الدين والفلسفة
(١) وحدة الموضوع فيهما
إِذا نحن أحصينا ضروبَ المعرفة الإِنسانية على كثرة اختلافها وفرط تنوعها؛ وجدنا من بينها ضربًا يجري مع الأديان في مجال، ويكاد يُعد من عصبتها أو من ذوي رحمها الأقربين، ولا نجد ضربًا آخرَ يزاحمه أو يدانيه في هذا النسب. ذلك هو ما اصطلح العلماء على تسميته باسم «العلم الأعلى» أو «الفلسفة العامة».
أليس موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين؟ أَوَليست المشكلة التي تعالجها الفلسفة هي بعينها المشكلة التي انتُدِبَت الأديان لحلها؟ فمطلب الفلسفة هو معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإِنسانية في العاجل والآجل، هذان هما موضوعا الفلسفة بقسميْها العلمي والعملي، وهما كذلك موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع.
(٢) الأصول العامة التي تنفصل فيها الفلسفات المادية وبعض الفلسفات الروحية عن الأديان
وليس يعنينا هنا أن نبحث عن وجوه الاختلاف الداخلي بين أهل المعسكر الواحد من هذا الفريق أو ذاك، ولكن الذي يعنينا هو أن نعرف الوجوه التي فصلت بين هذين المعسكرين: الديني والفلسفي، حتى جعلتْ كل طائفة منهما ذات لقبٍ خاص، لا يسوغ نقله إِلى الطائفة المقابلة لها.
وإِذ لا سبيل لنا إِلى الفصل بين موضوعي الديانة والفلسفة، بعد أن تبينت وحدة هذا الموضوع؛ بقي أمامنا أن نبحث عن وجه اختلافهما في النتائج التي وصل إليها كلٌّ منهما.
غير أننا لا نستطيع أن نُصدر ها هنا حكمًا عامًّا شاملًا، يجمع بين الحقيقتين كليةً، أو يفصل بينهما كليةً؛ إِذ إننا نجد كثيرًا من المذاهب الفلسفية قد توصلت بمجهودها العقلي المستقل إِلى تقرير المبادئ الأولية التي قررتْها الأديان، بينما نجد بعضًا منها قد انفصل من أول الطريق أو من وسطه عن تلك المبادئ.
وأشد هذه المذاهب انفصالًا، وأكثرها بُعدًا، هي المذاهب المادية، التي لا تعترف بشيءٍ في الوجود وراء الحس والمشاهدة، فتُنكر بذلك مبدأً رئيسيًّا مشتركًا، تقوم عليه جميع الأديان، وتقره سائر الفلسفات.
(٣) الفلسفات الروحية التي تتفق مع الأديان في الأصول العامة تختلف عنها وعن بعض الوجوه
- العنصر الأول: عنصر «بدء الخلق»؛ أي إِحداث المادة من العدم، وهو مبدأٌ تعترف به جميع النِّحل الدينية، في حين أن بعض قدماء اليونان كان يرى أن الروح المدبر للعالم لم ينشئ هذا العالم إِنشاءً، بل إِنه وجد أمامه المواد الكونية مبعثرةً بغير نظام، فقام بتنسيقها على هذا الوجه الهندسي المتقن، فالخالق في نظرهم ليس بارئًا، بل هو صانع ماهر demiurge٢ ليس غير.
- العنصر الثاني: عنصر «الربوبية» أو «العناية المستمرة»، فإِن الأديان كلها قائمةٌ على فكرة التمجيد لقوةٍ لها صلةٌ بالحوادث اليومية، ولها عنايةٌ دائمةٌ بالكائنات، لا تنفكُّ عن إِمدادها وتدبيرها، وذلك هو أصل فكرة العبادة التي لا يتحقق اسم الديانة بدونها.
