الفصل التاسع

أدب المعركة

  • (١)

    قرأت العدد الماضي من الآداب

  • (٢)

    المثقفون والشيخ إمام

  • (٣)

    الشعب ومؤسساته

  • (٤)

    الأبعاد الحقيقية للمعركة

  • (٥)

    الفلاح في الأمثال العامية

***

(١) قرأت العدد الماضي من الآداب١

تدور أبحاث العدد الماضي من مجلة «الآداب» حول قضايا أربع: الأولى قضية البحث العلمي في البلاد النامية التي تعرض لها الدكتور إياد القزاز في مقاله عن «حاجتنا إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي»، والثانية قضية معرفة النفس ومعرفة الآخر، وهي التي تعرض لها نفس المقال السابق في دعوته لدراسة العدو ومعرفته، والثالثة قضية «الرجل والمرأة والإنسان» التي أثارتها السيدة عايدة مطرجي إدريس في مقالها «أدب المرأة والمجتمع العربي»، والتي تتعرض فيه لأسطورة «الأدب النسائي»، والرابعة، وهي أخطر القضايا جميعًا، قضية «الأدب الأصيل وأدب المناسبات» التي تعرض لها الأستاذ محمد دكروب في مقاله عن «آثار هزيمة حزيران بالقصة العربية القصيرة»، والذي يحلل فيه بعض القصص التي صدرت بعد النكسة، ويراها أقرب إلى التقارير الصحفية منها إلى الأعمال الروائية؛ أي إنها لا تتعدى أن تكون من أدب المناسبات على عكس رواية «ميرامار» التي يحللها الناقد الشاب الأستاذ صبري حافظ في مقاله «استشراف الهزيمة قبل النكسة»، هذه الرواية التي تعتبر بالفعل أصدق تعبيرًا عن الهزيمة قبل وقوعها من تلك القصص التي صدرت بعد الهزيمة، والتي حاول الأستاذ دكروب إعطاءنا بعضًا منها، هذا بالإضافة إلى مقال الأستاذ حسني لبيب «في الأدب النضالي» والذي يدخل أيضًا في قضية الأدب والثورة، والمقال الممتاز للأستاذ سامي خشبة عن «الحلاج، المسلم المتمزق» الذي يعرض فيه لشخصية الحلاج، حياته، وآثاره، وبيئته، والذي يعتبر أيضًا نموذجًا لأدب المقاومة.

(١-١) قضية البحث العلمي في البلاد النامية

كثر الحديث بعد النكسة عن العدو، وطالب كثيرٌ من الكتاب والباحثين بمعرفته ودراسته، وأقيمت بعض المعارض عن «اعرف عدوك»؛ إذ وضح أنه كان يعلم عنا أكثر مما نعلم عنه. وقد تناول الدكتور إياد القزاز هذه القضية في مقاله «حاجتنا إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية»، وأبدى ملاحظاته على ما نشر عن العدو بعد النكسة من سطحية، وعدم تنوع، وإخفاء للحقائق، وإهمال لتركيب المجتمع الإسرائيلي، ويقترح تدريس اللغة العبرية في مدارسنا وجامعاتنا، وينادي المتخصصين، كل في ميدانه، بدراسة العدو دراسة عميقة ومتخصصة، ويطالب بتخصيص إحدى الصفحات من كل جريدة لدراسة العدو أو ساعات معينة من الإرسال، وكذلك عقد الندوات وإنشاء المكتبات المتخصصة.

والحقيقة أن هذه القضية مرتبطة أشد الارتباط بمشكلة البحث العلمي في البلاد النامية بوجهٍ عام، وفي البلاد العربية بوجهٍ خاص، وفي مصر بوجهٍ أخص. فالبحث العلمي، فضلًا عن أصوله وقواعده ومناهجه نظام يحدده البناء الاجتماعي، والبحث العلمي لدينا هو تعبيرٌ عن بنائنا الاجتماعي بكل ما فيه من عيوبٍ ونواقص. فلو قلنا إن البحث العلمي يتطلب أولًا أستاذًا متخصصًا يخطط للأبحاث ويشرف عليها ويوجهها، ويتطلب ثانيًا باحثًا مبتدئًا لديه من الوعي القدر الكافي لأداء مهمته، ولديه من إمكانيات البحث العلمي، من لغاتٍ متعددة، وثقافة عامة ما يستطيع به أن يسير في مهمته حتى نهاية الشوط، ويتطلب ثالثًا مكتبات متخصصة حوت أمهات المراجع في موضوع البحث والدوريات المتعلقة به وآخر ما صدر فيه، يمكن بعد ذلك أن نضمن سير البحث العلمي خاصةً إذا توافر له جو من الاستقرار العام في الهيئات والمؤسسات ومراكز البحوث والكليات والمعاهد، دون أن يرتبط ذلك باسم شخص أو أن يتعلق مصيرها بمصيره.

فالمتخصصون على مستوى البحث ومن لهم القدرة على توجيه الأبحاث وتخطيطها يعدون على الأصابع، غالبًا ما تكوَّنوا تكوينًا شخصيًّا ولم يتعلموا من أحد، وهؤلاء مشتتون في عديدٍ من الهيئات أو يقومون بأعمالٍ وظيفية محضة، تقل عن مستوى إمكانياتهم الفعلية، وبعض هؤلاء لا تتاح لهم فرصة البحث العلمي نظرًا لارتباطه بالسياسة العامة للدولة، التي تعطي البحوث العلمية تيارها السياسي، وفريقُ ثالث آثر الهجرة والعمل من بعيد، وظل فردًا معزولًا لا يكوِّن مدرسة أو ينشئ جيلًا، وهؤلاء في طريق الانقراض التام، يتركون وراءهم فراغًا لا يملؤه إلا شباب من الباحثين كونته الظروف وصقلته المحنة، ولكنه ما زال يصارع قديمًا لم تنكسر بعدُ شوكته، ولا يجد من يأخذ بيده من معاصريه.

وكما كان رواد البحث العلمي نجومًا تلمع مدة ثم تنطفئ كان الباحثون الشبان أندر من الندرة؛ إذ لم تتوفر لديهم إمكانيات البحث العلمي؛ لأنهم لم يهيئوا أنفسهم لذلك، ولم ينشئوا نشأة علمية داخل مراكز البحوث، أو أن وعيهم بالقضية ما زال محصورًا في نطاق الحماس والانفعال، دون أن يتجاوزه إلى تحليل الظواهر وفهمها على ما هي عليه. يعتمد معظمهم إذن على الفكرة الشخصية وعلى ما يتمتع به من مواهب طبيعية، ينعى على الجيل القديم إهماله ويود ألا يكرر الخطأ، وأفضل مثل لهم هو معهد الأبحاث الفلسطينية والسلاسل التي يصدرها: «أبحاث فلسطينية»، «كتب فلسطينية»، «دراسات فلسطينية» التي تعد بالفعل فتحًا في تاريخ البحث العلمي السياسي للقضية الفلسطينية.

أما عن إمكانيات البحث العلمي من كتبٍ ودوريات وغيرها فنحن كلنا أدرى بذلك، والأعذار التي تقدم من نقصٍ في العملة الصعبة أو من تعسر العثور عليها من الخارج، تتلاشى أمام ما تزدهر به أسواقنا المحلية من بضائع مستوردة، تتهافت عليها الجموع في المحلات العامة، والأعذار التي تقدم من نقصٍ في الاعتمادات وضيق الأبنية، كلها تتلاشى إذا علمنا ماذا نخسر من جراء عدم معرفتنا الكافية للعدو، والإنفاق على هذه المعرفة يعتبر جزءًا من ميزانية التسلح العام. وما أكثر الأبنية الشكلية التي يمكن استغلالها استغلالًا أفضل من اعتبارها مجرد فنادق لاستقبال الوفود الوطنية.

إننا في دائرةٍ منعزلة عن حركة النشر العالمي، يعرف العالم كله عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا، وهذا يفسر ظاهرة تسقط الأخبار وتلمس آخر النشرات عنا، والتي يعطى ما فيها لنا في بعض الأحيان كوجبةٍ أسبوعية نعيش عليها ونشكر واهبها، بل إننا لا ندري ماذا ينتشر بيننا داخل البلاد العربية، فإذا أردنا في القاهرة كتابًا نشر في بغداد لصعب الأمر، ولزاد الثمن أضعافًا مضاعفة، فهناك علاوة على الربح فرق العملة، وأصبح الكتاب أحد البضائع المهربة في السوق السوداء.

وأخيرًا، فإن البحث العلمي لا ينشأ بين يومٍ وليلة، ولا يرتبط باسم شخص، قائدًا كان أم زعيمًا، ولا يخضع لهوى سلطة، بل هو نظام يتحقق في مؤسسات وهيئات ومراكز للبحوث لا تتغير بتغير الظروف. إن مراكز البحث العلمي لدينا حديثة العهد لم تتعد بعدُ عشرات السنين، لم ترث بعدُ أي تقاليد ولم يربَّ بعد أي نشء. إن حالة البحث العلمي اليوم لمرتبطة أشد الارتباط باللحظة الحضارية التي نمر بها، وهي التي أوشكنا أن نؤمن فيها بالبحث العلمي، والتحليل العقلي للظواهر، وتكون مهمة هذا الجيل هي أن ينحو نحو مزيدٍ من العلمية.

(١-٢) معرفة النفس ومعرفة الآخر

وقد تعرض الدكتور إياد القزاز في مقاله السابق الذكر «حاجتنا إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية»، إلى ضرورة معرفة العدو حتى نعلم أسباب قوته. وقد كثر الحديث في الأيام الأخيرة عن اعتماده على العلم واستعماله التكنولوجية الحديثة، وذلك يرجع إلى أنه مجتمعٌ غربي في تكوينه، خاصةً عند من بيدهم مقاليد الأمور، وليس مجتمعًا ناميًا ذا تاريخ طويل، يغلب عليه طابع التخلف وعانى من مآسي الاستعمار كشعوب المنطقة المحيطة به. فارتباطه بالعلم ليس نتيجة لنمو طبيعي بل نتيجة لنقل مجتمع متطور من بيئةٍ لأخرى. وقد أصبحت هذه الحقيقة معروفة لا تحتاج إلى إيضاح.

ولكن الذي يسترعي الانتباه هو قدرة العدو على مزج العناصر الحضارية «أرض الميعاد، شعب الله المختار» مع مصلحة الدولة وارتباطها بالاستعمار؛ أي إنه استطاع تأصيل قوميته وتعميق جذورها في التراث القديم، وفي نفس الوقت تدعيم حاضره وضمان مستقبله بالارتباط بأقوى الدول المسيطرة على العالم، بريطانيا قديمًا، وأمريكا حديثًا. ومع أن التراث القديم اليهودي مزيجٌ من الدين والتاريخ القومي، فإنه قد استغل أحسن استغلال من حيث إعطاء الدولة كيانًا تاريخيًّا وقيامها على دعوة، وإن لم تكن الدولة مؤمنة بالفعل بالدين ولكنها تستغله نظرًا لفاعليته، وهذا شيءٌ معروف أيضًا لا يحتاج إلى إيضاح.

ولكن الذي يهم أيضًا هو معرفة النفس بجوار معرفة الآخر، وأن نبحث عن مواطن ضعفنا التي هي في الحقيقة مواطن قوة العدو. فالله هو في التوراة مرتبط أشد الارتباط بالأرض وبمصلحة الشعب. بل إن الله لا يوجد إلا بقدر ما يعطي لشعبه من غنمٍ ومأوى ورخاء في العيش ونعم دنيوية. فالله يوجد الشعب ولا يوجد الشعب الله، والله يخدم الشعب ولا يخدم الشعب الله. الله في سيناء، والضفة الغربية، والجولان، يوجد حيثما وجدت مصلحة الشعب.

أما نحن فقد تصورنا الله في تراثنا القديم متعاليًا أشد التعالي، مفارقًا أشد المفارقة، خارج العالم، لا يشوبه خدش المادة، موجودًا على الإطلاق سواء أكان المؤمنون به ضعافًا أم أقوياء، أحرارًا أم مستعبدين، فقراء أم أغنياء … وقد وضح ذلك في تنزيه علم الكلام وفي مطلق الفلسفة، لم يعد لله صلة بالأرض أو الدخل، وأصبح موجودًا بالرغم من احتلال الأرض ووجود ملايين من المعدمين. أي إن مواطن ضعفنا قد تكون في إلهياتنا القديمة التي ما زلنا ننوء بثقلها، الإلهيات في حقيقتها تعويض نفسي عن ضياع الأرض وسلب الدخل، وتعطي نوعًا من السكينة والرضا والاطمئنان إلى أن هناك شيئًا باقيًا بالرغم من الاحتلال والفقر، ما دام كل شيء فانيًا ولن يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام.

وهذا التصور غريبٌ على فترتنا الإسلامية الأولى؛ أعني عصر الفتوح الذي كان الله فيه مرتبطًا أشد الارتباط بالأرض، وبتحرير الشعوب وبنشر الدعوة. كان الله مماثلًا لإله التوراة، كان غائية التاريخ على حد قول هردر وهيجل وفلاسفة التاريخ في عصر التنوير، وهو الذي عبر عنه الأفغاني في إعادة تفسيره للتوحيد على أنه تحرير للأرض وشق الفلاح لقلب ظالميه كشقه للأرض، وبعد انتهاء عصر الفتوح والاستكانة إلى الأرض والمال، ثم ضياع الأرض والاستئثار بالثروات بدا هذا التصور المتعالي لله في الثبات، وما ضاع أفقيًّا تم التعويض عنه رأسيًّا، وكل ما اعتسر على الأرض ظهر في السماء.

وقد بلغ ذلك مبلغه وظهر على أشده في التصور الهرمي للعالم الذي يجعل من القمة كل شيء، أو في التصور المركزي للكون الذي يجعل الكون كله في قبضةٍ واحدة لها كل السلطة تسيطر على كل شيء، ما دامت الأرض قد ضاعت وما دامت الملايين لم تحسب حسابهم، ويبدو هذا التصور في حياتنا الاجتماعية والسياسية، فتعتمد مؤسساتنا على رءوسائها، فأهم شيء في الجامعة هو مديرها، وفي الكلية عميدها، وفي الشارع شرطيه، وفي المركبة محصلها، وفي المنزل راعيه، وفي الدولة رئيسها؛ وبالتالي لا يتم التعامل إلا مع القمم، ونجد أن تنظيماتنا الحزبية تعتمد أيضًا على لجانها المركزية أكثر من اعتمادها على قواعدها الشعبية، وتؤمن برؤسائها أكثر من إيمانها بالبناء الديمقراطي للحزب، الله هو الشعب كما هو واضحٌ في التوراة، وهو مصلحة المسلمين كما هو واضح عند الفقهاء؛ أي هو القاعدة لا القمة؛ وبالتالي يصبح الله مصدر قوة.

فضلًا عن هذه الجذور الحضارية في التراث القديم، استطاع العدو ربط حاضره ومصلحته بحاضر الاستعمار ومصلحته، وجعل دولته الرهان الوحيد المضمون للاستعمار. عرف العدو أن يقيم له استراتيجية دائمة داخل ميزان القوى العالمية، والمبدأ واحد: كل شيء في سبيل الشعب، والشعب المختار. أما نحن فما زلنا بصدد البحث عن استراتيجية، هل تكون صياغة قومية للقضية، أم تكون صياغة أكثر اتساعًا وصدقًا داخل حركات التحرر العالمي، ويتضح هذا التخبط في تاريخنا المعاصر من أننا اشتراكيون لا نتبنى الاشتراكية، وأصدقاء البلاد الشيوعية ونحرم الأحزاب الشيوعية، وفي نفس الوقت أعداء أمريكا ولا نسمح لكل ما هو أمريكي صريح أو ضمني، نحن عرب ومسلمون، مرة في مؤتمر قمة عربي ومرة في مؤتمر قمة إسلامي يحاول فيه ياسر عرفات مع شاه إيران حل قضية فلسطين.

(١-٣) الرجل والمرأة والإنسان

ويتعرض مقال السيدة عايدة مطرجي إدريس «أدب المرأة والمجتمع العربي» إلى قضية «أدب المرأة» أو «الأدب النسائي»، وهو ما نسمعه كثيرًا في هذه الأيام وكأن الأدب له جنس، فهناك أدبٌ رجالي وأدبٌ نسائي!

والحقيقة أن هذا التقسيم أو هذا النعت لجانبٍ من الأدب لا يرجع إلى تحليل موضوعي له، بل إلى العقلية الشرقية التي يغلب عليها التصور الجنسي للعالم، وعقليتنا المعاصرة بما فيها من حرمان وكبت وليدة هذه العقلية القديمة، فهي ترى في المواطن رجلًا وامرأة ولا ترى فيه إنسانًا؛ وبالتالي فهناك موضوعات حديث للرجال وأخرى للنساء، وهناك سلوكٌ للرجال وآخر للنساء، وكأن العالم عالمان: رجل وامرأة! إن الحديث عن المرأة بوجهٍ عام وجعلها مشكلة مستقلة عن الإنسان ووضعه في العصر الحاضر، إما ناتجٌ عن التصور الجنسي للعالم أو يعبر عن الحرمان، وتحويل موضوع الحرمان إلى موضوعٍ للإشباع عن طريق الحديث عنه كعملية تعويض، أو إحساس بالنقص ومحاولة لفرض الذات بالالتجاء إلى نقطة الضعف وجعلها مصدر قوة. لقد تحدث قاسم أمين في مطلع هذا القرن عن تحرير المرأة. وما زلنا نحن بهذه العقلية القديمة التي ترى في المرأة مشكلة، مع أنها حاليًّا، وفي اللحظة الحضارية التي نمر بها، مواطن أو إنسان يعمل في الحقل أو في المصنع، يناضل في الجبهة أو يخدم وراء الخطوط.

إن وضع المرأة في أوائل القرن من حيث حرمانها من التعليم والمشاركة في الحياة العامة، لا يختلف عن عديدٍ من مظاهر التأخر في جوانب الحياة الأخرى في التعليم والتربية والعلاقات الاجتماعية؛ أي إن المرأة لم تكن مشكلة فريدة خاصة، ولم توجد في عصرٍ أخذ فيه المواطنون حقوقهم ولم تأخذها هي نفسها باعتبارها امرأة، فتقدم الرجل في الحب مثلًا وحُرمت المرأة، ونال الرجل التعليم وحرمت المرأة. فالتطور الاجتماعي لا يعرف تمييزًا بين رجلٍ وامرأة.

ولم تكن المرأة وحدها سلعة بل كان الإنسان كله سلعة، فكان الرجل يخرج من بيته ولا يرجع؛ إذ إن الإقطاع قد نصب له كمينًا أو أن السلطة قد أعدت له فخًّا. لقد كان الإقطاعي يملك البشر رجالًا ونساء، وكانت السلطة سيفًا مسلطًا على رقاب المواطنين لا فرق بين جنسٍ وآخر.

إن التحرر ليس قضية المرأة من حيث هي امرأة بل هي قضية العصر. وإن تحرر المرأة بمعنى مشاركتها في الحياة الاجتماعية، ليس هو التحرر الذي يعطى لجنسها، بل هو حقها الطبيعي كأي مواطن لم تمارسه من قبل، كما لم يمارسه الرجل، لغياب تنظيم حزب ثوري رائد يجمع المواطنين ويعمل لقضية التحرير. إنما التحرر هو التحرر الوطني، هو المساهمة الفعالة من المواطنين في تحرير الأرض، وتحرير المعدمين من الفقر والاستغلال. وإن قصر قضية التحرير على مشاركة المرأة في الحياة العامة، لهو مطلب أقل مما تتطلبه التزامات العصر.

وليس غريبًا أن يكون الرجل هو الكاتب دائمًا. فالرجل هو الأوسع نشاطًا في الحياة الاجتماعية والأكثر مساهمة في العمل بما في ذلك الأدب، فندرة الأدب النسائي لا ترجع إلى مشكلة المرأة، بل إلى الامتداد الطبيعي لنشاط الرجل، ولا تختلف ندرة الأدب النسائي عن ندرة العلم النسائي أو العمارة النسائية أو الجغرافيا النسائية.

ويوجد الأدب الذي يتناول مشاكل المرأة ووضعها الاجتماعي عند الكتاب جميعًا رجالًا أم نساء. بل إن هناك من الأدباء الرجال من تعرض في أعماله إلى مشاكل المرأة أكثر مما تعرضت له أية كاتبة. إن قضية الجنس ليست قضية نسائية، بل هي إحدى قضايا التحرر مثل التحرر من التقاليد الموروثة ومن الصور الزائفة: الدين والأخلاق.

