عرض سريع لتاريخ علم الأديان
(١) مقدمة
كلمة «تاريخ الأديان» كلمةٌ مُعرَّبةٌ عن لغة الفرنجة.
والتسمية بهذا الاسم مستحدَثة؛ لم تعرفها أُوربا إِلا عند فجر القرن التاسع عشر.
على أن الحديث عن العقائد البشرية هو في جوهره شأْنٌ قديم؛ معاصرٌ — لاختلاف النَّاس في مِللهم ونِحلهم — تتسع مادته حينًا وتضيق حينًا؛ بمقدار تعارُف أهل الأديان فيما بينهم، ووقوف بعضهم على مذاهب بعض. كما يختلف طابعه ووجهتُه، مسايرة لتشعُّب نزعات الباحثين وأهدافهم.
ولو أننا تَتَبَّعْنَا سلسلة الحديث عن الأديان من عهد الفراعنة، فاليونان، فالرومان، فالمسيحية، فالإسلام، فالنهضة الحديثة؛ لاستطعنا، أن نتبيَّن اختلاف صورِهِ فيما بين العصر والعصر، بل ربما بين الفترة والفترة، من فترات العصر الواحد.
(٢) العصر الفرعوني
لم يصل إِلى أيدينا سِجلٌّ جامع دَوَّنَ فيه قدماءُ المصريين دياناتهم وديانات جيرانهم، ولكن البحوث الأخيرة أثبتتْ إِثباتًا لا يخالطه وهمٌ أن المصريين منذ ألوف السنين قبل ميلاد المسيح — عليه السلام — بدءوا يسجلون عقائدهم وعوائدهم ووقائعهم، وألوان حياتهم، أقوالًا متفرقة، مسطورةً في قراطيس البردي، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد. وأنهم تركوا إِلى جانب ذلك مجموعات عظيمة من التماثيل المنحوتة، والأجساد المحنَّطة، لملوكهم ورؤسائهم ومقدساتهم من الطير والحيوان والأناسي، وغيرها، وكذلك صنعوا في شأن الأقاليم التي افتتحوها (كبلاد النوبة وسوريا والعراق وغيرها).
وعلى قدر سعة فتوحهم اتسعت صدورُهم لمختلف العقائد، فتركوا لكل إِقليم حريتَه في تقديس ما شاء، واتخاذ ما شاء من الرموز الموضعية.
وامتدت روح التسامح هذه إِلى مدارسهم الفلسفية الدينية، فكان عمل هذه المدارس هو محاولة التوفيق بين تلك المقدسات والمعبودات، بافتراض أنها أسرةٌ واحدة يرتبط بعضها ببعض، ارتباط الزوجية أو الولادة، بحيث يتألف منها مجموعات: «ثالوث» أو «تاسوع» أو عدد أدنى من ذلك أو أكثر.
ولم يشذ عن هذا الطابع إِلا عصورٌ قليلةٌ كانت تنزع إِلى الانتصار لبعض العقائد، والمقاومة لبعضها، ومن أمثلة ذلك ما صنعتْه مدرسة «عين شمس»، حين حاولت إِبطال كل عبادة إِلا عبادة إِله الشمس، وما صنعه الملك «أمنحوتب الرابع» الملقب بأخناتون، حين ثار على كل المظاهر الوثنية، فمحا الصور وأزال التماثيل من المعابد، وأمر بعبادة إِله واحد ذي مظهرين: «الشمس» في السماء و«الملك» على وجه الأرض.
(٣) العصر الإغريقي
وليس معنى هذا أن الإِغريق كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلًا حرفيًّا، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليلٌ من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم يُنشئوا هذه العلوم إنشاءً على غير مثال سابق — كما ظنه بعضهم — بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيرًا.
- (١)
بضيق رقعة البلاد والأمم التي يتناولها الوصف.
- (٢)
وبأن شئون الأديان فيها إِنما تُساق عَرَضًا في ثنايا الشئون الحيوية الأخرى.