والآن دع هذه الفصيلة من المذاهب الفلسفية — أعني: فصيلة المذاهب المتخلفة عن قافلة الأديان — وخذ بنا في المقارنة بين الدين وبين الفلسفات التي تلتقي مع الديانات، لا في موضوعها وحسب، بل في أصولها العامة التي أشرنا إِليها، فهل ترى يصل أمر التقارب بينهما إِلى حدِّ الاتفاق في كل شيء، حتى يصبحا اسمين لمسمًّى واحد؟
هيهات! فقد بقيت وستبقى بينهما فروقٌ كثيرة، يراها بعض العلماء في الوسائل والمناهج، وبعضهم في المصادر والمنابع، وبعضهم في الظروف والملابسات؛ ونراها نحن في شيء أعمقَ من هذا كله، في العناصر المقوِّمة لحقيقة كلٍ منهما.
فلنبدأ بعرض مقالات السابقين ونقدها، ثم نختم بما نراه نحن في هذه القضية:
(٣-١) رأي الفارابي في كُنه هذا الاختلاف
يقول الفارابي نقلًا عن قدماء اليونان: إِن اسم الفلسفة خاصٌّ عندهم بالعلم الذي تتعقل فيه حقائق الأشياء بذاتها، لا بمثالها، ويتوسل فيه إِلى إِثباتها بالبراهين اليقينية، لا بمجرد الإِقناع، أما المِلل والأديان فطريقها في التفهيم إِقناعيٌّ، وتمثيلي.
ليس لنا إِذن أن نقول: إِن الأديان كلها تقوم على الإِقناع الخطابيِّ والتمثيلي، لا على التحقيق واليقين.
ثم ليس من الصواب أن نقول من الجهة الأخرى: إِن التعليمات الفلسفية تُستمد دائمًا من نور العقل، وتستند إِلى البراهين القطعية؛ إِذ لو كانت كلها كذلك ما أمكن أن يحدث بينها هذا الاختلاف والتضارب، فإِن الحق لا يُعارِض الحق ولا يُكذبه، بل يسنده ويؤيده.
فهذا التعارض دليلٌ واضح على أنه ليس كل واحدٍ منها يمثل الحقيقة المطلقة أو يقول فيها الكلمة الأخيرة، بل من الجائز أن يكون كل منهما يمثل جانبًا من حقيقةٍ مركبة تتألف من مجموعها، ومن الجائز أن يكون الحق واحدًا منها وسائرها باطلًا، أو يكون الحق وراء ذلك كله، ولا بد لمعرفة أي ذلك هو الواقع، في موضوع ما، من إِعادة النظر فيه بالفحص والمقارنة بين مذهب ومذهب، ودليل ودليل.
ونحن نعرف بالاستقراء والتجربة أن أكثر هذه النظريات الفلسفية المتضاربة فروضٌ وتقديرات، تدور كلها في ذلك الإِمكان والاحتمال، وتتفاوت فيما بينها بقدر ما فيها من حُسن العرض وتناسُق الوضع، لا اعتمادًا على العقل الخالص ومتانة البرهان، بل على جودة الخيال وبراعة البيان، فهي لا تعدو أن تكون ضَربًا من الشعر المنثور، يناجي العاطفة ويستهوي القلوب، من غير أن يكون في حجتها ما يشفي طالب اليقين، ولا في حكمها ما يحسم مادة النزاع بما فيه فصل الخطاب.
(٣-٢) رأي ابن سينا ونقده
ننتقل إِذن إِلى فرق آخر:
نقول: هذا الفرق — على عكس الفرق الذي حكاه الفارابيُّ — ينطبق بوضوح على الشريعة الإِسلامية؛ فإِنها نبهت على مبادئ الحكمة النظرية تنبيهًا رقيقًا، وبينت الحكمة العملية بكمالها. ولكن هل ينطبق ذلك على سائر الشرائع الإِلهية، فضلًا عن الديانات الأخرى؟ كل ما يمكن أن يقال هو أن عناية الأديان في جملتها بالناحية العملية أشد منها بالناحية النظرية، ولكننا نعرف من مدارس الفلسفة أيضًا ما يغلب عليها — أو يكاد يستأثر بها — هذا العنصر العملي. فلا يصلح ذلك فارقًا كافيًا لتمييز ماهية الدعوة الدينية عن التعاليم الفلسفية بصفة مطردة.