وكذلك نجد أن التطورات الجديدة في الأدب فيما يتعلق بالمرأة ليست تطورات في أدب المرأة بقدر ما هي تطورات نتيجة للتغييرات الاجتماعية. فالمرأة هي العشيقة والمناضلة، والحب يجمع بينها وبين الأرض، ويضمها مع الحبيب في القضية الوطنية. فتلك هي روح العصر عصر التحرر، لا في العالم العربي فحسب بل في العالم كله، التحرر الوطني في العالم الثالث، والتحرر من الرأسمالية في العالم الغربي.

وإذا كان المجتمع العربي أسبق من الأدب في تعبيره عن وضع المرأة فإن ذلك يدل على أن الأدب لا يعرف له جنس؛ فهو أدبٌ يعبر عن أوضاعٍ اجتماعية سابقة عليه وكفى. لذلك كان الأدب لا يرسم صورة المرأة في الغد بقدر ما يعبر عن وضعها اليوم، فليست مهمة الأدب التخطيط للمستقبل ورسم صور له، بل التعبير عن الحاضر.

وأخيرًا فإن قضية المرأة هي جزء من قضية المجتمع ككل وليست مشكلة فريدة فيه، ولا يمكن أن يقاس تطور أي مجتمع بتطور المرأة، فهناك كثيرٌ من المجتمعات المتطورة مثل سويسرا وفرنسا، ولم يكن للمرأة فياه حق الانتخاب إلا مؤخرًا. وهناك مجتمعات أقل تطورًا مثل الهند والجزائر وقد لعبت فيها المرأة دورًا حاسمًا في حركة التحرير. كما أنه في المجتمع الواحد يوجد الحرمان لدى الطبقات المتوسطة، ولكن ينتشر الاحتلال في الطبقات الراقية والفقيرة على السواء.

ليتنا نخرج من التطور الجنسي للعالم، فلا نرى رجلًا أو امرأة بل نرى الإنسان.

(١-٤) الأدب الأصيل وأدب المناسبات

وفي مقال «أثر هزيمة حزيران في القصة العربية القصيرة» للأستاذ محمد دكروب، يشعر الإنسان بأن بعض الأدباء والنقاد يظنون أن الهزيمة لا بد أن تخرج أدبًا ما دمنا قد انفعلنا بها؛ فقد كانت أكبر حدث في تاريخنا المعاصر، وأقسى من هزيمة ١٩٤٨م وعدوان ١٩٥٦م. يظن هؤلاء أنه يكفي لتأثرنا بالهزيمة أن تتغير عناوين القصص من الحب والدموع إلى الجنود والمعركة، ويتغير الأبطال من العاشق المخلص أو العاشق الخائن إلى الفدائي المناضل والعدو الشرس، كما يحدث عندما يغني مغنونا العاطفيون الأناشيد الحماسية «الرقيقة» في المناسبات الوطنية. فإذا ما انحسرت النكسة وجاء النصر تحول أدب الهزيمة إلى أدب نصر، وأصبح العدو الشرس العدو الجبان، والأديب في كلتا الحالتين يعبر عن موقف، ويبدو وكأنه واعٍ بأحداث العصر وملتزم بقضاياه وهو في الحقيقة أديب المناسبات، يكتب حسب الظروف وينفعل كما تقضي الأحداث؛ فهو سطحي في انفعالاته، غير صادق في أحاسيسه، يركب كل موجة مثله مثل مفكر المناسبات.

وتتراوح القصص التي صدرت بعد النكسة بين أدب الحماس الذي هو أقرب إلى قصص الأطفال للتشجيع وبث روح الهمة، دون أن يعبر عن شيءٍ أصيل إلا بمقدار معاناة صاحبه له، وبين التقرير الصحفي لمراسلٍ حربي لا يتعدى وصف الوقائع اليومية للحرب. ولما كان الأديب يقوم بذلك من منزله فإنه يفتعل الأحداث ويتخيل البطولات دون معاناة التجربة أو معايشة لواقعه، وهذا هو السبب في خروج شكل أدبي يقوم على الجمل القصيرة وتداخل الأزمنة؛ لأنها عواطف متقطعة ينقصها الخط الميلودرامي الواحد الذي يقوم على الجمل القصيرة وتداخل الأزمنة؛ لأنها عواطف متقطعة ينقصها الخط الميلودرامي الواحد الذي يعبر عن انفعالٍ مزمن. إن المقاومة ما زالت وليدة المهد، وما زال الشوط أمامها طويلًا، وإن الكتاب الذين يعرضون لها في قصصهم، إنما يعرفونها عن طريق الأخبار ولم يعايشوها ولم ينفعلوا بها، وإن الأدباء الشبان من المقاومة ورجالها، هم أقدر على التعبير عن انفعالاتهم في صورةٍ أدبية ممن يكتبون عنها وهم خارجها.

وفي نفس المعنى يتحدث الأستاذ حسني سيد لبيب في مقاله «في الأدب النضالي» عن أدب المقاومة. فلا يُخلق الأدب النضالي بفتوى أو بدعوة أو بطلب، بل هو تعبير تلقائي عن انفعالات المناضلين. وليس الأدب النضالي سلاحًا ضد الأدب الصهيوني، يستعمل ضده كبندقية في مواجهة بندقية. فالأدب لا يعرف انتصارًا إلا في صدقه والوعي بموضوعه، فالعنصرية التي يقوم عليها الأدب الصهيوني والتي يعبر عنها بصدق، يمكن مواجهتها بتشريد شعب والتعبير عنها بصدق، ولا تعارض بين الصدق في الأدب وبين الموضوعية في الفكر، بين الانفعال بالكلمة وبين التحليل الهادئ للظواهر، هذه هي مهمة الأديب وتلك هي مهمة المفكر.

إن الأدب الأصيل هو الذي يعبر عن انفعالٍ دائم، ويعبر عن موقفٍ إنساني عام بصرف النظر عن سير الأحداث، فالإحساس بالضياع، والغربة عن الديار، واستدعاء ذكريات الطفولة في الأماكن الضائعة، كل ذلك مواقف إنسانية عامة ينفعل بها الأديب قبل الهزيمة وبعدها. وإن ما عبرنا عنه بعد الهزيمة في وضوحٍ، كنا نشعر به قبل الهزيمة بوضوحٍ أيضًا دون أن نقدر على التصريح. وإن أثر الهزيمة الأول قد يكمن في حرية التعبير والتصريح النسبية التي أصبحت الآن حقًّا مكتسبًا عند المفكر والأديب على السواء. إن أدب ما بعد النكسة هو في الحقيقة تعبيرٌ عن أسبابها التي كنا نشعر بها جميعًا قبل وقوعها، وهذا هو السبب في خروج بعض القصص الجيد الذي يعبر عن انفعالاتٍ أصيلة وعواطف دفينة مكبوتة منذ عشرات السنين عند هذا الجيل الذي يعبر عنه هذا الجيل، وكانت النكسة فرصة للتعبير الصريح تارةً والرمزي تارةً أخرى كما تقضي الظروف. لذلك كان النوع الثاني من القصص الذي وصفه الأستاذ محمد دكروب والذي يحلل الأوضاع في البلاد العربية، هذه الأوضاع التي كانت سببًا في الهزيمة، أكثر أصالة من النوع الأول الذي يصف المعارك على الجبهة؛ لأنه يعبر عن انفعالاتٍ أكثر عمقًا في الزمان وأعمق جذورًا في كيان العصر.

وقد قام الأدباء الشبان بهذه المهمة ليعبروا عن هذا الاتصال بين أدب ما قبل النكسة وما بعدها؛ لأنهم نشئوا في أسبابها وعاشوا نتائجها، فكانوا يشعرون بعزلة الشعب عن معاركه، وبقصور التنظيمات الحزبية، وكان الالتصاق بالواقع والإحساس بالمرارة والوعي بقضية الالتزام — وهي الخصائص الثلاث التي يعدها الأستاذ محمد دكروب من آثار هزيمة حزيران — كان ذلك كله موجودًا لدى الأدباء الشبان قبل الهزيمة وبعدها على السواء.

وإن أصدق دليل على ذلك ما عبر عنه الناقد الشاب الأستاذ صبري حافظ في تحليله لرواية «ميرامار» لنجيب محفوظ بعنوان «استشراف الهزيمة قبل النكسة». فإن هذه الرواية تعد بالفعل من أدب ما بعد الهزيمة مع أنها صدرت قبل وقوعها، ويدل على ذلك الشخصيات التي رسمها نجيب محفوظ والتي حللها الأستاذ الناقد.

فعامر وجدي هو السياسي القديم الذي انتمى إلى أكبر حزبٍ وطني وشعبي قبل الثورة، هو الوحيد الذي يعطف على زهرة، على مصر المزدهرة قديمًا في حركاتها الوطنية الشعبية، هو الوحيد الأمين الذي يحب مصر من أجل مصر لا من أجل ما يرتزقه منها، هو الوحيد الذي يدافع عنها ضد بقايا الإقطاع القديم وضد الإقطاع المنهار، وضد الانتهازية والطبقة الجديدة وضد بقايا الاستعمار القديم. لقد اعتزل العمل الصحفي، بعد أن عزلته الثورة وأحالته إلى خائنٍ طوعًا أو كراهية، ورفضت أن يقدم لمصر التي طالما عمل من أجلها أي عمل إيجابي. هذا الفصم في تاريخ مصر بين ما قبل الثورة وما بعدها، هو أحد أسباب النكسة؛ إذ غابت القواعد الشعبية التاريخية عن المعركة، وتركت الميدان خاويًا اللهم إلا من طبقات جديدة، لا تهمها الثورة إلا بقدر ما تحصل عليه منها من مكاسب شخصية. لقد عاصر عامر وجدي مصر الحقيقية، ثورة ١٩١٩م، زكريا أحمد، سيد درويش، سعد زغلول، ولكنه الآن معزول ومع ذلك هو الوحيد الذي يفكر في مصر.

وطلبة مرزوق، هو الإقطاعي القديم الذي ينعى حظه الذي قضت عليه الثورة ولكنه ما زال مؤثرًا، نتج عن تربية أجنبية وموالاة للقصر، يجمع بين الدين ورأس المال، إنه مصر الغريبة، يكره الثوار حتى ولو كانوا من الردة، ويخشى الطبقة الجديدة التي قاسمته الغنم الضائع. وقد كان هذا النوع أيضًا سببًا من أسباب الهزيمة، وقد وضح ذلك على لسان منصور باهي بقوله: «إني مقتنع بأن الثورة كانت أرفق بأعدائها مما يجب»؛ فقد كان الإقطاع القديم مسيطرًا في الريف وفي المدينة على السواء، وكانت الثورة تنوء بالإقطاعين القديم والجديد معًا.

وماريانا تمثل الاستعمار التقليدي والأجنبي الدخيل الذي يستفيد منه الجميع؛ فقد كانت عشيقة الكل، تحتمي بالدين وتتستر وراءه، تواصل الكسب من جميع المواطنين، لا يهمها إلا الربح، وهذا أيضًا سبب من أسباب الهزيمة، فما زلنا أمام الاستعمار في موقفٍ مائع. وما زالت خيرات الشعوب بين يدي الشركات الأجنبية.

وزهرة هي مصر التي يبغي الكل الاستئثار بها: الإقطاعي القديم، والإقطاعي الجديد، بريئة على الأصالة ولكنها واعية بمن يحيطون بها، بدأت بأن استغلها زوج أختها وانتهت برغبة الجميع في القضاء على آخر ما تبقى لها وهو شرفها، ترغب في التحرر ولكن أهلها يتربصون بها، تعيش على الكفاف من العمل الشريف، تنتظر من يدافع عنها، تخرج من المحن أكثر صلابةً وأشد وعيًا، وذلك هو حال مصر قبل الهزيمة؛ لم يكن أحد يفكر فيها ويعمل لها إلا بقايا من المخلصين الشرفاء يمثلهم عامر وجدي.

وحسني علام آخر صورة من الإقطاع القديم، ما زال يبعثر خيرات مصر الممثلة في المائة فدان، لا وجود له، مائع «غير مثقف والمائة فدان على كف عفريت» لا يمثل شيئًا لا القديم ولا الجديد، بل صورة للحاضر للمجتمع الطفيلي، كائن غريب لا قوام له. ومع ذلك موجود، لا يشعر بالولاء لأي شيء، لم يبقَ له إلا استثمار أمواله الباقية له، لا يجد له مخرجًا إلا في المواخير، فيشتري الملهى ويعشق صاحبته. وقد كانت هذه الطبقة بالفعل من أسباب الهزيمة، فهي ما زالت تستأثر بخيرات مصر، وما زالت الطبقات صاحبة المصلحة الحقيقية تشعر بأن مصر لم تكن لها وبأن خيراتها في أيدي الغرباء عنها.

ومنصور باهي هو الملتزم الذي ينخر العدم داخله، الملتزم العاجز عن أن يفعل شيئًا «قُضي عليَّ بالسجن في الإسكندرية وبأن أمضي العمر في انتحال الأعذار». وهي مأساة كل مواطن شريف يبغي التغيير ولكنه عاجزٌ عن الفعل، وهي مأساتنا جميعًا، مأساة غالبية المواطنين، مكافحٌ قديم بفكره وسلوكه، ولكنه اليوم عاجزٌ عن فعل شيء، يفكر في كتابة دراسة عن «تاريخ الخيانة في مصر»؛ لأنه يشعر بأنه خائن. لم يقتل أعداء مصر إلا في الحلم، إلا بالتمني. منصور باهي هو كل فرد منا قبل النكسة، هو موقف شرفاء هذا الجيل العاجز.

وأخيرًا، فإن سرحان البحيري قد يكون السبب المباشر للهزيمة، هو الانتهازي، صورة المواطن العصري الذي يبغي كل شيء دون جهد، الذي يعرف كيفية الوصول إلى مراكز السلطة والذي لا يستطيع الصمود ساعة، إنها مأساة البورجوازي الصغير الذي أصبح نموذج شباب اليوم، والذي تجند إمكانيات الدولة له، هو الذي يتقلب على كل وجه، وهو الأسبق في الانضمام إلى التنظيمات السياسية. لقد كانت الهزيمة هزيمة هؤلاء أولًا وآخرًا، ولم يبقَ لهم إلا الانتحار.

هذا هو نموذج من الأدب الأصيل الذي يعبر عن الهزيمة قبل وقوعها.

وأخيرًا، تعرض الأستاذ سامي خشبة في مقاله «الحلاج المسلم المتمزق بين السيف والكلمات» للحلاج كإحدى شخصيات أدب المقاومة، مشيرًا من بعيد إلى مسرحية الأستاذ صلاح عبد الصبور «مأساة الحلاج»؛ فالحاضر يبعث الماضي، وأدب المقاومة اليوم يرجعنا إلى تراثنا القديم لنرى فيه أصداء حاضرنا وجذوره، والمقال تصوير طيب لشخصية الحلاج وآرائه وبيئته، ويعتمد على المراجع التاريخية والدراسات الجادة التي قام بها ماسنيون في هذا الميدان. وبالرغم مما يثار عادةً حول تطابق الشخصية التاريخية مع الشخصية الروائية، وضرورة ذلك أو عدم ضرورته فإن الذي يهمنا هو بعض القضايا التي تثيرها شخصية الحلاج، سواء في التاريخ أم في مسرحية صلاح عبد الصبور.

وأولى هذه القضايا هو الفرق بين من يتَّجرون بالعقيدة وبين من يعيشونها، فنجد كثيرًا من الصوفية يتَّجرون بالتصوف، كما هو الحال في كثيرٍ من رجال الطرق الصوفية، وآخرون يعيشونه مثل الحلاج وابن عربي وابن الفارض، كما نجد كثيرًا من الفقهاء يتاجرون بالفقه في كل عصر، وآخرون يعيشونه ويُمتحنون فيه مثل ابن حنبل وابن تيمية، ونجد كثيرًا من الفلاسفة والمثقفين يتاجرون بالفلسفة ويعاهرون بالفكر، وآخرون يعيشون فكرهم مثل ابن رشد الذي حُرقت كتبه علنًا في ميدان قرطبة، ومثل الجعد بن درهم الذي ذبحه إمام المسجد في عيد الأضحى بعد خطبة العيد، وفي ذلك يقول الكندي عن هؤلاء التجار: «من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق: لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الكل …»، ويراهم الكندي «طلاب المناصب لاستهداء الحق يتشدقون بالدين ذبًّا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عدماء الدين، ومن تجر بشيءٍ باعه، ومن باع شيئًا لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين»٢ … فالحلاج من بين هؤلاء الذين يعيشون العقيدة، والذين يستشهدون من أجلها.

والقضية الثانية هي الشعور بحلول الله فيه، والحلول رد فعل طبيعي على الله المتعالي عند الفلاسفة والمتكلمين، الله حالٌّ في النفس، والنفس متحدة بالله، وقد عبر عن ذلك في قولته المشهورة «أنا الحق» وكذلك في بيته:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا

فإذا حل الله في الإنسان جاءه الإحساس بالرسالة، وبأنه مختارٌ لأن يدعو الناس لشيء. حلول الله هو إحساسٌ بالرسالة، والإحساس بالرسالة هو أحد شعور بالله، فالله هو ما يحققه الإنسان من دعوة؛ ولذا كان الإحساس بالله يولد النبوة، وكان كبار الداعين بهذا المعنى أنبياء.

والقضية الثالثة هي أن هذه الدعوة عند الحلاج كانت دعوة من أجل الفقراء والمعدمين، ولم تكن مجرد دعوة نظرية، بل شارك الحلاج بنفسه في ثورة الزنج وثورة القرامطة، ويركز مقال الأستاذ سامي خشبة على المضمون الاجتماعي لدعوة الحلاج، فالشر هو «فقر الفقراء … جوع الجوعى»، ويأتي الجوع بعد استغلال صاحب السلطة: «لا يفسد أمر العامة إلا السلطان الفاسد … يستعبدهم ويجوعهم … فالدين أيديولوجية»، وأيديولوجية صيغت لحساب الفقراء والمعدمين، تبنَّاها الحلاج ومن عاشوا الدين وعانوه. وإن ثورة الكلمة هي بالضرورة ثورة السيف، والثورة المسلحة هي كلمة العصر، كما كانت ثورة الكلمة هي ثورة التاريخ. كان الحلاج بالفعل بطلًا من أبطال المقاومة من أجل ثورة المعدمين التي ما زالت هي القضية الكبرى للعصر الحاضر ولهذا الجيل.

(٢) المثقفون والشيخ إمام٣

لقد ساء جماهير المثقفين ما نشره أحد النقاد بجريدة «الأهرام» يوم ٢٢ نوفمبر ١٩٦٨م عن المثقفين والشيخ إمام. ومع أن العمل الفني هو الباقي في النهاية وتذهب الكلمات وحدها، ومع أن التاريخ هو الحكم، فإني أود إبداء بعض الملاحظات الصغيرة الموضوعية تفيد كاتب المقال في نقده للشيخ إمام نقدًا علميًّا سليمًا.

  • أولًا: يبدأ الكاتب بالهجوم على مؤسسة المسرح والموسيقى؛ لأنها لم تستطع أن تقدم صندوق الدنيا أو المسرح الشعبي؛ ولأنها اقتصرت على تقديم الموسيقى العالمية التي ظلت — في رأيه — غير مفهومة أو محدودة الجمهور. وهذا بالطبع تجنٍّ كبير، فبالرغم مما يعيب مؤسساتنا الفنية من قصورٍ، فإن مؤسسة المسرح والموسيقى قد تبنت فرقة «رضا»، وهي من أنجح فرق الفنون الشعبية في العالم كله، يشهد بذلك ما حصلت عليه من جوائز دولية في المهرجانات العالمية، وكونت الفرقة القومية للفنون الشعبية على مستوى المحافظات، وأذكر على سبيل المثال الفرقة القومية للفنون الشعبية لمحافظة البحيرة؛ أي إن إحساسنا بالتراث الشعبي يقوى يومًا بعد يوم، وتقدم منه النماذج المتتالية في وسط الريف ومن أبنائه وبناته.

    أما الموسيقى العالمية فجمهورها دائمًا محدود، ويتطلب تربية فنية وتراثًا موسيقيًّا نوعيًّا، ومع ذلك فجمهور مصر موجود، ولا نغالي إذا قلنا إن بعض الأعمال الموسيقية أصبحت معروفة كالألحان الشعبية تمامًا بالنسبة لجماهير المثقفين، وأصبح الاهتمام بسماع بيتهوفن وموزار وباخ لا يقل قوة عن الاهتمام بالشيخ سيد درويش والشيخ إمام.

    أما معاهدنا الموسيقية فإنها حديثة العمل نسبيًّا، ولم يكن هدفها واضح المعالم عند نشأتها، ولم تكن بهذا المعنى معاهد دراسية مهمتها البحث العلمي في التراث الشرقي القديم أو جمع الموسيقى الشعبية، وإن كانت قد بدأت في القيام بهذه المهمة وفي دراسة أساليب التطوير التي أصبحت معروفة علميًّا الآن خاصةً في البلاد الاشتراكية.