- (٣)
وبما تتسم به رواياتها من الطابع الأُسطوري والتمثيلي الذي يستمده الكاتب من خياله وأسلوب تفكيره في تعليل الحوادث والنوازل.
فإِذا ما تركنا مذهبَي الإِنكار والتشكيك وعدنا لنتابع سير الفلسفة الإِيجابية في اليونان؛ وجدنا أن الصفحة الناصعة فيها طُويتْ بانقضاء عهد أرسطو وانقسام مُلك الإِسكندر، وأن الذي ظهر منها بعد ذلك كان في عامة الأمر مذاهبُ شاذةٌ متطرفة في الناحيتين النظرية والعملية.
وأما في الناحية النظرية «الإِلهيات والطبيعيات» فإِن هذه المدرسة الرواقية نفسها، وإِن انتقلت من الفلسفة المادية الملحدة الخاصة إِلى النظرية المقابلة لها في الطرف الآخر وهي الاعتراف بوجود روح يدبر العالم ويتعهده في أطواره، إِلا أنها عادت تُقرِّر أن هذه الروح ما هو إِلا جزء من العالم يسري في مادته سريان الماء في العود، أو النار في الجمر، غير شاعر بنفسه، ولا مختار في تحريكه للمادة، بل هو بدوره خاضعٌ لقانون طبيعي كقانون النمو النباتي، ثم انتهت إِلى القول بأن العنصرين المادي والروحي في الكون ليس لأحدهما وجودٌ مستقل في نفسه، بل يتألف منهما شيءٌ واحد هو الوجود الحقيقي، يسمى فاعلًا، منفعلًا، خالقًا ومخلوقًا، إلهًا وكونًا …
(٤) العصر الروماني
في القرن الثاني قبل الميلاد أخضع الرومان الدولة اليونانية سياسيًّا، فأصبحت ولاية تابعة لهم، بعد أن كانوا هم تبعًا لها.
وإِن تعجب لشيء فاعجب كيف أن هذا الاختلاط بين الأمتين قُرونًا متوالية، من قبل ومن بعد، لم يصنع منهما أمةً واحدةً في اللغة والدين والفن والتشريع وسائر مقومات الحياة الجماعية، كما صنع الفتح الإِسلامي في الأقطار التي دخلها؟ … لا، بل ما لنا نطمع في هذه الوحدة المثالية! ألم يكن من المتوقع — على الأقل — أن تفيد الأوساط العلمية والأدبية في روما من هذا التراث العلمي والأدبي المكنوز في العاصمة الإِغريقية؟ غير أن شيئًا من ذلك لم يكن، وكان كل ما حمله الأدباء الرومانيون من أثينا بعد هذا الفتح هو بعض الآراء الرائجة إِذ ذاك في جماهير الشعب، فاقتبسوها اقتباسًا سطحيًّا من غير تعمُّق ولا تمحيص، كما يحاكي النَّاس بعضهم بعضًا فترة من الزمان في الأزياء الجديدة وألوان الطعام والشراب …
(٥) العصر المسيحي
وفي منتصف القرن الأول بعد الميلاد، دخلت الدعوة المسيحية إِلى أُوربا في صورة دينٍ سماويٍّ جديد يأبى أن ينتظم في سلك مع الأديان الوثنية السابقة، ويحاول أن يظهر عليها ويحل محلها.
وكان ما كان من احتكاك وصراع، وتفاعل وامتزاج بينه وبين تلك الديانات المحلية، ثم بينه وبين المذاهب المستحدثة في عهده مثل الديانة المانوية التي ظهرت في القرن الثالث بعد الميلاد، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة (القرن الثالث أيضًا).
واستمر هذا الطابع الجدلي في العقائد هجومًا ودفاعًا، وهدمًا وبناءً، لا بين المسيحية وغيرها فحسب، بل بين المذاهب المسيحية أنفسها … فلم يكن همُّ الكاتبين تصوير العقائد المختلفة كما هي، بل كان هدف كل كاتب التماس موطن من مواطن الضعف في عقيدة خصمه لإبطالها، وإِبراز ناحية من نواحي القوة في عقيدته لنصرها ونشرها.
