العناصر النفسية
هذه العناصر الخمسة التي يتألف منها موضوع العقيدة الدينية، ينبغي أن يُضم إِليها عنصرٌ (ذاتي-نفسي) يتميز به نوع الخضوع الذي يتصف به المتدين بإِزاء موضوع عقيدته.
وإِليك البيان:
(١) الفرق بين الخضوع الديني والخضوع الطبيعي
الناظر إِلى العالمِ العلوي في جملته يراه مُسخَّرًا تحت سلطان القدر، في أوضاعه وأحجامه، وحركاته، وطبائعه: كل شيءٌ فيه له قدرٌ لا يعدوه، وطورٌ لا يتجاوزه … والناظر في عالمنا الأرضي كذلك يجده مقيدًا بنسبٍ معينة من البعد عن الشمس وعن الكواكب، وبمقاديرَ معينةٍ من الضوء والحرارة والضغط الجوي وغيرها …
(٢) هل تُمحى ظاهرة الموت
ووجهٌ آخرُ: وهو أن خضوع المتدين لمعبوده وإِن كان خضوعًا كليًّا لقوةٍ قاهرة — كما يقولون — ليس هو ذلك الخضوع الذي يخلق اليأس، ويكبت النفس، ويغل من الجهد، ويحد مجال العمل، ويسد باب الأمل، بل هو شعورٌ يُرَفِّه عن القلب بما يفتحه أمامه من آفاق الإِمكان، هو شعورٌ يضع عن النفس الأثقال، ويحطِّم ما حولها من الأغلال، وتكاد لا تعثر في لغته على كلمة «المحال»، فإِذا اشتدت الأزمات، وضاقت الحلقات أمام المتدين، تراءى له من خلالها أبوابٌ ومخارجُ ليس دون انفراجها إِلا أن يأذن معبوده؛ ولذلك إِذا رأيته في توجُّهه إِلى هذا المعبود رأيته مقسم القلب أبدًا بين الرغبة والرهبة، موزع الأمل بين الشك واليقين؛ لأن القوة التي يتوجه إِليها بالعبادة هي في نظره أعز مثالًا وأعظم استقلالًا من أن تخضع لغير إِرادتها نفسها، تلك الإِرادة التي لا يعرف هو قانونها، بل يقف حائرًا أمام أسرارها.
(٣) الإِيمان جماع أمل وحذر
هذا الترقب والانتظار في مزيجٍ من الأمل والحذر أمام دولاب الحوادث، هو إِحدى الظواهر العامة التي نلاحظها في نفسية المتدين، ولا نجدها إِلا في نفسية المتدين، أو المؤمن بإِرادةٍ مهيمنة على الطبيعة.
(٤) الإِلحاد أمن غافل أو يأس قاتل
ذلك أن الطبيعيين حين يرون ترابُط الأشياء وتتابُعها في نظامٍ مطرد، يقف بهم النظر في هذه النظم عند حد العادة الجارية، فيطمئنون الاطمئنان كله إِلى استقرارها ودوامها، وييأسون اليأس التام من تحوُّلها وانفصامها، فهم أبدًا في أحد طرفين متباعدين: إِما أمنٌ غافل، وإِما يأسٌ قاتل، أما العقيدة الدينية — وكذلك الفلسفة الروحية — فإِنها لا تخضع لسياسة الأمر الواقع، بل تنفذ إِلى بواطن الأُمور وأعماقها، فتقيس الوجود بمقاييس العقل، وتزنه بموازين الإِمكان؛ وبذلك يَتَكَشَّف لها الكون عن حقيقته، فلا ترى في نظامه الواقعيِّ ضرورة ذاتية، ولا في تبدل هذا النظام استحالة ذاتية، بل ترى عليه طابع الصنعة الموضوعة، وأثر الترتيب المقصود، وترى أمر بقائه أو تطوُّره رهينًا بالإِرادة التي وَضَعَت هذا النظام وحفظتْه؛ لأن مَنْ استطاع أن يربط السلسلة استطاع أن يفصمها، ومَنْ أدار الدولاب ذات اليمين قَدَرَ أن يُديره ذات الشمال، ومَنْ صرف الأمور بمحض اختياره على وجه كان في وسعه أن يُحدث في سيرها من العجائب والشواذ والمفاجآت ما يخرق كل حساب، فيُبرئ المريض الذي عجز الطب عن علاجه، ويُخلِّص الأسير الذي أُوصدتْ دونه الأبواب، ويُنزل الغيث في القيظ، وينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة … إِلى غير ذلك.
