النفاسة في النفس
العصامية من الكلمات التي تبعث في الذهن معنى النجاح، فالعصامي هو الناجح، ولكن كثيرًا ما يشتبه علينا معنى النجاح فنعتقد أنه الثراء.
فالحرب الكبرى الأولى، ثم الحرب الكبرى الثانية، كلتاهما قد علمتنا أن النجاح المالي ليس هو ما تنشده النفس النفيسة، وليس هو ما تطلبه الحياة العالية، فقد نجح في هاتين الحربين مئات، نشئوا في الفاقة، وجمعوا المال، وصاروا من الأثرياء، وكانوا في كل ذلك عصاميين، يتباهون بأنهم لم يرثوا، بل لم يتعلموا.
ولكن دلنا الاحتكاك بهم على أن عصاميتهم هذه، وبلوغهم هذا الثراء العظيم، لم يحققا لهم نجاحًا؛ إذ بقوا في جهلهم السابق وعاداتهم الوضيعة، والتزامهم للخرافات في العيش والعقيدة، فكانوا من حيث المادة في ثراء ومن حيث الروح في الصحراء.
إنما النجاح هو قبل كل شيء نجاح الشخصية؛ أي: يجب أن ترتقي النفس بالتدريب الثقافي، بل بالتدريب الفلسفي، وأن نتعود العادات الرفيعة التي تجعلنا نحس الإحساسات الإنسانية أكثر مما نحس الإحساسات الحيوانية، وأن نفهم أن النفاسة في النفس قبل أن تكون في المال أو سائر الممتلكات.
والسبيل إلى أن نحصل على نفس نفيسة شاق متعب، ولكنه يُؤدي في النهاية إلى أعظم المكافآت، وأية مكافأة أفضل من أن نجد في سني الشيخوخة أننا قد وصلنا إلى بصيرة فلسفية لهذا الكون، وإلى إحساس فني للحياة، وإلى آفاق اجتماعية وبشرية تحملنا جميعها على زيادة الفهم والوجدان؟
كان «هـ. ج. ولز» الكاتب الإنجليزي، حين يشرع في كتابة إحدى قصصه يعمد إلى الفصل الأخير فيكتبه أولًا، وذلك كي لا ينحرف، فيختلط عليه موضوع القصة ويتشتت، وحياة كل فرد منا هي قصة يجب أن يُعين من الآن فصلها الأخير، ثم يسدد نحوه مجهوداته حتى لا ينحرف بنشاط فرعي، وهذا الفصل الأخير هو شخصيتنا، شخصية فذة تحوي عقلًا يحس وقلبًا يفكر؛ أي: يجمع بين الفهم العلمي الدقيق والإحساس الفني الأنيق، شخصية الجمال النفسي.