رجل عظيم
في ١٩١٩ مات رجل عظيم يُدعى أندور كارنجي بعد أن أتم ٨٥ عامًا على هذه الأرض كانت كلها كفاحًا في جمع الثروة … وأيضًا في إنفاقها.
وكان إسكوتلندي الأصل، هاجر وهو صبي إلى أمريكا، ثم تقلب في الأعمال حتى أثري، وقُدرت ثروته في بداية هذا القرن بنحو مئة مليون جنيه، لم يترك منها لورثته غير ربع مليون جنيه، أما الباقي فقد أنفقه في حياته على البر، وكان هناك نوع من البر قد اختص به، هو إنشاء المكتبات، فإنه أنشأ منها الألوف وكان على الدوام يصر على أن من يطلب مكتبة يجب أن يُقدم الأرض التي سيُقام عليها البناء، وأن يعين وقفًا لإدارة المكتبة، أما هو فيقوم بتكاليف البناء وشراء الكتب، وكارنجي هذا هو الذي قام بتكاليف السراي التي تضم محكمة لاهاي في هولندا لدعم السلم.
وقد استقال من أعماله في ١٩٠١؛ أي: استقال من جمع المال في هذه السنة، وشرع ينفق ما جمع، وهو القائل: «إن إنفاق المال أشق من جمعه.» وهو هنا يعني أن اختيار المبرة التي يُراد الإنفاق عليها يحتاج إلى التفكير والدرس والاهتمام أكثر مما يحتاج إليه جمع المال؛ لأن المال عند كارنجي كان يجتمع وحده بعد المليون الأول، بلا مجهود، أو بأقل المجهود، أما الإنفاق فكان يحتاج إلى التفكير الكثير.
ولما مات قُدِّرت ثروته فلم تزد على خمسة ملايين جنيه؛ أي: أنه أنفق نحو ٩٥ مليون جنيه في المبرات، ثم هذا القدر الفائض بعد موته لم يتركه لورثته، بل ترك لهم فقط ربع مليون جنيه، ووقف الباقي على المبرات، ومعظمها كما قلنا مكتبات؛ لأنه كان يُؤمن بقوة الكتاب في التنوير والتوجيه.
وقد قيل عقب وفاته أن ورثته امتعضوا، ولم يشكروه؛ لأنهم لم يحصلوا إلا على جزء من أربع مئة من ثروته، ولكن المتأمل لهذا المبلغ الذي ورثوه، وهو ربع مليون جنيه، يجد أنهم من حيث الوفاء بالحاجات، بل والكماليات البشرية، ليسوا في حاجة إلى المزيد؛ إذ إن هذه الحاجات والكماليات محدودة، يفي بها هذا المبلغ ويفيض، ولم يكن كارنجي محقًّا فقط، بل كان أيضًا عاقلًا، عندما حبس أمواله على الخير.