(٥) الأديان تُمهِّد لتقدُّم العلوم
هكذا نرى الأديان في كل صورها ومظاهرها تقف إِلى جانب الأمل والإِمكان والحرية والاختيار في مبدأ الأشياء، وهي بهذه النزعة — في الحقيقة — تخدم العلوم وتُمهِّد لتقدمها؛ إِذ تفسح المجال أمامها في تغيير معالم الأشياء إِلى مدًى أَبْعَدَ مما تتصوره العلوم الواقعية، التي هي بطبيعتها جبرية إِلى أقصى حدود الجبر، يئوسةٌ إِلى أبعد حدود اليأس؛ لأنها كلما كشفتْ قانونًا وقفتْ عنده دهرًا؛ تبني على أساسه كل فُنونها وصناعاتها … حتى إذا انتقلت إِلى مرحلةٍ أُخرى، انتقلت بذلك من طوقٍ حديدي إِلى طوق أوسعَ منه، ولكنه في نظرها طوقٌ حديديٌّ — على كل حال — فهي تعيش يومًا بيوم، لا تؤمن إِلا بعينها، ولا ترى أكثر من طرف أنفها.
(٦) لا جديد في الكون إِلا بفعل إِرادة عاقلة
إِلا أنها في هذا السير الحثيث إِلى الكشف والتجديد، خاضعةٌ في الواقع من حيث لا تشعر لدفعة خفية من الإِيمان بإِمكانياتٍ لا نهاية لها في الكون، كما أنها تلمس في أثناء تجاربها اليومية أن كل جديد تحصل عليه في تبديل أوضاع الأشياء إِنما هو ثمرةُ مجهودات إِرادية عاقلة، وليس هناك مثالٌ واحد — منذ عَرَفَ الإِنسانُ الكون — يدل على أن الطبيعة بَدَّلَتْ أوضاعها، وأحدثتْ في نفسها نظامًا جديدًا من غير تَدَخُّل قوةٍ شاعرةٍ مستقلة عن تلك المادة، مهيمنة عليها.
أليس هذا وحده كافيًّا في لفت النظر إِلى سائر الترتيبات السابقة، التي نراها في طبائع الأشياء أو سير الحوادث، لم تبرز هكذا من تلقاء نفسها ولا بقوةٍ لا شعورية مثلها؟ هذا هو أساس الفكرة التي تسيطر على الدينيات والروحيات جميعًا، وهي أن على رأس كل سلسلة من الأسباب قوةٌ اختيارية، هي قوة الإِنشاء والابتكار التي لا بد أن ينطوي عليها السبب الأول.
(٧) العلوم الواقعية تفحص الآلة ولا تفكر في مُخترِع الآلة
نعم، إن العلوم الواقعية حين تنظر في هذه الآلة الكونية الدقيقة لفحص أجزاءها وتعرُّف قانون سيرها، إِنما يعنيها من وراء هذا البحث تنظيم الجهد الإِنساني وتنسيقه على وفق ذلك القانون الآلي. وهي من هذه الوِجهة الخاصة لا لوم عليها في إِهمالها السؤال عن مُخترِع هذه الآلة وواضع ذلك النظام؛ لأن هذا السؤال خارجٌ عن طبيعة المهمة الأولى التي تخصصت لها.
(٨) إِغفال هذا التفكير هبوطٌ إِلى مستوى الحيوانية
ولكن اللوم كل اللوم على الإِنسان، بما هو إِنسان، حين يضع بيديه هذه القيود الحديدية لعقله، وحين يبتر هذا العنصر الجوهري في كيان نفسه، بإِبعاد هذا السؤال بتاتًا من بين بحوثه، قناعةً باللحظة الحاضرة عن الماضي السحيق والمستقبل البعيد؛ لأنه بذلك يهبط من عرش إِنسانيته إِلى صف الحيوانية، ويُسكت ذلك الصوت السماوي الذي يناديه من أعماق روحه، مستحثًّا له على استكمال فطرته، زاجرًا له عن الاكتفاء بنظره في حاضر الأشياء وحاضره، عن التطلُّع إِلى مبدئها ونهايتها، وإِلى مبدئه ونهايته.
(٩) ضم العناصر المُستخرجة من هذا التحليل
والآن نستطيع أن نضم العناصر الرئيسية التي استخرجناها في ثنايا هذا التحليل، وأن نؤلف منها الحد التام لماهية الدين، فنقول:
(١٠) المآخذ على تعريف المدرسة الاجتماعية
«وبعد» فلن يَشُقَّ على القارئ أن يعود الآن بنفسه إِلى التعريفات المختلفة التي نقلناها في صدر هذا البحث، وأن يتبين في ضوء هذا البيان مقدارَ ما في كل واحد منها من وفاءٍ أو زيادة أو نقص عن الحاجة، غير أننا نود أن نشير إِلى مؤاخذتين مهمتين في تعريف «دوركايم» و«ريناك» وأشياعهما.
