بفخامته وعظمته، يلقي الدرر على من يتلقفونها وهم شاكرون، وحولت هذه المحاضرات إلى حلقاتٍ صغيرة للبحث، ليكون فيها الأستاذ كأحد الطلبة، يقوم ببحثٍ مثلهم، ومجموع الأبحاث المشتركة في النهاية، هو حصيلة الدراسة آخر العام، وهكذا عامًا بعد عام حتى يشعر الأستاذ بأن كل طالب منهم أصبح قادرًا على البحث ومطلعًا على أهم المراجع. لذلك وجدنا أن الامتحانات بصورتها الحالية المرتبطة بمناهج الإملاء، والكتب المقررة، والمحاضرات العامة ليست مقياسًا صادقًا باستمرار لتقييم الطلبة، ويكون المقياس الأصدق في هذه الحال هو مجموع الأبحاث التي يجريها الطالب طول العام، ومقدار مساهمته في المناقشات اليومية. وفي هذه الحال تتحول المحاضرات العامة إلى نظامٍ اختياري؛ إذ يلقي كل أستاذ مرة أسبوعيًّا محاضرة عامة للطلبة جميعًا بما عرف عنه من فكرٍ أو مذهب أو تيار؛ وبالتالي يستطيع الطالب أن يرى أمامه عدة اتجاهات، يختار بينها بعد أن يناقشها؛ ومن ثم تنشأ الحركة الفكرية بين الأساتذة والطلاب؛ فالجامعة أساسها المعركة الفكرية المطروحة أمام الطلاب.
-
(٤)
أما بالنسبة للنظم الجامعية، فإن الجامعات لدينا ما زال هدفها هو استيعاب أكبر عدد ممكن من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة؛ أي إنها ما زالت هي جامعات الأعداد الكبيرة. ولما كان التعليم نفسه قضية وطنية، فإن هذه الأعداد الكبيرة أمرٌ لا مفر منه، ولكن يبقى التوجيه الجامعي. ما زلنا نعتقد حتى الآن أن كل الحاصلين على شهادة الثانوية العامة لا بد وأن يدخلوا الجامعة، ضرورة، فهي الطريق الطبيعي المكمل للشوط الأول. وهذا غير صحيح على الإطلاق؛ فالجامعة تأهيل للبحث العلمي أكثر منها تأهيلًا للعمل المنتج، وللتخصيص المباشر؛ ومن ثم فإننا نستطيع التوسع في إنشاء المعاهد المتخصصة التي لا تقل أهمية أو شرفًا عن الجامعة، خاصةً وأننا ما زلنا في مجتمعٍ يعطي الأولوية للنظر على العمل، ويعتبر من يعمل بفكره أو على مكتبه أفضل من الذي يعمل بيديه في المصنع. المعاهد الفنية المتخصصة يمكنها استيعاب أكثر من نصف الحاصلين على الثانوية العامة، خاصةً ونحن في حاجةٍ إلى المهندسين الصناعيين وإلى العمال المهرة، وفي البلاد المتقدمة تقوم هذه المعاهد بسد احتياجات المناطق، بل إنها تفوق الجامعات من حيث التركيز على الجانب العملي والفني، وتسمى مدارس عليا للتجارة والصناعة والزراعة والكهرباء والهندسة والميكانيكا والوثائق … إلخ. ولا يعني ذلك أنها أقل شرفًا من الجامعة التي ركزت على الأبحاث النظرية. إن الذين يثيرون لدينا هذا التفاضل بين المعاهد المتخصصة، متوسطة أو عليا، وبين الجامعات يعنون أساسًا الكادر المالي والدرجات، وقد حصلوا على ما يريدون، أو في طريقهم إليه، ولكن تبقى أن مهمة المعاهد العليا هي الاتصال المباشر بالواقع، وسد ما نحتاج إليه من متخصصين وفنيين.
كما يجب علينا إعادة التفكير في نظام الانتساب، وجعله مسائيًّا صرفًا على أساس حضور الطالب ومناقشاته. فالانتساب لا يعني حصول بعض الموظفين على شهادات تؤهلهم إلى درجاتٍ أعلى من أجل زيادة مرتباتهم، بل على رغبةٍ حقيقية في التعلم والتثقيف. فالمنتسبون بالرغم من جهودهم ومثابرتهم، يتصورون الجامعة على أنها كتبٌ ومقررات وامتحانات، عليهم اجتيازها، فلا هم يأخذون العلم، ولا هم يتطورون فكريًّا عما بدءوا منه.
وعلينا ألا نضع أي قيود على الطلبة الوافدين؛ فإن مهمة جامعاتنا في مصر هي تخريج أكبر عدد ممكن من الطلبة العرب خاصةً والشرقيين عامةً. يجب علينا رفع كل القيود المالية والإدارية عنهم؛ فذلك مكسبٌ عظيم لقضايانا الوطنية. وإن مراكزنا لدراسة مشاكل البلاد النامية، يجب أن تحتوي على أكبر عددٍ ممكن من الطلبة الوافدين، فمهمتنا هي تربية الكوادر، وألا نترك الأعداء يقومون بهذه التبعة بدلًا منا.
وفي الدراسات العليا، يجب تحويل السنة التمهيدية فيها إلى أبحاثٍ بدل المحاضرات، حتى يتعود الطالب على البحث العلمي، ويجب تخطيط الدراسات فيها بحيث تكون الموضوعات وثيقة الصلة بواقعنا الخاص، وأن يكون التخطيط جماعيًّا، والإشراف جماعيًّا، حتى لا يتذبذب الطالب بين هذا وذاك، وحتى لا تتغير خططه حسب سفر المشرف عليه.