(٣-٣) آراء علماء الغرب
- (١)
مشاكل الفلسفة يُناط حلها بالأفذاذ من ذوي العقول الراجحة، بينما مسائل الدين — في زعمهم — تحلها الشعوب والجماهير، قالوا: ولذلك كانت نشأة الأديان، وحياة واضعيها، والظروف التي أُلِّفَتْ فيها كتبها؛ غامضة مدفونة في ظلمات التاريخ، ولا كذلك الآثار الفلسفية.
- (٢)
الدين يرثه الشعب عن أسلافه، والفلسفة يستمدها الفيلسوف من عقله ومن ملاحظاته الشخصية، ولو خالفت العقائد الموروثة.
- (٣)
الفلسفة متجددة، والديانة تميل إِلى الثبات وعدم التطوُّر؛ لأن الجماعات لا تقبل أن تُغير عقيدتها كل يوم، أو أن تُعيد النظر فيها من جديد، ولا سيما إِذا كان كتاب العقيدة مفروضًا فيه أنه كلام الرب المعبود.
- (٤)
الديانة لها في المجتمع مكان الصدارة؛ لأن لها الأسبقية وتقادُم العهد، الذي مكَّن لها من الرسوخ في القلوب؛ لأنها عقيدة الجمهور، وفي متناول عقليته.
- (٥)
الدين لا يستغني عن مظهر اجتماعي، في حفلات يومية، أو سنوية، أو موسمية، يُوثق بها الأفراد أواصرهم الطائفية، كما أن الفكرة الدينية بحاجة إِلى التجسد في صُورٍ معينة، ورسوم محددة، يُجدد بها المتدين عهده بعقيدته، التي هي دائمًا عُرضةٌ للنسيان، من جراء المشاغل الحيوية المادية، بينما الفلسفة لا حاجة بها إِلى هذه المحافل؛ لأن عقيدة الفيلسوف حاضرةٌ في نفسه في غالب الأمر، كما أنها لا يصح أن تتمثل في رسوم عبادة معينة؛ لأنه لا شيء من تلك الصور المحددة يفرضه العقل فرضًا، بحيث يكون الخروج عنه شُذوذًا في التفكير، ولو التزم الفيلسوف شيئًا من هذه الأوضاع الخاصة، وجعله شعارًا لفلسفته لَخرج إِلى ضرب من الهزل والمجون، حريٌّ أن يُسخر منه.
- (٦)
الديانة تعيش بسلطانٍ ونفوذ كنفوذ الدولة، والفلسفة لا تعيش إِلا في جو الحرية.
(٣-٤) مناقشة هذه الآراء
الناظر في هذه الفُروق يرى أنها — في جُملتها — لا تصور الديانة والفلسفة في كل الأدوار التي مرت بهما، بل تصفهما في حالتهما الحاضرة، وفي أوروبا المسيحية على وجهٍ أخص، فهي تصور لنا الأديان الموروثة عن السلف في حالة استقرارها وثباتها، بعد أن أصبحت عقيدةً للجمهور، وصارت جُزءًا من تاريخه، يحف بها جلال الماضي، ويحوطها سلطان الكنيسة، وقد بَعُدَ عهدها بتاريخ نشأتها الغامض، ثم تصور لنا الفلسفة بازغةً في عقل الفيلسوف، مطبوعة بطابع عقله ونزعاته وأحاسيسه، طليقة من كل قيد، تستطيع أن تلبس كل يوم ثوبًا جديدًا.
ولا ريب أننا حين نعقد المقارنة هكذا في ملابسات متباينة، نحصل على صورتين متفاوتتين: فالدياناتُ تبدو لنا في مظهرها الاجتماعي المستقر، والفلسفة في طابعها الفرديِّ الحر المتجدد، وهكذا يصدق القول بأن «الديانة هي فلسفة الشعوب والجماهير»، وأن «الفلسفة هي ديانة الأفذاذ الممتازين».
أما إِذا عدنا بالديانات إِلى عصور نشأتها، أو عصور تجديدها وإِصلاحها، فإِنها تبدو لنا هي أيضًا وهي تحمل أعلامًا شخصية: موسى، أو بوذا، أو عيسى، أو ماني، أو محمدًا، أو لوثر، أو عبد الوهاب، أو غيرهم، حتى الديانات الوثنية لم تعدم زعماء وضعوا أساسها، أو وسعوا بنيانها، إِما بالتفنُّن والاختراع، وإِما بجلب «تماثيل الآلهة» من رحلاتهم في مختلف الأقطار، كما يُحدثنا التاريخ عن بعضهم.