وأما المؤاخذة «الثانية» — وهي أشد خطرًا وأَمَسُّ بالجوهر — فهي أنهم بتجريدهم ماهية الدين من فكرتَي: «الروحية» و«الإِلهية» قد جردوها من أَخَصِّ صفاتها، ونزعوا منها المحور الذي تدور عليه كل عناصرها، والمعيار الوحيد الذي تُقاس به مظاهرها وتتميز به عما سواها. وفي الحق أن التعريف الذي يقدمونه لنا بعد حذف هاتين الخاصتين يمكن تطبيقه بأكمله على كل مظهرٍ من مظاهر النشاط الاجتماعي، متى كانت له صِبْغة السنن الموروثة، التي يلتزم الجمهورُ مراعاتها في حياتهم الأدبية، أو الفنية، أو الاقتصادية أو غيرها، فعادة رفع الأعلام في الأعياد، والقيام عند السلام الوطني، ولبس السواد في الحداد، ووضع الخاتم في إصبع معينة للمتزوج أو غير المتزوج، وحفلات التكريم وإِشارات التعظيم، والأزياء القومية أو الطائفية، وسائر العوائد الملتزمة التي تسمى ﺑ «الإتيكيت» أو «البروتوكول» والتي يُعد الخروج عنها نابيًا في ذوق العُرف العام أو الخاص؛ كل أولئك يَسُوغ لنا — بمقتضى تعريفات المدرسة الاجتماعية الفرنسية — أن نسميها أعمالًا دينية وعبادات. ومثل هذا يقال في باب الآراء والمذاهب السياسة وغيرها.
ولم يكن بدعًا من الأمر أن يداعب الإِنسان هذه الأمنية، وأن يترجم بها غريزة طلب البقاء المتأصلة في نفسه، والتي يدل عمقها في النفوس البشرية على أنها للبقاء خُلِقَتْ؛ غير أن الإِنسان يضل طريق الصواب حين يلتمس تحقيق أمنيته من صنم ينحته في خياله ثم يسميه باسم العلم، والعلم بريء من نسبته إِليه؛ لأنه أعلم بضعفه وعجزه من هؤلاء المخدوعين فيه.
ولكن هذا الطب قد توصل يومًا إلى إِمداد الناس بالغدد والهيرمونات وسائر الأجهزة والوسائل التي تهيئ لبنيتهم صلاحيةَ العمل المتواصل إِلى غير نهاية. فكم يتقدم الناس بهذه المرحلة الجديدة في سبيل الخلود؟
إِن كل ما سوف يقدمه لهم العلم يومئذ هو منع فصيلة واحدة من أسباب الموت هي أندرها وقوعًا، وهي الأسباب الفيسيولوجية، أعني: أعراض الشيخوخة التي هي نتيجة إِنهاك الآلات العضوية واستهلاكها. أما الأسباب الأُخرى التي لا عداد لها، والتي تتحفز جيوشها في داخل الجسم وخارجه، وتتربص أخطارها للحياة في الحضر والسفر، في اليقظة والنوم، في الحركة والسكون، في العمد والخطأ، فيما يُرى وما لا يرى، في عناصر الطبيعة العليا والدنيا، فيما يجل عن الوصف وما يدق على التحليل … فإِن السيطرة عليها تفترض الإِحاطة بالحوادث الكونية والإِنسانية التي ستقع في لحظة ما قبل وقوعها، واليقظة لها حين وقوعها، والعلم بما ستسلكه في مراحل تطوُّرها بعد وقوعها، والقدرة على الوقاية منها من قبل، وعلى رفعها أو محو أثرها من بعد …
وإِذ لا سبيل إِلى منع حادث إِلا بمنع أسبابه، كانت الإِحاطة الكاملة بهذه الحلقات القريبة من الأحداث لا تُغني دون الإِحاطة بمقدماتها، ومقدمات مقدماتها، صاعدًا إِلى بدء الحياة، بل إِلى نشأة المادة، حتى يجتث الداء من أصوله، وحتى لا يقف في مرحلة ما أمام أمر واقع لا يستطيع له تحويلًا، ولا يجد عنه مصرفًا … أفلا ترى مبلغ الخلف والإِحالة والتناقض الذي يُفضي إِليه هذا الافتراض العريض، وهو أن هذا الإِنسان ابن الأمس يلزم أن يكون قد كان قبل أن يكون، وأنه قد شهد خَلْق السماوات والأرض وخلق نفسه، وأن هذا الإِنسان المحدود القوى والمَلَكات ليس محدود القوى والمَلَكات، بل أحاط بكل شيء قدرة، وأحصى كل شيء علمًا؟ أليس مآل هذا أن يفرض الإِنسان كائنًا آخر غير هذا الإِنسان الذي نعرفه؟ … إِن الذي يملك مفتاح البقاء هو واهبُ الحياة، لا من وُهِبَتْ له الحياة وهو لا يدري كيف؟ ولا متى؟ ولا إِلى متى …؟