(٦) العصر الإِسلامي
ثم ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وما هي إِلا أن تمكنت دعوته في سنة ٦٢٢م من استنشاق نسيم الحرية خارج مكة، حتى انتشرت بسرعة البرق شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، ولم يمضِ قرنٌ واحد حتى سَرَتْ في أقطار أُوروبا الغربية «إسبانيا وإِيطاليا وفرنسا» حاملة معها علوم الإِسلام وآدابه وتشريعاته، مضافة إِلى علوم اليونان وفلسفتهم، ومضافًا إِليها ما اكتشفه العرب والمسلمون في رحلاتهم من علوم الشرق وآدابه، وما أفادوه هم من تجارب جديدة.
ولم يكن بدعًا من الأمر أن يكون الغرب عالةً على العرب في علوم الشرق، وإِنما البديع والعجب العُجاب أن يكون عالةً عليهم في علوم أوروبا نفسها، وأن يبقى كذلك حقبةً مديدة من التاريخ … فقد مضى الفتح الروماني — كما رأينا — دون أن يفيد من الأدب اليوناني إِلا ما كان رائجًا في السوق يومئذ من آراءٍ سطحية، ومذاهب زائفة؛ ومضى العصر المسيحي في شُغلٍ بالجدل الديني الداخلي والخارجي، عن التنقيب في علوم اليونان وتاريخهم وطرائق تفكيرهم المختلفة، وهكذا بقي غرب أوروبا طيلة هذه المدة في شبه عزلةٍ أدبية عن شرقها الذي له به أوثقُ الصلات المادية، فلم يفتح الغربيون أَعْيُنَهم على تلك الكنوز العقلية إِلا وهي في أيدي العرب المسلمين الذين جاءوهم من وراء البحار في أوائل القرن الثامن، فاتحين فتوح علم وسلم، وعدالة وسماحة، لا فتوح عُلُوٍّ وعتو، وإِشباع للغرائز الجامحة، واستنزاف للدماء والثروات.
هناك هرع النَّاس إِليهم من كل صَوْبٍ ينهلون من معارفهم، وكان اليهود أولَ الناس انتفاعًا بهذه التلمذة، فأخذوا ينقلون هذه العلوم من العربية إِلى العبرية، ثم إِلى اللاتينية … ولو أن روما كانت قد ورثت أثينا وراثةً علمية لاستنسخت علومها من أول يوم، ولقرأها النَّاس يومئذ باللاتينية أو بالإِغريقية مباشرة، بدل أن ينتظروا حتى يأخذوها هكذا وهي في المرحلة الرابعة من الترجمة.
وإِنه لأثرٌ جليل يمتازُ بطابعين جديدين لم يسبق إِليهما أحدٌ فيما نعلم:
أما أحدهما فهو أن الحديث عن الأديان بعد أن كان في العصور السابقة إِما مغمورًا في لُجة الأحاديث عن شئون الحياة، وإِما مدفوعًا في تيار البحوث النفسية أو الجدلية، أو على الأقل محدودًا بحدود العقائد الموضوعية وما يشارفها، أصبح من كتب العرب دراسةً وصفية واقعية، منعزلةً عن سائر العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينها علمًا مستقلًّا، قبل أن تعرفه أوروبا الحديثة بعشرة قرون.
أما الآخر — وهو ليس أقل نفاسة من سابقه — فهو أنهم في وصفهم للأديان المختلفة لم يعتمدوا على الأخيلة والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق والكذب، ولا على الفوائد والخزعبلات الشائعة في الطبقات الجاهلة، والتي قد تنحرف قليلًا أو كثيرًا عن حقيقة أديانها، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافهم لكل ديانة من مصادرها الموثوق بها، ويستقونها من منابعها الأُولى، وهكذا بعد أن اختطوه علمًا مستقلًّا اتخذوا له منهجًا علميًّا سليمًا.
-
كتاب «جمل المقالات»١٥ لأبي الحسن الأشعري، المتوفى سنة ٣٣٠ﻫ (القرن العاشر الميلادي).