وليس جهل الشعب بحياة مؤسس ديانته دليلًا على أن هذه الديانة في نشأتها كانت من وضع الشعب في الجيل نفسه أو في جيلٍ سابق، وكل ما في الأمر أنها ميراثٌ جهلوا مورثه، نعم إِن هذه التركة قد يكون أصابها على مر العصور شيءٌ قليل أو كثير من التحول والتطور، حتى أصبحت في وضعها الأخير أثرًا مشتركًا، وثوبًا مرقعًا، ينتسب إِلى أكثر من فرد واحد، وتقبله الشعب هكذا على علاته، ولكننا متى ارتقينا بهذا الميراث الشعبي من عصر إِلى عصر، حتى نصل إِلى عهد نشأته، لا بد أن نصل إِلى مبدأ لا يكون هو الشعب في جملته ولا جماعة من الشعب. وإِلا فليجيئونا بمثالٍ تاريخي واحد، اجتمع فيه شعبٌ من الشعوب أو طائفة من رؤسائه، فتواضعوا فيما بينهم على ابتكار منظمة دينية جديدة، يخلقون عقائدها وعباداتها جملةً وتفصيلًا، من غير أن يكون بين أيديهم أثر يأثرونه عن سلفهم، ولا كتاب يدرسونه ويجتهدون في فهمه وتأويله، منسوبٌ إِلى فلان أو فلان.
على أن غموض تاريخ مؤسسي الديانات، وعدم تحديد العصور والملابسات التي ظهرت فيها كتبهم ليس قاعدة عامة؛ فهذا تاريخ الإِسلام ونبيه وكتابه غضٌّ طري، كأنه وُلِدَ أمس، وعلماء أوروبا يعترفون بذلك ويعلنونه في إِنصاف وصراحة. غير أنهم يعدونه استثناءً من قاعدة الأديان، لكن الحقيقة أن القدر الذي يصح عَدُّهُ استثنائيًّا في الإِسلام من هذه الناحية هو درجة الوضوح التاريخي ومتانة الأسانيد المتصلة لكتابه في جملته وتفصيله، أما الوجود التاريخي لزعماء الأديان ومجمل دعوتهم، فهذا قدرٌ مشتركٌ بينه وبين كثير من المِلل، حتى لو سلمنا أنه استثناء، فقد أصبح الفارق الذي يزعمونه بين نشأة الدين ونشأة الفلسفة غير صحيحٍ على عمومه.
وكما أن الديانات بعد تأسيسها تميل إِلى الثبات والاستقرار بين الشعوب حتى يقوم فيها مجددون أو مصلحون، فكذلك تعاليم الفلسفة ومقررات العلوم، حتى الرياضيات والطبيعيات نفسها، مالت إِلى الركود في كثير من القرون. والتجديد في كلا الميدانين يلاقي مناهضةً شديدة، وكم من الاختراعات والاكتشافات الحديثة عُدَّتْ جنونًا من مُدعيها حتى في الأوساط السياسية والعلمية.