    أما أجهزة الإعلام فإنها قائمة على الاحتراف الفني كما يقول كاتب المقال، مهمتها توزيع الأجور ولا صلة لها بالتذوق الموسيقي أو التربية الفنية الشعبية على الإطلاق. لذلك انعزل المثقفون عنها وانعزلت عن المثقفين وهم طلائع الشعب الواعية، ولا أظن أن جماهير المثقفين ترى «شنبو في المصيدة» أو «الدبور» أو «مراتي مجنونة جدًّا» وما إلى ذلك مما تقدمه أجهزة الإعلام متملقة الجماهير العريضة وسائلة الضحك بأي ثمن. أما عن لجان الموسيقى التي تعقد وتنفض فهي كغيرها من اللجان في جميع جوانب النشاط الثقافي والفني، فلا تحل مشاكلنا الموسيقية بلجان الموسيقى أو مشاكل التعليم بلجان التعليم أو مشاكل الجامعة بلجان تطوير الجامعة أو مشاكل المواصلات على مكاتب من يبدلون الخطوط كل يوم والشوارع واحدة والمركبات واحدة. إن حل مشاكل الموسيقى لا يأتي إلا بإنشاء المعاهد المتخصصة على أسسٍ علمية، وبتجنيد الملتزمين بهذه القضايا بالحرص على التراث الشعبي، وبالإيمان بالجماهير العريضة لا بتملقها.

  • ثانيًا: بدأ الكاتب مقاله بالهجوم على مؤسسة المسرح والموسيقى، حتى يبرهن على الطابع التقليدي لمقاله، والموقف الثوري لصاحبه الذي يبغي المصلحة العامة للجماهير، وهو المناضل الذي يطالب بالتغيير كما يطالب الجميع وبتصحيح الأوضاع.

«ومع أن السهم لم يكن مصوبًا نحو هدفه الصحيح»، حتى يغطي تجنيه على الشيخ إمام ولكن يوحي بأن هجومه عليه يتم بدافعٍ من المصلحة العامة، وحرصًا منا على تراثنا الشعبي. لم يظهر الشيخ إمام في هذا المناخ الموسيقي وحده بل ظهر في عالمٍ أعمَّ، وهو المناخ الاجتماعي والسياسي لعصر ما بعد النكسة. وإن محاولة قصر مهمة الشيخ إمام على مهمة الألحان الشعبية، وجعله ظاهرة فنية تأخذ من بعض القضايا الاجتماعية سلمًا للشهرة، لهي محاولة ترمي إلى تفريغ ألحان الشيخ إمام من كلماتها ومن مضمونها وهي سبب انتشار فنه، إننا مهما حاولنا دراسة أسباب الهزيمة، ومهما طالبنا بالتغيير وبتصحيح الأوضاع على مستوى القول والعمل والمؤسسات، فإنها تظل حية في قلوب الجماهير ولا يمكن إلا وأن تعبر عنها الجماهير بأساليبها الخاصة: النكتة التي عُرف بها الشعب، الملاحظة العابرة التي يلقيها ابن البلد في الأوتوبيس أو على عربته التي يتجول عليها أو في الشوارع أو على المقاهي، بل إن هناك أدبًا قد نشأ يمكن تسميته «أدب ما بعد النكسة» أكثره شعر حديث، ودواوين لم تنشر نتناقلها نحن المثقفين فيما بيننا مكتوبة باليد، أغلبه شعر رمزي. الفن إذن هو الوسيلة الطبيعية للتعبير عن محن الشعوب، والشيخ إمام ليس كغيره من الفنانين يبغي الشهرة والمال عن طريق أجهزة الإعلام، لم يطالب إشهار فنه داخل أجهزة الإعلام، ولم يساوم أجوره عليه، لا يتعيش منه حتى يمكنه السفر إلى لندن أو إلى بيروت للاستجمام، أو أن يبيع الأسطوانات بالألوف ويبني من ريعها العمارات، أو يشتري الأرض أو يتزوج فنانة ليصبح فنانًا مثل «شعبان البقال». ليس الشيخ إمام من هذا الصنف المتوفر، وتصوره كفنان حاقد على أجهزة الإعلام التي تستطيع شراءه وابتلاعه داخلها تجنٍّ على الرجل وعلى المواطن وعلى الفنان.

لقد قضيت معه منذ يومين عدة ساعات في حجرةٍ بحوش قدم، وعرفت فيه الفيلسوف بعد أن عرفت فيه الفنان والمواطن المصري الذي شهدته مصر طوال تاريخها الطويل، رأيته يرفض جميع مظاهر التكريم والحفاوة وجميع ألوان الكسب من أجهزة الإعلام؛ فهو فردٌ من أفراد الشعب، يعيش مع بائع اللبن المثال ومع الكهربائي والخباز؛ أي مع طوائف الشعب المصري، يحس بهم وبأزمتهم، ويعبر عما لا يستطيعون التعبير عنه إلا بالهمسات والآهات والتمنيات. لقد رفض أن يقام له سرادق في ليالي رمضان كي يسمعه الشعب بعد أن يدفع رسم دخول! وكيف يتكسب الشيخ إمام من الشعب؟

وألحان الشيخ إمام ليست عادية تقليدية بل هي ألحان شعبية أصيلة؛ إذ تكون الأصالة بقدر ما يرتبط اللحن بالأرض وبالتراث، تلك هي عبقرية الشيخ إمام! بساطة الملحن وطبيعته وصدقه وعدم تكلفه وافتعاله، يكفي أن يسمع الإنسان أوله حتى يردد الباقي من تلقاء نفسه تبعًا لروحه المصرية، وهذا ما يتضح أيضًا في الأداء، يعطي الشيخ إمام كل كلمة لحنها، وكل لحن أداءه؛ فهو ينعى «غيفارا» كما تنعى نساؤنا الأموات وينط مع «الحتة الملعب» في لحنه وأدائه، ويباسط مع ابن البلد «يا عم روق»، وإذا دخل الروم مصر وانكسر الباب أطال الشيخ إمام «رايحين في النوم». فاللحن الأساسي لا يتغير بتغيير أوجه الأداء، بل في كل مرة يؤدي الشيخ إمام نفس اللحن بأداءٍ جديد، وكأن الإنسان يسمعه لأول مرة، فهو يعيش اللحن من الداخل، ويعيش اللحن فيه عيشة طبيعية، ويؤديه كل مرة وكأنه يؤديه لأول مرة.

ولا يضر الشيخ إمام شيئًا أنه لم يتعلم الموسيقى في أكاديمية ليعبر بها عن الألحان! وماذا فعل المحترفون من دارسي الموسيقى؟ صحيح أن سيد درويش من قبل كان يود تكملة دراسته الموسيقية في إيطاليا لولا أن فاجأه الموت. قد يحدث ذلك للشيخ إمام، ولكن لم يمنع ذلك من ثورة الشعب بألحان الشيخ سيد درويش وتكرار أغانيه من بعده التي لم نستطع أن نقيم لها مسرحًا غنائيًّا حتى الآن. لقد درس عديد من شبابنا القوالب الموسيقية العالمية «جمال عبد الرحيم مثلًا»، ومع احترامنا لهم ولنواياهم إلا أن الشعب لم يردد لهم ألحانهم، لو كانوا وضعوا ألحانًا، وبقيت محاولاتهم على مستوى «التكنيك» لا على مستوى الخلق والإبداع. لقد ناقشت الشيخ إمام في هذه القضية؛ أي وضع ألحانه في قالب موسيقي عالمي بتوزيع أوركسترالي؛ أعني مع إدخال الهارموني وتقابل الأصوات، ولكنه لم يمانع في ذلك، ولقد وزع هو نفسه أغنية «غيفارا مات» في حفل نقابة الصحفيين، وكانت روعة في التوزيع بالرغم من فقر الأوركسترا الشرقي المصاحب والذي لم يتعد القانون والكمان. لقد عثرنا على الشاعر متمثلًا في أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود، كما عثرنا على الملحن الشيخ إمام الذي يلهب الشيخ بألحانه، بقي الموزع الذي يمكنه أن يضع الألحان في قالب أوركسترالي عالمي، ولكن لا يعيب اللحن بقاؤه على أصالته وعلى مادته الخام الأولى، يكفي أن يردده الشعب معه. ونحن نفتقر إلى الأغاني الجماعية، ولأول مرة يسير المثقفون — بعد سهرةٍ مع الشيخ إمام — ويرددون أغانيه في الشوارع وعلى المقاهي حتى الصباح. إن صدق اللحن يغني عن القالب العالمي خاصةً إذا كان الموزع المنشود لم يخرج بعد من الحواري والأزقة.

ولم ينقل الشيخ إمام ألحان غيره وأساليبه، هذا مما لا يصدقه أحد. ممن ينقل؟ المصادر معروفة. لم ينقل الشيخ إمام شيئًا عن معاصريه، فمعاصروه معروفون ومصادرهم معروفة. من غنى «غيفارا مات» أو «يا غربة روحي» (هي الأغنية الشعبية يا نطرة رخي رخي)، أو يعيش أهل بلدي أو «الماريونيت» أو «الشجرة بتخضر» أو «العزيق» أو «بقرة حاحا» … إلخ.

فإذا لم يصدق الناس تهمة النقل فإنهم لا يصدقون تهمة انعدام الموهبة الموسيقية الفطرية. إن الموهبة ليست بالإتيان الغريب المحندق ولكن هل غنى أو ردد مثقفونا أغاني المعاصرين من قبل؟ مَن مِن معاصرينا يغني؟ الكل يحشرج … مَن مِن معاصرينا يلحن؟ الكل يوفق ويؤلف ويركب! مَن مِن معاصرينا يدعي نسبته إلى التراث القديم، اللهم إلا الشيخ زكريا أحمد رحمه الله، وهو الذي كان يقدر موهبة الشيخ إمام.

فإذا لم يصدق الناس هذه التهم فلن يصدقوا تهمة تعاطي المخدرات. يلتجئ كاتب المقال أخيرًا إلى السلطة ليسلم لهم الشيخ إمام قائلًا: «حوش يا عسكري». لِم لَم يتهم كبار الفنانين المحترفين وعظام القوم؟ الكل يعرف السبب. وما دخلنا في حياة الفنان الخاصة؟ ما يهمنا هو فنه الأصيل والتزامه بقضايا الشعب. يريد الكاتب تملق السلطة، وتشويه صورة الشيخ إمام عند الشعب. ولكن الكل يعرفه من قبل في أحياء الحسين والسيدة فردًا من أفراد الشعب، يقرأ القرآن ويبتهل ويغني ويطرب.

إن الشيخ إمام لا يرجعنا إلى الماضي كما يقول كاتب المقال بل يغني للحاضر ويشعرنا به، «غيفارا مات» هل مات غيفارا من قبل؟ «على المحطة» هل كانت هناك أزمة مواصلات أيام سيد درويش؟ «البيليبام والبيليبا» هل كان هناك «بيليبام وبيليبا» من قبل؟ إن شعورنا الوطني بعد النكسة لم يضعف بل اشتد كما كان الحال أيام سيد درويش. إنه الاستعمار الذي لم ينسَ مصر لحظة، الخديوي والسلاطين والباشوات من قبل، والطبقات الجديدة بعد الثورة. فمصر ما زالت هي «البقرة الحلوب». الشيخ إمام معاصر وإن انتشار فنه بين أصدقائه وبين جماهير المثقفين وتحمس أعدائه في الرد عليه لأكبر دليل على معاصرته. وإن فن الشيخ إمام لم ينتشر إلا بعد النكسة لأنه وليد الظروف، وكذلك يذكر كاتب المقال لقاءه معه منذ «ثلاث سنوات»؛ كي يفرغه من مضمونه الاجتماعي والسياسي. لقد تغير الشيخ إمام بعد يونيو ١٩٦٧م كما تغير جميع الناس.

وتخفيف الكاتب من أهمية الشيخ إمام بأنه فن احتجاج ومعارضة، الفن الذي انتشر في العالم كله في السنين الأخيرة حتى ينزع الشيخ إمام عن مصر. إن الشيخ إمام إفرازٌ مصري من إفرازات ما بعد النكسة. وإن ثورات الشباب في العالم وفن الرفض والاحتجاج لهما ظروفهما في بيئتهما الخاصة في المجتمع الصناعي والرأسمالي الداعي للحروب. ولكن فن الشيخ إمام بسيط للغاية، إنه يغني لمصر، للغلابة والمحرومين، ويعبر عن مشاكلها الأبدية وندائها الخالد «مصر للمصريين».

إن اتخاذ المثقفين للشيخ إمام إمامًا لهم يدل على مدى الأزمة التي يعيشها المثقفون اليوم، ويدل أيضًا على سعة وثراء هذا الفن الذي يقدمه لنا الشيخ إمام. لذلك فقد قدموا له الكلمات، والفضل يرجع إلى الشاعرين أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود ابنَي الحارة كالشيخ إمام. فالشيخ إمام والمثقفون كلاهما في الهم سواء، كلاهما يبحث عن مصر، ويعيش النكسة، ويعبر عنها بالكلمة وباللحن. لقد طالت عزلة المثقفين عما تقدمه أجهزتنا الرسمية من ثقافةٍ وفن، ووجدوا في الشيخ إمام متنفسًا لهم لعزلتهم بلا دعاية أو إعلان، يتناقلون الشعر، ويتغنون باللحن وينعون حظهم.

(٣) الشعب ومؤسساته٤

كلمة حق تُقال، ولقد قال الكثيرون منا منذ أن نزلت الجماهير الساحة تطالب بأن يكون الشعب هو القائد والمعلم والملهم. ولا يعني مجرد الحصول على بديل أو على مجرد فورة عاطفية تدل على بحث الغريق على أي طوق للنجاة، بل يعني ذلك أن الشعوب قد تعي نفسها بعد أن كانت قد حُرمت كل أشكال التعبير عندما فرضت الوصاية عليها، وعندما فعل الوصي بها ما شاءه، تعي الشعوب نفسها في لحظة، وهو ما كان قد سلب منها في سنين، وكأن وجودها المخزون الدفين في أعماقها وراء حسرتها وفي طي النسيان قد ظهر فجأة مؤكدًا ذاته، ومعتبرًا أن فترة انحساره الماضية كانت فترة عارضة في تاريخه. وهذا شيءٌ طبيعي. فإن عزل الشعب عن أخذ مصيره بيده شيء مضاد للطبيعة، وكل ما يضاد الطبيعة ينتهي إلى الزوال والذوبان، فالطبيعة هي الباقية، والطبيعة هي أن يكون مصير الشعب بيده. قد يتنازل في فترةٍ ما قهرًا أو طوعًا عن حرياته وعن قيادته لنفسه، ولكن الخسارة دائمًا كانت أكثر من المكسب، فقد كانت خسارة الشرف إذ لم يعد الشعب أمينًا على مصالحه، وخسارة الأمانة عندما جند البعض نفسه لتبرير الأوضاع وفرض الوصاية، وخسارة الأرض عندما وجد نفسه قد فقد جزءًا من أرضه، وحسبت عليه الحرب والهزيمة وهو في كلتا الحالتين كان يود لو كان يستحق هذا الحساب. يمكن عزل الشعب عن المشاركة بضع سنوات ولكن لا يمكن عزله إلى الأبد. وفي هذه الفترة يخلق الشعب من ذاته — وتساعده السلطة على ذلك — أنشطة زائفة تفرغ فيها طاقاته ويملأ بها فراغه السياسي.٥ إذا أخذ الشعب مصيره بيده لم تعد هناك إمكانية للعمل السري، وتنظيم الجماعات لقلب نظام الحكم، ويكون الصراع واضحًا مكشوفًا حتى يعي الشعب موقفه من خلال الصراع القائم.

فإذا دخل الشعب معركته، ونزل بكل ثقله في الساحة، فإن من حقه أن تتضح الأمور لديه حتى يكون اختياره لقادته على أساسٍ موضوعي واضح، وليس مجرد اختيار عفوي غامض بين أفراد لما يقال عنهم بالشبهات، وحتى يعلم الشعب أن الأوضاع السياسية موضوعات وليست أمزجة أو أهواء. فهناك معركةٌ حقيقية بين اليمين واليسار لا بد للشعب من معرفتها، بين اليمين الذي يود إنعاش القطاع الخاص والإبقاء على الرأسمالية الوطنية، وتشجيع استثمار رءوس الأموال الأجنبية، وبين اليسار الذي يود الحد من امتداد القطاع الخاص، والقضاء على استغلال الرأسمالية الوطنية (تجارة الجملة، قطاع المقاولات، ملاك العقار … إلخ)، والقضاء على استغلال رأس المال الأجنبي. من حق الشعب أن يعرف هذا الصراع القائم، وأن تتضح الأمور لديه خاصةً وأن هناك يمينًا يزايد على اليسار من أجل الدعوة للوحدة الوطنية وتحرير الأرض، ونقد الأوضاع السائدة والدعوة للحريات العامة، والمناداة بأسلوب العمل الديمقراطي، وأن هناك يسارًا يقوم بدور اليمين من أجل تبرير الأوضاع وتبعيته للسلطة، ووقوفه أمام الجماهير التي تطالب بمزيدٍ من التحول الاشتراكي، ووصفها بأنها ثورةٌ مضادة.

من حق الشعب أن يعرف كل شيء، من حقه أن يعلم كل ما يدور في السلطة، فالسياسة ليس بها سر، بل هي حق الشعب وضرورة لتوعيته، وإلا فإن الإشاعة تكون هي المصدر الوحيد لتلقي الأخبار؛ لأن الأخبار الرسمية لا تعطي شيئًا أو تصمت كليةً عما يود الشعب معرفته، فتتحول السياسة إلى سر، أو كما يقول الاجتماعيون إلى تابو Tabou إذ يدور كل شيء وراء الكواليس، يفاجأ الشعب بالقرارات أو بالتغييرات. السياسة ليست همسًا ومداراةً وإخفاءً بل هي صراحة وإيضاح ومشاركة.

فإذا نزل الشعب الآن الساحة، ووضع فيها كل ثقله، وصمم على ألا تسلب منه سلطاته بعد الآن، فإنه لا يمكنه اليوم أن يعطي تفويضًا مطلقًا لفردٍ واحد يفعل ما يشاء، فالفرد يصيب ويخطئ؛ ولهذا قرر الأصوليون من قبل قاعدة الإجماع، كمصدرٍ من مصادر الشرع، وحرموا الإفتاء بالرأي الخاص الذي قد يكون مبنيًّا على هوى أو عاطفة أو انفعال. فالرأي الجماعي أضمن للوصول إلى الصواب.

والفرد لا يستطيع بمفرده، مهما بلغت قواه وإمكانياته، الإحاطة بجميع جوانب الموضوع؛ وذلك لأنه يراه دائمًا من خلال وجهة نظره، ومجموعة وجهات النظر تكون جوانب الموضوع نفسه، ومن ثم فالجماعة هي التي تكشف الموضوع خاصةً في ميدان الحياة، والسياسة جزء منها.

والفرد ليس سرًّا بل هو إنسانٌ يخطئ ويصيب، لا تحوطه الجلالة والمهابة والنور بل هو إنسانٌ مثل أي إنسان يأكل ويشرب. لا توجد حلول عبقرية للمشاكل، بل هناك قدرات على تحليل الواقع وعلى أخذ القرارات المنبثقة منه مع القدرة على الالتزام بها والدفاع عنها. لا وجود للإلهام في السياسة أو في أي ميدان آخر، بل الأمر مرهون بالإحاطة بجميع جوانب الموضوع ثم الإسهام في تطويره بالاعتماد على القوى الذاتية أولًا. إن إحاطة الفرد بهالةٍ من نور كما يفعل الصوفية في أوليائهم لنابعٌ من التقديس، والتقديس عاطفةٌ دينية مغتربة، تخلع على الفرد صفة القدسية وتراه مهبط الوحي والإلهام. التقديس إنكارٌ للذات وإثباتٌ للآخر، إنكارٌ للعقل وتثبيت للخرافة، إنكار للواقع واعتماد على الخيال. لذلك فإن كثيرًا من الأنظمة في البلاد النامية تحرص على إقامة الطقوس الدينية وتغذية عاطفة التقديس عند الجماهير، ويتمسك قادتها بحماسة الدين أمامها حتى يحصلوا على تأييدها.

إن الأفراد التي تبدأ وكأنها تعبير عن الجماهير لتنعزل عنها شيئًا فشيئًا حتى تعيش في عالمها النرجسي، ولا تشعر إلا بما ترى ولا ترى إلا ما تشعر به، وتفسد وهي تظن أنها تحسن صنعًا، خاصةً بعد أن يحيط بها دائرة من المعاونين والمتعاونين، يشدون أزرها ويسبحون بحمدها، ويبررون أفعالها؛ ومن ثم يتم فرض السياج عليها، وفي النهاية تكون في جانب والجماهير في الجانب الآخر.

