(١) نماذج من التعريفات
-
(١)
فإِذا قلنا: «دانه دينًا» عنينا بذلك أنه ملكه، وحكمه وساسه، ودبره،
وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه وكافأه، فالدين في هذا الاستعمال
يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك من السياسة
والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة، ومن ذلك
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ١ أي: يوم المحاسبة والجزاء، وفي الحديث: «الكَيِسُ مَنْ دان نَفْسَه»
٢ أي: حكمها وضبطها، و«الديَّان» الحكم القاضي.
-
(٢)
وإِذا قلنا: «دان له» أردنا أنه أطاعه، وخضع له، فالدين هنا هو
الخضوع والطاعة، والعبادة والورع، وكلمة «الدين لله» يصح أن منها كلا
المعنيين: الحكم لله، أو الخضوع لله.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازمٌ للأول ومطاوع له «دانه فدان له»؛
أي: قهره على الطاعة فخضع وأطاع.
-
(٣)
وإِذا قلنا: «دان بالشيء» كان معناه أنه اتخذه دينًا ومذهبًا؛ أي:
اعتقده أو اعتاده أو تخلَّق به، فالدين على هذا هو المذهب والطريقة
التي يسير عليها المرء نظريًّا أو عمليًّا، فالمذهب العملي لكل امرئٍ
هو عادته وسيرته، كما يقال: «هذا ديني وديدني» والمذهب النظري عنده هو
عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم: «دينت الرجل» أي: وكلته إِلى
دينه ولم أعترض عليه فيما يراه سائغًا في اعتقاده.
ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابعٌ أيضًا للاستعمالين قبله؛ لأن العادة أو
العقيدة التي يُدان بها لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم
باتباعها.
وجملة القول في هذه المعاني اللغوية: أن كلمة الدين عند العرب تشير إِلى علاقة
بين طرفين يُعظِّم أحدهما الآخر ويخضع له، فإِذا وُصِفَ بها الطرف الأول كانت
خُضوعًا وانقيادًا، وإِذا وُصِفَ بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وحكمًا
وإِلزامًا. وإِذا نُظِرَ بها إِلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور
المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يُعبر عنها.
ونستطيع الآن أن نقول: إِن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، فإِن
الاستعمال الأول الدين هو إِلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني هو التزام
الانقياد، وفي الاستعمال الثالث هو المبدأ الذي يلتزم الانقياد له.
ولا يخفى من جهة أخرى، أن معنى اللزوم هذا هو المحور الذي تدور عليه كلمة الدَّين
بفتح الدال، والفرق بين الدَّين بالفتح والدِّين بالكسر
٣ هو أن أحدهما يتضمن — في الأصل — إِلزامًا ماليًّا، والآخر يقتضي
إِلزامًا أدبيًّا، ونحن نعرف من سُنن اللغة العربية في تصاريفها أنها حين تريد
التفرقة بين الحسيات والمعنويات من جنس واحد قد تكتفي بتغييرٍ يسيرٍ في شكل الكلمة
مع إِبقاء مادتها كما هي مثل: «العَوج، والعِوج» و«الخَلْق، والخُلُق»، و«الرؤية،
والرؤيا» و«الكبَر والكبْر».
وهكذا يظهر لنا جليًّا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلةٌ في اللغة العربية، وأن
ما ظنه بعض المستشرقين
٤ من أنها دخيلة، مُعرَّبة عن العبرية أو الفارسية في كل استعمالاتها أو
في أكثرها بعيدٌ كل البعد، ولعلها نزعةٌ شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة، حتى
فضيلة البيان التي هي أعزُّ مفاخرهم.
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إِن الذي يعنينا من كل هذه الاستعمالات هو الاستعمالان
الأخيران، وعلى الأخص الاستعمال الثالثُ، فكلمة الدين التي تستعمل في تاريخ الأديان
لها معنيان لا غير، أحدهما: هذه الحالة النفسية etat
subjectif
التي نسميها التدين religiosite. والآخر: تلك
الحقيقة الخارجية التي يمكن الرجوع إِليها في العادات الخارجية fait
odjectif أو الآثار الخالدة، أو الروايات المأثورة، ومعناها
جملة المبادئ التي تَدين بها أُمَّةٌ من الأمم، اعتقادًا أو
doctrine religiouse عملًا، وهذا المعنى أكثر
وأغلب.