أما حديث المظاهر الاجتماعية في شعائر العبادة، فإِنه ينطبق حقيقةً على الأديان العامة التي استكملت عناصرها وفروعها؛ ولكنه لا ينطبق على الأديان الفردية، التي لا تعدو أن تكون وجدانًا غامضًا أو عقيدة مبهمة تتجمجم في الصدر، ولا يحسن صاحبها التعبير عنها بشعارٍ خاص، وقد رأينا مثلًا من ذلك في أديان الحنفاء؛ ولا نزال نرى أمثالهم في كل أمة من ذوي الفطر السليمة، الذين لم تصل إِليهم تعاليم الأديان الصحيحة، ولم يعجبهم ما في بيئتهم من العقائد الزائغة، والعوائد المنحرفة، ولكنهم في الوقت نفسه لم يصلوا إِلى تحديد وضعٍ معين يتخذونه شعارًا لعقيدتهم، فهؤلاء غرباء في قومهم، لا يجد الواحد منهم في نفسه حافزًا على الاجتماع بغيره — لأن كل واحدٍ منهم أمةٌ وحده — فضلًا عن أن يتفقوا بعد ذلك على نشيدٍ واحد وحركاتٍ واحدة يجعلونها شعارًا ظاهرًا لعقيدتهم، بل نقول: إِن حديث الشعائر والمظاهر لا ينطبق على كل الأديان الشعبية. فهذه البوذية الأولى يقولون: إِنها لم تكن تعرف إِلا العزلة التامة والتفكير العميق، بعيدًا عن كل الرسوم والأوضاع العملية. وعلى نقيض ذلك رأينا بعض الفلاسفة «مثل أوجست كونت»، يجهِّزون مذاهبهم الفلسفية بكافة النظم والشعائر المعروفة في الديانة المعاصرة لهم، وهكذا نرى التفرقة المذكورة لا تستقيم طردًا ولا عكسًا.
(٣-٥) رأيُنا في حقيقة الفرق بين الدين والفلسفة
بقيت التفرقة بين الدين والفلسفة بأن الفلسفة لا تعيش إِلا في جَوِّ الحرية، وأن الدين لا يقوم إِلا على السلطان والنفوذ، فهذا قولٌ سديدٌ في الجملة لا على الإِطلاق. وهو — إِذا استُفصِل عن معناه — يفتح أمامنا الباب لتقرير الفروق الصحيحة بين هاتين الحقيقتين:
ذلك أنه إِن كان المقصود قيام الدين دائمًا على سلطان الدولة ونفوذها، فهي دعوى باطلة؛ إِذ إننا نعرف ديانات كثيرة عاشت ونمت في ظل الرفق والتسامح، بعيدًا عن كل حُكْمٍ وسيطرة، والبوذية أوضح مثال على ذلك، بل المسيحية والإِسلام — في أول عهدهما على الأقل — قاما على احترام حرية الضمير، وعدم الإِكراه في الدين، كما أننا نعرف عهودًا تطاولت فيها الفلسفة إِلى مقام الحكم، وتسلحت لمطاردة أعدائها وإِخضاعهم.
وإِن كان المقصود اعتماد الدين على السلطان الأدبي للمجتمع، بمعنى: أن الحياة الاجتماعية من شأنها أن تطبع الأفراد بطابعٍ واحد، وأن تجعل منهم وِحْدَة متجانسة التفكير، متشاكلة العوائد والعقائد، بحيث يعد الشاذ عنها مذمومًا منبوذًا، فهذا إِن صح — إِلى حد ما — في الجماعات «البدائية» المحصورة في نطاقٍ ضيق، لا يسري حكمه على سائر المجتمعات؛ فنحن نرى الأمم والشعوب في كل عصرٍ تضم تحت أجنحتها العقائد المختلفة، والنظم المتفاوتة، ولا يحول ذلك دون تعاون الجميع في مرافق الحياة العامة، وتَسانُدُهم في الواجب الوطني المشترك.
أما إِذا كان المقصود سلطان العقيدة على نفوس معتنقيها أنفسهم، فلا ريب أن هذه ميزة تستأثر بها الديانات؛ وليس للفلسفة أن تطمح إِلى نيلها، وإِلا لجاوزت طورها، وتناقضت في نفسها؛ لأن حقيقة الفلسفة هي «محبة الحكمة» أو «الرغبة في المعرفة»، ووظيفتها البحث عن الحقيقة بقدر الطاقة البشرية، وعرض ما تظفر به من جوانب تلك الحقيقة، والفيلسوف هو أول من يعرف قُصور العقل البشري، وقُصور كل ما هو إِنساني، عن درجة الكمال، ولذلك كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه، وهذا سقراط يضرب لنا أروع الأمثال في ذلك، حين يقول: «الشيء الذي لا أزال أعلمه جيدًا هو أنني لست أعلم شيئًا.»