وما زالت باقية لدينا مشكلة المعادلات العلمية وتقييم الشهادات بالخارج، دون مقياس موحد، فتُقبل شهادات بعض الجامعات الأمريكية، ولا تقبل شهادات بعض الجامعات الأوروبية المناظرة لها، لا سيما وأن الدولة نفسها هي التي تقرر إيفاد الطلبة إلى هذه الجامعات ثم لا تعترف بشهاداتها.
ويمكننا القول أيضًا بأنه يجب أن نفصل في جامعاتنا بين الجانب العلمي والجانب الإداري، فيجب خلق إدارة خاصة للامتحانات، تقوم بهذه المهمة حتى لا يضيع ربع العام تقريبًا على أعضاء هيئة التدريس في أعمالٍ إدارية محضة يمكن للإداريين القيام بها، فيكفي الأستاذ إشرافه على أبحاث الطلبة طيلة العام كجزءٍ من تقييم مستواهم العلمي.
إن نظم الجامعة لتخف كثيرًا لو أنها خضعت للإرادة السياسية المنفذة للخطة القومية للتعليم، وحين يكون الدافع القومي هو الموجه لسلوك الجميع.
رابعًا: استقلال الجامعة وديمقراطية المجالس
ولا يمكن للجامعة أن تؤدي مهمتها كاملة إلا إذا توفر لها شرطان؛ الأول: يحدد صلتها بالدولة وهو استقلال الجامعة، والثاني يحدد الصلة بين أعضائها أنفسهم وأعني ديمقراطية المجالس الجامعية.
-
(١)
لا يعني استقلال الجامعة انعزالها عن المجتمع؛ لأنها جزءٌ منه، بل يعني توفير أكبر قدرٍ ممكن من حرية العمل الفكري بها، فمن خلال وجهات النظر، خاصةً في الكليات النظرية، وبفضل العمل الفكري الحر، تنشأ الاتجاهات السلمية، ويستطيع الطالب والأستاذ معًا القضاء على اللامبالاة بالنسبة للأفكار، وأخذ المواقف المستمرة في جوٍّ يأمن فيه الجميع، وتتوفر لهم الحماية. لذلك فكما أن للقضاة الحصانة القضائية، وللنواب الحصانة البرلمانية، فيمكن أن يكون للجامعيين الحصانة الجامعية. وليس غريبًا أن يطلق على فناء الجامعة الداخلي «الحرم الجامعي»، إشارةً إلى حرية الجامعة واستقلالها عن السلطة. وعلى ذلك فعلينا تحديد دور الحرس الجامعي تمامًا، ووضعه تحت إشراف مجلس الجامعة، وتحديد مكانه خارج الأسوار، فلا يدخلها إلا بأمرٍ من مدير الجامعة.
قد يُقال إن مبدأ استقلال الجامعة مبدأ شائع في المجتمعات الرأسمالية، ولن يستفيد منه إلا الطبقات البورجوازية حتى تستطيع أن تفعل ما تشاء، أو أنه مبدأ ليبرالي يتعارض مع المجتمع الاشتراكي، وأنه لا بد من توجيه السلطة للجامعة والإشراف عليها، وهذا غير صحيح لأسبابٍ عديدة؛ أولًا: أن المجتمعات النامية في حاجةٍ إلى طرح كل الأفكار الجديدة، وإلى إسهام جميع القوى التقدمية في التنمية. ولن يتوفر ذلك إلا في جوٍّ من الأمان التام، حتى يخرج الجميع عن السلبية إلى الإيجابية، وحتى يتحول من اللامبالاة إلى المبالاة، وهناك شرف الجامعة وضميرها، ومسئوليتها عن الفكر القومي، والنضال الوطني، والذي يضمن إلى حدٍّ كبير قيام الجامعة بدورها. فالمناقشات الحرة المفتوحة، بدون تدخل من السلطة، ورفع كل وصاية فكرية أو غيرها عليها هو السبيل لإطلاق قوى الجميع. ثانيًا: إن المجتمع الاشتراكي نفسه في حاجةٍ ماسة إلى الأساليب الديمقراطية في التطبيق الاشتراكي. وإذا كنا جميعًا نتفق على الهدف، وهو الحل الاشتراكي، فإننا يجب أن نتفق على الوسائل أيضًا؛ أعني الأساليب الديمقراطية في العمل السياسي، فلا تعارض بين الاشتراكية والديمقراطية؛ لأن الاشتراكية هي تحقيق لمصلحة الأغلبية، والديمقراطية هي أخذ الأغلبية مقادير أمورها بيدها. فالاشتراكية والديمقراطية كلاهما حق الأغلبية. ثالثًا: لقد مرت علينا فترةً طويلة نستعمل فيها جميعًا لغة واحدة، يقتنع بها البعض ولا يقتنع بها الآخرون، والذين يقتنعون بها يقتنعون على درجاتٍ متفاوتة، ولكن الجميع يستعمل نفس اللغة في الواجهة العامة، ثم تكون له لغة أخرى في جلساته الخاصة حتى التبس الأمر على الجميع.١٠ فالتعبير الحر عما يؤمن به الفرد داخل الجامعة، هو وسيلة للصدق في القول وفي التعرف على الأفكار ثم مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. وظهور الطرف المناقض وإعطاؤه حرية التعبير عن النفس دعمٌ للطرف الأول، وتقوية له، بذلك يتعود الجميع على وحدة اللغة، ووحدة القول والشعور. إذن فلا مجال للتخوف مما نسميه القوى المعادية؛ إن ظهورها هو وسيلة القضاء عليها بالفكر أولًا، وما دامت تعمل في الخفاء فإنها تسري وتعظم وتكون أقوى وأطغى. -