بيد أن هذه التحليلات الاشتقاقية كلها إِنما تكشف لنا عن جذر المعنى وأصله في
اللغة، ولا تُصور لنا حقيقته واضحةً وافية، كما هي في عُرِفِ النَّاس واصطلاحهم، بل
لا تزال المسافة منفرجة بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي؛ ذلك أنه ليس كل خُضوعٍ
وانقياد يُسمَّى في العُرف تدينًا، فخضوع المغلوب للغالب، وطاعة الولد لوالده،
وتعظيم المرءوس لرئيسه؛ كل أُولئك قد يكون من معدنٍ آخرَ غير معدن الدين، كما أنه
ليس كل رأي ومذهب، ولا كل سيرة وخلق يسمى دينًا.
فما هي الخصائصُ والعناصرُ الجوهريةُ التي تميز الفكرة الدينية أو السلوك أو
الشعور الديني بوجه عام عن سواها؟
لا ريب أن تحديد هذه الخصائص تحديدًا حقيقيًّا لا يتم إِلا في نهاية العلم، بعد
استعراض جميع النِّحل ومقارنتها، واستنباط القَدْرِ المشترك بينها، ولكنه إِذا تعذر
علينا الآن، ونحن في فاتحة البحث، أن نعرض الديانات أنفسها لنستخرج منها الحد
الأدنى المشترك بينها، ففي وُسعنا أن نعرض طائفةً من التعريفات التي سبقنا بها
العلماء، سواءً منها ما وضعه الإِسلاميون لكلمة الدين، وما وضعه الغربيون للكلمة
التي تُقابلها، وهي كلمة Religion، وأن نقفي على
هذا العرض بشيء من التحليل والنقد، لِنعرفَ إِلى أَيِّ حد تنطبق هذه التعريفات على
الديانات المعروفة.
أما الإِسلاميون فقد اشتهر عندهم تعريف الدين بأنه «وضعٌ إِلهي سائقٌ لذوي العقول
السليمة باختيارهم إِلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل»، ويمكن تلخيصه بأن
نقول: «وضع إِلهي يُرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإِلى الخير في السلوك
والمعاملات.»
وأما الغربيون فلهم في ذلك تعبيراتٌ شَتَّى،
٥ وهذه نماذج منها:
يقول سيسرون، في كتابه «عن القوانين»: «الدين هو الرباط الذي يصل الإِنسان بالله.»
٦
ويقول كانت، في كتابه «الدين في حدود العقل»: «الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث
كونها قائمة على أوامر إِلهية.»
٧
ويقول شلاير ماخر، في «مقالات عن الديانة»: «قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة
والتبعية المطلقة.»
٨
ويقول الأب شاتل، في كتاب «قانون الإِنسانية»: «الدين هو مجموعة واجبات المخلوق
نحو الخالق: واجبات الإِنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه.»
٩
ويقول روبرت سبنسر، في خاتمة كتاب «المبادئ الأولية»: «الإِيمان بقوة لا يمكن
تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيسي في الدين.»
١٠
ويقول تايلور، في كتاب «المدنيات البدائية»: «الدين هو الإيمان بكائنات روحية.»
١١
ويقول ماكس ميلر، في كتاب «نشأة الدين ونموُّه»: «الدين هو محاولة تصور ما لا
يمكن تصوُّره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو المتطلع إِلى اللانهائي، هو حب الله.»
١٢
ويقول إِميل برنوف، في «علم الديانات»: «الدين هو العبادة، والعبادة عمل مزدوج:
فهي عمل عقلي به يعترف الإِنسان بقوة سامية، وعمل قلبي أو انعطاف محبة، يتوجه به
إِلى رحمة تلك القوة.»
١٣
ويقول ريفيل، في «مقدمة تاريخ الأديان»: «الدين هو توجيه الإِنسان سلوكه، وفقًا
لشعوره بصلة بين روحه وبين روح خفية، يعترف لها بالسلطان عليه وعلى سائر العالم،
ويطيب له أن يشعر باتصاله بها.»
١٤
ويقول جويوه في كتاب «لا دينية المستقبل»: «الديانة هي تصور المجموعة العالمية
بصورة الجماعة الإِنسانية، والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أُخرى يركزها
الإِنسان البدائي في الكون.»
١٥
ويقول ميشيل مابير، في كتاب «تعاليم خلقية ودينية»: «الدين هو جملة العقائد
والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع النَّاس، وفي حق أنفسنا.»
١٦
ويقول سلفان بيريسيه، في كتاب «العلم والديانات»: «الدين هو الجانب المثالي في
الحياة الإِنسانية.»
١٧
ويقول سالومون رينا، في «التاريخ العام للديانات»: «الدين هو مجموعة التورُّعات
التي تقف حاجزًا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا.»
١٨
ويقول إِيميل دوركايم، في «الصورة الأولية للحياة الدينية»: «الدين مجموعةٌ
متساندةٌ من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة — أي: المعزولة المحرمة
— اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تُسمَّى المِلة.»
١٩