أما الفكرة الدينية فإِنها — في مختلف مظاهرها ودرجاتها — تفترض أن ما تقرره في شأنٍ من الشئون مستمدٌ من سر الوجود، وأنه يمثل حقيقة الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، فهي بطبيعتها ملزمة، تتقاضى من صاحبها الخضوع والتسليم ولا تقبل منه في حكمها جدالًا ولا مناقضة، بل لا تبيح له في نفسها بحثًا ولا ترديدًا، فإِن فعل ذلك في مسألة ما، كان في هذه المسألة بعينها متفلسفًا غير متدين، حتى يستقر فيها على رأيٍ معين ويدين به، فهنالك لا يقبل فيه مساومة ولا يستطيع منه تحللًا؛ إِذ يصبح عقيدة يخلص لها إِخلاصًا خارقًا للعادة، حتى لا يبالي أن يضحي في سبيلها بحياته، ولا نكاد نجد هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى: علمية، أو سياسية، أو غيرها.
فإِذا أردنا البحث عن السر في هذه الظاهرة العجيبة، فإِننا نجده لو أمعنَّا النظر في الفرق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإِيمان، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإِيمان. فالواحد من النَّاس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محسٍّ بآلامها، وقد يفهم معنى الحب والشوق وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه، ولا يتملك قلبه الإِعجاب به. وقد يعرف لفلان فضل عقلٍ أو حزم، أو أدب أو سياسة، أو أولئك جميعًا، ولا يشعر نحوه بعاطفة ولاء، ولا رابطة مودة، بل يكاد يغص فؤاده بهذه الفضائل حقدًا وحسدًا، ويكاد ينكر قلبه ما تراه عيناه.
هذه كلها ضُروبٌ من العلم والمعرفة يهديها إِلينا الحس، أو الفكر، أو البديهة، أو الحدس، فتلاحظها النفس وكأنها غريبة عنها، أو تمر بها عابرة فتمسها مسًّا جانبيًّا لا يبلغ إِلى قراراتها، أو تختزنها وتدخرها، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها. كل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند هذه المراحل ليست من الإِيمان في قليلٍ ولا كثير، الإِيمان معرفةٌ تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، وتختلط مادتها بشغاف القلوب فلا يجد الصدر منها شيئًا من الضيق والحرج، بل تحس النفس فيها ببردٍ وثلج.
إِن الإِيمان تذوقٌ ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إِلى قرارة القلب، فيجعلها للنفس ريًّا وغذاءً يدخل في كيانها، ويصبح عنصرًا من عناصر حياتها، فإِذا كان موضوع الإِيمان الحقيقة الكبرى، والمثل الأعلى، فهنالك تتحول الفكرة قوةً دافعة، فَعَّالة، خَلَّاقة، ولا يقف في سبيلها شيءٌ في الكون إِلا استهانتْ به حتى تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين، غاية الفلسفة المعرفة؛ وغاية الدين الإِيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورةٍ جامدة؛ ومطلب الدين روحٌ وَثَّابة، وقوةٌ محركة.
الفلسفة تعمل إِذن في جانبٍ من جوانب النفس، والدين يستحوذ عليها في جملتها. الفلسفة ملاحظة، وتحليل، وتركيب؛ فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتُزهق روحها، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نُسقٍ صناعي على مرآة الفطنة، فتنطبع على سطح النفس قشرةً يابسة. أما الدين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جُملة، فيعبر بها هذه القشرة السطحية، لينفذ منها إِلى أعماق القلوب وأغوارها، فتعطيها النفس كليتها، وتملكها زمامها.
ومن هنا يُستنبط فرقٌ دقيق بين الفلسفة والدين:
ذلك أن غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العلمي، وغاية الدين عملية حتى في جانبه العملي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تُعرِّفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي نعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيُعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويُعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.