(٢)
وما دمنا قد استعملنا الأسلوب الديمقراطي في عملنا الفكري، فإن نفس هذا الأسلوب يتحول إلى تحقيقٍ عملي في نظمنا وعلاقاتنا الداخلية، في ديمقراطية المجالس الجامعية، وهو أمرٌ جوهري لتحديد علاقات سليمة بين الجامعيين، ولتحقيق صلات بيننا أوثق وأوثق. فمديرو الجامعة يجب أن يكونوا بالانتخاب، من جميع أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، أساتذة وأساتذة مساعدين ومدرسين ومعيدين ومن ممثلي الطلاب، حتى يكون عنوانًا على شخصية الجامعة، وحارسًا على حرمتها ومحققًا لأمانتها، وتكون له القاعدة التي يعتمد عليها. كما يجب أن يكون عمداء الكليات بالانتخاب، من أعضاء هيئة التدريس ابتداءً من المدرسين حتى المعيدين وممثلي الطلاب؛ فذلك أكثر تحقيقًا للنشاط الداخلي لكل كلية، وأكثر ضمانًا لأن يكون العمداء ممثلين لمصلحة الجميع. كما يجب أن يكون رؤساء الأقسام بالانتخاب من أعضاء هيئة التدريس بكل قسم، ومن ممثلي اتحاد الطلاب حتى يتحول القسم إلى أسرةٍ واحدة، أساتذةً وطلابًا. وليس من الضروري أن يكون المديرون والعمداء أو رؤساء الأقسام من الأساتذة ذوي الكراسي، بل يكفي أن يكون عضوًا من أعضاء هيئة التدريس؛ فقد يكون الشباب أكثر قدرةً على تحمل أعباء الجامعة من الكبار. وقد انتخب طلبة جامعة كولومبيا كاميلو توريز مديرًا للجامعة وهو في سن الثالثة والثلاثين. كما يجب تمثيل أعضاء هيئة التدريس في مجالس الجامعة تمثيلًا نسبيًّا، وألا يقتصر على العمداء، بل يكون به ممثلون عن الأساتذة المساعدين والمدرسين والمعيدين والطلاب على السواء. ولا يجب أيضًا اقتصار مجالس الكليات على الأساتذة وحدهم، بل يمثل جميع أعضاء هيئة التدريس والمدرسين والمعيدين والطلاب على السواء. ولا يجب اقتصار مجالس الكليات على الأساتذة وحدهم، بل يمثل جميع أعضاء هيئة التدريس والطلبة تمثيلًا نسبيًّا. ويجب اعتبار المعيدين جزءًا من أعضاء هيئة التدريس، لا يعينون بقرار، ولا يفصلون بقرار. أما اتحادات الطلاب فإنها يجب أن تكون بالانتخاب الحر، كما يجب أن تكون ممثلة في جميع مجالس الجامعة. ولا يقال إن ديمقراطية المجالس الجامعية رجوع إلى ماضٍ قديم، وإعادة تكوين للشلل الجامعية؛ فإن إرادة العمل الوطني، وشرف الجامعة، تكفل تحقيق العمل الديمقراطي السليم، ووسيلة للتوعية والتعود عليه حتى نرسي قواعد تقاليدنا الجامعية التي تعبر عن تاريخ الجامعة الطويل.
-
(٣)
وأخيرًا، فإننا لا بد أن نحاول إرساء هذه التقاليد الجامعية التي تؤرخ للجامعة وتخلد نضالها، والتي تبين حرص الجامعة على وجودها المستقل، وعلى ارتباطها بالقضايا المصيرية، فيمكننا مثلًا:
- (١)
إلقاء قَسم الجامعة أمام القادمين الجدد في يوم افتتاح رسمي للجامعة في أول كل عام دراسي؛ قسم يردد فيه الجميع التزامهم باستقلال الجامعة، وبديمقراطية المجالس، وبالعمل الوطني وبالقضايا المصيرية، كما يردد الخريجون قسمًا آخر في يومٍ رسمي، يكون عيدًا للجامعة، لإعلان التزامهم أيضًا بالعمل من أجل خلق الثقافة الوطنية، وتحقيق العمل الوطني في الحياة العملية، والالتزام بشرف الكلمة والأمانة على الواقع.
- (٢)
نزول الجامعيين أثناء الصيف إلى الريف لمحو الأمية، كل جامعي في قريته، في دور العمد، وفي الأندية، وفي المساجد، ونزول الخريجين سنة بعد تخرجهم إلى الريف لمحو الأمية أيضًا بدل انتظارهم سنة قبل توزيع القوى العاملة لهم، بل كجزءٍ من التجنيد الإجباري. ولقد أغلق كاسترو الجامعات سنة، ونزل الجميع إلى الريف، وتم القضاء على الأمية، فمحو الأمية مشكلة مفتعلة، وحلها سهل ميسور، ولكن الإرادة السياسية هي التي تنقصنا.