والأفكار أو النظم السياسية والاجتماعية مستقلة عن الأفراد، فالاشتراكية حتمية وليست رغبة فردية، والحرية مطلب وليست هبة من قائد، والوحدة قدرٌ تاريخي وليست خلقًا عبقريًّا. إن الأفراد هم المعبرون عن واقعهم في صيغةٍ فكرية، ولكن هذه الأفكار مردها إلى الواقع نفسه؛ ومن ثم فإن تعظيم الأفراد لأنهم صاغوا أفكارًا، تعظيمٌ خاطئ؛ لأن الأفكار صادرة عن الواقع؛ ولأن الواقع سابقٌ على الأفكار وعلى الأفراد معًا. وإن ربط الأفكار بالأفراد ونسبتها لها يدل على نقصٍ في الموضوعية، وعلى سيادة الانفعال الديني الذي يشخص الطبيعة أو الذي يحول الأفراد إلى أفكار (تاو، بوذا)، أو الأفكار إلى أفراد (آلهة اليونان).

لذلك فإن التخليد الحقيقي هو تخليد الأفكار والمبادئ، والاستمرار الفعلي في تحقيقها لا في التخليد الوثني، بإقامة الصور والتماثيل وتغيير الأسماء. والخلود للأفكار ولتحويلها إلى واقع، الخلود للفعل الذي يطور الواقع والذي ينقله من مرحلةٍ إلى أخرى. الخلود للجماهير التي تعي ذاتها والتي تستمر في ثورتها بقيادتها الخاصة، الخلود للثورة ذاتها باستمرارها وتغذيتها الدائمة بالجماهير، ومطالبتها بسبق الواقع حتى تشده إليه، وبسبق السلطة حتى تدفعها أمامها.

لقد كانت أزمة الجماهير إلى حين هي سماعها الشعارات، ثم رؤية الواقع كما هو ولم يتغير بعد، أو رؤية وقد تغير في خط مضاد للشعار. فتسمع عن الحرية ثم تخاف الحديث لئلا يصل حديثها إلى السلطة فينالها أفضل الجزاء، وتسمع عن الاشتراكية وترى مترفي القوم وقد ورثوا الطبقات القديمة التي قضت عليها الثورة وقد زادت اتساعًا، وعظمت سلطانًا وقويت شوكة، حتى إذا سألنا ماسح أحذية عن رأيه في الاشتراكية لقال: للناس اللي فوق! فمهما تغيرت النظم لديه، ومهما سمع من شعاراتٍ فهي أولًا بالضرورة في خدمة نفس الطبقات القديمة، وأنه سيظل دائمًا خارجًا عنها لا يدخل في الحساب. وتسمع عن الوحدة وترى كل دولة تعمل على تفتيتها، وتقضي عليها بشتى الوسائل؛ بالحرب الصريحة أو بالمؤامرات الخفية أو بالأحلاف العسكرية أو الدينية أو بالتواطؤ مع الرجعية. كانت الجماهير تقول دائمًا: «أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أستعجب».

ولكن الجماهير اليوم تعطي هذه الشعارات التي تحولت إلى جزءٍ من حياتها اليومية عن طريق تكرارها المستمر مدى عشرات السنين، تعطيها مضمونها الحقيقي، فتكون الاشتراكية «للناس اللي تحت» وتكون الحرية للجميع قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، في نطاق الأسرة، والأصدقاء وعلى الملأ والجمهور العريض. وتكون الوحدة بطريقها الطبيعي وحدة القوى الثورية ضد المرجعية والعمالة والإقطاع. إن الشعار المرفوع لا يكون له مضمون إلا بالجماهير، فهي التي تمنع من تفريغه من هذا المضمون، بل هي التي تحقق مضمونه ولا يهمها الشعار؛ فقد تراكمت الشعارات فوق الواقع حتى أصبح من العسير تكرارها أو عرضها أو الترويج لها. لقد تشبعت الجماهير بها وتبحث الآن عن مضامينها في حياتها بتجربتها الخاصة، وليست مستعدة الآن لهذه الازدواجية التي عاشت فيها من قبل بين السمع والرؤية، بين الكلمة والشيء. لقد أحدثت الكلمات فعلها ولكن دون الأشياء.

فإذا نظرنا إلى شعاراتنا الثلاثة: الحرية والاشتراكية والوحدة، وجدنا أن الشعب يعطي كل ثقله لتأكيد مضامينها. فالحرية ليست هي الخبز بل الحرية حق التعبير عن الآراء، وهو حق كحق العثور على الرغيف وإيجاد العمل وزواج الأبناء. صحيح أن الحرية لا توجد إلا بعد تحرير الشعب من الاستغلال حتى يكون فعله حرًّا، ولكنها لا تعني أيضًا العبودية للمنحة. إن المثقفين الثوريين هم أكثر الفئات إحساسًا بالحرية، وهم أكثرهم معاناة من سلبهم إياها. ولما كانوا هم الأمناء على مصلحة الجماهير وعلى المصلحة العامة، فإنه لا خوف من حريتهم. فالحرية هي الطريق الطبيعي لتصريف كل الطاقات الكامنة في الشعب، والشرط الأول لصحة الفكر. فالفكر بلا حرية نفاق أو تبرير أو تعمية.

ولما كانت الحرية تؤخذ ولا تعطى كانت عملية تحرر يقوم بها الشعب نفسه؛ تحرر من الخوف، تحرر من السلطة، تحرر من التعايشية. فالتحرير من الخوف شرط ممارسة الحرية، وجماهيرنا لا تخاف الآن، بل تؤكد ذاتها بمطالبتها بحقوقها؛ فقد تنشأ اللامبالاة عن الخوف، ولكن نزول الجماهير الساحة دليلٌ على أخذ مصيرها بيدها؛ ومن ثم دليل على التحرر من الخوف. وتحرر من السلطة؛ فقد كان دور السلطة دائمًا في تكوين الجماهير النفسي دور الرقيب أو دور القاهر أو دور المتربص بها. التحرر من السلطة هو التحرر من هذا الرقيب الداخلي الذي يمثل الرقابة الخارجية، وإيمان بأن السلطة من الشعب وأن الأمة هي مصدر السلطات كما يقال في تراثنا الوطني القديم، تحرر من التعايشية؛ أي رغبة الإنسان في أن يعيش رغدًا، لا شأنه له بالآخرين، ولا تهمه الأوضاع العامة، هو يسعى على لقمة العيش ليكفل لنفسه ولمن معه عيشة راضية بشتى الوسائل التي توفرها السلطة من تجارة داخلية في البضائع والعملة، أو من تقرب وزلفى للرؤساء، أو من مدحٍ وذم كما تشاء، في حين أن التحرر من التعايشية هو الطريق الأقصر للحصول على حق العيش بالثورة على السلطة والمطالبة بالخبز لا بالتسلل إليه من الطرق الجانبية.

والحرية التي تحصل عليها الجماهير هي الطريق لتحقيق الاشتراكية عندما تعبر الجماهير عن نفسها مطالبةً بمزيدٍ من التحول الاشتراكي، وأن تكون هي صاحبة المصلحة الحقيقية في هذا الشعار المرفوع. والحقيقة أن المشكلة الرئيسية في البلاد النامية هي صعوبة الانتقال من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة التحرر الاجتماعي؛ فقد كان زعماؤها في فترة التحرر الوطني من البورجوازية المتوسطة أو الصغيرة، وكانت مهمتهم الحصول على الاستقلال الوطني، فقد كانوا أكثر ثقة، وحصلوا على فرصة أكبر من التعليم والتوظف وأخذ المناصب القيادية، وكانت لها شبكة أوسع من الاتصالات؛ فقدمهم الشعب أمامه لعلمهم وثقافتهم ومكانتهم. ولكن بعد أن تم التحرر الذي غالبًا ما يتم بالطرق السلمية نسبيًّا عن طريق اتفاقات الجلاء، تحل القيادات الوطنية محل الاستعمار، وتحل الرأسمالية الوطنية محل رأس المال الأجنبي، وتعهد إدارة المؤسسات إلى البورجوازية المتوسطة التي ينتمي القادة إليها بدلًا من المديرين الأجانب. وعلى هذا النحو، حصلت البورجوازية المتوسطة على أول مكاسب التحرر الوطني، وتمتعت بامتيازات المستعمر القديم. أما الشعب؛ فقد نال الفخر والعزة والكرامة! نال القادة الميزات المادية وحصل الشعب على الميزات المعنوية! فإذا ما طالب الشعب بحقوقه الاجتماعية، وباشتراكه في الحكم، قام القادة الوطنيون بنفس الدور الذي كان يقوم به المستعمر الأجنبي، من كبت للحريات، وتسلط وقهر، وقضاء على المؤسسات وفاعليتها، وعلى الروح القومية، ويؤله القادة أنفسهم باعتبارهم زعماء التحرر الوطني. ولما كان هؤلاء القادة قد تعلموا في الغرب، وسجنوا فيه أثناء التحرر الوطني، بل وخدموا فيه وفي مجالسه باعتبارهم ممثلين للمستعمرات، أو لإعطاء صورة زائفة للديمقراطية، فإنهم يعودون إلى أوطانهم وقد تشبعوا بالروح الغربية، وآمنوا بنظمه ومؤسساته، والاستعمار على يقينٍ من أن ما فقده باليمين: الأرض، الثروات، القواعد … إلخ، فإنه قد حصل عليه باليسار: موالاة الحكام الوطنيين له، أشكال الاستعمار الجديد من صداقةٍ وخبرة وتعاون. لذلك يحرص الغرب على إعطاء أكبر عدد ممكن من البعثات لمستعمراته القديمة، حتى يضمن ولاء الأجيال الجديدة له. فإذا طالب الشعب بالتحرر الاجتماعي، ورفض استغلال الرأسمالية الوطنية له، فإنه يبدأ المعركة الحقيقية مع قيادته ورثة المستعمر القديم، ومع الطبقات الجديدة وريثة الإقطاع القديم؛ ومن ثم يقدم الشعب قياداته الجديدة من العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين الذين ناضلوا معه من أجل التحرر الاجتماعي؛ لأن القيادات الوطنية التي تعاملت مع الاستعمار لا يمكنها مواصلة النضال الاجتماعي، لاختلافٍ في الأجيال؛ ولأنهم سيكونون أول ضحايا المعركة الاجتماعية، إلا إذا نزلوا على رغبات الشعب، ولكنهم ينزلون مكرهين، وبلا إقناع؛ لأن تكوينهم النفسي قائمٌ على حب التسلط والرياسة، وعلى التمتع بمزايا الوجاهة ورغد العيش.

ولما كانت البلاد المتحررة حديثًا مهددة دائمًا حتى لا تنتقل إلى مرحلة التحرر الاجتماعي، فإن القادة الوطنيين يستغلون ذلك من أجل إيقاف التحول الاشتراكي، أو تأجيله، حتى يخف الخطر — وهو لا يخف أبدًا — وحتى تتحقق الوحدة الوطنية بين الرأسمالية وجماهير الشعب الكادحة، وهي التي تتحمل النصيب الأكبر من المعركة؛ لأنها تدافع عن مضمون التحول الاشتراكي. والحقيقة أنه لا تعارض بين الاستمرار في المعركة الوطنية والاستمرار في التحول الاشتراكي. بل إن التحول الاشتراكي قد يكون دافعًا أقوى للحركة الوطنية، حين تشعر الطبقات الكادحة، وهي التي تتحمل النصيب الأكبر من المعركة، بأنها تدافع عن مصالحها وعن وجودها لا عن مصالح الغير وعن وجودهم. ولقد قامت الثورة الاشتراكية في روسيا في الداخل مع تحرير الأرض من الاحتلال النازي في الخارج، وكانت جماهير الفلاحين والعمال التي حققت انتصارها في الداخل هي التي تصدت للمعتدي النازي في الخارج.

وعلى أحسن الأحوال فإن الاشتراكية تبدأ في البلاد النامية كوسيلةٍ وجدها قادتها لحل مشاكل البلاد الاقتصادية، مثل تأميم البنوك لمنع التلاعب في رأس المال الوطني، وتأميم الشركات والمؤسسات لمنع الاحتكار والاستغلال من أصحاب رأس المال، وفرض الضرائب التصاعدية على الدخل الفردي لجمع رأس المال الوطني اللازم للاستثمار، وتحديد ملكية الأرض لتحقيق أقل قدر ممكن للتفاوت بين الطبقات. ويحدث ذلك كله تحقيقًا لأمنيات الشعب دون أن يجاهد الشعب نفسه في تحقيق أمنياته. ومن ثم، نشأت الاشتراكية التي تفرضها الدولة، ويوافق عليها الشعب حامدًا السلطة، لا تلك التي يطالب بها الشعب، وتوافق عليها الدولة. ومن هنا كانت القرارات الاشتراكية تعبيرًا عن إخلاص القادة للشعوب، وتثبيتًا للقادة ولسلطانهم بتمجيد الشعوب لها وحفظها الجميل، دون أن تقوم هذه الشعوب نفسها بالحصول عليها في صراعها مع الطبقات المستغلة والمحتكرة. لقد نشأ الصراع بين الدولة والإقطاع واستطاعت الدولة القضاء على الإقطاع باسم السلطة والقانون، ولكن لم ينشأ الصراع بين الشعب والإقطاع باسم حق الشعب. إن الاشتراكية التي تنشأ من مطالبة الشعب بها وصراعه مع الإقطاع أو الرأسمالية الوطنية هي التي تخلق وعي الشعب، وهي التي تدفعه لأن يقوم بدوره من خلال الحزب الطليعي الذي سيقوده. وهذا يفسر لنا عدم فاعلية تنظيماتنا السياسية التي لم تنشأ من صراع الشعب مع الإقطاع والرأسمالية، بل نشأت للمحافظة على اشتراكية الدولة وللإبقاء على نظامها.

لا بد للشعب من أن يسبق السلطة، وأن يكون أسبق منها في المطالبة بالتحول الاشتراكي. فإذا أرادت السلطة أن يكون الحد الأعلى للملكية الزراعية مائة فدان للأسرة الواحدة، طالب الشعب بأن يكون ذلك خمسين فقط. هناك ثمانية عشر مليونًا من الفلاحين وستة ملايين فدان تقريبًا؛ وبالتالي يكون نصيب الفرد الواحد ثلث فدان! فإذا قالت السلطة إن الحد الأعلى عشرون فدانًا، قال الشعب بل عشرة فقط، فهناك اثنا عشر مليونًا من العمال الزراعيين لا يملكون شيئًا! فإذا قالت السلطة إن الحد الأعلى خمسة أفدنة، قال الشعب ولكن الأرض لمن يفلحها، وحرم ملكية الأراضي لساكني المدينة؛ ومن ثم حرم إيجار الأراضي واستئجارها على ما هو معروف من أمر الملاك الغائبين، فموظف المدينة الذي يملك أرضًا موظف مرتين: مرة من الحكومة ومرة أخرى من ملكيته للأراضي، فالملكية وظيفة، والتاجر المالك للأراضي أو للعقار له دخلان: دخل من تجارته، ودخل من أرضه أو عقاره. كل أجير زراعي على أرض فهي له؛ ومن ثم يمكن القضاء على الإقطاع الجديد في الريف، ملاك ما بين العشرة والخمسين فدانًا الذين ورثوا الإقطاع القديم في نفسيته وسلوكه.

إن الشعب سبَّاق دائمًا على السلطة في المسيرة الاشتراكية؛ فهو لا ينتظر أن تعطى له حقوقه بل يحصل عليها بنفسه. فإذا كان نصيب الفرد من الدخل القومي خمسة وسبعين جنيهًا سنويًّا فإنه لا يسمح بأن تصل الدخول إلى الآلاف، ويكون هدفه تكوين مجتمع تنعدم فيه الفوارق بين الطبقات. لا بد إذن أن يعود الدخل القومي إلى الطبقات الكادحة، ولا بد من أن يطالب بمزيدٍ من التحول الاشتراكي، ونحن الآن في عام ١٩٧٠م، عام تطوير الميثاق وإعطائه دفعة جديدة وإعادة النظر في الرأسمالية الوطنية، وفي الحد الأعلى للملكية الزراعية، وفي إعادة تقييم الأجور حسب طبيعة العمل وحده، وفي تقليل الفوارق بين الطبقات … إلخ.

والشعب حريصٌ على الاشتراكية كهدف، ولكنه أيضًا حريصٌ على الديمقراطية كوسيلة؛ ولهذا كانت الحرية سابقة على الاشتراكية في الشعارات الثلاثة. هناك حوارٌ مطلوب بين الجماهير بعضها والبعض الآخر حتى تتحد الفئات، وتخرج مطالب الشعب من بين الجماهير ذاتها، وحتى يعي الفلاح وضعه، والعامل موقفه، وحتى يظهر الصراع بين من لا يملكون شيئًا من الطبقات الكادحة وبين من تملك كل شيء من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة. والحوار الأكثر إلحاحًا هو الحوار بين الجماهير والسلطة. فجماهيرنا لها مع السلطة تجربة طويلة من الصراع والتعارض، وكل ما يحدث في السلطة بالنسبة لها ليس في مصلحتها بل في مصلحة من يصدرون القرارات؛ ومن ثم على السلطة أن تعيد ثقتها للجماهير، وأن تكسب ثقتها؛ وذلك بأن تنبثق منها، وأن تكون القرارات صادرة عنها ولمصلحتها، وهذا لا يتم إلا باشتراك الجماهير في بالسلطة اشتراكًا مباشرًا عن طريق مجالس القرى والمدن والمحافظات، وعن طريق ممارسة العمل الوطني في جميع المستويات، ابتداءً من الوحدات الصغيرة في الأحياء حتى أعلى السلطات في الأمة. إن السلطة في ذهن الجماهير هي أولًا السلطة التنفيذية الممثلة في الشرطة، وليست السلطة التشريعية مع أن السلطتين ممثلتان في الحكومة. على الشعب أن يكون هو مصدر السلطة التشريعية بأن تصدر القرارات عنه، وأن يكون هو أيضًا السلطة التنفيذية بدفاعه المباشر عن مكاسبه الاشتراكية، بل وأن يشترك اشتراكًا مباشرًا في السلطة القضائية عن طريق محاكم الشعب التي يقف أمامها كل مستغل محتكر. يريد الشعب أن يشعر بالأمان وذلك لن يتأتى إلا بالأسلوب الديمقراطي. فالأولى أن يرفع الشعب هذا الشعار، وإلا فسترفعه الرجعية، وستأخذ وراءها بعضًا من الجماهير باسم الحريات العامة. إن تطبيق الاشتراكية بأسلوبٍ ديمقراطي يعطي البلاد النامية تجربة فريدة تتفادى بها ما هي به الآن من تجارب ينقصها الوعي الذاتي بنفسها وبأهدافها، وتنقصها المشاركة الفعالة في التجربة لاعتمادها الكلي على السلطة، كما تنقصها العقلية العلمية لسيادة الخرافة التقليدية عليها.٦ على هذا النحو يمكن للجماهير المحافظة على ثورتها الاشتراكية، بصرف النظر عن أي تغير في السلطة، فهي مصدر القرارات، والأمينة على الدفع الثوري. وإنها لمهمةٌ صعبة أن تشارك الجماهير من جديد، بعد أن عُزلت عن معركتها مدة طويلة، حين قامت السلطة بدلًا منها بتحقيق أهدافها بأجهزة الدولة البيروقراطية، أو بأجهزة الأمن التي كانت تطارد كل من يود المشاركة في العمل الوطني، ويسبق السلطة في التحول الاشتراكي. ولكن نزول الجماهير الساحة اليوم دليلٌ على أنها ستقوم بمهمتها في تحقيق أهدافها بنفسها وبوسائلها الخاصة، ولن تكون السلطة حينئذٍ إلا تابعًا لها.

أما الشعار الثالث وهو مطلب الوحدة فإن له مضمونًا اجتماعيًّا أكثر منه مضمون سياسي؛ فلا تعني الوحدة وحدة الدول؛ فالدولة هي السلطة والسلطة من نظام الحكم فيها، لا تعني الوحدة وحدة بين القمم أي بين من هم في السلطة اليوم، بل تعني وحدة بين الشعوب، فالشعوب هي الباقية. ولما كانت القوى الثورية هي طلية الشعوب. فإن الوحدة تعني وحدة هذه القوى الثورية في المنطقة، فهي الكفيلة بإجبار السلطة على السير في التيار الثوري، أو هي الكفيلة بإسقاطها إن هي عادت مسار التاريخ، ولحظة تطورنا الحالي لا تتحمل الوساطة بين الثورة والرجعية في المنطقة، فالرجعية مدانة، والعمالة مكشوفة، وإننا لنخسر كثيرًا من ثوارنا بعقلية الوساطة. لا تعني الوحدة إذن وحدة الأنظمة السياسية، بل تعني أولًا وحدة القوى الثورية المناهضة للتجمع الرجعي في المنطقة، والتي يمكن تجنيد الجماهير وراءها بعد أن تنتشر بينها وتجندها كلها معها. حينئذٍ تتم الوحدة، وتحافظ على طابعها الثوري، فتتساقط الرجعية من تلقاء نفسها بعد أن تعزلها الجماهير عنها؛ لأن بقاءها اليوم مرهونٌ بالجماهير المنعزلة عن المعركة، وبالقوى الثورية المضادة، وبالأنظمة التي تسودها عقلية الوساطة.

