في القطب الجنوبي
يمكن أن يُوصف القطب الجنوبي بأنه جهنم الباردة، فإن جبال الثلج تكسوه على مدى العام كله تقريبًا إلا في بعض الشهور، حين يذوب الثلج على الأرض التي تقع إلى السواحل أو تقترب منها.
وزيادة على هذا البرد المثلج تكتسح القطب الجنوبي في بعض الأحيان عواصف قد تبلغ سرعتها مئة ميل في الساعة، بحيث إن الإنسان الذي يعترض الريح وهو واقف على الثلج يحس الدفء، بل الحر؛ لأن الريح تحتك به بعنف وسرعة، فتحدث الحرارة من الاحتكاك.
وقد زار الأميرال بيرد الأمريكي هذا القطب الجنوي مرتين، إحداهما في ١٩٢٨ والثانية في ١٩٣٤، وتوغل في صحاريه الثلجية، وقضى فيها خمسة شهور، بعد أن بنى عشة من الخشب تقيه من البرد والريح، وقضى هذه المدة وهو وحده، ولم يكن حوله إلى مسافة مئة ميل إنسان أو حيوان، وكان البرد من القسوة بحيث إنه كان يسمع أنفاسه وهي خارجة من أنفه أو فمه، حين تتجمد وتتبلور عندما تمس الهواء؛ إذ كان لها شخشخة عقب صدورها منه، وكانت هذه الشهور الخمسة ظلامًا حالكًا في الليل، وغبشة كأنها ضباب دكن في النهار، وقد وصف حياته في هذه الأيام في كتابه «في وحدتي» وأوضح فيه كيف استطاع أن يتوقى الجنون.
أما كيف استطاع ذلك؛ أي: كيف استطاع أن يبقى سليم العقل في خمسة شهور من الظلام، وهو وحده بين الثلوج، فيتلخص في أنه كان يملأ فراغه طوال النهار الأغبش بالعمل، يرصد الجو، ويسجل التغيرات، ويجرف الثلوج التي تتراكم عليه وتوشك أن تدفن عشته، وهو يقول هنا: «لقد كان عجبًا حقًّا أن أنفق وقتي بهذه الطريقة، وقد أحسست بعملي هذا أني أملك زمام نفسي.».
وهذا الذي ذكرناه عن بيرد ينطبق علينا جميعًا، ففي حياة كل منا فترات نحس فيها كأننا نجتاز مرحلة نفسية تشبه ظلام القطب الجنوبي وبرودته، حين تغم علينا الهموم وتشملنا المخاوف والشكوك، ولكن إذا كنا نعيش الحياة الهادية، لنا غاية نسعى إلى تحقيقها، ولنا عمل يملأ فراغنا، فإن هذه الهموم والمخاوف والشكوك تنقشع، ونحس عندئذ أننا نملك زمام نفوسنا مثل بيرد.