- (٣)
ربط الجامعة بالمؤسسات، الكليات العملية بمؤسسات الثقافة والتشريع، فهي ميدان عملي للخريجين.
- (٤)
إنشاء الندوات الجامعية، والمهرجانات السنوية، والأعياد الجامعية، وأيام الذكرى للشهداء؛ فالجامعة صوت الأمة، فيها تقام الندوات السنوية لطرح القضايا القومية على الشعب، وفيها تقام المهرجانات السنوية التي يشارك فيها الشعب، وفيها تقام الأعياد، أعياد الفلاح والعامل والمثقف.
- (٥)
تطوير الصحافة الجامعية، إما داخل كل كلية أو داخل الجامعة، لتكون تعبيرًا عن مشاكلها وعن المشاكل العامة.
- (٦)
إقامة معسكرات في الصحاري وفي الوادي الجديد، والخروج من المناطق السكنية والحضرية، بل وتخصيص شهر من كل عام للعمل اليدوي، من أجل استصلاح الأراضي، أو تعمير الصحاري، أو شق الطرق، حتى تمحى عن أذهاننا هذه التفرقة بين العمل النظري والعمل اليدوي، فكلنا عمال.
- (٧)
تمثيل الجامعة في مجلس المدينة التي تكون بها الجامعة، حتى يمكن أن يتم تخطيط المدينة من أجل الجامعة، وإنشاء ما يسمى «بالمدن الجامعية»، حيث يتم توجيه مرافق المدينة من أجل الجامعة، وحل مشاكل الطلاب المادية، وتوفير المدن الجامعية، وخلق الأندية، وتخطيط المدينة من أجلها.
- (٨)
ربط الجامعات لدينا بالجامعات العربية، وخلق اتحاد الجامعات العربية على مستوى القاعدة لا على مستوى القمة، وتحقيق روابط أكثر بين اتحاداتنا الطلابية واتحاد الطلاب العالمي.
- (١)
تلك هي رسالة الجامعة.
(٢) مناهج التدريس والعلاقات الداخلية في جامعاتنا١١
في الوقت الذي ندعو فيه جميعًا إلى التغيير تبرز المشاكل الجامعية باعتبارها مجالًا رئيسيًّا من المجالات التي تستحق منا اهتمامًا وجهدًا أساسيين، في عملية المراجعة والإصلاح الكفيلة بجعلنا نبلغ المستوى الذي تفرضه علينا التحديات التي تتربص بنا.
ويتعلق جانبٌ هام من مشاكل جامعاتنا بمناهج التدريس فيها ونظمها الداخلية وأوضاعها الخارجية، فلقد ساد الجامعة — وأعني بالذات الكليات النظرية — مناهج الإملاء؛ إذ تحولت محاضرات الجامعة إلى دروسٍ في الإملاء أو في المطالعة، يدخل الأستاذ بملفه ويملي منه، ويدخل الطالب بنوتة محاضراته ويملى عليه، أو يدخل الأستاذ بالكتاب المقرر ويقرأ منه، ويدخل الطالب بنفس الكتاب ويقرأ عليه، والكل ضامن حسن السير والسلوك. فالأستاذ لا يجهد نفسه إلا في نقل مادة من كتب أخرى يجمع بينها ويؤلف، ويشرح ويختصر، ويتكرر ذلك كل عام دون تغييرٍ أو تبديل، والطالب لا يجهد نفسه إلا في الأسابيع الأخيرة من كل عام، يحفظ المادة المنمقة المرتبة وهو سعيدٌ بها، ينقلها إذا غاب ويحصل عليها من الملازم ثم يأتي السؤال مباشرة؛ الأول: من الصفحة الأولى حتى الصفحة العاشرة، والثاني من العاشرة حتى العشرين، والثالث … إلخ. وبعد أداء الامتحان ينتهي كل شيء كما بدأ، ثم تبدأ العملية نفسها في السنة التالية حتى الرابعة بنفس الطريقة، يخرج الطالب بعدها كما دخلها، ويكون بعدها قد كون ثروة تقل أو تكثر حسب صلاته الاجتماعية، وقدرته على إيجاد الفرص للإعارات، أو ترويج الكتب المقررة، ويعلو في المناصب الجامعية حتى يصير نجمًا اجتماعيًّا، تتخاطفه المصالح الحكومية للوزارات حتى يستقر في قممها، ويكون بذلك قد وصل إلى نهاية الشوط.
وبمنهج الإملاء هذا يصبح الطلبة نسخًا باهتة متكررة من الأستاذ، يتكرر الطلبة ما تكرر الأستاذ من قبل، ينقل الكل من نفس المراجع، ويضيع التنوع الذي هو نتيجة حرية الفكر وأخذ المواقف، والتعبير عن الرأي الشخصي.
والتدريس بالجامعة هو في الحقيقة حوارٌ حر بين الطالب والأستاذ، يبدو على أحسن ما يكون في ساعات المناقشة وأعمال السنة. قد يكون الأستاذ أكثر اطلاعًا وأطول ممارسة، ولكن الطالب قد يكون أكثر وعيًا وأشد التزامًا بالقضايا.