وبسيادة الشعب تنشأ أجيال ملتزمة بقضايا العصر، لا تلك التي لا تعرف مصيرها، وإن عرفته فإنها تنتظر من يحقق لها غاياتها. وقد أثبتت التجارب في المنطقة أن وحدة القوى الثورية (وحدة مصر وسوريا) قد هزت المنطقة، وأشعلت روح الثورة فيها، حتى تآمرت الرجعية عليها، كما تثبت التجارب أن وحدة أحزابنا الثورية في العمل الوطني هي الكفيلة بتغذيتها وتقويتها، حتى يصعب القضاء عليها. ولا تهم الآن صورة الوحدة وشكلها، يكفينا الآن وحدة الغاية ووحدة الوسيلة ووحدة المصير المشترك. فالوحدة ليست قرارًا بالتشكيل بل تغييرًا لواقع، الوحدة يجب أن تصنع؛ وذلك بتغيير الأوضاع التي تمنع من إقامتها. وما دامت السيادة للجماهير ولطلائعها الثورية فلا تهم الزعامة. وما دامت القيادة للجماعة فلا تهم الأفراد.

وإذا كانت الجماهير قد نزلت الساحة اليوم مصممة على النضال بأيديها، وإذا كانت هي التي ستعطي الشعارات المرفوعة منذ أمدٍ طويل مضامينها، فإنها أيضًا هي التي ستحافظ عليها، وستحققها عن طريق المؤسسات التي تعبر عنها، والتي تصيغ أفعالها وتحفظها في القانون. وكما يقال اليوم عن جماعية القيادة، وأنه ليس باستطاعة فرد ما أن يتحمل المسئولية وحده، فإنه لا يكفي تنشيط المؤسسات وزيادة فاعليتها، بل لا بد من إقامتها على أسسٍ راسخة، حتى يمكنها أن تؤدي دورها، خاصةً إذا كانت معبرة عن الجماهير، وقادرة على المحافظة على مصالحها.

ونقصد بالمؤسسات هنا معناها العام الذي يشمل تنظيماتنا السياسية والنقابات وهيئاتنا البرلمانية والدستورية ونظمنا القضائية والتعليمية والثقافية والإعلامية … إلخ. فأما تنظيماتنا السياسية فإن الجماهير لديها منها خبرة من الصعب محوها؛ فقد رأت دائمًا أنها صورة أخرى من أجهزة الدولة التي تعاني منها، وأن من يتصل بها إما مستفيد أو راغبٌ في السلطة، أو معادٍ للجماهير؛ ومن ثم ابتعدت الجماهير عنها، وانعزلت هي عن الجماهير، وأصبح العمل السياسي مرادفًا للعجز أو الوصول أو الانتهاز أو التسلط؛ ومن ثم فإن التنظيم السياسي الجماهيري هو الذي ينبع من تجربة الأحياء الشعبية، وهو الذي يقوده من يقومون بالفعل بالتعبير عن مشاكل الجماهير، ومن يقومون بالعمل السياسي تطوعًا لا احترافًا، ورغبةً في خدمة الشعب، وليس وظيفة سياسية يؤجرون عليها.

ولما كانت الغالبية العظمى من الشعب جماهير كادحة، فإن التنظيمات السياسية هي بالضرورة تنظيمات شعبية لهذه الجماهير، تعبر عن مصالحها؛ ومن ثم لا سبيل إلى صيغةٍ للتحالف بين الطبقات الكادحة والطبقات المستغلة. فإذا كان الموظف ورئيسه في تنظيمٍ واحد، فإن كليهما يسلك فيه وكأنه في المصلحة، يأمر الرئيس ويطيع المرءوس. وإذا كان العامل وصاحب المصنع أو مديره في تنظيمٍ سياسي واحد، تملق العامل مديره حتى يحصل على رضاه، وهدد المدير العامل حتى يملي عليه ما يريد. وإذا كانت الجماهير المستهلكة في تنظيمٍ سياسي واحد مع تجار الجملة، استطاع هؤلاء إرضاء الجماهير ورشوتها حتى يتمكنوا من السيادة على التنظيم. وإذا حتمت القيادات تلك التي تعبر عن مصالح الجماهير وتلك التي تود التسلط عليها، وهم الأغلبية، انحسر التنظيم عن الشعب، وشك الشعب في تنظيمه وانتهى التنظيم إلى العزلة، والشعب إلى الفراغ. التنظيم الشعبي تجربة فريدة يجب أن تتم من وسط الجماهير؛ وبذلك لا تكون مهمته الكشف عن الاتجاهات الوطنية السابقة على السلطة والتبليغ عنها، وتكون بذلك امتدادًا لأجهزة الأمن، بل تكون مهمته احتواءها في داخله، والاستفادة من خبرتها، والاستبشار بها؛ فقد استطاع الشعب سبق السلطة وفرض قراراته عليها. كما لا تكون أيضًا مهمة التنظيم السياسي تلقي الأوامر وتنفيذها بلا مناقشة، أو بعد مناقشة صورية، لتفهم القرار، وليس لمعارضته، أو التجمع والتفرق كما تقضي الزيارات الرسمية، بل مناقشة مشاكل الجماهير مناقشةً حرة، وتبليغ قرارات القواعد إلى القيادات، باعتبارها قرارات ملزمة. ليست مهمة القواعد الشعبية إذن تنفيذ قرارات القيادة، بل فرض قراراتها على القيادة. فالجماهير هي التي تعايش الواقع، ويمكنها بممارستها العمل السياسي المباشر التعرف على مصالحها وصياغتها في قراراتٍ ملزمة، ومن خلال التجربة اليومية، تظهر قيادات صحيحة من داخل العمل السياسي. لذلك فإن أزمة القيادات أزمة مفتعلة؛ لأن العمل السياسي السليم يولد قياداته؛ ولأن القيادات الشعبية التي مارست مثل هذا العمل من قبل موجودة في أوساط العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين الثوريين، ويمكنها أن تؤدي أعظم الخدمات لتنظيماتنا السياسية الناشئة، فلديها الخبرة الكافية بالعمل السياسي وبتجنيد الجماهير.

أما الحركات النقابية فهي المعبرة عن طبقات الشعب العاملة؛ ومن ثم فالانتساب إلى نقابة ودفاعها عن المصالح الجماعية عمل مشروع، من شأن تنشيط الجماهير، وإعادة الثقة إلى نفسها، والدفاع عن مصالحها دفاعًا جماعيًّا، ولفرض قراراتها على السلطة. فالمطالب الفئوية جزءٌ من المطالب العامة. وقد كان دائمًا زعماء النقابات العمالية هم قادة الحركة الوطنية، كما هو الحال في غينيا. إن النقابي ليس مجرد فرد دفع الاشتراك أو حصل على البطاقة، بل هو الذي يُسمع صوته، وهو الذي ينتخب ويُنتخب على أساس برنامج واضح، يعبر فيه عن حقوق العمال في نصيب أكبر من الربح، وعن حق أعظم في إدارة المصانع والمؤسسات والشركات. من حق العمال المطالبة بحقوقهم، واستعمال كافة الوسائل التي لدى عمال العالم أجمع للضغط على السلطة حتى تستجيب لمطالبهم. ولقد كانت مسيرة العمال هذا الأسبوع طليعة من الطلائع القومية، تقدم برنامجًا محددًا لتجميع القوى الوطنية، ولمزيدٍ من التحول الاشتراكي، وللمطالبة بالحريات العامة. لقد كان زعماء النقابات دائمًا في تعارضٍ مفتوح مع السلطة. فالسلطة دائمةً تعطي أقل مما يُطلب منها، ولم يكونوا مطلقًا بوقًا لها، يباركون خطواتها، ويشكرون هباتها، ويحمدون لها فضلها. إن نضال العمال من أجل حقوقهم كما حدث دائمًا في الثورات العمالية لهو الكفيل بتحقيق أكبر زيادة ممكنة في الإنتاج. ولا يقال إن العامل يود دائمًا أن يأخذ أكثر مما يعطي؛ وذلك لأن العامل ما زال يرى أن حقه مهضوم. هذا بالإضافة إلى أن التوعية السياسية هي الكفيلة بتحقيق الدقة المطلوبة. فالوعي العمالي أساسًا وعي سياسي، والنقابة جزءٌ من التنظيم السياسي، وإنتاج العمال هو أساس الإنتاج القومي، بل إننا نجد دائمًا تطوع العمال بيومٍ كامل للعمل الوطني، إحساسًا منهم بواجبهم، وفي لحظات التحول المصيري، العمال هم الشعب العامل، وتندرج جميع الطوائف تحته، الفلاحون باعتبارهم عمال الأرض، والجنود باعتبارهم عمالًا لتحرير الأرض والمثقفون من حيث هم عمال الفكر. فالعمل ليس هو فقط العمل اليدوي بل العمل المنتج، فالعامل أمام الآلة، والمدير على المكتب، كلاهما عامل، والفلاح في الحقل، والأستاذ في الجامعة، كلاهما عامل.

وتقوم الهيئات الدستورية كالمجالس النيابية وكافة التنظيمات الدستورية بتمثيل قوى الشعب العامل حق تمثيل، وتكون هي حينئذٍ المعبرة عن مصالح الجماهير، والمشرعة للقرارات. لا بد إذن للمجالس النيابية أن تعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن مطالب الطبقات الكادحة التي لها أكثر من نصف المقاعد، بل يجب أن يكون التمثيل تمثيلًا فئويًّا، حتى يضمن الشعب عدم سيادة الأقلية، وأن يتم تخطيط الاقتصاد القومي طبقًا للأغلبية. ليست وظيفة المجالس النيابية التصديق على قرارات الحكومة، بل صياغة مطالب الشعب، وفرضها على السلطة. كما لا بد أن يكون للمجالس النيابية كل السلطات في إقالة الوزراء، ومحاسبة الوزراء، والرقابة على أجهزة الدولة، وإقرار الحرب والسلام. فالأمة، كما كان يقال في تراثنا الوطني القديم، هي مصدر السلطات. أما المجالس النيابية التي لا سلطات لها، فهي مجرد واجهة ديمقراطية لإضفاء الشرعية على السلطة. ولكن الحس الشعبي التلقائي يعلم دائمًا أن السلطة تفعل دائمًا ما في مصلحتها مهما ادعت بأنها إنما تفعل لمصلحة الجماهير.

أما هيئاتنا القضائية، فهي الحارسة على حقوق الشعب. لذلك يحرص الشعب على استقلال القضاء وعلى تنظيم علاقة الفرد بالدولة تحت سيادة القانون. فالفرد باستطاعته مقاضاة السلطة إن هي انتهكت حقوقه؛ ومن ثم فلا يرضى الشعب بتوحيد رياسة الدولة ورياسة القضاء حتى يمكن للقضاء أن ينصف الشعب إذا ما بغت السلطة. وإن دماء الأبرياء، وحقوق المظلومين، وحق الكادحين، غالبًا ما تضيع هباء من جراء خضوع القضاء للسلطة. إن كل ما يرجوه المواطن هو أن يكون هناك قانون ينظم علاقاته بالآخرين، وعلاقته بالسلطة حتى يمكن أن تتحدد حقوقه وواجباته تحديدًا دقيقًا، وأن يكون هناك قانون يكفل له حرية التعبير عن الرأي، دون أدنى مساس بوجوده الفيزيقي، وألا تخضع حياة الأفراد ومقاديرهم إلى الأهواء الشخصية، والانفعالات الوقتية، والأمزجة العقلية، والطبائع النفسية حتى أصبحت العلاقات الاجتماعية من أصعب الأمور وأشقها على النفس؛ إذ قد تبدأ بابتسامةٍ لا لزوم لها، أو بتحيةٍ مفتعلة، أو برجاءٍ مبتذل. فلكي يحصل الإنسان على حقه لا بد أن يدخل أولًا في شعور الآخر، وأن يرضي مزاجه؛ لأنه ليس هناك قانون موضوعي، ينظم العلاقات الاجتماعية، ومن ثم حكمت حياتنا الصلات الشخصية أكثر مما حكمتها القوانين.

ولا تعني سيادة القانون الوقوع في النظرة الشرعية Légalisme، وهي النظرة الصورية المحضة التي ترضى أن يموت المريض طبقًا لقانون الطب على رأي موليير، كما لا تعني معارضة كل إجراء ثوري، فهناك القانون الذي يعبر عن الثورة. هناك القانون الثوري الذي ينظم العلاقات بين المواطنين فيما بينهم وبين المواطنين والسلطة تنظيمًا موضوعيًّا، يبقي على الثورة، ويدفعها إلى الأمام. وقد تكون الثورة الدائمة هي القانون الأسمى.

ومؤسساتنا التعليمية هي المجال الأول لتربية الجماهير، سواء في المراحل الأولى أو في المرحلة الجامعية. ولا تكون تربية النشء عن طريق ترديد الشعارات، وذكر أسماء الأبطال، بل عن توعية حقيقية بالأوضاع، وعن تحليل موضوعي لمشاكل العصر، وعن ممارسةٍ فعلية للثورة في الحياة اليومية، في حياة الطلاب والأساتذة على السواء، ومن أجل خلق المواطن الصالح. والتعليم يجب أن يخضع لسياسةٍ ثابتة لا تتغير بتغير الوزراء، سياسة تحدد الهدف من التعليم، وتحدد أساليب تحقيق هذا الهدف؛ وذلك بالاعتماد على المجالس القومية المتخصصة التي يوكل إليها التخطيط العام لكل مجالات الدولة.

والجامعة، كإحدى الهيئات، هي أيضًا حريصة على مطالب الشعب، وبداخلها تتم التوعية الحقيقية لا عن طريق الإكثار من المواد القومية، بل بحرص الجامعة على أن تكون جامعة الشعب، وتعبيرًا عن مشاكله، وتلبية لمطالبه، تحرص الجامعة على استقلالها. ولا يعني الاستقلال هنا الانعزال عن مطالب الجماهير، بل تعني توفير الضمانات الضرورية حتى تقوم الجامعة بمهمتها في حريةٍ فكرية تامة. فالأستاذ الجامعي كالقاضي تمامًا، أمين على المصلحة الوطنية، كما أن القاضي أمين على حقوق الشعب؛ ومن ثم فإن لأستاذ الجامعة نفس الحصانة الجامعية، كما أن للقاضي الحصانة القضائية، وللنائب الحصانة البرلمانية، فلا يمكن التعرض له فكريًّا أو فيزيقيًّا، بل يوكل الأمر للأساتذة أنفسهم باعتبار أن الأمر داخلي محض من شئون الجامعة. والأمر كذلك بالنسبة للطلاب. فإن من يخرج على المصلحة الوطنية، فإنه يترك للاتحادات الطلابية تفصل فيه كما تملي عليها أمانتها؛ ومن ثم يتحقق أسلوب العمل الديمقراطي داخل الجامعة بين الأساتذة والطلبة على السواء.

وإذا كنا نشكو من تكوين تنظيماتنا دائمًا من القمة إلى القاعدة سواء في تنظيماتنا السياسية أم الشعبية،٧ فإن الجامعة أيضًا قد سرى عليها نفس الشيء، وأصبح رؤساء الأقسام والعمداء والمديرون بالتعيين، وبتعيين من ترضى عنهم السلطة، ومقاييس السلطة دائمًا معروفة، وعلى رأسها الطاعة لها، ومعارضة جماهير الطلبة والأساتذة. ولكننا اليوم بعد أن رأينا نزول الجماهير الساحة، فإن شباب الجامعات، طلابًا وأساتذة، يطالبون بأن يكون رؤساء الأقسام وعمداء الكليات ومديرو الجامعات بالانتخاب لا بالتعيين؛ فذلك حق لهم، وأن يتم تمثيل الطلبة والمعيدين والمدرسين في مجالس الكليات ومجالس الجامعات، فهم أدرى بمصالحهم من الكبار. من حق شباب الجامعة تكوين جمعياتهم الأدبية والفلسفية، حتى يمكنهم تربية جيل مستقل عن المقررات الرسمية، وحتى يتم كشف الأدباء والمفكرين الجدد. إن الرقابة الحقيقية هي تلك التي تمليها ضمائر الطلاب والأساتذة معًا، لا تلك الرقابة الخارجية المتمثلة في رجال الأمن، أو فيمن يقوم بهذه المهمة من الزملاء. الجامعة هي الأمينة على مصالح الشعب، وتضم صوتها مع جماهير العمال والفلاحين والجنود والمثقفين الثوريين، بأن يكون الحكم للأغلبية وبنزول الجميع على حكم الأغلبية.

وأخيرًا فإن مؤسساتنا الصحفية والإعلامية ملك للشعب، والشعب، بعد أن طرح شعاراته الجديدة التي تعلن عن إصراره على تكملة الشوط، يود التعبير عن نفسه وخط مسيرته وشق طريقه، ويطالب بأن تكون صحافتنا صحافة رأي لا صحافة خبر، حتى يلتزم الشعب بقضاياه ويعي صياغاتها العلمية، يود أن يعرف ما ينفعه وما يضره، حتى لا يختلط عليه الأمر، فيلبس الضار ثوب النافع، والنافع ثوب الضار. مهمة الصحافة وأجهزة الإعلام في هذه الفترة هي توعية الجماهير، وتحليل المواقف لا استجداء ضحكها بأبخس الأثمان. وإن كل فن كانت مهمته ملء الفراغ السياسي لدى الشعب، سيدينه الشعب الذي يود فنًّا يعبر عن مشاكله ويساعده في معاركه.

وإن جمعياتنا الثقافية، الجمعية التاريخية والجمعية الجغرافية وجمعية الاقتصاد والتشريع والجمعية الفلسفية ونوادي العلوم … إلخ، لمن واجبها زيادة فاعليتها، وطرح قضايا الشعب المعاصرة في التاريخ والاقتصاد والسياسة والفكر، وتكون مهمتها بجانب المجالس القومية المتخصصة في إرساء دعائم المجتمع الحديث الذي لا يتغير بتغير النظم أو القيادات.

فتحية للشعب الذي يأخذ مصيره بيده، وتحية للمؤسسات الدائمة المعبرة عن مصالحه، والأمينة عليها، والباقية دائمًا مهما تغير الأفراد.

