نحو المستقبل
أكتب هذه الكلمات وأمامي صورة لبقرة جيرزية من ذلك البقر الذي جلبته كلية أسيوط الأمريكية، وهذه البقرة وحدها تدر في اليوم الواحد ٦٣ رطلًا من اللبن؛ أي: أن هذه البقرة تستطيع أن تغذي اثنتين وثلاثين عائلة مصرية باللبن باعتبار أن كل عائلة تحتاج إلى رطلين فيهما غذاء للأطفال ودواء للصغار والكبار؛ لأن اللبن كما هو معروف يحتوي على جميع الفيتامينات التي لا يمكن لحي — إنسانًا كان أم حيوانًا — أن يعيش بدونها.
وقد استطاعت هذه الكلية أن تستحدث سلالات جديدة من البقر المهجن؛ أي: النتاج الذي ينشأ من عجول جيرزية وأبقار مصرية، وكان الإدرار عاليًا لم ينقص بالتهجين، وتستطيع الحكومة، كي تزيد مقدار اللبن في مصر عشرة أضعاف المقدار الحاضر، وكي تخفض الثمن إلى النصف أو الثلث أيضًا، أن تستورد ثلاثة أو أربعة آلاف بقرة ونحو مئتي عجل من هذه السلالة الجيرزية، تهجن به بقرنا، ولا يُكلفنا كل هذا أكثر من مليون جنيه، ننفقه في هذا الخير الذي يعمم لنا الصحة والغذاء.
وهذه الكلمات التي أكتبها عن الأبقار الجيرزية في أسيوط تُحرك في نفسي أشتاتًا من العواطف، فاني آسف؛ لأننا لا ننشط إلى شرائها وتوزيعها بأثمانها أو بنصف أثمانها، ولكني أيضًا أحس أن الخيال يستطيرني، فإن هذه البقرة الجيرزية لم تعد حيوانًا، وإنما هي مصنع كيماوي لإحالة المادة النباتية إلى لبن وقشدة وزبد وجبن، لا بل أكثر من ذلك، فإن البقرة الحديثة قد أخذت بعادات عصرية لم تكن تعرفها أمها أو جدتها، ذلك أنها أصبحت تدر اللبن دون أن تحمل أو تلد، فإن حقنة من الإستروجين تغنيها عن تعب الحمل والولادة، فتتضخم الضرة وهي لا تزال عذراء، ثم تعطينا من اللبن كما لو كانت قد حملت وولدت.
وهذه حقيقة واقعة؛ أي: أن البقر يدر اللبن في أمريكا بطريقة عصرية، بل مستقبلية.
وإني أعتقد أنه ليس بعيدًا أن نصنع اللبن قريبًا بالتأليف الكيماوي، كما نصنع الفيتامينات جميعها تقريبًا.
ولكن لنترك هذا الخيال المستقبلي ولنقبض على حقائق الحاضر، وأهمها، وأعظمها شأنًا، أن نستورد الأبقار الجيرزية ونستولدها ونهجنها حتى يتوافر لنا اللبن غذاء ودواء.