والدراسات العليا عندنا ليست بأفضل من الدراسات السابقة عليها؛ إذ تبدأ الأولى سنة عامة يتكرر فيها بعض المواد السابقة، ويتبع فيها منهج الإملاء والكتب المقررة، كما هو الحال في السنة الأولى عامةً بكلية الآداب بجامعة القاهرة التي تتكرر فيها التوجيهية من جديد، ونحن أحوج ما نكون إلى مزيدٍ من التخصص، مع أنه كان من الأجدى جعلها سنة يقرأ فيها الطالب أمهات المراجع في دراسته، ويا حبذا لو كانت بلغةٍ أجنبية، تلك المراجع التي سمع الطالب عنها ولم يرها في سنواته الجامعية الأولى، يكون هذا العام أو هذان العامان استعدادًا للطالب لمرحلة البحث العلمي وما يتطلبه من إمكانياتٍ في اللغات وفي مناهج العلوم الإنسانية.
فإذا اختار البحث اختاره له الأستاذ المشرف عليه، وهو لا يتعدى في الغالب دراسة شخصية ما حياتها وآراءها، أو مرحلة زمنية تقتطع من التاريخ، ويرصد الطالب الوقائع ويرتب المادة، وكأن البحث العلمي هو مجرد تصوير للقديم ونقل له، ما دام الطالب لم يتعلم وسائل البحث العلمي التي تجعله يذهب إلى الموضوع ذاته ويكشف هو بنفسه. وهكذا تكون الماجستير استمرارًا لليسانس، والدكتوراه استمرارًا للماجستير، كل مرحلة تؤدي تلقائيًّا إلى المرحلة التالية دون فرق إلا من اختلافٍ في الكم والسن. فإذا أعير الأستاذ المشرف نقل الإشراف إلى غيره وهو لا يعلم عن الموضوع شيئًا ويبدأ التخطيط من جديد، ويكون الطالب هو الضحية، يغير ويبدأ حسب إعارات الأساتذة، وينتهي الأمر إلى المجاملة في المناقشة العلنية والتغاضي عن العلم، مجاملة بمجاملة، وخاطرًا بخاطر …
وتتحمل الأجيال السابقة بعض المسئولية فيما وصل إليه حال الجامعة اليوم؛ فقد نشأ الرعيل الأول على أكتاف الأساتذة الأجانب الذين أحسنوا إعدادهم كمثقفين وباحثين. ولما كان هذا الرعيل الأول حفنة من الأفراد، ظهروا كالنجوم الزاهرة، ولمعت أسماؤهم، وانتشرت نظرياتهم، وراجت مؤلفاتهم، فخافوا الحسد، ورفضوا المنافسة، وأصروا على الإبقاء على أوضاعهم، وظل كل منهم في الجامعة ثلاثين عامًا لم يترك وراءه من يخلفه، أو إن ترك فواحدًا أو اثنين بشق الأنفس؛ لأنه كان يتصور الطالب عدوًّا له، إذا شجعه ورأى فيه استعدادًا للبحث العلمي، فإنه سينافسه علمه ورزقه.
وفي الحقيقة لا بد أن يكون الأستاذ نموذجًا أمام الطلبة في حرية الفكر، وفي جدية البحث وفي قيادة النضال الوطني، وهو مثلٌ له في شرف الكلمة، وأخذ المواقف، خاصةً إذا كان شابًّا وعى مشاكل العصر والتزم بقضاياه، ورفض الأسلوب الذي أصبح داء هذا العصر ونموذج كثير من شبابه، وهو الأسلوب الذي يهدف إلى وراثة الطبقات القديمة، متخذًا أسلوبًا جديدًا في العمل بحساب.
على أن جيلًا جديدًا من الأساتذة الشباب يرفض هذا كله، ويصادف العقبات التي تقف في طريق نموه وعمله.
ونحن كثيرًا ما نتحدث عن ارتباط الجامعة بالمجتمع، بل إننا ننشئ الجامعات الإقليمية على أنها جامعات نوعية، تقوم أساسًا بخدمة البيئة ودراستها دراسة تطبيقية مباشرة، وينطبق هذا على الكليات النظرية والعملية على السواء. فمثلًا نجد في أقسام الفلسفة بكليات الآداب حديثًا عن الفكر اليوناني والمسيحي والإسلامي والغربي، ولا نكاد نسمع شيئًا عن الفكر المصري في تاريخ مصر الحديث الذي ما زلنا نعاصره، يتخرج الطالب ولديه من كل شيء، ولا شيء لديه عن مصر. فإذا ما درس الفكر الغربي لم يأخذ موقفًا مع أن الغرب ما زال هو مشكلتنا في السياسة وفي العلم؛ فهو الطرف الثاني في قضايا التحرر والاستعمار، كما أنه الطرف الثاني كنموذج للتقدم العلمي والتكنولوجي. وإذا درس تراثنا الماضي فإنه يدرسه كتاريخ شخصيات أو مذاهب أو عقائد، دون أن يربطه بقضايا العصر، فانعزالية الجامعة لا تختلف عن انعزالية المثقفين، أما أهم قضايانا وهي تحرير الأرض وإعادة توزيع الدخل والتنمية، فلا تكاد تذكر في جامعاتنا إلا من بعض الشبان.