وأول الآثار العملية للفكرة الدينية هو لفتها شعور المتدين إِلى صلةٍ بينه وبين الحقيقة العليا التي يدين لها، وهي صلة تقوم في جوهرها على معنى الإِلزام والالتزام الأدبي بينهما، على حين أن الفلسفة من حيث هي فلسفة — أعني: من حيث هي صناعة عقلية، مستقلة عن التصوف والمعاني الوجدانية — تستطيع أن تعيش من غير اعتراف بهذه الصلة، ذلك أن غاية الفيلسوف من ربطه المسببات بأسبابها هو فهمه الأشياء على وجه منطقي معقول، بحيث يأخذ كل حد منها موضعه اللائق به، فالقوة العليا التي يضعها الفيلسوف على رأس الحوادث الكونية يكفي فيها أن يكون شأنها في الكون شأن الصانع في تدبير صنعته، أو الربان في قيادة سفينته، وهي — كما ترى — صلة آلية خارجية، لا يُتبادل فيها الخطاب، ولا تتناجى فيها الأرواح، ولا يتجه فيها العبد إِلى الرب بالمحبة والتبجيل، والخشية والتأميل، وما إِلى ذلك من المعاني التي لا يتحقق مفهوم الدين من دونها؛ إِذ الدين ليس إِيمانًا ومعرفة فحسب، بل هو فوق ذلك التفاتٌ روحيٌّ متبادل، هو رِباطٌ من الطاعة والولاء، ومن الحَدْب والرعاية، بين المتدين وبين الحقيقة العلوية التي يؤمن بها.
ومن هنا تعرف السر في اتفاق مؤرخي الأديان على أن المذهب الذي اشتهر في القرن الثامن عشر باسم «الديانة الطبيعية» — والذي يتلخص في الاعتراف بثلاثة أركان: «وجود إِله خالق، وخلود الروح، وسلطان الواجب الأخلاقي» — ليس في الحقيقة دينًا، ولم يكن يومًا ما دينًا من الأديان، بل هو نوعٌ من الفلسفة الجافة، ينقصه قيام هذه الصلة الروحية بين الخلق والخالق، ليستحق اسم الدين.
والمظهر الثاني من المظاهر العملية للفكرة الدينية هو ميلُها إِلى التدفُّق في الميدان الاجتماعي، ذلك أن طبيعةَ العقيدة كريمةٌ فياضة، تنزع دائمًا إِلى الانتشار وطلب المشاركة، وتهز صاحبها إِلى تحقيق أهدافها بالنشر والدعوة. بينما الفكرة العلمية أو الفلسفة تميل — ككل ثروة إِنسانية — إِلى الاحتجاز والاحتكار والاستئثار، أو على الأقل لا تسعى بطبعها لهذا التوسع، ولا يعنيها أن تصبح في متناول الجمهور.
ولعلنا لا نسيء التعبير إِذا قلنا: إِن الاختلاف بين هاتين الطبيعتين كالاختلاف بين الديموقراطية والأرستوقراطية، فإِذا رأينا فيلسوفًا يدعو إِلى مذهبه، ويحمل النَّاس على اعتناق رأيه؛ علمنا أن فكرته قد أصبحتْ إِيمانًا، وأنه قد خلع ثوب الفيلسوف ليحمل أعباء الأنبياء والمرسلين، وإِذا رأينا متدينًا ينطوي على نفسه، ولا يبالي بما يجري حوله من ضلالٍ في الرأي، أو فسادٍ في العمل؛ كان لنا أن نحكم بأن نار إِيمانه قد استحالتْ رمادًا، أو أنها قد كمنت تحت أكداسٍ من الرماد.
هذه كلها وجوهٌ من النظر يَستبين بها حدودُ ما بين الفلسفة وبين الأديان بوجه عام.
فإِذا انتقلنا إِلى المقارنة بين الفلسفة وبين الأديان السماوية بخصوصها، فإِننا نظفر — فوق ذلك كله — بعنصرٍ جديد، به يتم الفصل بين هاتين الحقيقتين.
ذلك أن الفلسفة في كل عصورها «عمل إِنساني» يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإِنسان من قيودٍ وحدود، وتدرُّج بطيء في الوصول إِلى المجهول، وقابلية للتغير والتحول، وتقلب بين الهدى والضلال، واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال.
أما الأديان السماوية فإِنها «صنعة إِلهية» لها كل ما للإِلهيات من ثبات الحق الذي لا تبديل لكلماته، وصرامة الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم هي فوق ذلك «منحةٌ كريمة» تصل إِلى حامليها وسفرائها عفوًا بلا كدح ولا نصب، وتغمرهم بنورها في فتراتٍ خاطفة، كلمح البصر أو هو أقرب.