(٤) الأبعاد الحقيقية للمعركة٨

إن معركتنا الحالية أكبر من أن نذكرها في الأسبوع الأول من يونيو كل عام لنلقي فيه المراثي والتأبينات؛ لأنها واقعةٌ كل يوم قبل الخامس من يونيو وبعده. وما هذا اليوم المشئوم أو المتفاءل به إلا توقيت حدوثها، بعد أن أُعِد لها عشرات السنين من قبل إن لم أقل عشرات القرون. فالمعركة إذن أعظم من أن تكون حديث المناسبات، وإلا لما كان هناك اختلاف كبير بينها وبين أعياد الميلاد أو ذكرى الأربعين أو ألفية القاهرة. فما هي إذن أبعاد المعركة الحقيقية؟

(٤-١) بعض الإيضاحات المبدئية

قبل أن أبدأ في تحليل الأبعاد الحقيقية للمعركة يحسن أن أوضح مواقفنا الفكرية التي تدل على درجة التزامنا بالواقع وقضاياه المصيرية، خاصةً بعد أن أصبح «منهج الإيضاح» من أهم المناهج في العلوم الإنسانية، والذي يقوم بمهمة إزالة الغموض الذي يكتنف الظاهرة المدروسة. مهمة الإيضاح إذن هي كشف النفس أمام نفسها دون لبس أو حيار أو قصور. وأهم هذه الإيضاحات هي:
  • أولًا: لا توجد حلول سلمية لمسائل النضال؛ لأن أساس النضال هو التحرر بالكفاح المسلح. قد يكون البحث عن الحلول السلمية وسيلة لكسب الوقت أو للتأثير في الرأي العام العالمي. ولكن الكل يعلم سواء من يخصهم الصراع مباشرة أو من يحاولون احتواءه من بعيد استحالة هذه الحلول. إن مسائل النضال لا يحكمها إلا قانون الأقوى. بل إن كثيرًا من المعاهدات التي أُبرِمت لوضع الحلول السلمية سرعان ما يتم نقضها إذا قوي أحد الطرفين؛ لأنها في الغالب ما تكون في صالح الطرف الأقوى وقت إبرامها. وحدث تأميمنا للقناة سنة ١٩٥٦م بهذا المنطق لأننا كنا أقوى من معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤م. فالأرض لا تعرف العقود، والمصير يجهل الأوراق المسودة، والمناضل لا يجلس على مائدة المفاوضات إلا إذا أيقن من الانتصار، كما يحدث في مرحلة النضال الفيتنامي الحالية، وكلنا نعلم ذلك ولا يحتاج إلى إيضاح.
  • ثانيًا: من لا يستطيع أن ينصر نفسه لا يستطيع المجتمع الدولي أن ينصره، فالمجتمع الدولي دائمًا مع الأقوى، ولا يعرف إلا سياسة الأمر الواقع. وإن من يعملون بحقل الإعلام في الخارج يدركون ذلك تمامًا بأن منطق الانتصار أقوى وأبلغ من منطق الحق، وكلنا نعلم تنظيم المجتمعات الدولية وكيف تسيطر الدول الكبيرة على أعضائها، والاعتماد على هذه الدول الكبيرة نفسها تبخير لنضال الشعوب وضياع للمشاكل القومية في ميزان القوى العالمي، فأصبحت مشكلة الوحدة الألمانية مشكلة بين الشرق والغرب. والشعوب المناضلة حقًّا ترفض وصاية الدول عليها كما رفضت ثورة الجزائر أية وصاية عليها قريبة كانت أو بعيدة، وكما ترفض الثورة الفيتنامية حاليًّا وصاية أقرب الشعوب إليها وأكثرها مدًّا لها بالعون. وعدونا على علم بذلك تمامًا عندما أعلن رفضه لقرار مجلس الأمن، وعندما أعلن رفضه أية تسوية لا تنبع من مصلحته وترعى أرضه وحدوده الآمنة. فمهما قيل عن مواجهتنا للاستعمار العالمي والصهيونية العالمية، فإننا نواجه على الأرض مباشرة قوة محدودة يمكن التغلب عليها بقوةٍ محدودة مثلها.
  • ثالثًا: السياسة ليست هي الأخلاق، وليست تطبيقًا لميثاق الأمم المتحدة أو لإعلان حقوق الإنسان أو للقيم الأخلاقية والمبادئ الدينية؛ فذلك تصور الضعيف المتطهر الذي يعجز عن فعلٍ في الواقع فينعزل ويلجأ إلى الطهارة والقيم، ويخلق عالمًا مثاليًّا ينعم فيه كرد فعل على مأساته في الواقع الذي سلب منه. وتشهيرنا بالعدو على أنه لا يعترف بالقيم الأخلاقية أو المبادئ الإنسانية، يجد آذانًا صماء في عالم قامت السياسة لديه على المصلحة وعلى نصر القوي. وإن كان تراثنا القديم كما هو موجود في الشريعة أو في تاريخ الحروب الإسلامية مملوءًا بالإنسانيات، كان ذلك بعد نظر إلى كسب العدو وتحطيم معنوياته، كما هو الحال حاليًّا في حسن معاملة جبهة التحرير الفيتنامية الأسرى الأمريكيين، ولكن عدونا يقوم على الشراسة والتخويف والإرهاب ولا يعرف الوازع الديني أو الضمير الخلق. لذلك فإننا بتصورنا الأخلاقي للسياسة لن نجد آذانًا صاغية.
  • رابعًا: كثيرًا ما يقال أيضًا إن حشد الإمكانيات العربية من أجل المعركة، يتطلب تأجيل موضوع الصراع الاجتماعي داخل العالم العربي، خاصةً بين الأنظمة السياسية المختلفة في المنطقة، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل بدء معركة مع العدو الصهيوني، فكل طاقاتنا مستنزفة من الداخل بسبب أنظمتنا السياسية؛ فقد ينطلق عدوان داخلي من القواعد العسكرية الأجنبية في العالم العربي «هويلس مثلًا»، كما أن الشركات الاحتكارية الأجنبية في المنطقة تستنزف قدرًا كبيرًا من الطاقات التي يمكن حشدها في المعركة «عائد البترول»، وتمنعنا من أسلحةٍ يمكن استخدامها استخدامًا فعالًا «سلاح البترول مثلًا». وقد تمثل بعض الأنظمة التقدمية في المنطقة مثلًا خطرًا أكبر مما يمثله العدو المحتل بالنسبة لبعض الأنظمة الرجعية. فلا تعارض إذن بين البناء الاشتراكي في الداخل وبين المعركة على الحدود، كلاهما وجهان لمعركةٍ واحدة، فمعركة البناء الاشتراكي هي معركة سياسية في إرجاع الحق «وهو الثروات» لأصحابه «وهي الطبقات الكادحة»، والمعركة على الحدود هي في جوهرها معركة اجتماعية؛ لأن العدو يود القضاء على الأنظمة التقدمية في المنطقة، حتى يتمكن من استغلال المنطقة كلها أفضل استغلال كالأسواق لتصريف منتجاته، أو للبحث عن الأيدي العاملة الرخيصة أو للاستيلاء على ثروات المنطقة الطبيعية «البترول والممرات المائية». وقد قامت ثورة أكتوبر في الوقت الذي كانت فيه روسيا تخوض حربًا مع الغزاة الألمان، فمن يدعي تأجيل النضال الاجتماعي لا ينوي خوض المعركة الحالية التي لا تنفصل عن قضية البناء الاشتراكي، ولا ينوي خوض معركة اجتماعية مستقبلًا.
  • خامسًا: يقال أيضًا إن المعركة هي كسب للوقت، وأن العدو يتضجر أكثر مما نتضجر نحن؛ فهو لا يستطيع تحمل حرب الإنهاك لمدةٍ طويلة لأن قواه البشرية محدودة، أما نحن فنستطيع أن نتحمل ونصبر؛ لأن طاقاتنا أوسع وقدرتنا على الصبر أعظم، وأن العدو ينتظر «جنرال الملل» ليقضي علينا من الداخل. وينشأ الملل حتمًا من الانتظار السلبي، أما الاستعداد للمعركة فلا يخلق أي ملل بل يمضي الزمان فيه بسرعة. فالقضاء على الملل لا يأتي بالصبر بل بالاستعداد الفعلي؛ لأن العدو لا ينتظر انهيارنا بل يثبت أقدامه في الأرض ويبني المستعمرات.

(٤-٢) الأبعاد الوهمية للمعركة

بعد هذه الإيضاحات السابقة، وقبل أن أحاول تلمس الأبعاد الحقيقية للمعركة، أود أن أزيل الشبه عن بعض الأبعاد الحالية التي يكثر الحديث عنها، والتي يصعب وضع اليد عليها بالفعل حتى أصبحت أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. وأهم هذه الأبعاد هي:
  • أولًا: لقد كانت معجزة بالفعل أن يعاد تسليح قواتنا في مثل هذا الوقت القصير وفي مثل هذه الظروف الصعبة، حتى أصبحت أقوى وأقدر مما كانت عليه قبل الخامس من يونيو، وهذا ما ثبت بالفعل في ميدان القتال في الأيام الأخيرة. الإعداد للمعركة قد يكون أشمل وأعم؛ لأنه يتطلب تجنيد كل القوى المادية والمعنوية من وضع أسس لاقتصاديات الحرب، وإقامة الجيش الشعبي الذي كثر الحديث عنه وقت انعقاد المؤتمر القومي الأخير، وإنشاء لجان الدفاع المدني، وتوجيه أجهزة الإعلام ومرافق الدولة للحشد المعنوي. ولن يسأم المناضلون؛ فقد انتصرت ثورة الجزائر بإمكانياتها العسكرية المحدودة على جيوش إحدى الدول الكبرى وعلى معدات حلف الأطلنطي، كما أسقط الشعب الفيتنامي ببنادقه التي يحملها وراء ظهره مع الفئوس وطائرات أعتى الجيوش الحديثة وأكثرها عدة وعتادًا، وإلا لما كان هناك معنًى لقولنا: لا صوت أعلى من صوت المعركة.
  • ثانيًا: كثيرًا ما نسوق حجة الكم ونقول إن مائة مليون عربي منتصرون لا محالة بمنطق الأعداد الغفيرة. ويصدق هذا المنطق عندما يؤدي التراكم الكمي إلى اختلافٍ كيفي كما هو الحال في الصين مثلًا، ولا يصدق أن الأعداد الغفيرة مجرد نتيجة إحصائية. وقد قامت حركات النضال دائمًا على منطق الكيف، فبدأ كاسترو بسبعة أفراد، وبدأ محمد بن عبد الله بنفرٍ أو نفرين. بل إن منطق تراثنا مع منطق الكيف لا الكم كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وهو المنطق الذي يستعمله عدونا لأنه منطق تراثه ومنطق الثورة في انتصار القلة المؤمنة على الكثرة الباغية، وهو منطق شعب الله المختار كما يقولون. وقد حذرنا من منطق الكم في تاريخنا القديم وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، وقد يكون هذا المنطق أيضًا هو السند في ثقافتنا في دور النشر في جامعاتنا وفي أعمالنا الفنية. فالكم دون الكيف لا يساوي شيئًا وإلا ما حدث الخامس من يونيو.
  • ثالثًا: كثيرًا ما نذكر إمكانياتنا الهائلة وثرواتنا المادية والمعنوية، فهناك البترول والممرات المائية والمناجم والزراعة والتصنيع، ورصيدنا من العملات الصعبة في الخارج، ومقدار تأثيرنا في السياسة الدولية وحتى في مصائر بعض الدول الكبيرة. ولكن هناك فرقًا بين الإمكانيات النظرية والحشد الفعلي. ولن تنفع صيحات التخدير بحشد القوى، نصفها أو ربعها؛ لأن درجة هذا الحشد مرتبطة بالأنظمة الاجتماعية السائدة. ومن هنا جاء الارتباط الحتمي بين المعركة الداخلية لبناء الاشتراكية والمعركة الخارجية لتحرير الأرض. والطريق لذلك هو مخاطبة شعوب المنطقة؛ فهي الكفيلة بفرض نظمها التي تلائم تطورها الحالي. وقد قام عمال البترول في حرب يونيو بفرض المعركة بالفعل على من أراد تجنبها أو مجانبتها.
  • رابعًا: نسمع كثيرًا من حججنا الإعلامية المشهورة أننا أصحاب الأرض منذ أيام كنعان، ويتقدم العدو بالحجة المعارضة، ويدفعنا إلى التبارز على هذا المستوى لأنه يعلم أنه أعلم منا بتاريخ المنطقة، وهو المسيطر على معظم الجمعيات والهيئات الدراسية في تاريخ الأديان وتاريخ الشعوب السامية، وننزلق نحن معه ونجادل في هذه الحجة التاريخية. ولكن المهم لدينا «لمن الملك اليوم؟» للشعب المطرود أم للغزو النازي العنصري؟ تهمنا أرض اليوم لا أرض الأمس، ويهمنا اليوم من يعيش عليها لا من عاشوا عليها بالأمس. يغرقنا العدو في المتاهات البيزنطية حتى لا نعي من واقعنا شيئًا وحتى نغفل الشعب الطريد، فالماضي ما هو إلا ستار للحاضر، والدين ما هو إلا قناع لتغطية حركة استيطانية أوروبية من حركات الاستعمار.
  • خامسًا: وكما نقع في متاهات الماضي نقع أيضًا في متاهات المستقبل، فيقال لنا ونقول لأنفسنا: المستقبل لنا، وأن عامل الزمن يعمل لنا أكثر مما يعمل للعدو. وباستقراء الماضي من عام النكبة الأولى سنة ١٩٤٨م نجد أن العصابات الأولى قد تحولت بعد عشرين عامًا إلى دولة قائمة على البطش، وتستغل كل ما أنتجه العلم في سبيل البقاء، أما نحن فقد قمنا بثوراتنا الاجتماعية أولًا، ثورات مصر والعراق والجزائر، وكنا ما زلنا نخوض الشوط في طريقنا إلى العصرية، وجاءت الضربة لتوقف وترد، والخوف أن يحدث في المستقبل ما حدث في الماضي، أن يسبقنا الزمن بدل أن نسبقه أو على الأقل بدل أن نسير معه، أن يسلبنا العدو الزمن ويسبقنا فيه. قد يكون إذن في انتظار المستقبل المشرق اعتمادًا على تطورٍ طبيعي قصور في درجة عيشنا للحاضر وتوترنا به. لا بد أن يكون يومنا بعشرة أيام، وعامنا بعشرة أعوام، وقرننا بخمسة قرون حتى نستطيع أن ننتقل من الإصلاح، إلى النهضة، إلى التنوير، إلى التصنيع، ثم إلى التكنولوجيا في جيلٍ واحد، قد يكون هو جيلنا!

(٤-٣) الأبعاد الحقيقية للمعركة

أعني بالأبعاد الحقيقية تلك الأبعاد التي يمكننا التركيز عليها، وإعطاء الأولوية لها حتى نقترب من يوم المعركة، وهي:
  • أولًا: نحن في مواجهة حضارة وثيقة بالأرض، إن شئنا قلنا حضارة أرض وإله وشعب. فنحن نواجه أفكارًا تقوم عليها القوة المادية. عدونا يبحث عن أرض الميعاد؛ أي إن هدفه ومستقبله في الارتباط بالأرض. ونحن نبحث عن ملكوت السموات كما هو واضح في كثيرٍ من مواعظنا الدينية. إله عدونا هو إله الشعب المختار الذي عقد الله معه ميثاقًا أبديًّا، ونحن خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ حسب تراثنا، وأمة مستعمرة حسب واقعنا القريب، نقع مع الأمم المتخلفة أو النامية، دون أن نتلمس مصادر قوتنا في تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. لقد ربطوا التوراة بالأرض، وربطنا الأرض بالسماء، ووعدهم إلههم بالأرض، وهذا هو سبب قوتهم، وتصورنا أن الله قد وعدنا بالسماء وبشرنا بالجنة، وهذا هو أحد أسباب قصورنا، مع أن الله قد وعدنا الأرض أيضًا: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ. لم ينشأ بيننا حتى الآن «لاهوت الأرض». وما زلنا أسرى «للاهوت الكلمة».
  • ثانيًا: كما أننا في مواجهة حضارة قائمة على العنصرية، فإننا في مواجهة حضارة تقوم على العلم الحديث، وعلى آخر ما أخرجته العقلية الغربية من اختراعات، كل شيء مدروس، وكل خطوة قائمة على التحليل، فحضارة العصر هي حضارة العلم. ونحن في طريقنا نحو العلمية الآن ما زلنا نؤمن «بالعامل المجهول»، مع أن المعركة تطلب حساب كل شيء حتى نكون متأكدين من النصر مائة في المائة، دون أن نترك شيئًا للصدفة أو للحظ. لا نستطيع أن نواجه النظرة العلمية إلا بإلقاء النظرة حتى نلغي من عدونا أحد عوامل تفوقه، ويتأكد نصرنا لو استطعنا القضاء على بعض الجوانب الأسطورية التي ما زالت تتخلل حياتنا الثقافية وسلوكنا الاجتماعي.
  • ثالثًا: عدونا يعرف الواقع، ويدرك طبائع الأمور، ويخطط منذ خمسين عامًا لاغتصاب فلسطين، ويخطط منذ عشرين عامًا لإسرائيل الكبرى. ولن نقف أمامه إلا بعقلية من نوعه، نخطط لإزالة آثار العدوان ولاسترداد الأرض المغتصبة. وتمثل المقاومة الفلسطينية هذه العقلية الجديدة التي تخطط لتحرير الأرض وذلك باتساع طرق المقاومة، من المقاومة والهروب إلى المقاومة والصمود إلى المواجهة الشاملة.
  • رابعًا: نحن أمام عدو يعرف الكثير عن نفسه ويعرف الكثير عنا، وتعطي له أجهزة مخابراته كل ما يطلب، ولا يقيم خطوة إلا بعد حسابٍ دقيق وجمع للمعلومات، يعلم تاريخنا وتاريخه، وينشر ثقافتنا وثقافته، ويضع قواميس لغتنا ولغته، ويدرس ديننا ودينه، ويعلم قدراتنا النفسية ومقدرتنا على التخيل، وقامت الدراسات العلمية الكثيرة في هذه الموضوعات، يقترب النصر إذن بعلمنا بأنفسنا وبه، وبتاريخنا وبتاريخه، وبثقافتنا وبثقافته، ولا يكفي إنشاء معرض للكتب باسم «اعرف عدوك»، بل لا يكفي ترجمة «دائرة المعارف اليهودية» أو «دائرة المعارف الصهيونية»، بل تقوم أقسامنا للدراسات السامية بدراسة تاريخ العبرانيين، وبمعرفة قدراتهم ونفسيتهم وحدود خيالهم وماضيهم وأسباب قوتهم وعوامل انهيارهم، كما فعل سبينوزا اليهودي لبني دينه وقومه، تقام المؤتمرات الدولية السنوية لتاريخ بني إسرائيل وللشخصية اليهودية، ويكفي أن اللغة العربية عند عدونا تكاد تكون إجبارية، واللغة العبرية عندنا مقصورة في أقسام اللغات السامية على عشرة طلاب في الجامعات الثلاث.
  • خامسًا: نحن في مواجهة شعب وجيش يعطي للمعركة كل ثقله. فالمقاتل هو المزارع والتاجر والصانع وأستاذ الجامعة. ويتأكد نصرنا عندما نلقي بكل ثقلنا في المعركة جيشًا وشعبًا، حتى تضيع من حياتنا القومية ثنائية المحارب والمتفرج، المناضل والمشجع، اللاعب والمهيج، العامل والمتكلم. وقد انتصر الشعب الفيتنامي الآن على جيش الحكومة العميلة وعلى جيش الدولة الغازية، كما انتصر الشعب الجزائري على جيش دولة حلف الأطلنطي. فالمعركة الآن ليست معركة الجيوش المتراصة بل هي معركة الشعوب، ومن خلال هذه المعركة يخرج المناضلون، ويتكون الحزب، وينشأ القادة.

(٥) الفلاح في الأمثال العامية٩

هذه محاولة «للتنظير المباشر للواقع» لوضع الفلاح في وجداننا القومي، وتعتمد على تحليل الأمثال العامية كمادةٍ حية وضعها شعورنا التاريخي على مر العصور. فالأمثال العامية تحتوي على صورة الواقع، وهي لا تخطئ كالوحي تمامًا. وهي محاولة هادفة تساهم في الاحتفال بعيد الفلاح لا عن طريق المباركة لما قد تم ولكن عن طريق المبادرة لما سيتم. ومع ذلك فهي مجرد محاولة للتنظير دون أية تطبيقات فعلية، تعبر عن عواطف أكثر من تعبيرها عن تحليلاتٍ علمية؛ ومن ثم فقد تخلو من العمق وتقترب من السطحية. لذلك يمكن وضعها على حساب الأدب الشعبي أكثر من وضعها على حساب العلوم الاجتماعية، أو على أقصى تقدير يمكن اعتبارها دراسة تطبيقية للمنهج الفينومنيولوجي (تحليل الظواهر الشعورية باعتبارها تجارب حية)؛ وذلك بإرجاع الأمثال العامية إلى مضامينها الحية في الشعور الجماعي، فهي محاولة لفهم النصوص عن طريق Sitz im Leben؛ ومن ثم فأهمية هذه المحاولة أكاديمية خالصة.١٠ قد يُختلف في تفسير الأمثال ولكن الواقع الإحصائي هو مقياس الصدق.

فبالرغم من أننا شعب عُرف بكثرة الأمثال العامية التي تعبر عن حكمته وتجاربه وتكون مصدر القيمة ومعيارًا لسلوكه، نجد أن الأمثال العامية التي تتعلق بالفلاح، وهو عصب مصر وقلبها النابض، قليلة للغاية. فمن ٣١٨٨م مثلًا لا توجد إلا ثمانية فقط يذكر فيها اسم الفلاح صراحةً، والباقي تقتبس الصور الريفية من زرعٍ وحصد وري وثروة حيوانية وطير … إلخ، وهي أيضًا لا تتجاوز الثمانين، كلها تعبر عن أوضاع الظلم والطغيان من ناحية، ثم عن حال الفقر والمسكنة من ناحيةٍ أخرى، ثم عن ثورةٍ مكبوتة لا بد من أن تنفجر يومًا، حتى يصير الفلاح صاحب أرضه، وتصبح أرضه له، وتصبح مصر كلها للغالبية العظمى من سكانها وهم الفلاحون الذين «إن عاشوا أكلوا الدبان، وان ماتوا مايلاقوش الاكفان».

إن أهم ما يميز الريف المصري هو تجانسه عبر العصور، ويقال عادة إن الفلاح لم يتغير كثيرًا عن الفلاح المصري القديم بقامته وهيكله، وبجلبابه وبقسمات وجهه، وبعاداته وتقاليده، بشادوفه وطنبوره. ولكن الذي دام معه هو فقره ومرضه وأميته التي لم تستطع مصر بتاريخها الطويل، منذ خمسة آلاف عام وبدولها المتعاقبة وبحكامها على التوالي، أن يتغلبوا على هذا الثالوث المعروف.١١
وتجمِع الأمثال العامية على أن الفلاح قد حكم عليه إلى الأبد بحاله هذه، وكأن يدًا خفية ثبتته على هذا الوضع إلى أبد الآبدين، وهو ما أشير إليه بخاصة الثبات أو الاستمرار.١٢ فالفلاح له أصل لا يغيره «أكل فوله ورجع لأصوله». ومهما تغير الفلاح وتحسن حاله وحسن شكله، فإنه فلاح «ما يغرك تخفيفي، الأصل في ريفي».