والجامعة مسئولة إلى حدٍّ كبير عما نراه اليوم من تشتت المثقفين وغياب الوحدة الفكرية العامة التي تعمهم. لقد قيل عن مصر إنها بلدٌ متجانس لا يعرف التشتت، سماؤها كأرضها، شمالها كجنوبها، وأنها لا تعرف هذا التشتت الداخلي ونزاع القوميات والطوائف الذي عرفته الشعوب الأخرى. وقد يكون هذا صحيحًا ولكن هناك عديدًا من الدوائر المنعزلة التي لا صلة لها من قريبٍ أو من بعيد بعضها ببعض: مجتمع القرية غير مجتمع المدينة مثلًا، وكل فئة محصورة داخل مشاكلها. فإذا صعدنا إلى الفئات العليا وجدنا كلًّا منها تحاول أن تضم مصر إليها. الجامعة هي المسئولة إلى حدٍّ كبير عن هذا التشتت الفكري انتماء؛ لأنها لم تستطع أن تخلق وحدةً فكرية بين خريجيها، ولا تعني الوحدة الفكرية انتماء جمهور المثقفين لتيارٍ فكري واحد، بل تعني الاجتماع على قضايا أولية مثل تصفية مظاهر الخرافة في تراثنا القديم وفي عقليتنا المعاصرة، تحرير الأرض، توزيع الدخل، التنمية، ارتباط الفكر بالواقع؛ أي إن الجامعة تكون قد أدت مهمتها خير أداء لو تخرج الطالب منها بعد أربع سنوات أو أقل أو أكثر، بأيديولوجيةٍ واضحة المعالم تكون ضمانًا كافيًا لارتباط المثقفين بالأرض وبملايين المعدمين وتجمعهم على قضيتَي العصر: الاستعمار والتخلف.
إن الطالب والأستاذ لو اجتمعا معًا على أسس البحث العلمي، وارتبطا بالقضايا الوطنية أوثق ارتباط، لنهضت الجامعة بمهمتها المزدوجة في ريادة البحث العلمي وقيادة النضال الوطني.
(٣) الطلبة والمشاركة في العمل الوطني١٢
كان الطلبة دائمًا في طليعة الثوار، فلم تكن مهمتهم تحصيل العلم وحده، بل كانت المشاركة في العمل الوطني على أوسع نطاق وفي جميع المستويات، واليوم، وقد قامت جماهير الشعب لتأكيد مسيرتها وتقوم بواجبها نحوها، كمثقفين ثوريين يعبرون عن مصالح الجماهير، ويستبقون السلطة ويشيرون إلى الطريق.
تطالب جماهير الطلبة بالسير قدمًا في طريق التحول الاشتراكي، متبنية مطالب العمال والفلاحين، ويؤكدون أن الجامعة جامعة الشعب والأمينة على مصالحه وحقوقه، ويطالبون بأن يكون للعامل حقٌّ أكبر في الربح، ودورٌ أعظم في إدارة المصنع، وأن يكون للفلاح نصيبٌ أكبر من الدخل القومي، وأن تكون الأرض لمن يفلحها، فمشاركة الطلبة في العمل الوطني حق لهم بل واجبٌ عليهم. لذلك فهم أول من يتصدَّون للرجعية التي تريد الرجوع بالتاريخ إلى الوراء، والتي تود انتزاع الفلاح من أرضه والسيطرة برأس المال على مؤسساتنا وتنظيماتنا الشعبية. الطلبة هم في طليعة الجماهير، وباتحادهم مع العمال والفلاحين والجنود والمثقفين الثوريين، يضمنون مسيرة الشعب وتحقيق مطالب الجماهير.
وفي نفس الوقت، يحرص الطلبة أشد الحرص على عقد حوار مفتوح بين المواطنين، ويؤكدون حرصهم على الحريات العامة، فهي السبيل الوحيد لتكوين مناخ فكري صحيح تتضح فيه الأفكار، ولكي تكشف كل إنسان أمام نفسه، حتى تتعلم الجماهير من يود إيقاف مسيرتها، ومن يود دفعها إلى الأمام، وحتى تكون على بينةٍ من موقفها وعلى اقتناعٍ بهدفها.
بذلك تتحقق الاشتراكية على أساسٍ ديمقراطي حر في جوٍّ سليم، تظهر فيه الرجعية سافرة حتى يمكن للجماهير أن تعي موقفها وفكرها. الاشتراكية هي الهدف والغاية، والديمقراطية هي المنهج والوسيلة. الطلبة إذن هم القادرون على التصدي لكل من يرفع شعار الديمقراطية ويتستر وراءها، وهو يريد الاستغلال والقضاء على مكاسب الشعب، وإيقاف المسيرة الثورية، وهم القادرون أيضًا على أن يضعوا أيديهم في أيدي أساتذة اليوم زملاؤهم بالأمس، وعلى أن يدفعوا المترددين على أن يقوموا بواجبهم، وعلى أن يقفوا في وجه من يريد فرض الوصاية عيلهم، وعزلهم عن جماهير الشعب، وتخويف أو إرهاب كل من يتصدر العمل الوطني من الطلاب والأساتذة على السواء.
كما تؤكد جماهير الطلبة حرصها على تعبير الجماهير عن نفسها من خلال المؤسسات، والجامعة إحداها، سواء الشعبية أو التنظيمية أو الدستورية. فالحركات النقابية تعبر عن مطالب العمال، والتنظيمات السياسية تعبر عن مطالب الجماهير، والهيئات البرلمانية والدستورية والقضائية تحفظ حقوق الشعب وتصون مطالبه. فالمؤسسات الفعالة القوية المعبرة عن مطالب الجماهير هي وحدها الباقية.
