وجوهنا الحزينة
من الأخبار المليئة بالدلالة والتنبيه خبر ذكرته إحدى المجلات الأمريكية، ففي إحدى المؤسسات التي تؤوي العميان وتعلمهم استطاع طبيب جراح أن يقوم بعملية لفتاة عمياء قضت عمرها كله منذ ميلادها وهي في ظلام العمى لم تر النور قط.
ونجحت العملية، وشرعت الفتاة تتحسس هذا العالم وتستكشفه، وهو عالم كانت تجهله إلا عن طريق اللمس والشم، وخطر ببال أحد المعلمين أن يسألها عن أعجب وأغرب ما رأته في هذه الدنيا الجديدة عقب انكشاف العمى وانبلاج النور.
فأجابت الفتاة: «إن أعجب وأغرب ما رأيت هو الوجه البشري، وهو منظر قد أحزنني، فقد كنت وأنا عمياء أتخيله جميلًا، وكنت أظن أنه يُشرق برؤية الجمال في السماء، والبحر، والجبال، والوجوه البشرية الأخرى، ولكني وجدت غير ذلك، وجدت الوجه البشري حزينًا، حزينًا جدًّا.».
ودلالة هذا الخبر أننا فقدنا طرب الحياة، وأن الهموم التي ركبتنا، وربكت عقولنا، قد أكسبت وجوهنا هذا الحزن الذي رأته هذه الفتاة؛ لأنها جديدة في الرؤية، أما نحن، فلم نعد نرى هذا الحزن؛ لأننا قد ألفناه، بل إننا لا نكاد نرى غيره حتى نُقارن ونستنتج.
وقد ذكرت الفتاة جمال السماء والبحر والجبال، بل جمال الوجه البشري أيضًا، وهي توبخنا وتبكتنا بهذا القول؛ لأن هذا الجمال يغمر الدنيا مشاع بالمجان لنا جميعًا، ولكننا نعمى عنه، ونُفكر في هموم ترهقنا وتحزننا بل تستعبدنا.
كان داروين العظيم يقول: «إني ما زلت أذكر تلك اللحظة التي تأملت فيها العين البشرية، فقد اعترتني رعدة لا أنساها.».
أجل، هذه العدسة الصغيرة التي تنقل إلى رءوسنا آلاف العوالم المشتتة في هذا الكون، ونرسم في خلاياها صور السحب والطيور والأشجار والزهور، وصور الأطفال في مرحهم والنساء في روعتهن، هذه العين البشرية هي أعجب ما في هذا الكون، وليست الشمس بكل ما فيها من جلال وعظمة سوى شيء غشيم خام بالمقارنة إليها.
هذه العين البشرية هي معجزة هذا العالم، بل هذا الكون كله، وذلك الشاب الذي يُهمل الاستمتاع بها، ولا يتأمل الجمال في الطبيعة أو البشر، لن يجد ما يعيضه عنها ولو جمع مال قارون.
لا، بل هو حين يجمع مال قارون، سترتسم على وجهه أمارات الحزن التي رأتها هذه العمياء عندما أبصرت، بدلًا من إشراق الفرح الذي كان يجب أن يعم وجوهنا جميعًا في طرب الحياة ومرح الصحة؛ لأن مال قارون سيحمله من الهموم والشكوك والمخاوف ما يجعل الحزن أصيلًا في قلبه منعكسًا على وجهه.