تربية أديب
يستوفي «أندريه جيد» في نوفمبر القادم من ١٩٤٩ ثمانين عامًا من الخلود.
وهو في الوقت الحاضر أديب فرنسا؛ أي: أديب أوروبا؛ لأن فرنسا هي الوطن الأدبي للعالم الأوروبي، ولذلك نجد أن الصيحة العالمية في الأدب والفلسفة هذه الأيام تتركز حول الأديب أندريه جيد والفيلسوف بول سارتر، وكلاهما من أبناء باريس، المدينة الفنانة.
وتربية الأديب من أشق الأمور، فإن الوراثة والوسط يجب أن يتواطآ على إيجاده وتنشئته، حتى إذا بلغ سن التأليف كانت جمجمته حافلة بالمركبات الذهنية التي تثير في نفسه السخط، وتجذبه إلى البحث، وتُعين له المنهج.
وقد خمل أندريه جيد نحو عشرين عامًا بعد أن وضع قدمه على عتبة الأدب، ثم انفجرت شهرته بعد الخمول، وفي العام الماضي تُوجت شيخوخته بجائزة نوبل.
ولكن ماذا نقول؟ إنه لم يبلغ الشيخوخة، بل إن رذائل الشباب لا يزال قلبه يحمى بها، وهو هنا مثل زميله الإنجليزي العظيم «برنارد شو» الذي لا يزال وهو في الثالثة والتسعين يحتفظ بروح الشباب في غير وقار، بل أحيانًا في وقاحة واستهتار.
ولد أندريه جيد في عائلة بروتستنتية في أمة كاثوليكية، فامتاز بما يمتاز به أحيانًا أبناء الأقليات من هذا الشذوذ الاجتماعي الذي يُنبه ويُوقظ.
وعرف أيام شبابه «أوسكار وايلد» وتعلم منه الاستهتار، والاستهتار الجنسي خاصة، ولكن يجب علينا أن نستمع إلى كلمة نيتشه هنا، وهي: «ماذا علينا أن نقرأ العبقريين حتى ولو كانت في رءوسهم بعض الديدان؟.».
وفي شبابه زار الجزائر، وتوغل في الاستمتاع النفسي والذهني والجسدي، وفي ١٩٢٥ زار إفريقيا السوداء في كونجو، وعرف الاستعمار، وانبلجت له حقائق كانت تشتبه عليه قبل ذلك في شأن الحضارة الأوروبية، وعرف مما رأى في الجزائر، ثم في كونجو، أن الاستعمار هو كارثة البشر وفضيحة الحضارة، وأن الإنسان المتمدن يجب أن يكافحه حتى يمحوه.
وفي عام ١٩٣٦ زار روسيا، ودرس هذه الدولة الجديدة، ووجد فيها ما ظنه قيودًا للحرية، وهنا نجد أن الديدان لا تزال تنغل في رأسه؛ إذ لام الروسيين؛ لأنهم قيدوا الحرية ووضعوا العقوبات للشذوذ الجنسي.
وكانت هذه السياحات الثلاث تربيته التي عرف منها الدنيا؛ لأن نظرة الأديب هي في النهاية النظرة العالمية البشرية التي تتجاوز حدود الوطن والأمة، وهو يحتاج لهذا السبب إلى أن يسبح في أنحاء العالم، وأن يدرس آثار الماضي وعلامات المستقبل.
وقد ظهرت ترجمة إنجليزية هذا الشهر لكتابه «الجورنال»؛ أي: المذكرات اليومية التي ينقل فيها إحساساته وتأملاته، والعجب في هؤلاء الإنجليز أنهم ارتضوا السجن لأوسكار وايلد سنتين، ثم هم يرحبون الآن بتلميذه الذي يدعو دعوته.
وأعظم ما يفتن في أندريه جيد هو هذا الأسلوب الفرنسي المستقطر، وهذا الاستطلاع السيكلوجي الذي يفتح الذهن على مكامن الظلام وأودية النور في الطبيعة البشرية، وأخيرًا هذا التعلق بالحرية.