إن الطلبة بانتسابهم إلى طبقات الشعب العاملة، وإحساسًا منهم بالأمانة الفكرية وبشرف العمل الوطني، يجعلون أنفسهم حراسًا على حقوق الشعب، وضمانًا لاستمرار مسيرته وتحقيق مطالبه. لقد سقط منهم الشهداء في معارك التحرير الوطني. ويستمر النضال من أجل التحرر الاجتماعي، وعليهم المشاركة الفعالة في العمل الوطني من أجل تحرير الأرض والقضاء على التخلف؛ وذلك بتحقيق حد أدنى للوحدة الفكرية بين المثقفين، وهم طليعة منهم، وحد أقصى لوحدة القوى الثورية الوطنية.
فتحية لهم وهم يتحملون مسئولية نضالهم الوطني.
(٤) برنامج شباب أعضاء هيئة التدريس١٣
لقد ارتبطت الجامعة المصرية منذ إنشائها بتاريخ مصر الوطني، وكانت قاعدة نضاله حتى مارس ١٩٥٤م. ولقد عادت الجامعة في فبراير سنة ١٩٦٨م، تؤكد دورها الطليعي في هذه الآونة وبعد المحنة التي أصيبت بها الأمة. لذلك عزم بعض شباب أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، على إنهاء هذه الفترة من العزلة السياسية التي مرت بها الجامعة، والتي هي في الحقيقة عارضة على تاريخها النضالي، كما عزم على ممارسة العمل السياسي من داخل الجامعة مساهمةً منهم في بناء العمل الوطني، محاولين إخراج الجامعة من عزلتها السياسية، وبإخراج الشباب المثقف عن سلبيته التي آثرها الكثيرون من الشرفاء، إما لتقييد حريتهم في العمل السياسي أو لإحساسهم بعدم جديته ونزاهته.
لقد قرر هذا الشباب من أعضاء هيئة التدريس الالتزام بالمبادئ الآتية، والتي على أساسها يرشحون أنفسهم للانتخاب القادم.
- أولًا: ممارسة العمل السياسي من داخل الجامعة وخارجها على أساسٍ من الشرف والنزاهة، ورفض الاحتراف السياسية بجميع صوره وأشكاله الذي كان سائدًا على العمل السياسي في العشر سنين الأخيرة، ورفض جميع المكافآت المالية والأجور الإضافية؛ إذ إن العمل السياسي يقوم أساسًا على الالتزام مع ما يتطلبه ذلك من تضحيات.
-
ثانيًا: الالتزام بالعمل السياسي الشريف يقتضي منا أن نقول لا
في كثير من أوجه نشاطه إذا اقتضى الأمر ذلك، وأن نقولها
بصراحةٍ وعلانية أمام جموع الشعب والقادة والمسئولين على
السواء.
وإن من أسباب محنتنا الأخيرة إعلان السمع والطاعة كولاءٍ رسمي للقادة، ثم رفض هذه الواجهة الرسمية بيننا وبين أنفسنا، وفي حلقاتنا الاجتماعية الصغيرة. لذلك فإننا نؤكد على وحدة شخصيتنا السياسية القائمة على الاقتناع في الرأي والصراحة في المواجهة.
- ثالثًا: ممارسة العمل السياسي بمنهجٍ علمي. فالسياسة الآن علم، والثورة علمٌ أيضًا، ولم يعد يحتمل تاريخ مصر الحديث أساليب الارتجال والعفوية.
- رابعًا: ضرورة تحقيق الوضوح النظري لتطبيقنا الاشتراكي. فالاشتراكية واحدة وإننا لفي انتظار مؤتمر القوى الشعبية الذي وعدنا به لتطوير الميثاق، حتى يمكننا بناءً على تطورنا الاشتراكي الحالي، إعادة تحديد الصلة بين الفلاح والأرض، والعامل والمصنع. ولقد سار الرئيس جمال عبد الناصر في ذلك بتحديداته الجديدة للعامل والفلاح.
- خامسًا: الحرص على النقاء الثوري وعلى كشف جميع المحاولات التي تريد الحد من الاستمرار في طريق التحول الاشتراكي باسم الدين مرة، وباسم التقاليد مرة أخرى، وباسم المصالحة بين الطبقات والمهادنة بين المصالح المتعارضة مرة، فمصلحة العامل هي بالضرورة ضد مصلحة صاحب رأس المال المستغل، ومصلحة الفلاح هي بالضرورة ضد مصلحة المالك القائم في المدينة.
- سادسًا: تأكيد ما جاء في بيان ٣٠ مارس من إعطاء السلطة للشعب الذي هو صاحب المصلحة الوحيد من تأسيس لنظمنا الديمقراطية، ومن وضع للدستور الدائم، ومن تأكيد لحرية الصحافة وحصانة القضاء.
- سابعًا: إن الموقف الآن لا يتحمل أسلوب عملنا السياسي القديم في محاولةٍ لإرضاء جميع الطبقات، وتجميع كل الفئات، وتمثيل جميع الاتجاهات المتصالحة منها والمتعارضة. فالصراع داخل العمل السياسي موجودٌ بالفعل ولا يمكن إنكاره، وأن محاولة التجميع غير المتجانس لفئات الشعب حسب وظائفها الإدارية ومهامها الرسمية بدعوى إقامة العمل السياسي، أثبتت فشلها في تنظيماتنا السياسية الأخيرة.