وتدل الأمثال العامية التي تشير إلى لفظ «الفلاح» صراحةً إلى حقيقةٍ واحدة تطابق واقعه الأبدي، وهي أن مشكلة مصر هي أنها لم تكن في تاريخها لأبنائها؛ وبالتالي فلم تكن مطلقًا للفلاحين الذين يكونون أكثر من نصف السكان. فالفلاح قد حُكم عليه إلى الأبد بأن يكون تابعًا للأرض لا صاحبًا لها، وقُدر عليه أن يكون عبدًا لغيره لا سيدًا لنفسه. لن يتغير الفلاح وسيظل هكذا إلى الأبد، بل إن التغير مستحيل «إن طلع من الخشب ماشة يطلع من الفلاح باشا». يستحيل على الفلاح أن يصبح صاحب أرض. ويستحيل على العبد أن يصير سيدًا!

ولا تجدي مع الفلاح كل محاولات الإصلاح، فالحال ميئوس منها «عمر الفلاح إن فلح»! حتى ولو نال الفلاح بعض حقوقه من مشربٍ أو مأكل أو ملبس أو مسكن، فإنه يظل فلاحًا؛ أي مستعبَدًا، جاهلًا، مريضًا، ذليلًا، وكأنه قد طُبع على ذلك «الفلاح مهما اترقى ماتروحش منه الدقة». وكان طبيعيًّا أن يتحول وضع خمسة آلاف عام إلى طبع، مهما قُدم إليه من غذاء فإنه يظل سيئ التغذية، ومهما قدم إليه من علاج فإنه يظل مريضًا، ومهما قدم إليه من علمٍ ومعرفة فإنه يظل جاهلًا «وكل الفلاح سنتين تفاح تضربه علقة ينزله جلوين».

ومهما أتى الفلاح من خيرٍ إلى الناس فإنه غير مقبول بشخصه، ومهما حرث وزرع وحصد وقدم محصوله لسكان المدينة فإنه مرفوض لقذارته وجهله ومرضه، يؤخذ منه عمله ويرفض له وجوده كإنسان «يغور الفلاح بزيارته وحمارته».

ويعمل الفلاح بلا أجر، يعمل سخرة، وقد تعمل قرية بأكملها سخرةً ويقع العبء كله على كاهل القرية «العونة (السخرة) يا فلاحين قال من كل بلد راجل». فهذه ضريبة من ساعديه عليه أن يدفعها لصاحب الأرض أو للسلطان أو لفرعون.

إن أقصى ما يطالب به الفلاح هو قوت يومه، أن يكفيه رزقه للعيش، وأن يكون لديه الحد الأدنى منه، ما يستطيع أن يقيم به أوده، فإذا تحقق له ذلك أصبح سلطان زمانه «فلاح مكفي سلطان مخفي».

إن أقصى ما يتمناه الفلاح هو الماء، وأن ينحدر إليه الماء من أعلى حتى يستطيع سقاية الزرع، وتقاس قدرة الفلاح بهذا المقياس «إن كنت فلاح ولك مقدرة على فحلك (الجدول) من ورا». وواضح أن السقاية تتم بالطريقة الطبيعية، بأن يهبط الماء من أعلى إلى أسفل، دون أن يصعد الماء من أسفل إلى أعلى، كما تفعل ماكينات الري. فالماء هبةٌ من الله، وصدقة الإقطاعي، وكالمطر بالنسبة للمزارع في الصحراء «إن نطرت ع السلاح (سلاح المحراث) يا سعد الفلاح». والفلاح يموت دون مائه فالماء حياته «ما يموت ع السد إلا قليل الفلاحة». فالفلاح ينتظر أن يروي الإقطاعيون أولًا، ثم يموت انتظارًا لما يتبقى من ماء ليروي فدانه.

وقبل الثورة كان هناك ألفا إقطاعي يملكون خُمس الأراضي، ويستغلون ثلاثة ملايين من الأُجَراء الزراعيين، ودخل الإقطاعي ستون ألفًا من الجنيهات، وكانت بعض العائلات تملك أكثر من ثلاثين ألف فدان بالمقارنة إلى ثلاثة ملايين من صغار الملاك، ابتداءً من خمسة أفدنة إلى بضعة قراريط، لا يزيد متوسط دخل الفرد على ثمانين جنيهًا هو وأسرته. والملاك كلهم حاليًّا ثلاثة ملايين ويبقى حوالي اثنا عشر مليونًا لا يملكون شيئًا، ويقل دخلهم السنوي عمن يملك نصف فدان أو عن أقل درجة في السلم الوظيفي. وتصوِّر الأمثلة الشعبية وضع من لا يملكون، وهم الغالبية العظمى من الفلاحين «لا بيت ملك ولا طاحونة شرك» أو «لا البيت ولا الغيط»؛ وبالتالي فهو فلاحٌ لا صلة له بما يحدث في الأرض «لا له في الطور ولا في الطحين»، ولا دور له فيما يحدث في بلده.

ويدرك الحس الشعبي الإقطاع الجديد المتستر في الريف «اللي ياكل كباب يبقى ورا الباب». وهذا الإقطاع الجديد هو المتستر في ملاك العشرين فدانًا إلى المائة وهم ١٫٢٪ ويملكون ٢٥٫٢٪ من الأرض؛ أي إن واحدًا في المائة من الملاك يملكون ربع الأرض تقريبًا، وهي الطبقة التي ورثت مجتمع اﻟ ٠٫٢٪ الذي كان يملك ١٠٠ فدان فأكثر؛ أي حوالي ٢٧٪ من الأرض. ومن ثم فقد اتسعت قمة الهرم من ٠٫٢٪ إلى ١٫٢٪ أي حوالي ستة أضعاف. ثم لجأ الإقطاع الجديد إلى تحويل الأرض إلى بساتين من ٩٤ ألف فدان سنة ١٩٥٢م إلى ١٧٨ ألف فدان سنة ١٩٦٥م وهي زيادة بنسبة ٩١٪.

فإذا كانت المساحة المزروعة ستة ملايين فدانًا، وكان لدينا من الأجراء الزراعيين اثنا عشر مليونًا يكون نصيب كل فلاح أجير نصف فدان، وهذا هو الإصلاح الزراعي المنتظر. وإذا كان متوسط دخل الفدان مائة جنيه سنويًّا على أحسن تقدير. كان نصيب الفلاح الأجير من الدخل القومي ما يعادل خمسين جنيهًا أقل من نصيب دخل أقل موظف في السلم الوظيفي. وعلى هذا النحو أصبح كل من يملك أكثر من نصف فدان إقطاعيًّا يسرق غيره. فصاحب الفدان يأكل خبز فلاح آخر، وصاحب الخمسة أفدنة يأكل خبز عشرة أجراء زراعيين، ومالك المائة فدان يأكل خبز مائتين!

ويمكن لكل فلاح أن يزرع نصيبه من الأرض وهو نصف فدان، دون حاجةٍ إلى إدخال الآلات الحديثة التي تفيد في حالة نقص الأيدي العاملة، وهذا ما يحدث في الريف المصري؛ لأن الزراعة الآلية يمكن أن تستغني عن أربعة أخماس المزارعين؛ أي عن عشرة ملايين فلاح أجير، ولا يمكن للصناعة الآن أن تستوعب هذا العدد.

ويمكن ضم الأنصاف أفدنة في مزارع جماعية داخل قرية يشرف عليها الفلاحون أنفسهم، ويتم بعدها تقسيم الدخل عليهم، والريف مهيأ نفسيًّا لهذا النوع من المزارع الجماعية، كما تدل الأمثلة الشعبية «زي قواديس الساقية، الصغير يشخ ع الكبير» أو «زي قواديس الساقية المليان يكب ع الفارغ» أو «الزرع زي الأجاويد يشيل بعضه».

وحتى في ظل الحكومات الوطنية كانت مصر للبورجوازية الوطنية، ولم تكن لمجموع الفلاحين الذين يبلغون حوالي ١٧ مليونًا من المواطنين؛ أي أكثر من نصف عدد سكانها. ولم يحدث مرةً واحدة في تاريخ مصر أن وجه الاقتصاد الوطني لصالح الغالبية العظمى للسكان. ولم يحدث مرةً واحدة في تاريخ مصر أن وزعت الدخول طبقًا لأصحاب المصلحة الحقيقية وطبقًا للعمل وحده. والفلاح أكثر عملًا من العامل، فإنه يعمل في الحقل من الشروق إلى الغروب في أسوأ ظروفٍ ممكنة بالنسبة لأترابه من المزارعين في شتى أنحاء العالم. فالأرض بالنسبة له هي عرق وجهد «الأرض مش شهاوي دي ضرب ع الكلاوي».

ومع ذلك فنصيبه من الدخل القومي أضعف الأنصبة خاصة بالنسبة إلى تجار الجملة وملاك العقارات والمقاولين والمغنين والراقصات.

ولم يحدث مرةً واحدة في تاريخ مصر أن وعت الفئات الاجتماعية الأخرى بمشكلة لمن خير مصر؟ ولصالح من يتم توزيع الدخل؟ فقد كان وضع العمال الطبقي هو نفس وضع الفلاحين، خاصةً وأن العمال الزراعيين يربطون بين الفئتين. ولكن الوعي العمالي الطبقي كان أسرع تكوينًا وإدراكًا من وعي الفلاحين في الريف، فبدءوا في أوائل القرن بتكوين وعيٍ طبقي منفصل، واستطاعوا الحصول على امتيازاتٍ طبقية، واقتربوا من طبقات الموظفين في المدينة، وابتعدوا عن طبقة الفلاحين ومجتمع الريف. أما الطبقات المثقفة فلم تعِ حتى الآن وضع الفلاحين، وما زالت أسيرة طبقتها في تفكيرها، وما زال التخطيط يتم لصالح الأقلية المسيطرة، والطبقات السائدة، ومن بيدهم السلطة وأخذ القرارات، في حين أن ٦٢٪ من سكان مصر يشتغلون بالزراعة. وقد قيل إن أهم ما يميز مصر هو التجانس والوحدة، في حين أن أهم ما يميزها هو أن هناك عدة أمصار داخل مصر، كل منها يمثل دائرة مغلقة، وكل منها تعيش بطريقتها الخاصة: الريف والمدينة، الأمي والمتعلم؛ ومن ثم فلم تكن مصر في يومٍ من الأيام ملكًا لأبنائها؛ فقد توالى عليها الغزاة الطامعون من الخارج أو المستعبدون من الداخل، لم تذهب خيرات مصر قط إلى سكانها، بل كانت دائمًا بقرة حلوبًا لغيرهم، فهم في نفس الوقت غرباء عنها، يأنسون بها، لا تعطيهم شيئًا ويرونها «أم الدنيا».

لم يحدث مرةً واحدة في تاريخ مصر أن ساوى مجتمع القرية مجتمع المدينة؛ فقد حرمت القرية نفسها من زراعتها وأرسلتها إلى المدينة، وأخذت المدينة كل حقوقها من ماء نقي للشرب، ومجارٍ للتصريف، وكهرباء للإنارة، وخدمات عامة، وتخلفت القرية، وشرب الفلاح ماء النيل المطمى ونزح منزله كلما طفح، واستضاء بمصباحه الزيتي، في حين أنه لا يتعدى سكان المدن أكثر من ربع سكان مصر، حوالي ٢١٫٥٪ من تعداد السكان.

وكان طبيعيًّا أن ينشأ من هذا الوضع كثيرٌ من الأمثلة الشعبية عن الوضع الطبقي في مصر: «إيش جاب التين للتنين، وإيش جاب الترعة للبحر الكبير، وإيش جاب العبد لسيده؟ قال: لده طلعة ولده طلعة». واستُعملت الصور الريفية عن استغلال الإقطاع للفلاح، فمن يبدأ في أخذ المحصول ينتهي إلى أخذ الأرض ذاتها: «اللي ياخد البيضة ياخد الفرخة»؛ فقد أصبح المحصول في ذهن الفلاح ملكًا للغريب، «أردب ما هو لك ما تحضر كيله؛ تتغبر دقنك وتتعب في شيله». كما أصبح كل ما يزرعه الفلاح نقمة عليه «وما تغرسه إيديه ينقلب عليه». ويكون جزاء الفلاح هو جزاء سنمار «ازرع ابن آدم يقلعك». وأصبح جهد الفلاح ضائعًا، ما يجمعه في سنة يضيع منه في لحظة «اللي تجمعه النملة في سنة ياخده الجمل في خفه». تعبر هذه الأمثلة عن صورة الطغيان في الريف بالصور الريفية نفسها؛ فالنملة هي الفلاح الضعيف والجمل هو الإقطاعي الكبير. أصبح المحصول غريبًا على الفلاح كما أصبح الفلاح غريبًا على محصوله «إيش لك في الحبوب يا جعبوب». ويفرح الفلاح حين الحصاد ولكن المحصول ليس له: «يا فرحة العولا (الوضيع الذي يعيش عالة على غيره) يلم الزرع لاصحابه». فإذا حدث وأخذ جزءًا من محصوله فإنه يعلف به مواشيه، أو ينفقه على أرضه وسماده «اللي يعمل به الجدي يعلق به الحمار».١٣

وفي مقابل هؤلاء المعدمين هناك الإقطاعيون الذين يملكون كل شيء: الأرض، والماء، والطاحونة «ماخلاش في القناني شراب». والإقطاعي هو الواحد، والفلاحون هم الكثير، فالله واحد والخلق كثير «الجزار مايخافش من كتر الغنم». ومهما تظاهر الإقطاعي بتحسين حال الفلاح فإنه في الحقيقة لا يرمي من وراء ذلك إلا مصلحته الخاصة، شراء صوته في الانتخابات أو تكوين عصبة له؛ لأن «الحداية ماترميش كتاكيت». وأصبح الفلاح تابعًا للإقطاعي في حياته ورزقه وصوته وأصبح «زي قواديس الساقية مشنوق من رقبته ورجليه». وبالرغم من أن نظام السخرة قد ألغي سنة ١٩٨٣م، فإنه قد عمل به وقت الفيضان أو الدودة أو الجراد أو لحساب الإقطاعي. ومهما قدم الإقطاعي من إنجازاتٍ للفلاحين فإنه يعطيهم قيراطًا ويأخذ عشرة، ولمَ لا ما دامت الزكاة واحدًا على أربعين من الدخل، لا تزيد على ٢٫٥٪، وما دامت الصدقة ليست لها حد أدنى «قالوا شكرنا غنام طلع حرامي». فالجمعية التعاونية أتت للتسويق، والفلاح ما زال يشتكي من موظفيها، ولجان العشرين كُونت لتحرير الفلاحين من سيطرة الإقطاعي، ولكن تسلل إليها الإقطاعيون القدامى والجدد، كما حدث في كثيرٍ من الحالات، وصدرت قرارات بحل اللجان كما صدرت قرارات من قبل بتشكيلها!

ويحمي الإقطاعي الكبير الإقطاعي الصغير، والدولة على رأس هذا الهرم الإقطاعي كله والحامية له، ولا ينتظر أن تكون الدولة في جانب الفلاح «هي القطة تاكل ولادها».١٤
وفي هذا الوضع أصبح السلوك الأمثل هو الطاعة «اربط الحمار مطرح ما يقول لك صاحبه». وأصبح الفلاح «أقرب م المعزة للرباط» يفعل ما يؤمر به. والطاعة تقوم على الجهل، والجهل يغذي الطاعة ويقويها «إن دخلت بلد تعبد عجل حش واطعمه»، فالفلاح يساير الناس ويعطي صوته للعمدة وهو ما يطلب منه. ومع الطاعة يدخل الإيمان بالقضاء والقدر والبخت والنصيب «قيراط بخت ولا فدان شطارة». وقد أدى هذا الوضع أيضًا بالفلاح إلى الذل والمسكنة والرضا بالضيم «إن عضني الكلب ماليش ناب اعضه، وان سبني الندل ماليش لسان اسبه». كما انتهى بالفلاح إلى تملق السيد «إن كان لك حاجة عند الكلب قول له يا سيد» فهذه حيلة العاجز. ووقع الفلاح في السلبية المطلقة «بأيده ولا بالمنجل» مع أن اليد القابضة على المنجل قد أصبحت في الدول الاشتراكية رمزًا لثورة الفلاح.١٥
والفلاح المصري من أشد فلاحي العالم سوءًا للتغذية، حافي القدمين، جلبابًا واحدًا في السنة، ينزل هو وماشيته في دارٍ واحدة، لا يرى اللحم إلا مرتين في السنة، عيد الأضحى وأحد الموالد المحلية، وفاءً لنذرٍ أو قدومًا لضيف أو سقوط دجاجة من أعلى السطح! … ونظرًا لمقدار الجهد المبذول، واعتمادًا على العمل اليدوي دون الآلة فإن سوء التغذية يتحول لديه إلى جوعٍ حقيقي.١٦ وكل ما يرجوه الفلاح هو ما يقيم به أوده لا يطلب أكثر من ذلك «اللي عنده عيش وبله عنده الفرح كله». ويقوي فيه ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بالطبقات إيمانًا دينيًّا، وبأن الناس ينقسمون بالطبيعة إلى فلاحٍ وموظف حكومي! الخبز وحده هو ما يقيم الأود ولا شيء سواه، وهو أقصى ما يبغي الفلاح «إن حضر العيش يبقى المش شبرقة». وكذلك في الملبس يرضى الفلاح بأقل القليل، بأسوأ لباسٍ ما دام يعيش «إن لبست خيشة برضه عيشة». وتكون مهمة الزرع هي الكفاية لا الغنى؛ أي القوت لا الحياة الناعمة «الزرع إن غنى ستر».

ويتمثل الفقر في دين الفلاح؛ فكثيرًا ما يحدث أن يخرج الفلاح مديونًا بعد جهد عام في شق الأرض، وكأنه يعمل في سخرة بقوت يومه الذي تكفله له الأرض، الحقل والقناة، حتى أصبح الدين مرتبطًا في ذهنه بالزرع «داين وازرع ولا تداين وتبلع». فإذا صرف الفلاح قرشًا يقال له «لكن تضيع وتبعزق ولا تخلي فلوس واحنا خايفين ينكسر عليك مال السلطان». فالسلطان له حق في مال الفلاح كله، ومال الفلاح هو وديعة السلطان لديه! ويرد الفلاح: «وأنا مكسور عليَّ من مال السلطان قرشين» فكل مال الفلاح دين عليه للسلطان. وتزيد الضرائب عليه وهو لا يجد قوته، وتفرض عليه الجباية الجديدة وهو لا يجد الخبز «قالوا الجمل اعقلوه قالوا هو قايم بطنه».

وقد أدى الفقر بالفلاح إلى القناعة والاكتفاء بأقل القليل وضياع روح الثورة والطموح «إن فاتك لبن الكندوز عليك بلبن الكوز (الماء)» في مقابل ساكن المدينة الذي يغلب عليه التطلع الطبقي، والذي يصبح ويمسي على أمل الصعود درجة أسوة بمن فوقه، وأصبح الفلاح «من عيلة أبو راضي، المشنة مليانة والسر هادي». أصبح دواء الفلاح ليس الثورة بل زيادة في الإرهاق وإمعانًا في الذل «جمل بارك من عياه قال حملوه يقوم!». وأصبح الفلاح يلعن الغلاء والفقر «الله لا يرجع الغلا ولا كياله» ويلجأ إلى الله ويعزي نفسه بالقدر.

والأمية هي الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس: الفقر والجهل والمرض، وهي الأمية الأبجدية أولًا حتى يمكن بعد محوها أن يتصل الفلاح اتصالًا مباشرًا بالفكر، وأن يمارس الفهم ويتعلم التفسير، ويصيب ويخطئ في تعامله مع المكتوب. وفي مثل هذه المجتمعات التقليدية يمكن محو الأمية الحضارية بالطريق الشفاهي عن طريق السماع كما كان القدماء يفعلون. ويمكن لوسائل الإعلام الحديثة المساهمة في هذا الطريق بعد توجيهها لخدمة الأغلبية. وبالأمية استطاع الإقطاع أن يسوق الفلاحين كما يريد «اللي بيقول حه يسوق العجول الكل». وقد استطاعت كوبا أن تمحو الأمية من الريف في عام واحد أغلقت فيه المدارس والجامعات، ونزل الجميع إلى الريف. وما أيسر ذلك خاصةً وأن الجامعات يتخرج منها عشرات الألوف، ينتظرون التوظيف عامًا حتى يتم توظيفهم عن طريق القوى العاملة.