-
كتاب «المقالات في أصول الديانات» للمسعودي، المتوفَّى في سنة ٣٤٦ﻫ (العاشر أيضًا).
-
كتاب «الفصل في المِلل والنِّحل» لابن حزم الظاهري، المتوفى في سنة ٣٤٦ﻫ (العاشر أيضًا).
-
كتاب «المِلل والنِّحل» للشهرستاني، المتوفَّى في سنة ٥٤٨ﻫ (الثاني عشر).
-
كتاب «اعتقادات المسلمين والمشركين» للفخر الرازي، المتوفى في سنة ٦٠٦ﻫ (الثالث عشر).
(٧) نهضة أوروبا الحديثة
بدأت أوروبا الغربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تستيقظ رويدًا رويدًا، وتتلفت بأنظارها إِلى الشرق الذي كان مبعث نورها، فجعلت تبعث إِليه البعوث من رجال الدين، الفرنسيسكان والدومينيكان، حتى بلغوا في رحلاتهم بلاد الهند والصين واطلعوا على دياناتها.
وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر — وهما أول العصر المسمى بعصر «البعث» أو «النهضة» — انبعثت همتها للاطلاع بنفسها على علوم اليونان وآدابهم وفنونهم القديمة باللغة اليونانية، وكانت باكورة نشاطها في هذا الشأن تنقيبها عن الآثار الأُسطورية وتفسير ما ترمز إِليه من عقائد أو حوادث تاريخية.
ثم تتابع الرحالون من الفريقين وازدادت عنايتُهم بالأقطار الجديدة في آسيا، والأوقيانوسية، وأمريكا، ومجاهل إِفريقيا … حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إِلى السؤال عما كانت عليه ديانة الإِنسان الأول، وبذلت محاولات لتحديدها في ضوء المقايسة على ديانات هؤلاء البدائيين، كما بذلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إِلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطوُّرها، أو تولُّد بعضها عن بعض.
ومنذ ذلك اليوم أصبح علم الأديان ذا شعبتين اثنتين: شعبة جديدة مبتكرة، وشعبة قديمة نالها شيءٌ من التجديد.
أما الشعبة القديمة المجددة، فهي تلك الدراسات الوصفية، التحليلية الخاصة بمِلة مِلة، وهي التي يمكن أن تُعرِّفَنا نشأة ديانة ما، وحياة مؤسسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، وألوان تطورها، إِلى غير ذلك من المعاني التي ما فتئت مجالًا لحديث النَّاس منذ اختلفت مذاهبهم، وهذه الشعبة هي المشهورة باسم «تاريخ الأديان» ولو أنصفت التسمية لكانت «تواريخ الأديان».
والتجديد الذي لحقها في العصور الحديثة يتناول مادتها ووسائلها جميعًا، فبعد أن كانت مادة البحث لا تتجاوز في الغالب حوض البحرين الأبيض والأحمر، أعني: مُلتقى القارات الثلاث، اتسعت الآن رقعتها حتى انتظمت القارات الخمس؛ وبعد أن كانت محصورةً أو تكاد في نطاق الأُمم المتمدينة، ذات التاريخ المدون، أو الآثار الخالدة؛ تناولت الشعوب الهمجية والأُمم البائدة، بل تطاولت إِلى التنقيب عما وراء التاريخ المعروف.
نعم، إِن إِفساح الميدان هكذا أمام المؤلفين المحدثين قد بَعُدَ بهم عن المنهج السليم الذي انتهجه مؤلفو العرب؛ ولكنه على كل حال قد فتح أمام الباحثين آفاقًا جديدة لم يتشرف إِليها السابقون؛ ولا سيما في وسائل البحث وأدواته، التي تنوعت حتى شملت علم اللغات المقارن، وعلم طبقات الأرض، وعلم التصوير والتمثيل الرمزيين، بل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، وسائر ما يَمُتُّ بسبب إِلى ظاهرة الدين.