- ثامنًا: الاستمرار في مقاومة مراكز القوى، وتصفية الطبقات الجديدة عسكرية أو مدنية التي نشأت على أكتاف الثورة منذ قيامها حتى الآن، والتي كانت سببًا مباشرًا من أسباب محنتنا الأخيرة، والتنبيه على التطلعات الطبقية الجديدة التي أصبحت في كثيرٍ من الأحيان هي الموجه الأساسي للعمل السياسي.
- تاسعًا: تغيير القيادات التي مارست العمل السياسي فيما قبل الهزيمة، وإفساح المجال للقيادات الشابة، وكما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر ليس العمل السياسي حكرًا على طبقةٍ دون طبقة.
- عاشرًا: المطالبة العاجلة باقتصاديات الحرب وبإلغاء كافة الامتيازات الطبقية من بدلاتٍ ومكافآتٍ إضافية ومزايا عينة، وتحديد سياسة مستقرة للأجور حسب قيمة العمل وليس حسب الانتساب الطبقي.
- حادي عشر: إن الحرب التي نخوضها الآن هي حرب شعبية، ونحن في مواجهة شعب بأكمله يحاربنا، لا فرق لديه بين جيشٍ وشعب. لذلك نؤكد ضرورة المقاومة الشعبية. ولقد أثبتت المنظمات الفدائية الفلسطينية وجودها الفعلي على الأرض، وأعطت لونًا جديدًا في ممارسة العمل السياسي المسلح، وإننا لفي حاجةٍ ملحة لتعبئة قوى الشعب التي ما زالت تمارس نوع النشاط الذهني والفني الذي عرفته قبل الهزيمة.
- ثاني عشر: مواجهة الشعب بالحقائق؛ إذ إننا نشعر بضرورة مساهمتنا الفعالة لإزالة آثار العدوان، ومن واجبنا أن نكون أول من يعلم. فليست الحقائق حكرًا على بعض الأفراد، يعطون منها بالقطارة للشعب بين الحين والآخر. ومن عجاب الأمور أن تعلم الأمم الأجنبية عنا أكثر مما نعلم عن أنفسنا.
وبالإضافة إلى التزامنا بهذه المبادئ العامة الاثني عشر، نلتزم أيضًا بالمبادئ الستة التالية حرصًا منا على استقلال الجامعة، الفكري والسياسي.
- أولًا: المطالبة بالحصانة الجامعية لأساتذة الجامعات، تحقيقًا لحرية الجامعة الفكرية، وتأكيدًا لاستقلالها في ممارسة العمل السياسي، تحقيقًا للمصلحة الوطنية، وكجزءٍ من العمل السياسي الشعبي، وحرصًا على كرامة الجامعة، وحرمة العلم، وحرية التفكير، خاصةً وأن أستاذ الجامعة نموذجٌ حي أمام طلابه لحرية الفكر وللالتزام السياسي.
- ثانيًا: المطالبة بتحديد دور الحرس الجامعي، وتأكيد استمداد سلطته من مدير الجامعة، باعتباره المسئول الأول عن سيادة القانون فيها، والمحافظة على الحرم الجامعي رمزًا لحرية الفكر وللمسئولية الوطنية.
- ثالثًا: يحرص أساتذة الجامعة — بعد تسليم السلطة للشعب كما حدد بذلك برنامج ٣٠ مارس — على أخذ مقاليد أمورهم بأيديهم، فيتم اختيار عمداء الكليات ووكلائها، ومديري الجامعات وأمنائها بالانتخاب، حتى تستطيع الجامعة أن تختار من يمثلها فكريًّا وسياسيًّا؛ أي أن ترفع الوصاية عن أعضاء هيئة التدريس كما رفعت من قبل عن اتحادات الطلاب.
- رابعًا: رفض جميع صور التجسس السياسي داخل أسوار الجامعة بين الطلبة وبين أعضاء هيئة التدريس، خاصةً بعد أن أعلن الرئيس جمال عبد الناصر سقوط دولة المخابرات وإلغاء مكاتب الأمن، وليس هناك أغرب من أن يعهد لأساتذة الجامعات مهمة تربية الأجيال، وهم لا يؤمن لهم إلا من خلال مكاتب الأمن!
- خامسًا: لقد كان أساتذة الجامعة طوال تاريخ الجامعة المصرية في صف الشعب، ومع قاعدة نضاله ضد الملكية وضد الفساد السياسي وضد الاستعمار. لذلك يؤكد الأساتذة اليوم تكاتفهم مع الطلبة، وإيمانهم بوحدة مصيرهم معهم ومع سائر طبقات الشعب.
- سادسًا: إن أساتذة الجامعة لحريصون في نفس الوقت على دور الجامعة العلمي في تقدم البحث العلمي، وينظرون بأسفٍ شديد لما وصل إليه مستوى الجامعة العلمي، ويرون أن مهمتهم الأولى هي إرساء القواعد للبحث العلمي داخل الجامعة.
إن الحوادث لتسير بسرعةٍ أكبر من استعدادنا لها، ولا بد لنا من اللحاق بها ومواجهتها بصراحةٍ، وألا نؤجل المعركة للغد كما فعلنا ذلك طيلة ستة عشر عامًا، وإننا بالتزامنا بهذه المبادئ لا ننتسب إلى حزبٍ أو إلى فئةٍ أو إلى طبقةٍ أو إلى منصبٍ، بل نفكر في مصر الأم وفي مصير شعبها، وعلينا في هذا الوقت أن نختار:
إما أن نكون أو لا نكون.