والمرض هو الأقنوم الثالث من الثالوث المقدس، وهو يمثل حلقة مفرغة في الريف إذ تصرف الدولة ملايين من الجنيهات للقضاء على البلهارسيا، ثم تعود من جديد من الحفاء أو شرب ماء النيل أو الاستحمام في القنوات، مع أن استعمال طرق الوقاية أقل تكلفةً وأقصر طريق للشفاء. وفي الريف ٩٠٪ من الفلاحين مصابون بالبلهارسيا، ٦٥٪ مصابون بالملاريا، ٦٪ مصابون بالعمى الكامل. ومع ذلك فهناك ٨٠٪ من الأسرَّة في المدن!

وبالرغم مما يتم في كل عصر من تحسينٍ لأحوال الفلاح فإن وضعه العام ما زال كما هو، لم يتغير كثيرًا؛ لأن هذا التحسين لم يأتِ بثورةٍ داخلية من الفلاح نفسه بل كهبةٍ من الحكومة له، يقاطعها الفلاح لأن صورة الحكومة لديه هي صورة الملتزم والباشا الإقطاعي والمشرف الزراعي والمهندس وموظف الجمعية التعاونية وأمين الاتحاد الاشتراكي والخفير والعمدة وناظر المحطة وساعي البريد؛ فهو يقاطع مراكز الخدمة الاجتماعية ونوادي الريف وقصور الثقافة، الفلاح كما هو لم يتغير، يعمل بالدين، ويجري وراء قوت يومه «قالوا ابو فصادة بيعجن القشطة برجليه قال كان يبان على عراقيبه».

ولن تجدي أنصاف الحلول شيئًا: فالحل في مشكلة الأرض ذاتها التي ما زالت باقية: اثنا عشر مليونًا من الأجراء الزراعيين لا يملكون شيئًا، ومن يملكون أكثر من عشرين فدانًا حتى المائة في الغالب يقطنون في المدينة وأصحاب المناصب العالية، فلا تجدي الإصلاحات الجزئية شيئًا في إعادة توزيع الدخل بين الفقراء مرة أو بين الأغنياء مرة، ولكن لم يحدث حتى الآن توزيع الدخل بين الفقراء والأغنياء: «قالوا للجمل زمر قال لا شفايف ملمومة ولا صوابع مفسرة».

والآن، إن قصة الأرض في مصر هي قصة الطغيان.١٧ فالأرض لم تكن للفلاح أبدًا بل كانت ملكًا للإقطاعي، في صورة فرعون أو لمحمد علي أو ممثله أو للإقطاعي الكبير أو الصغير. وحتى الآن فإن خريطة ملكية الأرض في مصر تدل على تسطيح الإقطاع بعد تعميقه، وهو ما يسمى بالإقطاع الجديد الذي يتمثل فيمن يملكون، ابتداءً من عشرين فدانًا حتى مائة وهم يمثلون ١٫٢٪ من الملاك ويملكون ٢٥٫٢٪ من الأرض؛ أي إن عُشر الملاك يملكون ربع الأرض! ومن يملكون من خمسةٍ إلى عشرة فدادين يمثلون ٤٫٣٪ من الملاك ويملكون ١٧٫٧٪ من الأرض؛ أي إن أقل من ٥٪ من الملاك يملكون حوالي خُمس الأرض. أما من يملكون أقل من خمسة فدادين فإنهم يمثلون ٩٤٫٥٪ من الملاك ويملكون ٥٧٫١٪ من الأرض؛ أي إن تسعة أعشار الملاك يملكون نصف الأرض! لقد كان عدد الملاك قبل الإصلاح الزراعي سنة ١٩٥٢م حوالي ٢٫٨٠١ مليون من الملاك، وأصبح سنة ١٩٥٦م ٣٫٢١١ مليون من الملاك؛ أي لم يزد عدد الملاك أكثر من نصف مليون مع أن المعدمين حوالي اثني عشر مليونًا!

وإن ما يهدد الريف الآن خطورة الإقطاع الجديد؛ إذ يعامل المالك حتى ولو كان بضعة قراريط الأجير، كما يعامل الإقطاعي الكبير المالك الصغير، ويقوم بتمثيل دور الإقطاعي القديم على المالك الصغير، كما يعامل صاحب الخمسة أفدنة من يملك أقل منه معاملة الإقطاعي الكبير، ويعامل مالك العشرة أفدنة من يملك أقل منه معاملة الإقطاعي، ويعامل مالك العشرين فدانًا من هم أقل منه معاملة الإقطاعي … إلخ. ويستمر الإقطاع القديم في صورةٍ جديدة من حيث البناء النفسي.

هذا بالإضافة إلى الملاك الغائبين الذين يقطنون المدينة، ويزاولون مهنًا أخرى غير الزراعة، فيأخذون من الدخل القومي مرتين بحكم الوظيفة؛ فهم ملاك في القرية والملكية وظيفة، وهم موظفون في المدينة وتلك وظيفة ثانية. فإذا كانوا يملكون مائة فدان في القرية فإنهم يستحوذون على الدخل القومي لمائتي فلاح أجير، وإذا كانوا في نفس الوقت موظفين في المدينة في الدرجة الأولى فإنهم يستأثرون بالدخل القومي لعشرة موظفين في المدينة، وإن كانوا رؤساء مجالس إدارات أو مديرين أو رؤساء دور الصحف فإنهم يستولون على الدخل القومي لأكثر من خمسين مواطنًا في المدينة! وساكن المدينة مثل الأجنبي يطرد أصحاب الأرض، ثم يستعملهم أجراء «حداية من الجبل تطرد أصحاب الوطن».

ولما ارتبط الفلاح بالأرض، وسقط عليها عرقه، وسال فيها دمه وتوارى فيها جسده؛ فهو قطعة من الأرض وهي جزء منه. أما المالك الغائب الموظف بالمدينة الذي لم تطأ قدماه الأرض إلا سياحة، ولم تشق سواعده التربة فهو غريبٌ على الأرض، دخيل عليها. وقد عبر الحس الشعبي عن هذا الأمل الدفين «الأرض لمن يفلحها» قائلًا: «اللي غيطه على بابه هنيا له». فالملكية وظيفة لا يمكن لمحافظ أو مدير أو موظف أن يمتلك قيراطًا؛ لأنه في هذه الحالة تكون له وظيفتان، والأرض ليست مكانًا للاستثمار؛ فالمال لا يولد المال، والاستثمار دون جهد هو استغلال وتوظيف للآخرين، ولا يقال إن صاحب رأس المال يهتم ويدور على المستأجرين، ويجمع ويقاضي ويحاسب لأن العمل هو العمل في الحقل، لا بد أن يكون من نوعية الإنتاج. وقد وعى الحس الشعبي أيضًا أن من زرع شيئًا يحصده لنفسه «اللي تزرعه تقلعه»، وكذلك «ازرع كل يوم تأكل كل يوم»، وأيضًا: «إن كان زرعك استوى بادر واحصده». فالأرض لمن يفلحها، ولا تنتج الأرض إلا لمن يعمل عليها «الأرض تضرب ويَّا اصحابها»، ومن يعمل هو الذي يأكل، ومن تغوص قدماه في الطين هو صاحب المحصول لا ساكن المدينة.

إن مشكلة الأرض في جوهرها هي مشكلة سياسية قبل أن تكون مسألة اقتصادية، فهي مشكلة تحرير الفلاح وإعطاء أرضه له، وتوزيع الأراضي الجديدة للمعدمين أو للأجراء الزراعيين من شأنه ربط هؤلاء بالأرض، وبعبارةٍ أدق إعطاؤهم الأرض التي عملوا عليها وهم أجراء. بذلك يتم التحرر السياسي، ويتحقق تحرير الفلاح من الإقطاع القديم والجديد، وتؤدي الأرض وظيفتها في إشعار الفلاح بأن الأرض له وبأن مصر له. ويمكن بعد ذلك أخذ مستوى الإنتاجية في الاعتبار، وضم الملكيات الصغيرة في مزارع جماعية في صورةٍ تعاونية أو غيرها. ومن ثم يتغير البناء النفسي الذي ورثه الإقطاع الجديد من القديم، وينشأ بناءٌ جديد وهو أن الكل عمالٌ في الأرض، مواطنون في الدولة.

والحس الشعبي يعلم أن الوعود كثيرًا ما تضيع هباء، وكثيرًا ما تندر على خطب العرش «وستعمل حكومتي على …»، وكثيرًا ما سمع عن بناء القرية وعن إدخال الكهرباء والمياه النقية والمدارس والمستشفيات والمطافئ، حتى ألِف هذه الوعود وردَّ عليها بقوله: «اديني اليوم صوف وخد بكره خروف». كذلك يدرك الحس الشعبي أن تحقيق ذلك كله لا يتم بالتمني «زرعت شجرة لو كان وسقيتها بمية يا ريت طرحت مايجيش منه». ويتمنى الفلاح لو أصبح قيراطه فدانًا وبلحته نخلة وشجرته بستانًا «اشترى بدرهم بلح بقى له في الحي نخل»، ويتم للإقطاعي ذلك بالفعل بالطرد والتشريد ووضع اليد.

ولكن بعض الأمثلة الشعبية تدل على أملٍ في التغيير بمعجزة ستكون حادثة العصر بالفعل، ويؤرخ بها عصر جديد، ويكون هناك عصر ما قبل الفلاح وعصر ما بعد الفلاح، وسيأتي هذا العصر عندما يتحرر الفلاح من الخوف أولًا؛ فالإقطاعي لا يستطيع أمامه شيئًا، وعندما يتكلم ويقاوم «اللي يخاف من الرسة مايربيش كتاكيت». وما دام الزرع يجهد الفلاح فلن يقوى أحدٌ على سلبه منه «اللي يزرع مايخافش من العصفور». وقد صرخ الأفغاني من قبل «عجبت لك أيها الفلاح المصري، تشق الأرض بفأسك، فلماذا لا تشق بهذه الفأس رءوس ظالميك!». وليس من الصعب القضاء على الإقطاع في الريف فقد قضت الثورة على مجتمع النصف في المائة الذي كان يملك خمس الأراضي. ولا يستمر الإقطاع مع ثورة الفلاحين «ولا شجرة إلا وهزها الريح». فإذا كان الإقطاع قويًّا في الريف فثورة اثني عشر مليونًا من المعدمين أكثر قوة «يا حداية الصقر وراكي».

ولما كان الإقطاعي يستعمل القوة كما حدث في قرية كمشيش وغيرها من القرى، لأن «الفرخ العريان يقابل السكين»؛ لذلك لزمت المقاومة الفعلية للإقطاع. يود الإقطاعي أن يكبل المعدمين إلى الأبد «عقال البهيم رباطه»، وأصبح المثل سائرًا «قيد بهيمك يبقى لك نصه، اربطه يبقى لك كله».

ويعبر كثيرٌ من الأمثلة الشعبية عن الثورة الكامنة في نفوس الفلاحين، فلا يتم خلاص الفلاح بترك الأرض وهجرته عنها بل بثورته على الإقطاع «قالوا للعبد سيدك راح يبيعك قال يعرف خلاصه، تهربش قال اعرف خلاصي». كما تطالب كثيرٌ من الأمثلة الشعبية وتدعو الفلاح إلى المطالبة بالحياة الكريمة ورفض الذل والهوان «العيش من العيش والدناوة ليش». فإذا اتهم الفلاح بسرقة الإقطاعي وبالتعدي على ملك غيره، فعليه بالثورة والمقاومة الفعلية «إن سموك حرامي شرشر منجلك». والثورة عاجلة فقد صبر الفلاح أكثر مما ينبغي «قضيت العمر في قهر هو العمر كام شهر». وقد نضجت الثورة الآن «العيش مخبوز والميه في الكوز».

وثورات الفلاحين ليست غريبة على الأرض؛ فقد قام الهوارة بالثورة قبيل قدوم نابليون ووزعت الأراضي عليهم، وانفصل الصعيد، كما حدثت من قبل ثورة القرامطة وثورة الزنج، ويزخر التاريخ الوطني بثوراتٍ أخرى مماثلة مثل ثورة عبيد القاهرة، والثورة المهدية، وثورة ابن الفلاح الشعشاع. وقد قام العربان بثوراتٍ زراعية، وقام فقراء المدن بثورات العوام، وقام عبيد القاهرة بثورة الحرافيش. وثورة الفلاحين ليست بدعًا فقد قامت الثورات المسلحة على أكتاف الفلاحين في روسيا والصين وفيتنام وكوبا. وأصبح الفلاحون الآن هم قاعدة الثورة وقادتها. ويصرخ الآن الريف المصري معلنًا أخذ زمام المبادرة «كل الجِمال بتعارك إلا جملنا البارك».

ويحتوي الريف في العالم الثالث على إمكانياتٍ ضخمة للثورات المسلحة، فالفلاح مرتبطٌ بالأرض كارتباطه ببندقيته، والتوفير من أجل شراء الجاموسة لا يكثر في شيء عن التوفير لشراء السلاح. فالسلاح هو وسيلة الدفاع عن أرضه ضد جيرانه ما دام لا يستطيع مقاومة السلطة، وهو الوسيلة للدفاع عن شرفه، وقد استعمله بالفعل ضد الطغيان في ثورات الريف.١٨

وبالثورة يمكن تحويل الوهم إلى واقع، وتتحول حلقات المصاطب والتدخين إلى لقاءات للوعي والتثقيف. وتلك مهمة طليعة المثقفين الذين يتخلون عن مناصبهم، وينزلون للريف ويتعلمون منه، كما ترك كاسترو المحاماة ونزل إلى الريف، وكما ترك غيفارا الطب وغاص في الأحراش.

في ذلك الوقت تصبح السلطة للأغلبية، وتحدث نقطة التحول الخطيرة في تاريخ مصر كما تحول مجرى النيل، وتقوم دولة الفلاحين والعمال الذين يكونون ثلاثة أرباع الشعب إن لم يكن كله؛ لأن كل من يعمل فهو عامل، فالفلاح عاملٌ في الحقل، والعامل عاملٌ في المصنع، والمثقف عاملٌ في الفكر، والجندي عاملٌ في الميدان، والموظف عاملٌ في الإدارة؛ أي إنها دولة الطبقات الكادحة، ولا يقال إن الفلاحين ضعفاء؛ فهم الغالبية العظمى من الشعب ولديهم إمكانيات الثورة.

ومن ثم لا تكون مصر «أرض المتناقضات» بل أرض المتجانسات، ويأخذ التجانس الحضاري مضمونه الاجتماعي والسياسي.١٩
١  الآداب، العدد ١١، نوفمبر ١٩٦٩م.
٢  رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ص٨١-٨٢، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، سنة ١٩٤٨م.
٣  ديسمبر ١٩٦٨م، كان عنوان المخطوط «الشيخ إمام إمام المثقفين»، ولكن رئيس التحرير غير العنوان وضغط المقال!
٤  كُتب هذا المقال بعد رحيل جمال عبد الناصر ردًّا على التساؤل: من الذي سيملأ الفراغ؟ ولكن رئيس تحرير مجلة «الكاتب» خشي منه وركن المقال، وبعد أن قامت «حركة مايو ١٩٧١م» وجرى الحديث عن دولة المؤسسات طُلب مني نشر المقال فرفضت.
٥  انظر «عن اللامبالاة، بحث فلسفي»، في هذا الكتاب.
٦  انظر تحليل الشعارات ومضامينها في كتاب ماركيوز «الإنسان ذو البعد الواحد».
٧  انظر د. فؤاد زكريا: اشتراكية العالم الثالث، نظرة نقدية، الفكر المعاصر، أكتوبر، سنة ١٩٧٠م.
٨  كُتب هذا المقال في الذكرى الأولى ليونيو الحزين سنة ١٩٦٨م، كرد فعل على ما كان يُكتب في صحافتنا الرسمية في ذلك الوقت ولم يُنشر من قبل.
٩  كُتب هذا المقال سنة ١٩٦٩م على ما أذكر بناء على طلب مجلة «الطليعة» احتفالًا بعيد الفلاح، ولكنه لم ينشر، دون إبداء أسباب، وهذه صياغة ثانية للمقال من المسودة لأن الصياغة الأولى لم تُرجع إليَّ.
ومصدرنا للأمثال العامية هي المجموعة الممتازة لمحمود تيمور: الأمثال العامية.
والإحصائيات من كتاب الجيب السنوي للإحصاءات العامة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ١٩٦٦م.
١٠  من المراجع التي تظهر فيها عيوب المناهج التاريخية والاجتماعية:
H. C. Ayrout: Fellahs d’Egypte.
W. S. Blackman: les Fellah de la Haute-Egypte.
J. Berque: Histoire sociale d’un village egyptien au xx siècle.
١١  يقول الشيخ الشربيني في «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»: «إن أهل الريف طبعهم كثيف، وأخلاقهم رذيلة، وذواتهم هبيلة، ونساؤهم مزعجات، وذلك من كثرة معاشرتهم للبهائم، وملازمتهم لشيل الطين، وعدم اختلاطهم بأهل اللطافة، وامتزاجهم بأهل الكثافة، كأنهم خلقوا من طينة البهائم، فهم ملازمون للمحراث، دائرون حول الزرع، غاطسون في الجلة والطين، غير مكترثين بالصلاة والدين، لا يعرف الواحد منهم غير الساقية والفارقلة، وشيل الطين والجلة، والعياط والغارة، والطبلة والزمارة، إذا أقاموا الأفراح لا تكون إلا بالعياط والصياح، وشاهدنا كثيرًا من أفراحهم، وما يقع فيها من عدم نجاحهم. إن حصل منهم الكرم بالاضطرار.» عن أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، الفلاح، ٣١٠-٣١١. ويقول أيضًا: «ولكن نحمد الله الذي أراحنا من الفلاحة وهمها، ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا، فلا الأجناد تطلبني بحال ولا الديوان يغلط في عدادي … فالفلاحة على كل حال بلية.» عن مقال عبد الجليل حسن: «صوت الصامتين يعلو»، مجلة الكاتب، أغسطس، ١٩٦٤م.
١٢  الأب عيروط: «الفلاحون»، ١٢–١٦، وأيضًا جمال حمدان: «شخصية مصر».
١٣  يتحدث الشيخ الشربيني عن الملتزم قائلًا: «والفلاح يربي الدجاج وقد لا يأكل منه شيئًا، ويحرم نفسه وعياله من خوفه من الضرب والحبس، ومثل الدجاج السمن فيبقيه لأجل هذه البلية.» المقال المذكور، ص١٤٠.
١٤  لا يعرف تاريخ مصر من ينكر أن الطغيان والبطش من جانب، والاستكانة أو الزلفى من الجانب الآخر هي من أعمق وأسوأ خطوط الحياة المصرية عبر العصور … جمال حمدان: شخصية مصر، ٤٧.
١٥  وإذا قلنا الأوتوقراطية «فقد قلنا جرثومة الطغيان»، نفس المصدر، ص٥٢، «وليس يقصد بالفرعونية في هذا فرعون وحده بطبيعة الحال بل وتلك الشرنقة الكثيفة من الإقطاع والكهان والموظفين من القمة حتى «شيخ البلد»، فكان هيكل المجتمع يتحلل في عناصره الأولية إلى: ملكية أوتوقراطية طاغية تعتمد على أعمدةٍ ثلاثة: لاندوقراطية، إقطاعية عامة (ملاك الأرض)، ونوقراطية إقطاعية هي الأخرى متورمة (رجال الدين) إلى جانب بيروقراطية منتفعة متضخمة، والكل يقوم على قاعدةٍ عريضة من بروليتارية فلاحية مسحوقة. نفس المصدر، ص٥٤.
«كان الإقطاع هو القاعدة الأصولية والاستغلال المطلق هو الأمر اليومي. ولقد كانت السخرة والكرباج والتعذيب من وسائل الإرهاب منذ الفراعنة وحتى العثمانيين، وكانت تتدرج على كل المستويات ابتداءً من الحاكم خلال الباشا والعمدة حتى الخفير النظامي.» نفس المصدر، ص٥٥.
«فمن ناحيةٍ بحث الفلاح عن التعويض عن المياه في الحياة الأخرى، فكان الدين ملجأه ومهربه … ومن ناحيةٍ أخرى كانت الحياة الجديدة تعويضًا عن الحياة الجديدة.» نفس المصدر، ٥٩.
١٦  أما الفلاح في نظر الحكومة فهو يظل دائمًا القاصر الذي ينبغي أن تأمره بكل شيء، والعاجز الذي يجب أن تنوب عنه.» عيروط … ص٣٥.
١٧  هز القحوف، ص٥٧ … جمال حمدان: شخصية مصر ص١٢.
١٨  الأمثلة كثيرة في: لويس عوض: «تاريخ الفكر المصري الحديث».
١٩  جمال حمدان: شخصية مصر، ص١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