المتمدنون المتوحشون
من القصص التي تركت في ذهني أثرًا حيًّا قويًّا لما فيها من الدلالة لحياة الكثيرين منا، قصة لمؤلف أوروبي نسيت اسمه، وموضوعها أولئك المتمدنون المتوحشون الذين يتخذون زخارف الحضارة، ولكنهم في أعماق قلوبهم وحوش تفترس ولا ترتفع إلى معنى الإنسانية.
والمؤلف يعقد فصلًا، أو منظرًا، يجتمع فيه طائفة من هؤلاء المتمدنين حول مائدة، وقد زها كل منهم في حلة غالية تدل على الثراء والوجاهة، كما أن السيدات تتلألأ عليهن الجواهر وتصرخ فساتينهن بالألوان، والجميع يتحدثون في لغة مهذبة، يجامل بعضهم بعضًا بالابتسامات والإيماءات التي تنطق عن عناية سابقة في تدريبهم على مثل هذه الاجتماعات.
أما المائدة فكانت تكتظ بالآنية الفاخرة والأزهار النضرة والأنبذة الرحيمة، ويتوسط المائدة طبق كبير عليه اللحم الذي يمزقونه ويتناولونه فلذة بعد فلذة يأكلونها في تأنق يدل على تمدنهم.
ولكن هذا اللحم لم يكن لحم الضأن أو لحم البقر، وإنما كان لحم طفل بشري قد طُبخ وهُيِّئ بالتوابل، وأُنضج بالزبد والمرق، وكان كل ما يهتم به هؤلاء المتمدنون أن يتناولوا لحمه فوق القواعد المرسومة لآداب المائدة، أما هذا الطفل البشري المبسوط أمامهم، المطبوخ على النار، فلا يسألون عنه.
وهنا المغزى الرمزي لكثير من أولئك المتمدنين المتوحشين، الذين لا يبالون أن يعيشوا في ترف، يأكلون أشهى الأطعمة، ويلبسون أجود الأقمشة، ويتأنقون في سلوكهم ولكنهم لا يبالون العائلة الفقيرة التي استخدموا أعضاءها فجمعوا منها أموالهم وحرموها من الغذاء الكافي أو المسكن الصحي أو تركوها حتى تموت جوعًا وعريًا.
أجل، إن هؤلاء المتمدنين المتوحشين يأكلون لحوم الأطفال على موائد مطهمة، تحمل الآنية الفاخرة والأزهار النضرة.