وأما الشعبة الجديدة المبتكرة، فهي ضربٌ من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية، التي تهدف إِلى إِشباع نهمة العقل في التطلع إِلى أُصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفصيلاتها.
بيان ذلك — في موضوعنا — أن الذي يستقرئ المِلل على كثرتها، إِذا درسها دراسةً مقارنة، وأخذ يعزل ما فيها من المفارقات ووجوه الاختلاف، سيجد فيها البتة وجوهًا من المشابهة تتلاقى عندها كل الديانات، وسيجد في نفسه إِذ ذاك باعثةً تصعب مقاومتها، تدفعه إِلى استخلاص هذه المبادئ العامة، وجمعها في وحدة كلية يحدد بها طبيعة الدين من حيث هو، كما أنه حين يرى ظاهرة التدين حظًّا مشاعًا في الجماعات، مُشترَكًا بين الأمم الحاضرة والغابرة، البادية والمتحضرة، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه السؤال عن منشأ هذه الظاهرة العالمية ومصدرها: هل لها منبعٌ في طبيعة الفرد أو المجتمع؟ أم كانت وليدة المصادفة، أو ثمرة الصنعة والابتكار؟ أم ماذا؟ وهل كان في اختلاف صورها ومظاهرها في غضون التاريخ ما ينم على وجود ضربٍ من التسلسل والتولُّد بين بعضها وبعض، أو ما يدلُّ على الأقل على شيءٍ من التدرج التصاعدي أو التنازلي بينها؟ أم أنها لم تسر على سنن واحدة، بل كانت تصعد تارة، وتنحدر تارة، وتقف طورًا، وترجع عَودًا على بدء كرةً أخرى …؟
هذه الأسئلة وأشباهها يصطدم بها دارس الأديان المختلفة في خاتمة مطافه فيضعها في صيغة نيرة محدودة؛ ولكنها تتجمجم غامضةً مبهمة في صدر كل شغوف بالمعرفة ولو لم يكن ذا إطلاع على غير دينه الخاص، وقد خاض فيها علماء أُوروبا وأُدباؤها في العصور الحديثة، وعرض كُلٌّ منهم وجهة نظره في حلها، ولكنهم تناولوها أشتاتًا في مناسبات متفرقة، ومنهم من أدخل مسألةً أخرى في طي بحوثه الأدبية، أو نظرياته الفلسفية العامة، ومنهم من وضع مسألةً ثالثة في مقدمة دراسته لدين معين، ومنهم مَنْ أَلَمَّ بهذه أو تلك في مدخل تأليفه عن تاريخ الأديان العام، ومنهم من ساقها نكتة عابرة، ومنهم من أطنب في الشكل والمظهر، وكان أقل عناية بالصميم والجوهر …
وأنت، ألست ترى معنا قبل كل شيء أن هذه المسائل ألصق بالدراسات الدينية منها بشيء آخر من الفنون والآداب؟ أَوَلست ترى بعد ذلك أن ما فيها من تجانُس الموضوع يجعلها جديرةً بأن تُجمع في سِفْر، وأن يتألف منها شعبةٌ مستقلة غايتُها دراسة الظاهرة الدينية في جملتها، دراسة تبسط وجوه النظر المختلفة في كل بحث، وتعرض وجه الفصل فيه بميزان العدل الذي لا يُحابي ولا يُماري؟ ثم ألست ترى أن هذا النوع من الدرس لتاريخ الديانة بإِطلاق أحقُّ بالصدارة والسبق على الدراسات المشهورة لتواريخ الأديان مفصلة، وأنه يستأهل بطبيعته التعليمية أن يكون مقدمة لتلك الدراسات؟ إِذ إن مهمته هي تقريرُ المبادئ العامة، ووضع الأسس الكلية، التي لا بد من إِرسائها قبل الشروع في تحديد ماهية كل دين على حدة.
من أجل ذلك كله وجهنا أول عنايتنا لمعالجة هذه الجانب من البحوث، ورأينا حقًّا علينا أن نسجل ها هنا خلاصة ما سبقت معالجته منها.